ربما..
أن يكون للعالم في مكوناته صلة بالضحك، لا بل أن يكون الضحك محرّك كل ما يمكننا التفكير فيه، فهذا ما لا يمكن الشك فيه انطلاقاً من الشعر بالذات وقبل سواه، لأن الشعر هو الأكثر قدرة على طمأنتنا بصدد تصور كهذا.
الإناسي المصري المعروف أحمد أبو زيد، لا يظهر عليه أنه يريد تعزيز مقولة كهذه، لحظة البحث في صلة الإله بالضحك ليدع قارئه في مواجهة ضحك خاص به، حسناً تصرف أبو زيد وهو يعتبر ما بدأ مقاله المعنون بـ«الفكاهة والضحك» بما هو قابل لاحتمال بقوله «يقال إن المصريين القدماء كانوا يعتقدون أن العالم خُلِق من الضحك. فحين أراد الإله الأكبر أن يخلق العالم أطلق ضحكة قوية فكانت أرجاء العالم السبعة، ثم أطلق ضحكة أخرى فكان النور، وأطلق ضحكة ثالثة فكان الماء، وهكذا حتى تم خلق الروح من الضحكة السابعة»، ليأتي قوله، كما لو أنه يشرح ما استشهد به كأني به مأخوذ بحيوية فاعلة لقول كهذا، وهذا يملأنا ضحكاً «من أجل ذلك كان الضحك عنصراً أساسياً في الحياة، وصفة هامة من صفات البشر، وعاملاً قوياً في الربط بين الناس… إلخ»
الضحك هو الاستثناء وخلافه القاعدة إذاً! في الاستثناء لا بد أن يكون الإبداع مغزى الاختلاف، ولكَم هو مثير للمتخيل إنْ أمعنا قليلاً في مفهوم «تكوين العالم» أي ولادته: جينالوجيته، ومن يكون القادر على فعل الولادة، أعني بذلك: أي رحم ميثولوجي، مهيب، جليل، ومن يكون وراءه، ليبقي في متناول أنظارنا هذا المولودَ الفلكي: العالم. تخيّله لا يبعث على الضحك حقاً، إن دُقّق في أبعاده والفترة التي لازمت تشكيله وما فيه من عناصر حيوية.
وحده الإله السالف الذكر يمتلك السر، ويتحدى الذين وهبهم عالماً هو عوالم أساساً، والإنسان ضمناً، وهو لا يني يعاوده الضحك الجدير به، بقدر ما يحفّز على مكاشفة ما لحقيقة ضحك في وسع الكوني، لا يحيط به سوى القلة.
المبدعون باعتبارهم مغامرين إلى درجة التهور، والشاعر في الواجهة لا يخفي جانباً من هذا السر وهو لا يكف بين الحين والآخر عن مباغتتنا بما ينشّط فينا روحاً نكاد نشعر بها ملء حواسنا بامتياز، وهذا الكائن المعتبَر شاعراً ما كان له أن يسمّى محارباً، أو يرتقي إلى مرتبة المحارب الأبدي، إلا لأنه يشير بما تأتي على تسميته قريحته الشعرية، على إمدادنا بضحك ملهم، الإمداد الذي يبقي المحارب محارباً مسكوناً بضحكه الحماسي.
الضحك هو انفساح العالم على سر مؤرق ومتوخى، باعتباره الشعلة الكاشفة لما لا يراه إلا المقيمون في المفارقات ذات الطابع الخاص جداً، وربما كان المعتبَرون مجانين أو على تخوم الجنون دائماً مؤهّلين أكثر من غيرهم لأن يبثوا في الآخرين ممن افتقدوا القدرة على الضحك ذي الصلة بالروح العميقة تبصرةً بما هو حيوي.
إن ما تحدث ميشال فوكو فيه مطولاً، وهو الجنون، لا يعدو أن يكون في حقيقة من حقائقه الكبرى ضحكاً أو تسمية للضحك العميق، كما في إشارته إلى جنون لافت ماثل في نيتشه وفان جوخ وآرتو.. إلخ، ولكلامه فاعل لا يجارى في الضحك وهو يحيل الجنون إليه كخطاب فصيح «إن الجنون الذي يندثر داخله العمل هو فضاء عملنا، هو لانهائية السبيل الذي يجب أن نقطعه، هو موهبتنا التي يختلط داخلها الحواري والمفسّر» .
ولعلّي لا أجانب الصواب كثيراً، وكما أرى، إن أشرت إلى أن فوكو كان يستشعر ضحكاً مبثوثاً هو ضحك المختلف أثناء انهمامه في كل سطر من سطور كتابه(تاريخ الجنون..)، بوصفه(تاريخ الضحك)، وقد عدل عن تسميته تقديراً لسرانية الضحك، إذ أن الذي يبقي الجنون الموهوب كجنون استثنائي بدوره إنما هو الضحك . ولعلي جازم فيما أذهب إليه وهو أن فوكو كان مسكونا بلوثة ضحك حتى آخر لحظة من حياته.إن الضحك هو النفَس العميق للغة، بينما الصمت هو حُلمها، لهذا يزاوج الشاعر بينهما حالماً ومتنفساً بعمق! ذلك ما يفتتح واسعاً كلام الشعر في صمت اللغة الذي يكون حلمها، لنشهد أكبر انزياح استعاري في المعنى، عندما يستوقفنا الشعر وهو يعود بنا إلى تاريخ يتم تخيله إذ يتعلق بالشعر، ويسطر على إيقاع الضحك وصداه. وأن يكون الشعر على هذا القدر من الأولمبية في المبادرة الكشفية، فلأن الذي يقارَب فيه هو جنونه فيما يحفّزنا على معايشته، وقد خرج من سياق الكلام كنسق معتاد أو متوارث، ليكون آفاقياً خارج حدود اليومي بالذات. وأن يكون إلياس لحود المثال في الشعر، فلأنني أجد فيما استشعره الضاحك في وسط واجم، وكأني به يسترجع سلفاً ما في تاريخ لم يوثَّق كان له مجده في الضحك الذي يورد العروق، خلاف ما هو متداول بصدد الضحك!
* فتح معبر
يُنوَّه هنا إلى أن برغسون مع آخرين كثر، كانوا ومازالوا يرون أن الضحك يكون في المفارقات عبر كتابه الذي بات كلاسيكياً( الضحك)، وهذه بداهة باعتقادي! في إثر السؤال المطروح: كيف تكتشَف أو تعرَف المفارقات؟ يأتي الجواب سريعاً على الصعيد الحسي أو في مشهديات الحياة اليومية كون الضحك لصيقه اليومي، إنه الحضور الحسي الذي يرتكز إلى صنافة الملامح والإشارات المأخوذ بها، النشاط المعتاد والذي يفقد فاعلية المعنى وجمال السيرة، لأن الضحك أعمق مما هو عابر ولحظي. الضحك أبديٌّ، وله استقلاليته الاسمية التامة! الضحك هنا يتطلب شعوراً من نوع مختلف تماماً عن المعتاد، في متن مفارقات لا تتسنى لأي كان، فنحن مثلاً نضحك حين لا يستطيع كثيرون التجاوب معنا في ضحكنا، ليس لأن الضحك احتكار وإنما احتكار الضحك هو الذي يبعث على تمرده، على بروزه باعتباره لسان حال الإنساني الحميم فينا، لأن ثمة تحليقاً للروح في فضاءات أو مسارات لامرئية من قبل هؤلاء، إذ يكون التحليق ذاته عزاء للمأسوي ضحكاً يذهب به عالياً ليرى أكثر، وهذا ما يمكن استئنافه عبر معايشته في جنون القول والكتابة، فالكلمات تشي بنزوعها الأحيقاري «أحيقار الحكيم»، الديونيزوسي، النواسي، البودليري نحو ما لا نحو له كنوع من ترميم لذاكرة استهلكها الضحك المجاني.. الضاحك في الحالة هذه كائن من نوع مغاير، كما تقدم، ربيب الكلمة المتعددة الطيات، لا يُسبر غورها بسهولة، والكلمة الشعرية وريثة الشعر ومسميته، إشعاراً متتابعاً بأبدية الجمال الذي لا ينفد والإنسان الذي يواجه ترابيته بخطيئات لا تحصى تعبيراً عن سفور العالم الرهيب في داخله، ورفضه للمكانية رغبة في اللامحدود. إذاً، يرتقي مفهوم الضحك عبر الضاحك في ذلك الشعور الذي يلغي فينا وهمَ المكان المحدود وماديته المتهالكة، وهم الجسمانية غير القادرة على الإيفاء بوعد مراهَن عليه كونه تسويفياً، للانتقال إلى ماوراء العمر الزمني وأطر اللغة الضيّقة، أي للتأكيد على أن وعداً آخر ترسم المأساة خطوطه كما هو خيط أريان لتلمُس اللاتناهي. وفي شعر إلياس لحود ثمة حضور متنوع لذلك الكائن اللامحدود بهويته المكانية المؤطَّرة، إنه الضاحك تجاوزاً لأنه ينفتح على أفقه الطلق، على النقيض من كائنه الذي يعيشه واقعاً، وهو في تاريخ يقاضي ذاته من خلال ما يعنيه، وفي لغة تضيق بألفبائها، بقدر ما ينفتح على شاعر ضجر من نفسه، وهو لا ينفك يلوذ بالشعر. أقول ذلك مستدركاً، وأنا على يقين أن الشعراء خارجون دائماً على القانون، ليكونوا شعراء ببساطة، وما يتعلق بحالة رجم الشاعر أو لعنته، أو التخوف من سلاطته، إلا ترجمة غير مسماة لقانونهم الخاص والمسجَّل داخلهم. هنا، لا يتطلب الضاحك تعريفاً به بقدر ما يحتاج قراءة توازيه في معاينة غَورية الكلمة التي تنبني في المخيال الشعري، فيكون الضاحك شعوراً بمتعة المكتشف فينا إثر مخاض معاناة لا تنقطع. إنه الضحك الذي ينتسب إلى التراجيدي بزخم عنفه، أكثر من الكوميدي بفراهة الموعود به كما هو المفترَض فيه. فالكوميدي في بنيته لا يضحك لأنه معرَّف به أساساً، إنه هو نفسه ممثّل ضحك، مجسّده، وهنا تنعدم الحكمة البليغة للضحك، بينما يتحقق ذلك في التراجيدي وقد ماجت ألوان معاناته، كما هو الضحك التطهيري، وليس ما يشار إليه عبر مفهوم السخرية Irony ، إننا إذاً بصدد شعائرية خاصة، عندما نضحك كوننا نعاني آلاماً.
وعلى مدى خمسين عاماً، أو نصف قرن، بدءاً من مجموعته الشعرية الأولى(على دروب الخريف، 1961)، وحتى مجموعته الشعرية «قصائد باريس»، 2010، يظهر الضاحك المديد في شعر إلياس لحود. تصوروا كيف أن امرأ مصاباً بلوثة الضحك في شعر لا يدعه في حاله، كما لو أن عقداً بينياً ألزمه بأن يظل كائن الضحك في شعر لا يبدو أنه باعث على الضحك طبعاً، ولكنه شعر ربما يترجم ضحكاً، لأنه لا يخفي مأسوية كائنه. إنها اثنتا عشرة مجموعة شعرية إذاً، يجلو عددها عدتها الدلالية في تعميق أثر الضاحك من الداخل.
* إلياس لحود الضاحك شعراً إذاً
هو الضاحك أكثر من واحد في شعر إلياس لحود من خلال تنوع الفضاء الشعري عنده. الضاحك المتعدي لاسمه وصفته، حيث يفترش الشعر لاتناهي حدوده، حيث يكون على أهبة الاستعداد في كل قراءة على التحلّي بهيئة اعتبارية أخرى ربما لأن ثمة أوديبية خاصة مترددة، تبقي الضحك متحولاً جرَّاء تكاثر الآباء الذين لا يحاط بهم. الأوديبية في الشعر كما في التعامل مع الهيدرة، إذ كلما قطع رأس من رؤوسها نبت رأس آخر، وهنا تنبت رؤوس على قدر التوغل في المأساة، وتعدد الآباء المزيفين والمتضامنين لإقلاق أوديب ونفيه باستمرار، هو الذي يعمّق سمة الغربة في ذات الشاعر، يفلتر روحه بضحك غير موعود في كل مرة رداً على التكالب الآبائي.
ثمة القامة والهيئة والنبرة والطلة مختلفة في مجموع أعماله. لكن القاسم المشترك هو في قدرة هذا الكائن الشفاف والمعتم معاً الذي هو لحود الشاعر على الانطلاقة صوب ما يتجاوزنا، إنه لا يشدنا إليه بقدر ما يأخذنا معه، لا يجذبنا بقدر ما يُشعرنا من الداخل بتبدد النسبي، وأثيرية المحيط بنا، وهنا يتملكنا الضحك من الداخل لأننا نتحرر من ربقة ما يقيدنا على سبيل الوهم أو الخوف، أو الشعور الفاقد المعنى بتهديد ما، ونستشعر الضحك في كل ما يتجاوزنا ويتبدى لنا، ومن خلال صوت الشعر الذي يرتسم ضحكاً «وأن تسمع الصوت حسب أوكتافيو باشا يعني أن تسمع الزمن ذاته، الزمن الذي يعبر ولكنه يعود وقد تحول إلى بعض المقاطع الكريستالية الشفافة» ، وقد تهادى ضاحكاً ملء كونه، حيث إن الكريستال ليس أكثر من الزجاج الذي أُخضِع لمعاناة ليتحرر تدريجياً من شوائبه ولا يعود يكاد يُرى إلا عبر مزيد من التركيز فيه وتلمسه. وفي شفافية الشعر تبرز الكريستالية تحميلاً لما يُرى ويحسم أمراً! السمة الكريستالية المذكورة طائفة ووارفة في شعر الياس لحود، هي سمة لا ترتهن إلى مادية العنصر، بقدر ما تستبطن الجوهر بكل ما في هذه الكلمة من حضور ميتافيزيقا. أوليس الشعر ارتحالاً بنا ومعنا نحو ما لم نبصره، ولم نسمع به، ولم نتذوقه، أو لم نألفه بعد؟ ليكون الارتحال شعراً استيطاناً في المطلق ونحن أسرى النسبي فينا!
