في مجموعتها الصادرة عن دار ميريت المصرية 2007 تواصل الشاعرة والتشكيلية الاماراتية المقيمة في مصر ميسون صقر رصف اليومي والخاص بأسلوبها المتميز عبر انتقاء مفردتها الشعرية النابضة بمفارقات الذات المطوية على الفجيعة والغبطة بثنائيات أصبحت ثيمة مميزة لها عبر مجموعاتها الشعرية السابقة هكذا اسمي الأشياء , السرد على هيئته , تشكيل الأذى.. وترسم لنا بالحرف والصورة والدلاله «وهي التشكيلية أيضا» لوحة الحياة وهي تعبر دهاليزها الجوانية بين نوافذ الموت الكثيرة والمشرعة في فضاء المجموعه وبين بوابات الحياة المستمره بالطّرق عليها بقوة أحيانا، وبيد مرتعشة أنهكها ذبول الزمان والمكان في أغلب الأحايين.
وهي منذ البداية تقرن في نص اقرب الى البيان الشعري الذاتي «شعرها ونصوص حروفها «بفكرة الموت الذي يطاردها مع كل خفقة شعر ونكاد نلمح رجفة استسلام مخيفه لهذا التطيّر الأسطوري لكنه ينمحي حين تواصل الذات الشاعرة سرد فجيعتها بالآخر الذي يعادل الزوال والانتهاء بتقمص الأنا الشعرية المسترسله بالسرد شعرا وبالشعر سردا..
«عندما أكتب لا يينفتح السر , لا تخرج الأنوثة عارية , لا يفطن الهاجس لي، لا ترغب الكلمات في الغنائية، لا أستعين باللغة، لا ينتابني الهدوء».
ثم تهزنا بنبرة الواثق من حتمية النهايات وأزمتها الوجودية عبر نص تثبت فيه تجربتها الخاصة بمقارنة مثيرة بين خلق الشعر والكتابة وبين خلق الموت والزوال وعبر سردية صغيرة ومكثفة بلغة الإشارة والتداعي تعلن أن هذا هو كتابها الأخير وتستدعي القارئ بلغة محمومة وحميمة لمشاركتها هذه النبوءة، التي ليست في واقع الأمر اكثر من رغبة مدفونة لتفسير أو إيقاف سيرة الموت الذي يلازم السرد الخاص في متن العام
«هذا الكتاب الأخير لي
كلما كتبت كتابا مات واحد من أفراد عائلتي…
…
هل أنزع الغلاف
هل أستعد للموت قربانا له
هل أضع نقطة النهاية؟
ضعوها أنتم بعد ان تكتبوا رثائي.
بإستثناء المقطوعة الأخيرة في «أرملة قاطع طريق» والموسومة بـ«إدراك القيمة»، تتميز مجموعة القاسمي الشعرية بأسلوبية متقاربة ومتلامسة موضوعيا مع اجواء النصوص الشعرية، والتي تحيل فيها النص النثري المشعرن الى سرديات قصيرة ومكثفة لذات أنثوية متشظية بين الداخل والخارج، بين الماضي والحاضر بين الرغبة والقدرة، بين المنفى والوطن، بين الغربة الداخلية والاغتراب الخارجي وكل هذه الثنائيات تبذرها «الذات الرائية والراوية» ببطء شديد لتدخلنا في عوالم فجيعتها رويدا رويدا ومع كل نص وصورة نلمح ذاك الحزن المقيم في تلافيف اللغة البسيطة وتلاوين الصورة الشعرية ومفارقاتها السردية لتتماهى مع مجاميعها التي لا تتعدى العائلة او القليل من الأشخاص/ الشخوص/ ولا تفارق ذاكرة وتجربة الأنا المستوحشة تارة باجترار الماضي المفجع وتارة باستدعاء الحاضر المفزع..
