أتساءل : كيف بوسع وقفة واحدة ان تختصر عمراً من إثراء الفكر؟
وكيف يمكن لكلمة واحدة ان تلم بغلة مكتنزة العطاء؟… وقد دأب الحطاب على جمعها فوق بيدره لحظة تلو لحظة، ومرحلة في إثر مرحلة؟
ثم كيف لكلمة مقروءة او مكتوبة، ان تعبر عن عالم يسمع فيه للسكينة رنين وأنغام؟
مع فؤاد رفقة في كل خطوة وقفة تساؤل. فهو لا يدع قارئه يستسلم للسهاد لحظة واحدة، بل يريده أبداً يقظاً، وكأنما الشعر لديه ناقوس يدق ويدق على أبواب الوعي وجدران القلب.
وكأنه يريد القارىء ان يكون الرفيق الحاضر للمغامرة، والا فهو لا يستحق القيام بالرحلة.
ثمة علاقة نادرة بين الشاعر وبعض الينابيع التي استقى منها فلسفته، وقصائد شعره، كما حول اليها، في المقابل، بعضا من عطائه وثمار جهده وأفكاره، عبر الترجمة على خطين، وأعني الينابيع الألمانية، حيث، وحسب تعبيره «الشعر والفلسفة صديقان» .
اذ أن «بين سلاسل الألب وطاقية صنين رسائل حبرها الامطار والثلوج» .
ولا تزال تلك العلاقة القدرية قائمة، وقد بدأت في مطالع ستينات القرن الماضي، ثم تكرست بنيله شهادة دكتوراه من جامعة توبنغن في العام 1965
وتواصلت لدى قيامه بترجمة عشرة أعمال لكبار الشعراء والفلاسفة الألمان، بينهم ريلكه، هولدرلن، تراكل، نوفاليس، هايدغر وهسه.
كذلك نقلت بعض أعماله خصوصا شعره، الى الألمانية. وهو بذلك أقام جسور تواصل ثقافي عميق، وعلى الجهتين، فاستحق التكريم عدةمرات، وكان آخرها منحه ميداليه غوته في مدينة فايمار للعام 2010.
ومن بعض ما ورد في حيثيات التكريم ان الشاعر، بما قام به من ترجمة، «جعل بلوغ الشعر الألماني الى قراء العربية ممكناً، وللمرة الأولى، في كثير من الأحيان. كما أن تدريسه الفلسفة في الجامعة اللبنانية الأميركية جعله وسيطاً بين عالمي الثقافة الغربية والشرقية، وهو الذي اختار مارتن هايدغر لأطروحة الدكتوراه، وكان دائما يسلط الضوء على الفلاسفة الألمان من خلال تدريسه».
قال رفقه ذات يوم: ان لقاءه بالفلسفة والشعر الألماني قد أحدث ما يشبه الزلزال في كيانه.
كما يردد في عدة مناسبات ان لقاءه بالثقافة الالمانية شعرا وفلسفة هو لقاء قدري. وقد تتلمذ على فريدرش كومل عندما كان طالبا في جامعة توبنغن. ويدهشك ما يرويه عن هذا الأستاذ المتوغل في أدغال الفلسفة، حتى انتهى به الأمر ان رحل الى الهند، حيث غرق في البوذية وعاد منها «راهبا يعد طريق الروح للآخرين، تاركا خلفه الأهل والأقرباء، لأنه صار في ينابيع كل شيء» حسب تعبير رفقة، ثم يتابع زيادة في الايضاح: «لقد ترك بيته وراح، ذلك لأن بيته صار في الكون، في السماء».
هذه العلاقة مع الحضارة الألمانية، «حيث الشعر والفلسفة رفيقان، ودائماً في حوار» والتي بدأت قبل نصف قرن، لا تزال مستمرة بشهادات تقدير او تكريم ناله الشاعر في العام 2001 عندما منح جائرة فريدريخ غوووندولف من الأكاديمية الألمانية للشعر واللغات ثم في العام 2005 حين سلمه رئيس المانيا الاتحادية جائزة Deutschverdien Storden الى عدة جوائز تقديرية جاءته من ايطاليا ومن الجامعة الأميركية، واللبنانية الأميركية في بيروت.
ساهم فؤاد رفقة في مواصلة الحوار، بين الشرق والغرب، في هذه المدينة بيروت، والتي كانت ولا تزال بين أهم المراكز التي تحضن مثل هذه اللقاءات.
واسمحوا لي ان اقول كلمة حق في المانيا الدولة الحضارية، والتي تعرف كيف تختار وتكرم الثقافة ومبدعيها، وتدلنا الى الينابيع الصافية في حضارتنا العربية، كما في أدبنا ولغتنا.
ومثلما اختارت شاعرنا المبدع فؤاد رفقة كي تغدق عليه تكريما مستحقاً، فقد كانت الترجمة من أدبنا المعاصر، الى اللغة الألمانية، وخصوصا في الرواية، هي الأغزر بين سائر اللغات، وقد نالني من ذلك نصيب حين اختيرت أربع روايات للترجمة. وفي طليعة من عمل على تلك الترجمات الراحلة الدكتورة دورس كيلياس، والدكتور هارتموت فندرش، وقد جاوز عدد ما ترجم من روايات الخمسين رواية.