أستبعد هنا من موضوعتي البحثية «دواوين العشاق»، وهي عبارة عن شعر بالمحكية، إذ إن لحود المتميز في هذا المجال يحتاج إلى قراءة مغايرة وإلى نقد مختلف، لما في نوعية الشعر هذه من كينونة معنى مختلفة وحتى شعور مختلف بالمقابل، أعني بذلك من معايشة لضحك يتناسب والبعد التركيبي والتخيلي لهذا النوع من الشعر، وإن كانت تزيد النوعية هذه عالمه الشعري بهاء إنما في إطار مفتوح، طبعاً، يخص لعبة الفن ودلالاته المتزاحمة! كيف، أو من أي جهة، يمكن تناول مفهوم الضاحك في شعر لحود، كما لو أن لحود الشاعر هو عينه الضاحك؟ نتناوله في حدود ضاحكنا النقدي، أعني حين يمكث النقد في مَعلَم الشعر وقد آنسته لغته: ضحكته، وسيرَ ضاحكاً!
* الضاحك المخيَّر
ثمة احتفائية بارزة في شعر لحود، تنفتح على معان قصية تخص الشعر عموماً ومفهوم القصيدة كبناء ومشهد فيما يُحال عليه خصوصاً. نعم، العلاقة بين الشعر والقصيدة هنا إحالية، إنها تقاذف علامات واستقصاءات! في القصيدة نتعرف إلى الشعر كتجريد، وكغياب وكلامتناه، إنه الصدع الذي يخفي أرضه، وما علينا إلا أن ننظر عالياً في زرقة مـتأفقة «من الأفق»، وفي الشعر نتعرف إلى القصيدة كنفَس مقارب، كتلميح مواكِب، إنه نداء القاع: خط الأرض المنبسط في العمق، لنعيش نوعاً من التباري السعيد بينهما رغم وطأة المشهد، ويهل الضحك!
هناك نوع من «الانحراف الشعري» clinamen ، إذ إن الشعر لا يُعرَف إلا من خلال حامله الشاعر، وهذا يتجلى شاعراً بمقدار فرادة ما يكتبه، وعدم تبعيته التي تلغي فيه كينونته الشعرية، فيكون صوته في النهاية ممثّلاً له، أي ضاحكاً كما هو الضحك الذي يحول في كل معاودة له دون معرفة الباعث على ظهوره ليغري بالمتابعة!
في «الكلينامين» كما يكتب هارولد بلوم كما لو أنه مأزوم بضحك يترافق وما بعد الحداثة باعتبارها حداداً لتلك العقلانية التي تضعضعت قواعدها «قد يفلح الشعر أو: «قد لا يفلح بتفعيل خلاصه في الآخرين، لكنه يهبط فقط على أولئك الذين هم في حاجة تخييلية ماسة إليه، رغم أنه قد يهبط عليهم على شكل رعب فحسب» .
إنها فتنة التخارج بفطنة الداخل، هي قضية إدارة الذات والصراع السيادي على الأكفأ في التمثيل الاعتباري لها، عندما يظهر شاعر دون آخر، أو يتخلف عنه أو يتقدمه، وكله معضود بالمأساة ولكنه يحتفظ برصيد وافر من الضحك في لفت الأنظار أو الأسماع عبر فعل النقيض، فمن يعبّر عن مأساته بعمق يستبرق سطحه للملأ هنا!
ولحود لا يخفي صراعه مع أسلافه من الشعراء، لا يخفيهم في شعره، بقدر ما يخيف قارئه بأنه لا يعيد أياً منهم إلى واجهة القراءة كما لو يستنسخهم، فيضطره ذلك إلى البحث عن وجه الشاعر المختلف فيه، وهو يمتص الحضور الشعري لأسلافه أولئك ومن ثم التميز عنهم بطريقة حبك مأساته وقابلية التفاعل معه وجدانياً، وخصوصاً في عمله الشعري الأول(على دروب الخريف)، من خلال: إلياس أبو شبكة، سعيد عقل بالدرجة الأولى، فثمة لعبة جمالية: لعبة أضوائية في الصور والألوان والمشاعر في طيفياتها(أستخدم الطيف عن قصد واعٍ، باعتباره يشدنا إلى الأمام ويغري بالمقاربة الذوقية، وليس الشبح الذي يحيل على ماضٍ في هيئة شخص يقبض على النفس ويقلق الروح معاً كما هو وضع هاملت، والطيف يشجع على الضحك ذاتياً)، وينبري الضاحك في سياق الابتهاج بالمعنى المؤصّل في القصيدة المكتوبة في تداعياتها اللونية، أعني في ذؤاباتها النجميةِ الطالع!
في «على دروب الخريف» ترسيمة ابتهالية رغم بؤس ما يعنى به الخريف، فالخريف لا يخفي عري طبيعته في سباق فصوله، وصراحة ما ينزع عنه هوائياً وهي تعري، لا تخفي جمالية التسوية مع السابق والتالي عليه من الفصول، ليظل الخريف هذا متعدّي المعطى المعتاد عنه، عبر تأهيله لضحك يصلنا بالأصول الحية فيه: استبيانه!
إنه يتبدى منسلخاً عن جِلد الفصول بكامل قيافته، لنتلمس دروباً مفتوحة تمثل جيوب حشيش تتنفسها هنا وهناك، رغم وجود رومانسية مركَّبة من تقاذف الأوراق وجهامة معينة في الأفق المحدَّب ولهاث الريح، وتلك خاصيات شعرية تشكل ضاحكها المبتهج بما يحدث علانية، إنه نضج الرؤية في تبين صادر المرئي ووارده دلالياً.
يقول في «على دروب الخريف»، وما في حركة العنوان من ارتحالية تستطلع فسحة طافية في المكان، خصوصاً حين نعلم مدى ضلوع الرحالة الشعري في احتواء المرئي في الدروب مجتمعة، وليس الدرب الواحد، بقدر ما يبرز ضلوعه التذوقي في اصطفاء الخط المتَّبع: الدرب وليس الطريق، لما في الأول من أهلية تذويت وسيادتها:
يا دروب الخريف البعيده
أما تذكرين متاهاً لقلبي
أزاهيره للحياة شريده
على كل نسم، على كل درب!
يا دروب الخريف البعيدة
ترى نذكرين متاهاً لقلبـي؟ .
ثمة صوغ للتمنيات من قبل الشاعر قبل خمسين عاماً، وربما أكثر، إن روعي تاريخ ولادة القصيدة وكتابتها في ذاكرة الشاعر أو على قرطاس مستقل «في درب» ذاتي، قبل أن تجد«طريقها «إلى فسحة الديوان عموماً، وكيف أنه يلامس حكمة الخريف وقدرته على تحقيق ما لا يتوضح لأي كان بحيث لا يعود الخريف رهين مكانه واسمه، إنما مجاز اللغة، ساكنها ومتحركها النسبيان يكونان في أفق المعايَن عبر دروب: إحداثيات الأثر الشعرية… القيمة الشعرية وبراعة طرحها أو ذائقتها الجمالية في الحالة هذه تتوقف على مسار الصورة وحركيتها وأفقها الذي لا يني يعاود تشكيله في الزمكان، وهي في هذه الحالات مجتمعة تكتسب طاقة أرواحية تصل ما بين المكان المحدود بزمان معلوم وبما لا يتحدد، استيفاء لشرط الضحك الموعود، حيث العمر والحياة والآمال والارتحالات ولائحة الخيالات لا تعود خاصة بصاحبها، هذا إذا كان صاحبها هذا بقي هو ذاتها كما هو، إنما كثرة الواحد فيه، وبقدر ما تكتسي القيمة الشعرية تلك ألواناً سيالة بأحلامها الزكية، كما تتضمن أصداء تطوف هنا وهناك، وحيث إن الذات تنتزع من هويتها ليغدو الشعر مقروءاً في كل آن وحين، إذ أن الشاعر نفسه متغاير وإشكالي في كينونة ما هو عليه أو قائم فيه، ولعلنا لا ننخدع بسماعه ضاحكاً وهو على مقربة ملحوظة مما كتبه سابقاً ولاحقاً، ضحك لا يعدو أن يكون إحياء تخيلياً لكائن يعاند زمنيته، اسمه ذا الخانة الجغرافية، محليته، وتفضية لمقام الشاعر فيه، حيث إن الزمن هنا شعري بامتياز، وهو ينبض بما يخوّله لأن يبقى ويعمّق أثره، ليصاحبه ضحكه المعرّف به!
المفارقة في «خريف«لحود، هي أنه تناول هذا الفصل وهو في مطلع شبابه، وقد اتخذه فضاء/ ساحة لإبداعه الشعري، تناوله مفهوماً أدبياً عالي الجودة جهة التركيز عليه فيما ينتسب إليه دلالياً، وهو ما يعرَف عنه بالفصل المهمّش في أدبياتنا الثقافية عموماً خوفاً من سطوته رمزياً، وهي المفارقة التي تعزز فينا شعوراً بالضحك، ولكنه شعور كارثي لا يلبث أن يتوقف لخاصية المفارقة وموضوعتها، وبالتالي فإن الذي يمنحنا فرصة ذات تهوية مناسبة وقدرة لا تجابَه من الداخل على الضحك الحي، هو الخريف الذي بات موضوع شعر تماماً، هو هذا الشاب الطافح بالحياة بيولوجياً، وقد ارتأى فيما ارتآه عاملاً منشطاً في المبادهة الشعرية، أن يكون الخريف مكتسياً بما هو غير معهود: بالشعر، وقد أزيح المتداول عنه جانباً، باعتباره نقلة نوعية صوب حياة أخرى، ضحك منتظر! إذ أن الفجيعة حالة نفسية تتلبس المرء حين التفكير فيها، وهذا ما يبقي المفكَّر فيه طي المؤجَّل والعمر الذي يشرف على نهايته، ينكشف سره في عريه هو سر غناه، أي الخريف الذي يرشدنا إلى قوته المختزنة: ضحكه. إنه الفصل القويم الذي يظل في حقيقة أمره الشاهد الحي على فصل يعتبَر قمة الفصول هو الصيف، وفصل يعتبَر بداية الفصول وتشكيلها هو الشتاء، لذلك فهو يختزن شهوة الفصول كلها، أي يكون علامة نضج/ تفتح لها.. الضاحك الخريفي يغدو مثقلاً أو محمولاً بالحكمة حتى قبيل أوانها حيث الشباب اللصيق بها هنا يتطلب دفعة زمنية ليصبح مقارباً للخريف وتداعياته، وهذا يعني أنه ضاحك يعيش أريحية الفصل المخيف قبل أوانه بوصفه نقيض ما يروَّج عنه، فهو إذاً موضوع تأملي تنفتح له النفس الشاعرة وتتغذى بمناخاته في خاصياتها العظمى. بل إن الغنائية الطائفة تسارع وتسمي خريفها في مجموعته الشعرية، وهي تشير إلى نوع من الوئام العُقَدي بينهما، إلى البوح الينبوعي بسر لا يُعلَم بحقيقته أيٌّ كان بيسر، لأنه ذهب إليه قبل أن يداهمه، ولأنه يتجلى في كامل وقاره خارج كل ما يستره، وقد أبان عن ذهبه، عن بريق ضحكه في الداخل، حيث إن حكمته تكمن في الداخل ذاك، وهنا، ربما في وسع الشعر أن يفيض بحضوره ويغمر جهات الشاعر ليعده لضحك غير مسبوق. في «الأوجه الحزينة»، يقول ما يعتبره وجهاً من وجوهه وقد استحال مشهداً خريفياً على قياس تخيله الطائف:
«في خارج السكينة الضريرة الحدود
تقتتلُ الأصواتُ.. والأقدامُ.. والآلام
تشرينُ لا ينام
يُجمّعُ الحشود»
وفي «رياح الخريف». عندما نتلمس وجوهاً تترى إنما سافحة في الفضاء هذه المرة، يقول:
«هلاَّ سألت الراحلَ الأزرقْ
عني
عن بيتنا المرهَق
عن بابنا المغلق
يشهقْ
يغرق في الحزن .
هذا التلاعب الإيقاعي يعيدنا إلى الخريف والموقف منه استعارياً، إنه لعب بيان صوري، يكشف عن مردوده النغمي وصداه الفني العائد إلى حضور لذات بكامل كثافتها وهي بصدد تشكيل عالم الخريف بأطيافه وكائناته، وحتى فيما يخص أصداءها وحركاتها في الأعماق، عبر تجاوز للحسي العابر، كونها مفردات تعيش دراميتها الملتقطة في كينونة واحدة وهي المتجسّدة في المتخيل الشعري المتضاحك، وتخريج لها إلى واجهة العالم….