«أتخلص من الكوابيس كل ليلة
بخلق عائلة أخرى ومحبين آخرين، وأوطان عديدة
تبدأ من بقعة صغيرة في أقصى الأرض
وتنتهي اليها في المقبرة »
ورغم ان القاسمي تخلصت بنسبة كبيرة من تقنيات وأسلوبية السرد المكثف نسبيا في هذه المجموعه مقارنة مع سابقاتها، إلا أن فضاء السرد يبقى مهيمنا على أجواء الخفقة الشعرية فيكاد يتوارى احيانا من شدة انغماس المفردة بمياه السيرة الشخصية، أو من هول الموت المنتشر في المقطوعات الخمس تحديدا كآخر قطرة في الكأس / صندوق الميت/ كان أبي / مائدة العشاء الأخير / بقوة الماضي. وفي أغلب هذه النصوص تتدفق الذات الشاعرة بوصف اللحظة الكابوسية التي مرت وتمر بهاعبرلغة هي أقرب للعويل الخافت أو للغضب الممزوج برعب العجز أمام أزمة الوجود والتواجد في هذا الصفيح الذي فقد كل معاني الجدوى او الغائية في كوكب تصفه باسقاط «للسياسي والاجتماعي «تلجأ له أحيانا وعبر اللغة اليومية بعيدا عن الغنائية أو وهم تستدعيه «القصيدة النثرية» كأحد تعويضاتها الحرفية بانتشال عشب الشعر الحار من غابات السرد الباردة التي تحاول المستفيضه الغريبة «الذات الساردة» فعله :
لست شاعرة كبيرة
من يهمه الأمر
لا يهمني انا ايضا
لكنني أحاول إيقاد جذوة اللغة في لسان الحال»
وفي مقطع آخر أسمته القاسمي(شهادة ميلاد) نبصر ذاك اليومي المسرود بغضب وحزن شفيف عبر تقنية ضمير المتكلم «تسود أغلب المجموعة» بطرح مزيد من الاستفسارات التي هي في أقرب الى الاستنكارات اللاهبة والغاضبة :
من أكون من العالم
وأنا أحمل قلبا ينزف بلاسبب
في واقع ينزف كل يوم بسبب..
ومن البديهي أن نلاحظ هنا أن اسلوبية «ارملة قالطع طريق» تتماوج وتتفاوت في غلبة السرد على الشعر أو الشعر على السرد ولكن بحكم اننا وبعيدا عن التجنيس الذي أصبح التقاط آثاره حكما من الماضي في ذروة التصعيد الحداثوي لأدب العولمة أو ما بعد العولمة، حيث تتلاشى ضمنيا مقولات عديدة سادت فيما مضى كبديهات أدبية أو فنية «كمواصفات الشعر الأكاديمية عبر منمنمات الوزن والقافية والتقعيد العروضي وغيره وحتى مواصفات النثر الشعري وبنية اللغة الشعرية والموسيقى الداخليه..، او مواصفات القص بقوانينه البائدة كالذروة والتصاعد والحبكة والشخوص…
«وبحكم أننا أمام نص يتقارب أو يتجاذب مع عوالم «الشعر النثري» ولكي لا تمر المسألة النقديه التي شاءت أو لم تشأ باثارتها القاسمي فاننا نلاحظ أن بعض النصوص «الشعرية» في المجموعة ذهبت بعيدا عبر لغة السرد ولم تفلح لغة «الايهام الشعري» باستعادة الموجه الحرون الى شواطئ النثر الشعري ولا سيما في نصوص «كان أبي» حيث ظل السرد المتواتر بتقنية اللازمة (كان أبي) يسترسل بسهولة ويسر عبر لغة «الحكي» وليس الشعر نسبيا اذا صح التعبير وبآلية استخدام المفارقة «الناجحة سرديا» ولكن المتفارقة شعريا بعيدا عن الرمزية أو الدلالات البصرية او حتى المجاز الذي يحمل في رحمه أجنة النثر الشعري :
«وكان شيخ دين، يؤذن بالناس ويصلي امامهم في أيام الجمع، يخطب في المصلين ثم يؤمهم بعد أن يحرضهم على الحاكم. حين صعد المنبر ذلك اليوم احس بدوار وفي صلاته سقط ميتا، وضعوه أمامهم وصلوا عليه صلاة الميت».
وبالمقابل نسبيا وعلى الجانب الآخر من ضفة المجموعة ونصوص «كان أبي» السردية، نعثر على نصوص أخرى في متن المجموعة «أرملة قاطع طريق» تتراوح فيها وتتجاذب متعة السرد مع نشوة الشعر وتتقارب فيه لغة القص المكثف وتتمازج مع استيهاماتها الشعرية، ولغتها الشفافة العابقة بأجواء المجموعة في مقاطع «صندوق الميت وتحت خيمة» حيث تشتبك لغة الشعر ومفرداته البصرية والتشكيلية لترسم لنا موتيفات مكثفه وسريعه رغم جوانيتها السوداوية وتواصل سرديتها في وصف وتوصيف الفجائع وذكر الموت الدائم كثيمة بارزة، إلا أن لغة الشعر تنجح بإخراج أطرافها المبتله بماء السرد لتنهمر الصور والمجازات لتوصيف حكايا الموت وسكونه اليومي في اللحظة المتلبسة والملتبسة (على الذات الرائية وهي تنهض من حطام الراوية).. وتحديدا في نصوص مثل/ لقد فعلتها من قبل/ خيط وراء خيط /سمكة في قارورة / أنا وحدي القطة هنا/ وفي هذه الأخيرة نعثر على ضالتنا بالأجواء النفسية والذاتية التي خرجت منها المجموعة باسمها «أرملة قاطع طريق» :
.. أنا التي تمؤ قصيدتها
عند أقدام الشعر
أنا وحدي القطة هنا
التي تلعق جرحها دون تأفف
في الوقت الذي تفور القهوة فيه
في الخيمة
اقعد واكتحل بالأثمد
«الى أن ينتهي النص/ السرد بالمقطع الأخير الذي تعلن فيه الذات « الأرمله» رغبتها بالقتل والأنتقام من كل شيئ وترفع صوتها بنبرة حادة على اجواء المجموعة : سأتعلم الشر، سأتعلم كيف أكون أرملة قاطع طريق.