ويؤسفني القول ان مؤسساتنا الثقافية، في العالم العربي، لم تلتفت الى هذا الجهد، أو تقدره بما يستحق، لأن المقارعة بين السياسيين وصراع الديوك، في الساحات العامة، يعلو على صوت الثقافة ويطغى على حضور المثقفين.
في كتابه «خربشات في جسد الوقت» الصادر في العام 2006 عن دار نلسن والذي حاز جائزة متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت يكتب رفقه : «في المانيا الشعر والفلسفة رفيقان وصديقان، انهما في حوار مستمر. وعندنا أين الشعر الذي يصادق الفكر؟ وأين الفكر الذي يصادق الشعر»…
وفي هذاا لكتاب بالذات يتجول بين مناطق الفكر الألماني، ويعرفنا بالفلاسفة والمفكرين، فندرك مدى تعمقه في معرفة بناة الحضارة والفكر في المانيا.
لكنه في نثره كما في شعره، يظل يتأرجح بين عدة عوالم، كما يبقى بين الشك واليقين.
ومن بعض حواره مع ذاته أقتطف «غريب امرك يا بيدر، من جهة انت في بلادك التراب، وانت في الجبال الوعرة، وانت فيها الماعز والينابيع، وانت فيها الجذوع، ورغم هذا، هناك من جهة ثانية، الحنين المشتعل أبداً الى مراكب الراين.
وبين هذين الجناحين وجودك مصلوب. جذورك في مشارف صنين، وعيناك على الألب».
ولا ينقطع حواره هذا مع العالمين، الخارجي والداخلي في شعره، ومهما بدل أسماءه والألقاب، من الحطاب الى شيخ درويش، الى الهندي الاحمر، والسامري والصوفي وبيدر. فهذه كلها مرايا تعكس صورة صاحبها القلق، المتأمل والباقي، كما يقول: «كيمامة برية هناك على الصخور الوحشية، وحدها تغني، هكذا انت يا بيدر.
انها وحدة الشاعر الذي يمثله رفقة في كل اوصافه وأحواله. ويبقى في حالته الشعرية أينما حل او رحل.
يكتب د.قيصر عفيف في مقال له عن الشاعر : «يطلع من وحدة النساك الهادئة التي يختمر فيها الشعر وينضج».
ومن أجل ذلك النضج يعترف الشاعر في مقابلة له مع الاستاذ سليمان بختي ان تجربته الشعرية عبرت ثلاث مراحل:
1. المرحلة الضبابية التي انتهت في مجموعة أنهار برية.
2. بعدها بدأت أتجه الى المكانية اذ أدركت ان الوجود البشري يرتكز على جذرين: الزمني والمكاني.
3. وفي المرحلة الثالثة التجربة المسيحية بمعناها الروحي الشامل، كما عبر عنها في «جرة السامري» ويعتبرها ذروة تجربته الشعرية، التي تعود بداياتها الى منتصف خمسينات القرن الماضي ومع مجلة «شعر» وهو أحد مؤسسيها، مع الشاعر الراحل يوسف الخال الذي قال فيه «فؤاد مثل الانهار البرية، لا تعرف الى أين تصل، لكنها دائماً تجري».
وفؤاد رفقة الذي غاب مثل محو الضباب ما كان ليبلغ هذه الغلة فوق بيدره، لو لم يبدأ بحراثة الأرض وغرسها.
وبقي دائماً، قريباً من الأرض، من الطبيعة، ومن إرث حمله مع ذكريات غالية رافقته عندما غادر قريته «كفرون» وهو في السن العاشرة. وظلت تسري في أشواقه ومع نسغ كلماته، لأنه ظل يؤمن «أن في رائحة التراب أول المطر ما يفوق من المعرفة نظريات العالم».
بوسعي المضي في استعراض شعر فؤاد رفقه وفلسفته وهو الحاضر الغائب وهو الانسان الحزين، الموجوع لآلام الآخرين والمتطلب، ولا يرضى عن نفسه وما أعطى، حتى اذا قام في ذكرى ولادته، بجردة حسابية يكتشف «أن الغلة أقل بكثير من الدمع والاوجاع».
وهذا من بعض ما ميز شخصيته اللطيفة الحضور، والعميقة الجذور.
بعدما غرقت في دواين شعره ومؤلفاته النثرية، خرجب بصورة له مستوحاة من بعض ما أبدع، فهو رجل مثقل بحكمة السنين، يسير على مهل ، ويتوكأ على عكاز مجدولة من شعر وفلسفة، وفي مسيرته تسبقه عيناه وأحاسيسه المرهفة ليلاحظ كل ما رف ودب، دائم اليقظة، هو رهيف الحس، لطيف النبرة، يطأ الأرض من دون ان يترك عليها ثقله.
ويؤمن بأن «الشاعر خادم في كنيسة الأسرار، وبأنها رغيفه وخمرته في الطريق الى مناطق الكينونة».
كما يرى «أن الكلمة الشعرية هي رسالة من ينابيع الحقيقة الى الانسان».
انه فؤاد رفقة الشاعر، غائباً حاضراً ابداً.