فكأن الضاحك يستشعر أماناً ووفاء ذات ٍفي مدّ إرنانه الذي يغطي كامل قصيدته، حيث إن الخريف يعبق بعمق المعنى كاشفاً باطراد عن عالم يتحرك ثرياً، ويمنح الضاحك في تأمله سكينة وربما قدرة على حفظ التوازن ومن وراء عري فصل ليس سوى سره الموزع للفصول الأخرى، أي وشيه الطبيعي في الداخل، الأمر الذي يعني من ضمن ما يعني تجدد شهية الحياة في الروح، والشعور بقابلية مؤازرة طالما أن الضحك في أبسط معنى له هو أن تعيش بكليتك في وسط تعيشه كما لو أنه امتداد للكلية تلك، باعتباره وسطاً يعايَن ضحكاً يغمر الجميع..
* الضاحك بالإسناد
وربما في هذا الابتداء بالخريف ما يفصح عن روح سخرية مضمرة ومثمرة معاً بين جنبيه، وهي تتلمَّس مفارقاتها الخاصة في العناصر والكائنات خلاف الكثيرين الذين لا يمتلكون الحد الأدنى من المكاشفة لما يدور في وسطهم الهش، وهذا يبرز نقلة في إيقاع الضحك تترجم ثباتاً في الرؤية الفنية للمعاش. لحظة النظر في مجموعته الشعرية الأخرى «والسد بنيناه»، دون أن نغفل حالة ما قبل العنوان، أي ما كان كلاماً وجاء ما يستدركه، فيكون لدينا ملء اعتباري لِبنية العنوان أو صياغته، أو ما يحفّز على ضحك صريح يقودنا إلى هذا الذي كان.. المتكلم هو الشاعر، ودالة الجمع تظل مردودة إلى موقع الشاعر وما يتلمسه من وراء العنوان، وما يمكن استشفافه عندما يكون العنوان إشارة لافتة إلى أن ثمة ما كان يشغل البال وقد تم تطويعه، وللشاعر أن يمضي قدماً ولو لبعض الوقت وهو يسترسل في إطلاق سراح بعض مما هو سيَري فيه، ومن حالة الاعتداد بالذات:
لا لست جريحاً أو خائفا
«ضمَّدتُ الجرح بأعلامي..
وجمعتُ قنابل أقلامي
وهرعت إلى الأمل الواقفْ
كعمود ضياء» .
هذه الفقرة المعنونة بـ(النسر) تكاد تصرّح بمشتهى المتكلم الشعري بفضائيته الرائية، إذ نجد تقرير حال لمن يعرَض كائناً ربما في موقع الشبهة أو الاستعطاف، وما يقلب المعنى على المبنى مباشرة، أو كما هو مقرَّر مسبقاً، إذ يأتي سرد الكلمات في سياق المتخيَّل الشعري مسبقاً، ليكون هناك سجال أو تقابل بين صنفَي تعارضات تضعنا في خانة المفارقات: الجريح/ الخائف/ المصاب/ الوحيد… إلخ على الضد مما هو معلَن عنه رمزياً: المثابر/ الإقدام جمعاً/ الانقضاض عبر استحالة القلم قنابل متفجرة/ الأمل المنتظر… إلخ، وهي الصيغة التمامية، ربما، لتحويل الأنظار إلى من ينالون من الشاعر في الواقع، وكيف أن الأمور تخالف اللامتوقع، ليكون جمع الشاعر، معركته الكبيرة بعدتها وعتادها ومن خلال الشاعر، الاستحالة النهارية لما ينبثق عنه شعراً.. إلخ معبّراً عن ضحك لا يستهان به، ضحك هو إيعاز إلى تكوين مغاير للمتداول عمن يراد الإيقاع به: الشاعر. إن انجراحات الشاعر ومكابرته ومن ثم دماءه المستقطرة من كامل جسمه لا تخفي تاريخاً كان يستشرف مجتمعاً أو وطناً أو عالماً معيناً بحدوده، كما لو أن السد قمقم يبوح بعفريته، وهو يشي بهول الجاري وتحدي القائم:
«أنا لن أبني على الرمل دياري
سوف لا أنسى «وإن عزَّت عليه»
يوم كنَّا
تشحدُ اللُّقْمةَ من أيدي
ذئاب بشريّه» …
الشاعر يخرج كائنه الذي يعنيه بلغته كما هو المعنى به خارجاً، ممن يتمثلهم قوة واقتداراً، بالهيئة التي لا يعود فيها ما كان، تعبيراً عن ولادة جديدة، عن عالم صار طوع رغبته، وكأنّي فيما تصدَّى له، وتبرَّع به من داخله الحميم، وما أفصح عنه بقدر كاف من التطمينات، مارس التفافاً على الذين استنزفوا قواه طويلاً، وهم يشمتون به، وها هو المدوَّن شعرياً يلغي تاريخاً ويبشّر كما يعلِم بخلافه، هو ضحكه المجتمعي، وقد أعيد إليه اعتباره. إذ ليس الحديث عن الذئاب البشرية إلا صورة مقابلة لما هو ردعي تم اعتماده في فكرة السد وإزاحتها بعيداً بعيداً.
* الضاحك الميداني
إنه معبَر إلى العالم المنتظر عندما يكون ضحكه حالة من ضمن سلامة روح وأمان موقع اجتماعيين، ولهذا يأتي عمله الشعري اللاحق وجهاً خريفياً خلاف العادة، أعني أن الخريف يتجلى أكثر إغراقاً في تعرية ما استقر في الذاكرة الشعرية، عندما يتحضر السد بانتظار الشتاء في منطقتنا وما يستحق الاحتفاء به، وأنا أشير في الحال إلى «فكاهيات بلباس الميدان»، وما يستعيده تاريخياً من مفارقات من نسج المعاش، من نمط رابليه، إذ يكون عنوناً ليس بالإمكان تقصّي مضمونه بسهولة، باعتباره مركَّب المعنى، حيث إن مفردة «فكاهيات» بصيغتها التوكيدية تتضمن تجذيراً لخاصية تهكمية لا تستطيع الذات في ضوئها الحفاظ على توازنها وقد طالها الإيحاء وأفقدها الوقار الذي عرفت به، وهو عنوان كسابقه وكتوأمه الضمني، إذ الفكاهة تغدق بمعنى التفكه والفاكهة، كما يمكنني تعزيز هذا الربط، وهو يؤكد تمايزه عربياً، ربما لأن الإطار الحركي التاريخي والاجتماعي يمارسان هذا التحويل في الصورة الشعرية والتصعيد بها صوب فضاء مختلف لإبراز خاصية السخرية وجعل المد الصوتي أكثر تفعيلاً، إخلاصاً لضرام المعاني في بنية المفردة المكتظة بدلالاتها بالشراكة مع غيرها.
الفكاهة تتضمن المزاح والطرافة وطيب النفس، ولكنها في جوهرها المعايَن تستكشف عنصر النكتة والمتعة بغية تجاوز الضغط الواقع على الذات. الفكاهة إقياء موت، وقد سمَّمتها نوعية حياة معينة! فوجود فكاهة بلباس الميدان، وقد شُدّد عليها دلالياً «فكاهيات»، مجاز المجاز ليس بقصد الإضحاك إنما بغية مقاربة البعد المأسوي في الفكاهية المستطرقة بالذات، فالضاحك مماحك وهو هنا يعاني شر البلية واقعاً، خصوصاً وأن الصيغة العنوانية لا تحيلنا إلى ما ينبغي الانتباه إليه بوصفه فاعل إمتاع، وإنما يبقينا في دائرة اليقظة العقلية. الفكاهية ذات خاصية تأملية تشي بنخر موسوم يواكب أو يتخلل اللغة وهو موجود في الواقع، والشعر في ضوء الإحالة هذه يتزحزح من موقعه ليبرز ليس هجاء بقدر ما يتلبس قناعاً مزدوجاً في وجهه اليانوسي هذا الذي ينزع الرياء عن ظاهر الشيء ويجلو شيئيته، أو ما يخفيه الكائن المندهش مما هو فيه وعليه… الفكاهية كصفة تمثل محالاً اسماً لا تعني نفي الجدية، وإنما تقديمها أكثر بلاغية إذ غدت مهددة في هويتها، أو كينونتها. كل ما تتضمنه قصائد المجموعة من صور أو مشاهد متفكاهة يغذي شعورنا اللائكي بالكارثي لا بالفرح. يقول في «الصفحة الرابعة من مذكرات حمار»، من بين ما يقول في تالي إسقاطات الدلالات:
«تضعُ النظَّاراتِ وتقرأ للجمهور الجائع شعراً جائعْ
ويهرول شعرك في القاعة يأكل آذانَ الناسِ
ويخرج من زوبعة القاعة
وتلمُّ بقايا القصةِ في كيس الزبَّال
ويُشبعكَ الزبال شتائم» ..
ثمة لعبة شعرية داخل الشعر، وإن أردت، فلعبة البصيرة في عالم المرئي الدقيق، عبر خلق بلبلة داخل الشعر المعروف برصانته، حيث تتملكه مفارقات في مفاصله الكبرى. فالصور المذكورة سِيَر متحررة من قائلها المباشر، وهي تقدم مشاهد غير مفصَح عنها سابقاً، وهنا يكمن العنصر الابتكاري في لغة الشعر، أو طزاحة الحجر المعالَج شعرياً، أعني بذلك في صميم اللغة بالذات، إذ أن الأجواء المسرودة تبلبل الجدية بوصفها قدّمت مزيفة، أو مزورة، ولدينا معالجة الداء بالداء نفسه، حيث يحضرنا المفهوم الفارماكوني للوصفة الشعرية، إذ لا سخرية مما يجري بقدر ما يوجد تشريح للصرامة المعتادة ومواجهتها بصرامة موازية بغية الاستدامة.. وفي هذا النسج الشعري مرارة تذوق، حرقة حريفة للمستعان به من وقائع مصطفاة، أي للمعلن عنه واستعارة له، حيث الحمار يتراءى في محيطه المنبسط مقهقهاً من وطأة الألم وفظاعة اليومي، وهنا يدوّي الجديد بمغزاه. إنها الاستعارة مبرَّرة بالإغارة على الجهة غير السالكة تخيلياً وجعلها فتحاً في نطاق الرؤية الشعرية، رغم الكم الوافر من الحسيات المألوفة في مشهديات اليومي، ولكن لعبة الإشارات فيها تضفي عليها جدة الضاحك، لهذا لا مبالغة إن قيل حول أن الضاحك وحيد ضحكه هنا، طالما أنه مرفَق دلالياً بحمار يزاحم إنسياً لا يستهان بمقامه.
لحود سعى في «فكاهياته» إلى طرح السلف جانباً، بعيداً، معزّزاً سلفاً ضارباً برؤيته يستشرف مستقبلاً، لأنه يمارس قطيعة مع سلفه الشعري، عبر تقديم نص ينضح طراوة، إذ إنه زاوج ما بين خفة القول ووقع الصورة وتداعياتها، إذ لا إضحاك في «فكاهياته» إلا لمن تتملكه غفلة وعي، ولا ضحك مستثاراً، ربما كان هناك استدعاء لكائن مهرج، لمغفل مع سبق الإصرار لتعميق الأثر لمتتبع الأثر وحده، ولكن ذلك لا يدوم بمجرد المضي في قراءة النص أو الإصغاء، فيتم إقصاؤه مباشرة مرفقاً بتأنيب الضمير. الضاحك المعني فجائعي حتى درجة الإيلام «ضحك آلم»(لحوّدي المذهب)، ولعل ذلك لصيق الحالة الشعرية التي تظهر مكبوتها كاملاً في وضع انفجاري، فالبلاغة القائمة سمة النص الشعري المبتكر، والمهرج طُعم أوليٌّ لمن يعنيه الضحك الأصيل!
الضاحك اللحودي إذاً خارج السيرك، أو اللباس الفاقع المميَّز، أو الهيئة التي يصطنعهاالـ«كلون» ليكون منزوع الشخصية، وليبقينا في عالم يفكّرنا به. إن أكروباتيته متصادية دون تحضير، تلك مهمة القارئ في المقاربة، إنها خارج عتبة المسرح أو خشبته الثابتة، فالشعر الموشوم بالضحك مسرح متنقل ومفتوح على الجميع لمن يتدبر أمر روحه في تفهم المنهمّ به. إنه ضاحك محافظ على صرامة هيئته وجدية كلماته وتهجئتها بدقة، ضاحك تشكله كينونتُه، أعماقنا اللجّية، بيوتنا التي تُعرَف بانغلاقها المزعوم على نفسها وهو خارج العمى المواجه لبصيرتنا. أعني مجدداً: ليس الضاحك هو لحود بالذات، إنما هو المنفتح على داخله، إذ يتنامى الضحك على قدر تلمس كائناته!