ونلاحظ ها هنا أن «القاسمي» تلجأ وحتى في عنوان المجموعة الى تمازج كثيف مع أجواء وتقنيات السرد لم يتعود عليها المتلقي في المجموعات الشعرية والنثرية، ولا سيما في عناوين ومتن المقاطع الداخلية مما يثير ريبة وقلق القارئ ويضع الناقد المتبصر في خلفية هذه الرغبة المستفيضه في التص كعناوين (ابتسم أنت في الشرق/ ليس بهذه الطريقة /اخفاء الجثة/ البطة السوداء/..) وهذه الاشتعالات اللغوية تشير بوضوح بالغ على مدى وتشابك صراع التجنيس في عوالم المجموعة وخاصة حين نصل الى المقطوعة الأخيرة في المجموعة «ادراك القيمة» والتي وضعتْ بحذق ودراية «نظنها مقصودة» في نهاية المجموعة وكأنهاحديقة الشعر الخلفية لمنازل السرد المليئة بالفجيعة والغرابة السوداوية، حيث نرى في هذا النص توظيفا موفقا «للحوارية» الثنائية بين الذات الانثوية في منولوجها الممتلىء بالتجربة الفلسفية والوجودية وهي تناظر أو تفكر بصوت شعري اشبه بنص أسطورة مع الصوت الآخر «الرجل» بكل مراياه وعذاباته وخبراته لاستكمال مشهد كوني يتقاسم هذا الثنائي المتمعن بالحياة وتفاصيلها السردابية ونهاياتها العدمية عبر الجملة الشعرية بصورها ودلالالتها العميقة..
قل لي بالكلمة ِ
كيف سيخصف كلانا ورق التوت
على عاهاته.
قل لي اليد، كيف ستقترب من لهاث أحدنا
وتطبق على أنفاسه؟
قل ولا تقل.
في «إدراك القيمة» إدراك عميق للشعرية في تقنيات الخطاب وتوصيف الصورة عبر ثنائية القول والقول الأخر وكأن الحوار الشعري انتقل الى مستوى آخر من تقطير التجربة النصية بخلاصتها الفنية والأدبية عبر تمازج مؤثر في انتقاء «المعنى والمبنى» ولذلك كان بديهيا أن يلجأ النص الى ما يسمى «بلغة المزامير» أو التحاف مع الغنائية الرعوية احيانا واستخدام اللازمة على لسان الصوت الذكري «والهلاك قادم» يقابلها حالة الانعتاق بالصوت الأنثوي حين يصر على التمسك «بأهداب الأمل» في وجه فجيعة النهايات العدمية
أفتح الباب، سيتغير الهواء أفتح الباب أغلقه خلفي.. جسدي سيغيّر هواء الغرفة ِ..
يا شجر الزيتون في الوادي
في حقول الكنيسة الوحيدة هناك
في اثواب القساوسة والرهبان يا لأخضر في عرس علي
.. خذوهم كسهم منطلق
سهم نافذ الى العمق ِ
[ يناديني الأمل : لأني جئتك ِ
[ اسحبي المحبة في الصخب ِ
[ يالله نتوب، وتعادينا أجسادنا.. نتوبُ، ثم نعود لأجسادنا
ويكاد المتمعن ان يرى المجموعة بأجوائها تنطق لتقول «أيها المتجول في ردهاتي وبعد أن انتهيت مثقلا بالأحزان واليأس تعال وأدلف الى حجرة «ادراك القيمة» لتعي وترى بعينيك الذابلتين الى أين ستصل الذات الرائية والى أين سيصعد بك سلم الشعر عاليا عبر فلسفته العميقة في اللحظة الغريقة!