لحود يذكّر، في عمله العوالمي هذا، بما أعيشه وأعتقده، ما نعيشه نحن، وهو أن أياً من بني البشر يلَخّص العالم في ذاته، وهو سلاسل عوالمية أساساً، إنه يختزن البيئات الحية، يختزن العوالم، ولهذا يمثلجها كثيراً في نصوصه الأسطورية والحكائية، بقدر ما يختزن البشر أنفسهم ويُصنّفهم، ويعيش كلاً منهم بطريقة ما: الصغير والكبير وما بينهما، الرجولة والأنوثة، الحكيم والأبله والمجنون المعتاد، الوقور والأرعن والمراوغ والمهرج والطائش… إلخ، ولهذا يتجاوب مع أي منهم بصفته شاعراً، ولو من خلال السماع، ولهذا يتسلسل شاعره في مقامات، ولهذا أيضاً يستساغ الشعر ويطلَب للقراءة والتذوق، إذ يُهّيئ في كل مرة لضحك مختلف، ضحك يتواصل من الداخل.
لحود لم يلتقط الفكاهية، لم يستعرها وإلا لما كانت بالاسم عينه، وإلا لكانت سيمولاكرية (مزيفة فاقعة)، لقد أخرجها من ذاته ليرسم بها حدود بيته ومحيطه وإقليمه وعالمه وإنسانه الفولكلوري، وليغدو الكائن الموحد داخلاً وخارجاً كواقعة لا تنكشف بالسهولة المتصورة. في «تعليمات عن أشكال الزمن الآتي»، يقول ضاحكه الشعري:
وصلتنا التشكيلات. أخذنا علماً
عن أشكال الزمن الآتي:
«ألقامة نصف كئيبه
والعينان تسيرانِ بعنفٍ نحو الصُّفره
والشعر ضريرٌ متعَب
والوجهُ حليقٌ خافت
والزندُ الأيمن عضَّ عليه القات
وعلى الزند الأيسر شامه» .
التشكيلات تُمَرئي دعاويتها في معرضها هنا، فلها علاقة مباشرة بالاستهلاك السريع، وفي الوقت نفسه تمنح الشعر بعضاً(أم كثيراً؟) من مفارقاته المختزنة النادرة الاستعمال بالطبع، وذلك بجعله موازياً للواقع الاستعراضي الذي فقد الكثير من داخليته، لقد تسطَّح ولهذا غلب على أمره، أعني به، أصبح هو نفسه قرين تصدع مرئي، معلوماً بالمشهد الذي يُفقِده هويته التي يدَّعيها. لقد فقد كل علاقة بالإله، وحتى الشيطان لم يعد يأتنس به، لأن الحضور الشيطاني يتطلب بدوره تركيباً وبلاغةَ لعنةٍ وتأصيل في سر له جاذبيته، بصورة أخرى: إنه لا يحضر إلى أي كان إلا من خلال محفّز يستوجب حضوره، إذ تكون البلاغة، مثلاً، حيلة من حيل تجليه.
أليس الزمن المشار إليه لم يعد آتياً، لأنه ببساطة، قائم فيما نراه هنا وهناك؟ أي كما وعد الشاعر دون أن يرغب في الإتيان به، وإنما ما أبصره في ظل زرقاء اليمامة.. تُرى من الضاحك في هذا الحيّز؟
* الضاحك في الركام
ربما الزمن الآتي بالمواصفات المحددة أعلاه هو الذي أوجد ضاحكاً يجمع بين صفة السخرية وصفة السخط والنيل مما يجري في مجموعته اللاحقة «ركاميات الصديق توما». من هو الصديق توما، وأي توما منشود؟!
العنوان يذكرنا فوراً بالأنقاض، بما هو مزمن ومتنامي العقَد، بالزمن الذي يتوقف وقد تداخلت أبعاده. فالركامية كمفهوم مكاني لا تنعزل عن خاصية الزمانية وتعرجاتها. ثمة استهتار بالزمن، بالكرونوس والعلاقة بين الأجيال والأحقاد المتوارثة والعمى الذي يسم العلاقات الاجتماعية.. الركامية تفعّل في الواقع تعطيباً وتعطيلاً وتعنيفاً وتعزيلاً للقوى عن مكّوناتها، تشير إلى التسويفات وبلاغة الحكي وهمود الحياة.. يتحول الصديق توما بشاعرية الإيحاء والرمز الأسمى إلى أكثر من حامل قيمي، فلا يعود الضاحك مميزاً بصفة محددة، إنما يغدو ضاحكاً مبصراً لبؤسه الذي يتملكه وصدع واقعه الذي لا يرأب ومرارة الكلمة التي تصور ما يثقل على الكلمة معنىً.
لحود الشاعر دائماً عالمٌ بنفسية الضاحك هو ضاحك بامتياز لكنه لا يُضحِك أحدنا، فهو يُقهقه ولكن لمن وعلى من وفي من وبمن؟ ربما هو وكل مَنْ يعيش معهم وبينهم، ولعله ضحك انشطاري يستحيل هو نفسه رأب صدعه طالما يضع نفسه في وضع نموذجي يقرّب بين المتناقضات ليحسن صناعة الضحك المتعدّد الأسماء ويزكّي ضاحكه الخاص حيث نتلمس في كل شيء مواجِه اسمه في شعره بما يشدّه إلى علامته الفارقة، ليس بقصد الجرد الممكن حصوله لاحقاً، وإنما لأنه يُعلم بطيبته وخبثه بتنوع صفاته ووجوهه من الداخل، وكل كائن له موقعه في العالم بما يعنيه من خانة اعتبارية غير مستقرة، والعالم مدشَّن فيه بصورة ما، وكل امرئ حاضر فيه بوصفه مفهومه وهو يعيد تشكيله التارة تلو الأخرى من خلال الواقع الآخر الذي يتراءى في ضوء بصيرته المتنقل بدأب.
وكل هذه العناصر تتوحد في رسم المشهد الشعري، وتغدو مجازاتٍ وربما مجازات المجازات وجوازات لمجازات تعقبها كما تتطلبها لعبة الشعر الخاصة، وفي العمق يرتسم سلوك الضاحك كائناً غرائبياً، لعله وحده، يدرك البِنى التي تكوّن حقيقته «فالأشياء فحوى العالم، والعالم حظوة الأشياء»، بتعبير هيدغر، عبر وجه جلي من وجوه التداخل/ التكامل بين الأشياء وهي تتجاوز سكونيتها، أشياء تتراءى ضاحكة مستبشرة ضحكاً، والعالم المشهود بالحركة، استجابة لرغبة الأشياء وهي تحتفي بوقائعها أبعد من نطاق الأسماء التي تحيلها إليها.
إنه عالم توماوي شكَّاكي له تجاربه وما فيه من نزع القدسية عما هو قدسي وقد جرى تحويره وهو يتقدم بأوجاعه المتسلسلة وسيرته الممهورة برمزه الذي يضحك لأن الضحك ينبري احتجاجاً على السائد ومقاربة للمختل فيه:
«من يلتقطُ الحبَّةَ من عيني
والدمعةَ من عيني الأخرى يا طير الماء
أنا سمّيت الحبَّة موالاً مجروحاً بالفقر الشعبي
ومغلولاً بالذكرى
قوتُ الطيرِ غفيرٌ في بلدي(أو في بلد ٍ آخر…)
قحط الطير غفير يا مرهق أشعاري» …
ما/ من تكون طير الماء في قصيدته هذه؟ لقد سمَّاها في العنوان، وهو يحيل الشاعر إلى المأخوذين بالاستعراض في واقع لا يكف عن التغير، والطير لا تكف عن اللعب بالماء، لاهية ساهية عما هي فيه، عما تكونه الطير هذه! هل يمكن مقاربتها رمزاً ودلالة أو علامة؟ وقد أطلق الشاعر العنان لديوكه في أن تمارس تشكيلها المبهرج؟ والمعنى الذي يمكن تسميته لا يلخص حالة القهر والانتظار المأمول والوله المطعون للشاعر، لا تعود الحبة والعين والطير والذكرى والبلد… إلخ، مجرد كلمات، أسماء يُستَأنس بها بقصد الحديث عن(عاطفة الشاعر)، فالشاعر نفسه في وضع فجائعي لا يمتلك ناصية نفسه وهو بالمقابل يشتعل ألماً ويسيطر على جنون الكلمة فيه، إذ يهبها هيئة إهابية ماضية وهو يخرج الكلمة من مألوفها: مقام الديك والتقاط الحبة، صلة الحبة بالفقر الشعبي(ماذا يعني الفقر الشعبي، وقد أربك، أو ربما أربك لحود قارئه بهذه الجملة «الفقر الشعبي»، ليستزيد مما هو مبثوث فيما هو شعبي وما ليس شعبياً جهة الفقر، وأي جهة له هنا..)، والذكرى المقيدة، والعلاقة بين القوت والقحط، حيث نشهد نزوحاً واسعاً من الدلالات الحافة ذات الصبغة الإشهارية من مشهدية القوت إلى مأتمية القحط..
ضاحك هو هنا إذ يضحك شيطانه الميلتوني، المَعرّوي قبله، ليس هزءاً من مصيره وإنما شفقة على مصير الكائن الذي وُضِع إزاءه، وهو هش في تكوينه كما طلب من خالقه، ضاحك إلى حد البكاء من السكون الذي ينسكن بركاميات من لا يمتلك إلا قول المؤلم(حيث البكاء ضحك مجبول بالدمع والصمت أحياناً في الداخل، والضحك بكاء تخارجي مختلف بمردوده)، إنه استواء العالم على شفير هاوية، والضحك نوع من النعي المسموع هنا..
القصائد التي تتميز بها المجموعة الشعرية هاته تحمل صرخاتها النازفة، لعلها الضحك إن راعينا الترجمة الدقيقة لها بنيَّة التوكيد على رعب الدائر، وثمة معادلة بسيطة، بها أو عليها نتوازن: نحن والعالم. هذه المعادلة نسفت أو قوضت من الداخل، فلا نحن ولا عالم هنا أو هناك، أو هنا وهناك يمكناننا من استعادة نفَس تاريخي نساوم عليه أو نتأسى به، ثمة انقطاع عن السلف إذاً، وهو يصوَّر خارج كينونته بغية تعرية التفكير في خاصية ما يجلو به ركامياته، وقد تراءت منضدة ومتداخلة، وهي تقوم على مبدأ البعثرة لواقع صار هو مبعثراً بالذات. في «ركاميات الصديق توما» القصيدة، نستشعر «تومانا» بجلاء ومعه وإلى جانبه «مريانا»، ثمة «عرس الدم لوركيانياً». يستحضر لوركا الشاعر، و«عرس دمـ»ـه»، فاجعة ابن المقفع ربما، وضع غيرنيكاوي معمَّم يتخللنا، لنقل مراعاة لمناخات القصيدة: ثمة درب جلجلة ينسفح على ضفتيه إشهاراً بضغط كارثي:
«جميل أن تَغرقَ في حبك حتى الشفتينْ
وجميلٌ أن تتحدّث يوماً أن امْرأةً كانت تهواك
تدفنُ رأسَكَ في أحزانِ المقهى
وتبوحُ كطيرٍ في زاويةِ الصيفِ
تبوح بأن اللقلاق الشتويَّ يُحرّكُ جثته بالعشق
ويَرقصُها فوق الأشواك» .
الكلمة تغتلم بمعانيها، أو تأتزر بموعودها المعنوي، وهي قد تتخذ صفةً بانورامية، حيث لا تعود كما هي، وهي كذلك في الشعر قبل غيره من الفنون الأدبية، وربما تضاعف من حدة الإيحاء وسطوة المعنى، فلا تعود حتى ذاتها في متاهات المعاني، كما في مفردة «جميل»، إذ يترافق حضور كرنفالي فيها سوى «الجميل» نفسه. نحن إزاء عالم يتهاوى، وكائن إنساني(لا تُحتمل خفّتُه) لا يفارقنا وهو يتلاشى كمفهوم أو يتداعى في ذاته منزوع القيمة، بما أنه لا يتكلم إلا الركاميات(يتحمّم بقهر ويتنشّف بهدر)، والركاميات لا تُفصح عن طبقاتها لأنها متراتبة وكتيمة وصلبة، بقدر ما تشير إلى رعائية الجاري أو الجائر في استفحاله. لهذا يغور المعنى إلى درجة الترويع بمصاب المبنى..
المشهد الشعري المفتوح والمفضوح معاً أو ضمناً في عمومه يُنذر ببؤس العالم، فلا عزاء فيما يفتقد القدرة على ذلك الاستمرار المنشود بسهولة، ويغدو «توما «تاريخاً مسجلاً، فئة معتبرَة بقهرها، شعباً مثلوماً، مجتمعاً مستهلَك السر، مرحلة مديدة بعنفها، فجاعة عاطفة تتجاوز الفردية باقتدار معكوس في مردود المشتهى الاعتباري، وهو يقدم صورة إحيائية لضاحك من فرط التبلبل وانسداد العالم المأمول من يومه التاريخي المنسي ذاك:
«في كل مساءٍ يرجعُ توما
يأخذُ صورتها من قائمة الأشجار
يعصرها في الكأس ويشربها
(يُعلّقها في القبو.. يُسمّرُ بابُ القبوِ)
ويرجع توما.. كل مساء
أما الآن فبُومُ العرسِ يُغنّي
أطرَب موتٍ
والذئبُ يراقص ذئباً منقوشاً بالدم:
أحذيةٌ بالية فوق جواربِ توما
أحذية بالية فوق شواربِ توما..
يذرفها في الكف ويشربها
كل مساء كان كعادته يتقدّم توما
يفتح باب القصّةِ.. يكرع كأساً من صورتها
ثم ينامْ .
من خلال «توما» يقلب الياس لحود العالم، وهو مقلوب أصلاً، لا بل يعيد تشكيله وهو في وضعه القياماتي، كما يجب أن يكون، وهل هناك ما هو أصدق من شهادة جوارب توما وصنافة الأحذية البالية تثقل عليها، من شهادة شوارب توما وجحفل الأحذية الباليةُ يغيّب معالمها؟ وهو في وسط مستباح بالذئاب التي نافست الذئاب شراستها؟ يتحول «توما«في اسمه العلَمي إلى اسم استعاري، إلى استخارة بلاغية إزاء المعنَّى، إلى شخصية مفهومية لرؤية خراب العالم الفعلي. لقد انهَمَر «توما» ضاحكاً من هول الانحطاط فيما هو موجود حوله، هذا الكائن يعيد ترسيم الحدود والأقاليم وحركات العناصر والمفاهيم، لأنه يتجسد فيها مظهـِراً هشاشة التكوين فيها، إذ المكان مشهود له بالكثافة وبتكثيف دلالاته، كما في مفردة «القبو» واستجراراتها الرمزية.. القبو يخسف بنا الأرضي، يعتّم المكان * الباشْلاريّ؟]، ينحو بنا صوب السفلي، جرَّاء سفلة المشهد اليومي، حيث نعيشه واقعاً، صوب ما لا نعلمه وهو باد ٍ في أقوالنا وسلوكنا.
القبو يسهل له أن يعلّمنا بخارطة البث القبويية وكائنات رعبه، وهو إحداثية مكانية تعني اللاشعوري الذي نتجاهله:
«هو الهوية المظلمة للبيت، هو الذي يشارك قوى العالم السفلي حياتها. فحين نحلم بالقبو فنحن على انسجام مع لاعقلانية الأعماق» ، إنه ضاحك مسيحي برمزه، متجاوز خانة مذهبه، وقد فقد خلاص الرمز مواجهةً!
لا يعود للحواس سوى دور سلبي أو محدود. وقوى الغريزة والخفاء هي التي تتولى مهمة مدى إظهار نجاعتها في الأقلمة والمفهومة والمعلمة. «توما» قبوي ولهذا يكون ضاحكه من طراز ضارب في الفرادة إذ يفارق حواسه وينذهل مما طرأ عليه ليغدو سفلياً «قبوياً»، و«توما» في تاريخه الديني ونزعته التشكيكية، واكتشافه لفجيعة الذات يكتشف الذات بعد حطام وزكام روحي، إذ إن الشعور بالغبن مرادف للشعور بالاضطهاد مرادف للشعور بالانخساف الداخلي ومرادف للشعور بخواء الكينونة المؤنسنة وهو في القبو، لأن الشعور بالبهيمية مضافٌ. وكل ما يجري عبر القبو ومن خلال توما توجِد في الضاحك المحرضات الأكثر سيرورة، خصوصاً وأن الركاميات إعلاميات مسفوحة في أنقاضيتها، وهي تعزز في الشعر روحه المجنونة، والضاحك في ضحكه، الضاحك والمضحك والإضحاكي(حيث الفوضى متنامية)، لا يتوقف عن خاصيته التي تعصى على التحديد المنطقي مادام المنطق نفسه وبصيغته المألوفة فاعل ركاميات.. أعتقد أن بنية الضاحك في «ركاميات الصديق توما» مصاغة بتقنية تخيُّل مدهشة..
* الضاحك المأتمي
هذه الفجائعية المقامة في تطويب العنف المضاد صحبة البطولية وفي متن المشهدية المتعددة الألوان تسم قصائد المجموعة، كما في «وعباس يعدو أمام الجنازة»، ولاحقاً في «أغني لزهران والبجعات الحزانى». وزهران كما هو المركَّب الجمالي في الاسم «زهر: زهران» وفاعلية الإزهار: النماء، الانتثار القيمي: فتى جنوبيٌّ، والموطن لبناني الوجع والجرح والسريرة أبعد من محليتها وفي تعددية حالات الموصوف حياة وموتاً كما في هذا المقطع:
«خذي بعض دمعي انثريه عل الفلِّ يا أمُّ
(قد هجر الماء من داركم مذ هجرنا…)
خذي بعض زهرانَ..
(زهران بين الترابِ الجنوبيِّ)
ريحُ المدينةِ ساخنةٌ تحت قلبي وباردةٌ في الزوايا
خذي بعض زهرٍ زَرَعْناه ثم احترقْ
رمادِي هنا وابتدائي هناك
انْثُريني على ذكريات الحبق»
ضْاحك الياس لحود مجدداً في فيسفسائية مكّوناته ومقوماته، يمارس إخصاباً لمفهومه من خلال التنويع الاجتماعي والنفسي والرؤيوي، ولذلك، وعبر هذا الكل في الواحد، والواحد المتناثر في فضاء الكل، فهو يمتلك قدرةً جلية ومتنامية في الانسلاخ عن ذاته النمطية كلما تقدم به العمر واكتسب شبوبية المكاشفة في المعايشة الشعرية. لعله في مجموعة «المَشاهِد»، وما يعنيه المُشاهِد في مَشاهد رؤيا، يقدّم صورة متعدّدة الألوان بتنويع معالمها وفي بنائها الشعريين، ومن خلال معالجة المفردة الشعرية جهة الرغبة المأخوذة بجنون المعنى وخطاب المختلف، بل يكاد المشاهد الشاعر ينفصل عن لحود الشاعر في مشاهده السابقة بأسلوبه وطريقة تصوره للكلمة وتكييفها معه، وكيف يغذيها بمستجدات الواقع، وما هو قابل للتذوق، كما لو أن المشاهد تمارس التفنن فيما هو بصري داخلاً. يقول في القصيدة الأولى( صنوبرة):
«ما همَّ لو دفَعَني حبيبي
للماء..
ما همَّ لو دفَعَني النهرُ إلى حبيبي
وكان بينَنا عشْبٌ وبعضُ الوقتِ والْحَصَى
وكان بيننا ارْتعاشُ هذِهِ الصنوبره .
الشفافية الواسمة لهذه القصيدة المقطعية تخدعنا إذا اعتقدنا أن ما تقوله أو تُمَشهِده واضحٌ حقاً وأن لا ضرورة لتأويل إذاً، لأن وراءها يشهق غموضُ المعنى الخاص بهسيسه في بنية الكلمات وتعالقها في رزمة وفود صُوَرية:
بين حبيبي والماء أو بالعكس، بينهما والعشب والوقت والحصى، ما يخص الصنوبرة.. ثمة صيرورة حياة قائمة ومتحركة في هذا الوئام المفتوح بلاتناهيه بين الحبيب والماء، إذ توحي «ما هَمَّ» بالطمأنينة وتقوى اللغة وصفاء الحدود وسلام الكينونة، فثمة صنوبرة هي شاهدة على لملمة العلاقات وتنميتها وتعميق أصولها الشعرية…
هناك نزوع تعبيري، وسريالي ما، في بناء الصورة الشعرية وفي سبك قيمتها الدلالية. بنوع من التوضيح: ثمة مزج فولكلوريّ على صعيد لقيا الشعر، بين رامبو وسان جون بيرس وجاك بريفير، ولكن القوام الفني في العمق للحود إزاء المكتشف يتأتّى في المختلف باسمه هو، إذ التبعية تنعدم أو تكاد والطيف التأثري يتلاشى في سطوع المشهد، وهو يحبِك تاريخاً ليس بتاريخ إنما هو شعرٌ يمكن تبيّنْه أو استقصاءُ تكوينه تاريخياً كما في( حاشية): «يُعيدها صغيرةً/ يرسُمُها/ تقتربُ إليه/ تكبرُ/ تكبرُ.. تكبرُ حتى عريها/ تعيده صغيراً/ ترسُمُهُ/ يقتربُ إليها/ يصغرُ/ يصغرُ../ حتى عريه» .
وكما في «أعشاب لمتحف الكوابيس»، وهي قصيدة طويلة نسبياً واسعة بأطيافها في الديوان:
«تنادينني/ أكتسي لون شعبي وأنبت بين الجدار/ تنادينني/ لا أفرق بين انطفائي وبين انتشاري السعيدْ/ ويقترب الأفْقْ من نشوتي ثم يدخلني/ يقترب البحر.. يدخلُني/ يقتربُ البرُّ.. يدخلني/ وأدخلُ جرحَ المساء/ باتجاه الأصابع والكف أو نحو برق الجنوب/ طويلاً طويلاً تراودني رعشة في اتجاه البكاء» .
هذه المزاوجة الأدبية الخاصة بين الوضوح العميق والغموض الجاذب الذي يثيرنا، تُبقينا في فضاء الصورة الشعرية الأكثر جدارة بالتجدد بوصفها اكتناهاً للعالم المتخيل وتوليفاً إبداعياً له ليعاش خلاف ما هو عليه. هيئة الضاحك وهي تعاودنا في عَدْواها الرمزية ليست واحدة هنا، كون الحدث، حدث الشعر، متعدد الاستلهامات، لهذا فإنه يتبدى مفارقاتياً إلى درجة التلاحم ومسكوناً بعطالة العالم ولاتناهي مفاجآته وانفتاح أفقه في آن… تجربة لحود الشعرية، أو جمالية التجربة الفنية في الشعر عنده، وهي تعيد في كل عمل شعري جديد بناء العالم بنوع من المغايرة عن سابقه ضماناً لبقاءٍ أجدى، هي ذاتها التي تقدمه، وربما تساويه، وكأن لحود متناثر أو متكاثر تنوعاً هنا، كون مشاهد البيت والمكوّنات العائدة إليه، بيت هو العالم، والعالم كثافة البيت المفتوح، والحي والشارع والمدينة والمكان عموماً والوجوه العابرة والسابرة بأدوارها الموجزة والمألوفة والغريبة وطبيعة الرؤى والأحلام والقراءات ومناخاتها…الخ، تعيش مخاضاتها وتحولاتها وأجواء قلقها الملازمة لها هكذا. يتناغم الرعوي مع الصعلوك، الشقي مع التقي، الحضيض مع القمة استجابة لنداء الشاعر وحرَفية ضاحكه! فلا عجب قبالة هذا التجمهر في كائناته أن تكون مجموعته الشعرية «شمس لبقية السهرة» بكل تضادّيتها هي الأخرى تعنيفاً مكثفاً للواقع، أن يكون الواقع المعنَّف مقاضاة ما لما هو مكثَّف فيه بعنفه المرهوب الجانب، حيث ينبري الواقع هذا بكل محسوسيته وللسائد فيه سلوكات ٍ وثقافات، وحيث تتجلى الصور الشعرية المتفضية عصية على القراءة البصرية، وهي متوترة، هستيرية الأجواء، خاطفة، وامضة، قصيرة الأنفاس رعّادة، وربما لاهثة في زحمة الموكَل إليها من مهام، وهي ترادف علقمية المشهد الواقعي العميق، كما في قوله في «تخريج» بجملتيه: ماذا نصنع بهذا الانتظار، أكثر من أن نفصّل منه رقعاً لبيجاماتنا» .
تكثيف مرٌّ متكرر متحرر من نمطيته ومريع لانتظار غير مجد في ليل لا ينجلي بل يعتلي نهاره، أو لأمل سرابي. لكينونة منخورة تقابل هذا الكم المأزوم بأصناف أمزجته لبشر يراهنون على موتهم فيما يغفلون عنه حياتياً. في واقع لا مجال للإفصاح فيه عن المفاجآت لأنه معرض لكل شيء، تبدو اللاعقلانية كمفهوم حقيقة واقع، ويغدو الاستئناس بالواقع بُعداً جلياً من أبعاد الحياة اليومية، ولهذا فإن مفردة الفانتازيا تفقد كامل بهائها أو رونقها، ويكون الضاحك في حلة مسوخية لأن ما يعاش يُفقِد الاتجاه، إذ إن التفكير هو في قدرة التكيف وتحقيق التوازن، وخصوصاً حين يكون للتسويق في مد القيميّ أو الأخلاقي رواج.. لاحظ الضاحك في «ملحق عشاء»، مثلاً: * مساء/ يتعشّيان ديكاً ويصيحان/ في الخارج/ تتسكع قنبلة كسولة/ في الداخل/ تُقطع شرايينُ الكهرباء/ ويبدأ البحث عن «طربوش القنديل»] .
أي إخاء بغيض على صعيد المشاركة المقطعية في المذكور سالفاً بين الأمان ولحظة الغفلة الصادمة؟
أي شمس تخرج من قلب المتعة أو تنبثق خلاف المأمول منها، إذ تحيل الليل ويلاً والزجاج شظايا؟
ربما في برزخ العلاقة المفترضة وهي مائجة بين يقينية الواقع وإسفينية القائم تستقر مفارقة محفّزة على الضحك الذي يعاين من سَهُوا والتهوا، ولكن القول الشعري العام وهو يتابع توسيع معانيه يضمن ضحكاً أوفى. إذ لا استقراض لفظياً في المشهد المذكور، وإنما استعراضُ واقع وهو بكامل فجائعيته، أو وهو في الطريق النازل صوب الفناء. من خلال حالة الغباء والبلاهة والعماء التي تعاش، وهو العماء الذي يزيد الواقع عماء. الضاحك هنا يقهقه من فرط مساحة الجنون والتشظّي الكامن في الذات، إذ يكون تذرير الواقع واستشباح الكائنات في مدينة اللامدينة منزوعة التسمية، وهذا ما نتلمّسه في مجموعته «الإناء والراهبة» توكيداً على وضعية لا تستحقّ حتى الهجاء نظراً لإيغالها في الانحدار، وبين الإناء والراهبة ما بين الشيء والروح من حوار مؤلم.
تتسلسل القصائد عصية على القبض الدلالي، طليقة بغموضها وهي في مرمى القراءة، موجعة بمحتوياتها معاً! القصائد والمقاطع القصيرة المتفاوتة في مساحاتها تجلو حالة التخلخل أو التعثر في نبض اليومي، كما لو أننا في وضع مأزوم، وحده الشعر يقدر الاحتفاظ بما هو متهالك فيه. يقول في «امرأة ومسرح»، وفي المقطع الأخير: يخترع المخرجُ لمبةً وسيعةً/ وغرفة لا تنتهي/ ونملةً مناره/ يخترع المسرحُ قبةً/ مكسورةً/ وامْرأةً سِتاره» .
ثمة رغبة جامحة بالتأكيد في تكوين جديد، أو محاولة ملحاحة في إيجاد ما يساعد على هذا الوضع المرغوب. ففي «الإناء والراهبة»، سعي حثيث جلجاميشي للبحث عن حياة تدوم، عن أرض لا موت عليها أو فيها وهي الأرض التي لم تعد قادرةً على حفظ ذاتها من كل خطر محدق، كون ما عليها وفيها يتهددهما الموت. مشاهد اللاعقلانية تعيد صياغة الأحداث تنظّم الحركة في الوجود على يدي الشاعر، لأنه لا يرى بُدَّاً من ذلك، هي مشاهد لا تخفي صعوبة المعنى، كأني به، بضاحكه نفسه، يستشعر يأساً ضارياً، ولهذا يستحضر في ذاته الأخيرة: ملاذه الشعري الاحتياطي وبشيطان شعره الحداثي بأساً ضارباً عدته التاريخية، الدينية، الأدبية، النفسية، كون الراهبة في متضمنها الأنثوي، وعراقة الرمز وخصوبته، والإناء بكل أريحية المحتوى وطقسية المناولة، أي طقوس المسارة في العمق، يفصحان عن تجريف للركام الحاصل واقعاً، عن ضحك يعيد نشاطاً لازماً لكائنه.
ما يقدمه لحود من صور ومشاهد وبلاغات سريالية تهكمية على طريقته يعزز هذا الشعور بإفلاس الكينونة تلك/ هذه التي نعرَف بها وليس إلاها طبعاً، وما فيها وعليها من قيم تمثل عوائدنا وعائداتنا في المتحقَّق حضارياً.
ينبري الضاحك من بين المفارقات تلك التي تخضع للعبة التقديرات الذوقية، ونباهة القارئ الشعري، وذلك على عتبة الحياة المتخيلة، حيث تجاورها منصّة المسرح الهزئي، وهو يواجهنا، أي الضاحك الشعري، يواجه الغائبين، وهو كائن المفارقات التي تشبه اللعبة الروسية دون نهاية، إنه كائن الغياب الحضور معاً، الضحك المستشري الوحيد الذي لا يساوَم عليه لأنه معاش إبداعياً، إنه يضحك على طريقته، يضحك على ضحكه وبه، يضحك عندما يضحك أكثر، يضحك لأن المتاح ليس متاحاً كما يريد، يضحك ويتمسك بالضحك، كما لو أنه مسلّم نفسه/ روحه لنشوة بعد زمان، لأن قراءة الشعر أحياناً تتعدّى في المتخيَّل الإبداعي ما هو مبدَع شعرياً، طالما أن ضحكاً كهذا يعيد خلق عالم بعد غياب طويل، إذ يلغي التمايزات ويترك الحدود متحركة تبعاً لفعل لقراءة، وهو الضاحك الذي لا يعود يحيّر النظَّارة، إنما يقلقهم ويدهشهم، يصدمهم بتركيبته وهو يخطف أبصارهم بالتوازي مع خلفية المسرح وما فيه من عبثية لافتة في المعروض، لا ليقول لهم: ما أنتم، وإنما: يا أنتم هل أنتم؟ مرفقاً كل ذلك بضحكات/قهقهات مطفأة تتفاوت مدىً وشدة إيقاع لإبقاء نشاط الذائقة القرائية متجدداً.
يقول في مقطع من قصيدة «الإناء والراهبة 2»:
«رسمَت إناء أسوداً/ ملأته بالأزهار/
ثم أرَتْهُ من بين الرؤوس لثوب تلك الراهبه/
من أين تأتي بعد ذاك الجهد هذي الطالبه/
لتدلها أن الإناء يكون مثل الراهبه .
تَقْوى الضاحك في هذا المقطع/ المشهد الشعري هي في صيغة/ حالة شبق التسْآل التي تلم وتغم. الطفلة(عنوان المقطع المذكور)، هي طفلة الشاعر الناضجة بخصوبة اللقيا بنضارة الاستعارة الخاصة بها وسهولة انفساح الفرصة أمام الضاحك الشعري لأن ينبئ عن غريزة الضحك الشعرية فيه، إنها أو لعلها الشاعر في براءة التكوين هي صيغة نسف للسائد في نمطية المعاش محاوَلةً لكسر جمود رهبة المكان والخوف من المفكَّر فيه حيث المحظور دينياً واجتماعياً وتربوياً هو الذي يتملّك الروح عندما تكون الطفلة إشارة إلى الجهة التي وردت منها: الطبيعة الحية، المستبشرة بطلائع عوالمها ولأنها طفلة الوعد بالانتثار في جنسانيتها المشتهاة وقد تراءت عالماً.
ولعل خاصيات قلب المعاني وزحزحة العناصر بدلالاتها واصطباغها بالألوان الموجهة هي التي تظهر ضاحكنا الشعري هائماً على روحه وطليق الإشارة شيطانيّ الحركة كذلك، كما في حركة الرؤوس وسلوك الراهبة وصنعتها ورمزية الإناء وتداخله مع الراهبة كبناء تكويني منشود، كانبثاق مائي، رحمي المقام..
وأعتقد جازماً هنا، وهو اعتقاد رديف اعتقادات توزعت في النص، أن سيرة الضاحك اللحودي عبر شعره بقيت تتلبسه وهو في هيامه وهوامياته وأوجاعه، يضحك لأنه يعرف ضمناً لماذا يضحك، أو يضحك لأنه لا بد أن يضحك ليشعر باختلافه ضاحكاً وقد عم الضحك كلية جسده، أو يضحك لأنه يجهل كثيراً لماذا يكون الضاحك ضاحكاً ولا فكاك من ذلك إيماناً شعرياً منه أنه يتجاوب وحرفة قول الشعر، وهو يضحك لأنه يتلمس في سلوكه روحانيةً مميزة تمده بطاقةِ صيرورة وقدرةٍ في البقاء أكثر، أو يضحك لأنه يضحك من ضحكه كما بات مأثوراً له، في حوار لا ينقطع وفيه لأنه أمضى في تقريع الجوار ومعايشة مهاترات الواقع وجهامة القيّمين عليه. لاضحكهم!
وكان عليه، إزاء هذا الالتزام الذاتي، أن يمضيَ في حلته الضحكية مديداً من الزمن، ليكتشف جديداً معزّزاً فيه شعوراً بانقشاع وهم واقعي ليس هو فاعله، إنما ما هو أقوى منه وهو شاعر منفتح على جهاته، حيث ينطلق عبر ضاحكه مسكوناً بمضاء الحياة لأن الواقع قدم البرهان المؤكد لذلك، في مجموعته الشعرية «مراثي بازوليني»، وهي في صيغتها الملحمية والكوكبية من ناحية التقنيات الشعرية المستخدمة تشكل خروجاً من متاهة لم يكن يشتهيها أو لم تكن تستهويه. إن في قصائد المجموعة جنوحاً نحو الحياة وفيها بكل مددها وعددها وغديتها، ومضاعفة الأمل طالما أنه تلمس قيامة جديدة على صعيد الحدث وتكويناً جديداً شدَّاه إليهما. إن فـ كل شعر فعلي لا يعدو أن يكون قياماتي الأبعاد، أعني الضحك الذي يتجاوز الحدود المرسومة في العالم.
ثمة حداثية في المراثي السبع(طبعة/ اتحاد العام للأدباء العربعمّان) بكل ما لهذا الرقم من تيمة أسطورية أو طقسية، وبكل ما للمراثي من حضور وجداني محفّز على تعميق الشعور بالمفارق ذاتياً، من ناحية احتفائيتها وتمسك بالحياة وقوة علاقة مع الماضي هذا الذي يفتتح الحاضر ويدشن المستقبل بدمه، ليكون الماضي انقذافاً في المستقبل على تقدَّر تبين الماضي. ففي المرثية غواية المجهول واندلاق الذات خارج مسكبها لتنضر روح عالقة، مشتركة. ويبرز «بازوليني» بكل قيافته الرمزية وإيحاء اسمه انفتاحاً على المأمول عبر الموت بغية تأمين فاعلية حياة، ولعل الضاحك هنا في أمضى حالاته تقدماً ونفاذ هيئة، كونه يحيل مفهوم الضحك إلى دافعية تتحرك داخلاً، ويُستثمَر في حيّز المرثية تلو الأخرى. يكون الضاحك نظير الحياة المترتبة على المرثية، نظير ما يدفع لقاء الحياة، ولأن الأمل المعقود هو ذاته، في موضع رهن الدم الذي ينسفك ضماناً للذات المجتمعية دون تناسي دور خصوصيتها الفردية في ذلك..
في المرثية الأولى «أقلام وتلوين» فقرة أولى، يقول: قد كان/ أن سكنت زهورُ العتم في عينيهِ/ والتهمت نوافذَهُ المشاتلُ/ وانتهى في البيلسان/ أقولُ/ حين أرادَ ماهر أن يطير/ استقبلته الشمسُ بالريش المسطِّرْ/ علّمته على الصخورِ/ وفوق أعشابِ السطوحِ/ توزَّعتْهُ وناولته الريحَ صارت دمية/ ليديه أو نغماً لدمية قلبها/ والشمس إذ تعطي لماهر لا تمل ولا يمل/ كأنما هي زهرة البركان وهو سليلها المشتاق/ منذ نعومة الأيام للغسق المدمَّى والبيوت» .. لا دموع في المرثية طبعاً، لا إحباط يسم الاسترسال الشعري، لا شهقات تُرى أو تسمع، حتى مشهد الموت من خلال الصور اللصيقة به، لا يُلاحظ لأن المرثية في بانورامية مكوناتها تراهن على كونية جديدة، وتشدد على أبدية الحياة، لذلك فإن النواح كفعل قهري وسلبي العلامة غائب ومستبعد كلياً في ظل الاحتفاء المتنامي مع تنامي حدود الرؤيا وتوسعها في القصيدة، كما هو المتدفق نفسياً من ضحك الصيرورة في عافية معناها، حيث إن حامل الاسم «ماهر» اسم منزوع الفردية، حتى بمعناه، وهو يمهر القصيدة بمضاء الرمز والوعد بتلقّي المفرح.
يتصاخب الضاحك في شعر لحود كما هو هنا خصوصاً، مسكوناً بالسياسة، أو مطعَّماً بها، إذ لا يمكن قراءة شعره هذا دون، أو بعيداً عن، اعتباره بمعنى ما كائناً سياسياً. غير أن الذي يجدر ذكره ضرورةً، هو أن ثمة فرقاً جلياً بين سياسة العامي، الحزبي، المسؤول(أي مسؤول) وسياسة الشاعر في معايشة الحدث شعرياً، كون السياسة تتوارى في ثنايا الشعر بمثيل حبري في النسيج العادي، وبالكاد تلاحَظ آثارها خاصة إذا كان القارئ يفتقد جاذبية قراءة الأعماق وتلونها بالمعاني.
* الضاحك في إرادته الملزَمة بذاتها
الضاحك اللحُّودي لا يماري أو يباري أحداً في ضحكه، لأنه يعنيه على قدر شاعره، إنه المتحول فيه، وما يتم التقاطه من آفاق المتخيَّل، إنه ممتلئ سياسة لكنه إذ يضحك فلكي يرد عن نفسه كل تهمة بأنه مجنون سياسي أو مهلوس بالسياسة، فضحكه لا يسبر عمقه، ولا يحمل صيغة بيان جماهيري في شعاراتيته، لا يُدرك كنهه بيسر. وربما أثار سخط القارئ/ المشاهد بسبب غموض ملامحه، فيؤجّل حتى ضحك المفارقة، وهذا ما يحصل في حياتنا عندما نعجز عن تفسير وجه تتملكه ابتسامة، أو وجه في سيمائه الضاحكة عبر إقلاق المعنى.. ربما علينا أن نعترف بسياسة غير متاحة سوى للأديب، للفنان، للشاعر هنا خاصة، إلى درجة تربك من يكون مشغولاً بالسياسة دون أن يقدر على فك ألفبائها، وذلك لحظة النظر في حيوات جملة الفنانين والكتاب والشعراء ضمناً، لأنهم يتلقون الأوامر من وجداناتهم التي تعكس العالم في لحظات دون أخرى، لتكون مسيراتهم أو مظاهراتهم العارمة كما تعلِمنا نصوصهم أو آثارهم الإبداعية مقتصرة عليهم، ويقيناً يكون تذوق المردود الجمالي الصاعد بعلاماته المضيئة على قدر تقدير الإبداع خارج قواعد ضابطة مجتمعياً(حسب مكليش أرشيبالد) «يبدو الشعر أحياناً وكأنه لا يعتبر نفسه منظماً للحياة، بل طرفاً معاكساً مضاداً لها. ولقد بدا، في بعض الأجيال، أن أعمق الحاجات الإنسانية لم تكن الحاجة إلى أن نجعل لحياتنا معنى، بل إلى أن نجعلها بلا معنى على الإطلاق» .
ما هذا الهذيان الكلامي؟ أن نقدّم اللامعنى على المعنى، وبأي منطق مستساغ! هل في الأمر خطأ نحوياً أو هفوة قولية؟ لا أظن أن ثمة انحرافاً عن المعنى المراد في النص، إنما هو خروج على السائد لحظة التمتع بما ليس مألوفاً، ليكون لهذا الذي نسعى إليه طعم الألم الصاعق وقد استحال تلذذاً يفتح بصيرتنا من أقصاها إلى أقصاها. وربما بدا لي لحود سياسياً إلى درجة الإفراط، من خلال اهتمامه الملحوظ بالحدث اليومي، وهذا الاهتمام السياسي(إن جاز التعبير) يتجاوز محيط الأصابع وحدود النظر، ويتجذّر في فضاء البصيرة الشعرية، فلا يعود للسياسة من أثر إلا فيما يقوله الشعر على طريقته، ففي لاعقلانية المعاش بالنسبة للشاعر ما لا يعاش وهو اعتبار السياسة زائدة يجب استئصالها، رغم أن الزائدة هذه بمفهومها الحيوي تشكل عنصراً مندغماً في الجسم. والضاحك اللحودي، كما تبدَّى، يعيش السياسة لكنه هو الذي يتحكم بمفرداتها، إذ يغيّبها داخلاً. في المقطع الأخير من «المرثية الرابعة» يقول: هنا أنا/ ها قد وصلت إليكَ من رمقِ الجنوبِ إليكَ/ لا تحرِقْ كتابي/ هاتِ ما أبقت يداكَ من الكتابِ/ فربما/ شفع البياض لديك/ في رمقِ التراب… .
ثمة حضور مشبع بالانتماء إلى الرحابة، ولكن لا استعراضية في القول إخلاصاً لفاعلية الشعر، وإلا لكان لكل هذا الذي ابتدأنا به وأثرناه لا قيمة له. ثمة ولاء لجهة هي دمغة الشعور بهوية الذات، ولكن لا إسفاف أيضاً في المشهد أو خروجاً عن الكوني والانغلاق على ذات ضيقة ليست أهلاً لقول الشعر.
يتبدد الجنوب هنا حين ملاحظته جيداً تحت وطأة الهاجس الشعري، ولكن ليس بنية الخلاص منه، بقدر ما تفصح القصيدة في تردداتها الإيقاعية ورنين أصدائها عن استواء الجهات، لأن الجنوب هذا كجهة يكون قد ضمن حقه في مفهومه الاعتباري( إن جاز القول)، وامتصته لحمة القصيدة النفاثة بغنائيتها. وهذا ما يمكن ملاحظته لاحقاً في «المرثية الثامنة» التي أضيفت إلى المجموعة في طبعة جديدة وهي تكاد تصيغ تمام استقلاليتها في الزمكان، أي في وصفها ديواناً شعرياً كما نوَّهت سالفاً. يقول في بدء المقطع الثاني منها:
يُمطرُ دمعتَيْهِ:
«صور» دمعةٌ في البحر و«الخيام» دمعةٌ في البرِّ
والضحى قبور
تدحرجت إلى الفضاءِ أوْرَقت
برقاً وسنديان
أزقَّةُ البرِّ على أكفّها الخيامُ أقحوانةً حمراءً
من يافا إلى حنينها النائي وبازوليني:
موجةٌ أعمدةٌ، وموجةٌ من الصخور خلفها
موجات أرجوان
أزقَّة البحر على هدوء «صورَ» عطلةٌ تنزفُُ:
«صور» أرجوانةٌ مُسافره
تبسط كفَّها وتبسطُ الخيام ُكفها
يُسلِّمانِ فوق قلعة الشقيف كلّ قبضة منارةٌ
وصرْخَتا نسور .
هذا الشغف بالمكان وما فيه زمانياً من تأصيل ذكريات ومشاعر وانفعالات، لا يعادله شغف آخر سوى الشغف بالشعر كونه القادر على تأبيده وتجديده. فالشعر مصيرنا المحتوم إن دمنا ورمنا باستمرار خلق معادلة تكيف مع الوجود، لا نخسر فيها بداءة المبادرة في تلوينه بما نريد، وربما ما يتوخاه الشعر الرحب الضحك منا كذلك.
* ضاحك البيت الفضائي
لحود الذي لا يضحك في شعره إلا لأن حالة من الشعرية تلهمه، كأي سلف شعري صالح على مستوى كينونة الرؤيا، لا يقتصد جهداً وهو يختار مفرداته التي تهبه خاصية التمايز، أعني قابليتها الأكثر لضحك يجيز له في أن يستمر خارج الذاتية المنمطة، وهي تصيّره سلفاً ليس بالمعنى الوصائي وإنما كفرادة شاعرية، كلذة مثابرة. هذه الميزة هي التي أغنت فيه ضاحكه الذي يستعيده أو يستعيد عبره وبه ما يسنده ويشد في عضده الروحي، ويجلو طرافته، أعني نكهة المجابهة والمبادهة الذاتيتين، عندما يدلهمُّ عالمه وتتغير فيه نبرة ضحكه، وسرعان ما تعود ضحكته كما هي بصفاء مشهدها، أعني اكتمال شهدها في إمكان العودة المستمرة إلى الشعر المحلَّى. والمتمعّن في مجموعته الشعرية التالية ذات الحداثة الجلية الضحكَ بمقامات حضورها(وهي سيناريو الأرجوان)، يمكنه أن يتلمس أو يتحسس نضجاً أعمق في تركيبة الضاحك، وفي ثراء سيرته، وهو يتقن لغته النفسية، لمن يتحدث عنهم شاعره، عبر لائحة صادحة من المعنيين به ولهذا استأثروا باهتمامه ورغب في أن يضحكهم معه، فالأسماء الموجودة بكل تنويعاتها الاثنية والوظيفية والرمزية في العمق، تبقي الضاحك على التخوم الأقصى من الخفة في أرواحها، أي في حالة من الانسيابية قادرة على مده بطاقة إضحاك ومضاحكة تجرد اللغة نفسها من أسرها البيئي، المحلي، الإقليمي، وتؤكد على فرادة الجنس البشري في لعبة الرمز وهو يحررها من محدوديتها…
لأن السيناريو تعدديّ، وهو ما يظهره الأرجوان كتكوين، أعني كسيرةِ مشتقات لونية، كتعدد، أعني كبوليفونية تتوسل الجمع المختلف وقد ارتقى نسَبها الواحد في محصّلة تتيح لكل مشارك في أن يعيش ضحكه بأريحيته.
هو ضاحك يُعدي، أو لعله يشتهي أشد الاشتهاء أن يعدي الآخرين في أن يكونوا مثله، وقد تحرروا كثيراً من أعباء تخومهم الخاصة مسترسلين معه صحبة ضاحكهم المشترك. إنها المجموعة التي تعيش لعبة تعارف كبرى في تاريخ حافل بالدلالات، تمنح الشاعر ما لأجله يكون الشعر، أعني ما كان لأجله الضاحك الشعري فيه.
لحود سعى في «سيناريو الأرجوان» إلى محاولة تجاوز سلفه الذاتي، حاول أن يكون لحوداً جديداً في شعره، أن يضحك عبر ضاحكه الشعري، وربما في مدينة فاضلة، كما لم يضحك أبداً محلقاً مع رحالي شعره، أعني المدينة التي تضم أصواتاً تنتمي إلى أقطار وأمصار وأدوار شتى في أزمنة وأمكنة متشابكة في عقدها الشعري المشترك، ليشير إلى لاتناهي الشعر، إلى ما لا يمكن تسميته دفعة واحدة في ضاحكه الطفلي وقد بلغ من العمر قصياً، لكنه يمتلك مضاء القول الشعري… يقول في «الحلاج1»، ما يجعل الحلاج الجهم مشروعاً محبباً لضاحكه:
1 ـ ماذا تسمع؟/ لا يمكن أن تسمع في صمت الليل ورعبِك/ عبر الأنت ووَقْع خطاك/ خطى قلِبك.
2 ـ في أشلائك تنتظرُ الناس وينتظرونَ قدومَكَ منهمأنت غريب وعجيب يا حبي .
إذ الكنايةُ والاستعارة والمجاز محافل مفتوحة أمام كائنه الشعري أو له، مرتكزات كل بناء شعري، ولا صرح شعرياً بدونها، حيث إن الحلاج هنا هو ما ليس هو بدوره وفي دوره الموكول إليه، وقد غدا أنيسه ونفيسه، نعم، هو الحلاج المستعار والمدبلج بلغة الشعر، ولكنه يتحرك في فضاء خصب من التداعيات والرموز كونه لم يعش لما كان يخصه بقدر ما كانت ذاته أبعد ما يكون عن حدود ذاتيها في أرجوان «طواسينها» أو بستان معرفتـ«ـه» «معزَّزاً بضحك يستمر إلى ما بعد مشهد إعدامه الرهيب أو موته الملحمي..
هو لحود محوراً، والضاحك يضحك، ضاحك غني، وهو يهب دمه للأمكنة وللناس لكي يصحوا، وربما لكي يكون هو نفسه في حالة صحو روحية أكثر، كي يراه الآخرون، أو يرى الآخرين وهو منظور إليه بكبريائه الروحية.
في «ميشال طراد» الشاعر اللبناني وبلغته المحكية الوارفة يقول:
تبِنيكْ/ كلِ مساءٍ جلنارْ/ تبرم أقصاك/
بأَدناك.. بقتْلاك… برعشة دنياكَ… بنشوة غرناطه
دولاباً/ في نشوة سرفانتس .
هي هبَة الشاعر للشاعر للناشر الضاحك ملء روحه، ربما، والمتعدد الأنفاس، هبَّته لأن تمكن من الضحك. في «جلنار» المجموعة الشعرية لـ طراد وما فيها من مواجع ولواعج زمكانية، يتحرك المكان بتصدّعاته، يتداخل مع الزمان بتداعياته.. هناك «غرناطه «حيث حلم الماضي ومجده التليد، وهناك روعة الألفة والأنس عبر غرناطة حيث يشمخ صاحب(دون كيخوته) الإسباني.. الحلم واحد، والحوار الضمني عزيز على الروح لذيذه. وكما في «رولان بارت» الفرنسي المثير بكتاباته في الجوار الجغرافي أعني الموعود بضحك وفير:
كي تقرأ/ يلزمك العتمُ الصافي كالبرق، ، / وليس الضوء…/
ألضوء عيونُ الجهَلَة/ والعتم هو الصفرُ الساطع/
أكتبْ واقرأ… وتلذذ كدماء المصنع في سائر أسوان/ هناك إذن كلماتك في وضح السلطان .
إنها لعبة سَينَرة أرجوانية من جهتها، حيث حاول بارت إلغاء جهات الكتابة في(موت مؤلفـ«ـه»)، وكأني به ناشد ضاحكه هو الآخر، وربما الوقح والصادم للذين استأثروا بأسمائهم وصفتها الوصائية، ليعمم ضحكاً صادماً.
ولعل مجموعته «أيقونات توت العليق»، تجدد فيه العزم الدائم في هيئة سندباد فضائي، على تجديد عقده مع ضاحكه فيما هو ذاهب إليه في مفترق طرقه دائماً، في أن يعانق برّية كائناته ويسمّيها لذاته وهي ليست له، كما هو فحوى أيقوناته وقد تمثلت توت العليق، كما هو المعشَّق جهة المرآة لوجه متطافر متكاثر شأن شاعره:
صورٌ حول المرآة/ أخبّئها/ من أكثر من عشرين تراباً والمرآة وحيده/
لم تختم بعد بقبلتنا المبصومةِ آخر مقطع حبٍّ/
من أول ألف قصيدة .
ثمة هذيان شاعري، خروج عن جادة الصواب الرسمي، والشاعر ليس رسمياً في بروتوكول ما يفد به، إنما يقصي عن كليته بروتوكولية المعنى، إنما هي فيسفسائية المتخيَّل وتبديد الواحدية في سيناريو الضاحك، هي إلغاء البداية والنهاية كما لو أن ثمة ما لانهاية للشعر فيما يسمّيه ويتوقف عن تسميته بالطريقة ذاتها فيما بعد حيث عهود الشعر في لا معهوده، تعبيراً عما يبقيه الجدير بالبقاء، أي بهذا الضاحك الذي يتظلل به الشاعر أو يتنوع بين جنبيه:
«أنا البيتُ/ ناديتُ من كل بابٍ/ وحيٍّ/
تمريتُ في أوجهي/ أخاتمةٌ؟/
مهرجانٌ سيبقى/ بدايتُهُ بعدَ أن ينتهي» .
وربما تأكد لنا هذا البعد العبثي في التحرك والمكاشفة الشعريين، إفادة مغايرة في الشعر والترنم به، وهو عبث يقتصر في حالة الشعر ليكون المتقدَّم به أوفى بالمباغتة المبهجة حقاً، تأكد لنا ذلك في مجموعته «قصائد باريس سيرة بالمواكب الجبرانية» في سلسلة ارتحالات تزكّي روح السندبادية في حداثاتها المتنامية بضحكها.
في المجموعة الشعرية هنا، وليس آخر ما تفتقت عنه قريحة الضاحك في شعره، ثمة جوَّاب آفاق، إحالة لمدينة إلى ما يغيّر في بنيتها المكانية، في ترجمة مختلفة حيث تنتظرها لغة أخرى، إلى مقام آخر مفتوح، يسمى في الشعر والفن والحضارة، وليس أن يُشهَد هي عليها، إلى ما يغاير في أصول المألوف فيها في ترجمة من يزكّيه الشاعر ويستأثر به وهو مواطنه الذي كان بروحه اللبنانية والمهاجرة والأميركية الإقامة نزيل لغات وثقافات ووجوه كائنات غاية في الطرافة مشهود لها بالتمايز، أي جبران بمواكبه الماضية بأثرياتها الجمالية، وهي المدينة التي تشهد على حقيقة قول، بقدر ما يتوسَّل إليها في أن تكون الشاهدة على كل ذلك، وقد غيّر فيها لصالح الشاعر، أي لصالح المدينة التي يتقن الشاعر لغتها، بقدر ما يحسن تفهم مقامها الحضاري والثقافي ونزلاء جغرافيتها.
تتمازج أسماء الأمكنة والأعلام والآثار والدلالات في كشكول يستدعي قلباً في مستوى كل هذا الحضور الهائل والمهيب بمكوناته، ليتمكن من الاستجابة لرغبة الضاحك في أن ينوّر سيرة مواكبه بضحك ملائم أكثر.
ثمة تداخل، تآثر، تناصّ، كما هو تداعي أسماء من الطينة الثقافية ذاتها، ولكنها مختلفة في طبيعتها هنا، لحظة النظر في بنية العنوان والمحتفى باريسياً إنما بإخراج جبراني، إنما من منظور لحودي قادر على أن يضحك كشاعر ما بقي دهره، في قصائد تنتسب إليه إلى باريس، لحظة إعادة قراءة «سيناريو الأرجوان»، ومن ثم ما ورد من أسماء لكتاب وأمكنة في «قصائد باريس»، هي لعبة مرايا متجاورة، إنما متحاورة بسيماء بلاغة تخيل أخرى.
لكن الأسماء في السيناريو تتقدم في هيئات مختلفة، مثلاً(جاك بريفيردريدادالي..)، نقرأهم في(قصائد) في مشهديات حركية(بيت طاعة لجاك بريفيرنظرة على قبر دريدابرفقة دالي..)، فيكون ذلك من شأنه تجديد عقد من نوع آخر مع هذا الضاحك وقد مارس إثراء في مقام الاسم وما يخص نشاطاً يعنيه أو موقعاً هو واقع حال له.
إنها قراءة المكان بعيني شاعر، بروح تعيد صياغة ما كان تعرَّف إليه عن بعد، وهنا عن قرب، رغم أن القرب والبعد بالنسبة للفنان مسألة نسبية جداً، إنما هو شأن التمكن من المعبَّر عنه فنياً، أو شعرياً هنا. في مثال «بيت بودلير الشعري» نقرأ ما يقرّبنا من جمالية المطروح سيميائياً: هنا كان بيته/ لا في قصر ولا في قبر/ هنا كان بيته على مقربة من جان جينيه/ في هذه الياسمينة المنصوبة في الشك وحدها/ التي انغرست وقاومت برد أقبية باشلار وحرب الألزاس/ وضباب تشرين وأجنحته المتكسرة./ التي صمدت في سياج من شوك أشعاره./ التي تسيجت به وتشيدت بأنفاسه الحادة./ هو ينحدرُ من فوق.. منهم من ماركيز دوساد./ وبيته ينحدرُ من عطر البياض الشادي/ ليطال ما تبقَّى من سلالته/ التي في طريقها السريع إلى الانقراض» .
ما أكثر: أكبر هذا البيت الفضائي الذي لا يني لحود يستعيده، هو بيته الشعري الطائر بالتأكيد، البيت الذي يشهد وفوداً من كل جهة في حدود جغرافيته المفتوحة كما هم الذين تلطَّف بإشارات مقتضبة ووامضة إليهم ولا يعود في وسع أي كان بسهولة معرفة من يكونون بدقة، في هذا التجاذب بين الاسم وما يحيل إلى الاسم أو ما يتلفَّظ وما يكون اللفظ دالاً عليه(مثلاً، بين مفهوم «القبو» وسيميائيته في «جماليات المكان» لباشلار ضمن البيت)، كأني بلحود منفتح بما لا يقاس على باشلار الرمز والمعطى الجمالي الجامع بين الشعوري اليومي واللاشعور الدرامي، إن دقّق في حيثيات العمر وصلة العمر بما هو متناثر في الجهات الجغرافية ورمامة التاريخ السيَري للاسم.
لعل الشاعر يطالب قارئه في أن يكون أكثر قدرة على متابعة ما يقرأ هو ويصيغه بلغة تتطلب بذل جهد مضاعف تعبيراً عن تنامي الوعي الثقافي وحاجة الشعر أكثر إلى هذا الاطلاع ليعيش المرء كونيته وهو أثرى ضحكاً. فأن تحسن الضحك فيما يحيل عليك بمعنى مقدَّر، هو أن تغتني معرفة وتفهم أصواتاً ويكون ضاحكك معترفاً به.
لحود عنيد في تعامله مع لغته الشعرية، لأنه في عالمه الشعري يظهر مقاومة كبيرة حين الكتابة، ولعله في تسلسل مجموعاته الشعرية، وقد جمع بين بيئات وحضارات، بين كائنات لها مراتب واعتبارات ذوقية، بين عناوين تنفتح على دنى في الأسماء الشخصية المرمزة تارة، وخلافها تارة أخرى، وما يجعل الجماد بلاداً ومهاداً تارة ثالثة، وهي تارات عبَّارات المعاني، تلبية لرغبة الجامح في الشاعر: ضاحكه الطروب، لعله في كل هاتيك المجموعات التي حضرت في مقبوسات محددة من باب الإشارة إلى المختلف في كل منها، يؤكد خفة دم ضاحكه.
* حقيقة الضاحك في الشعر
ما حقيقة الضاحك في شعر إلياس لحود؟
لا حقيقة طي الممتلَك. لكن يبقى الضاحك مخلوقاً أثيرياً لأنه كائن الشعر في شفافيته وهيروغليفيته، الضاحك من نوع هرمسي جامع بين الغابة وما عداها، وهو يشير إلى قارئه بكليته المتعددة ضمناً وهو منسوج من روحه الهائمة دائماً، إلى ضرورة الانغمار بشعره، دون أن يتبدى له كاملاً، إنما أن يُسمع صوته في علياء الصورة الشعرية ثلاثية الأبعاد.. وربما لكي يضحك فرحاً أو ترحاً توأم الفرح وشريكه التذوقي، بما نقرأ، حيث نقرأ لنعيش ونتقن فن الحياة، كما نعيش صيرورة الكائنات إذ نكونها وهي فينا دون توقف، وهي تضحك وتكون إزاء هذا الإمعان في فعل الضحك المتصادي الضحك ذاته، وهو أقصى التمني أن نكون الضحك دون ضاحكه العيني!
أخيراً وليس آخراً: ربما لا يحفّز هذا البحث أحداً على الضحك، وهذا هو وجه الإضحاك الأكبر، فالضحك مقيم هنا، ووجه الضاحك المرتسم أمام ناظري في شعر لحود، هو فيما انفتح لي، ما تفكَّه في كلية شعره، ويمكن إيجاد أمثلة أخرى تقودنا إلى مكاشفة وجوه أخرى جلية بعلامات الضحك فيها شعرياً وبملامح مختلفة طبعاً.
ما هم إن توقف أحدهم عن الضحك، أو زجر نفسه لتظل في وضع اختلافي تأكيداً على وهم المثار. حينها لا يعود في مقدور أي كان أن يتوقف عن الضحك إزاء هذا الجاري: خلاف المقصود، لأن الذي يضحك هنا لا يبتغي أي ثواب أو نيل حظوة، سوى حظوة الذات للذات، وهي عامرة بضحك يصلها بغيرها دون شعور بتراتبية رادعة!
يبقى أن أشدّد إذاً على أن حقيقة الضاحك هي في نوعية العلاقة ومسافة الرؤية، وعندما يكون الضاحك في حلته التي تناسب مقامه الفني، تكون حقيقته الخارجة إلى العيان. الشعر هو أن تذهب إلى الأعماق، وليس الضحك وهو ضاحك الشعر، سوى أن تكتشف القاع وتتنفس عميقاً، والسطح هو الذي يعلِم في متغيراته بمنشأ الضاحك…
إشارات:
ينظَر حول ذلك، مقاله الافتتاحي في مجلة عالم الفكر الكويتية، ع3، الكويت/1992، ص3.
فوكو، ميشال: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة: سعيد بن راد، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1/2006، ص 539.
ربما، ذلك ما يفصح عنه ميشال دوسيرتو في مقاله البليغ والمترَع بالضحك(ضحك ميشال فوكو)، في مجلة الكرمل الفلسطينية، ع54، شتاء 1998، ص208216، فثمة تتبع للضحك الذي يقدَّر من خلال المتكتَّم أو المعتَّم عليه في العلاقة القائمة بين المباغتة والجنون، أي بين المختلف وما يتولده من ضحك في الجنون المنذور.
أعتبرها اثنتي عشرة مجموعة شعرية، وأنا أشير ضمناً إلى مجموعته الشعرية «مراثي بازوليني» في طبعتها الجديدة، كما سنرى لاحقاً، بوصفها مختلفة عن سابقتها، حيث أضيفت إليها مرثية ثامنة هذه التي تكاد تسمّي ذاتها مجموعة شعرية قائمة «55 صفحة»، بقدر ما تضفي قيمة زمكانية مختلفة بمناخها على عموم المرثيات السالفة!
باث، أوكتافيو: الشعر ونهايات القرن، ترجمة: ممدوح عدوان، دار المدى، دمشق، ط1/1998، ص 64.
لحود، إلياس: على دروب الخريف، دار الروائع، بيروت، ط1/1961، ص 102.(7) بلوم، هارولد: قلق التأثر «نظرية في الشعر»، ترجمة: د. عابد اسماعيل، دار الكنوز الأدبية، بيروت، ط1/1998، ص 42.
على دروب الخريف، ص 7. يشار، ومن باب التنويه، إلى أن ثمة تصحيحاً ذاتياً لكلمات وإحلال أخرى محلها في القصيدة هذه وغيرها في الديوان من قبل الشاعر، وهو مُهدى إليَّ إلى جانب بقية أعماله الشعرية الأخرى.
المصدر نفسه، ص30.
لحود، إلياس: والسد بنيناه، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1/ 1967، ص7.
المصدر نفسه، ص100.
لحود، إلياس: فكاهيات بلباس الميدان، دار الآداب، بيروت، ط1/ 1974، ص13.
المصدر نفسه، ص85.
لحود، إلياس: ركاميات الصديق توما، دار القلم، بيروت، ط1/1978، ص5.
المصدر نفسه، ص36.
المصدر نفسه، ص38.
باشلار، غاستون: جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط2/1984، ص46.
ركاميات الصديق توما، سابق ص81.
لحود، إلياس: المَشاهد، دار العلم الجديد، بيروت، ط1/ 1980، ص7.
المصدر نفسه، ص58.
المصدر نفسه، ص102.
لحود، إلياس: شمس لبقية السهرة، المؤسسة العربية، بيروت، ط1/1982، ص6.
المصدر نفسه، ص109.
لحود، إلياس: الإناء والراهبة، دار العلم للملايين، بيروت، ط1/1990 ص11.
المصدر نفسه، ص46.
لحود، إلياس: مراثي دازوليني، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، عمَّان، ط1/1994، ص10.
مكليش، ارشيبالد: الشعر والتجربة، ترجمة: سلمى الخضراء الجيّوسي، مراجعة: توفيق صايغ، دار اليقظة العربية، بيروت/1963، ص174، والكلام المقبوس يتعلق هنا بـ «رامبو «وشعره وموقفه من العالم..
مراثي دازوليني، سابق ص80.
لحود، إلياس: مراثي دازوليني، طبعة جديدة مضاف إليها المرثية الثامنة: أناشيد لـ قانا وبغداد، دار النضال، بيروت/1999، ص163.
لحود، إلياس: سيناريو الأرجوان، دار كتابات، بيروت، ط1/ 2003، ص36.
المصدر نفسه، ص88.
المصدر نفسه، ص109.
لحود، إلياس: أيقونات توت العليق، دار الفارابي، بيروت، ط1/2007، ص7.
المصدر نفسه، ص122.
لحود، إلياس: قصائد باريس سيرة بالمواكب الجبرانية، دار الفارابي، بيروت، ط1/2010، ص24.