باحث وناقد من سورية يقيم في العراق.
«إنَّ مجتمعنا ليس هو مجتمع المشهد، بل مجتمع المراقبة، فتحتَ مسطح الصورة، تتم السيطرة على الأجسام بالعمق؛ وراء التجريد الكبير للتبادل، يستمر التقويم الدقيق والمحدد للقوى المفيدة…
فوكو «المراقبة والمعاقبة».
تتخذ صورة الاحتشاد الجماهيري طابعا هستيريا لا محدودا، وامتثالا نوَّاما لسلطة عليا طوطمية التمظهر، فلا يسيّرها غير المسار المقنن الذي أنتج نظام استرقاقها السلس، في صيغة هزلية لجماهير تهتف احتفاء بخضوعها وبانقيادها كيفما صوب إله الثرثرة ـ الإعلام المعاصر ـ بربريته. لذلك تكون قضية الصواب والخطأ، خارج مجال الفعل الجماهيري، فهي بتشيئها، تفقد ملكتها العقلية وتتآلف، في سياقها التدجيني ضد العقل، لذلك ليست هناك علاقة ما بين الشعبوية وبين الحقيقة، وبالتالي ليست هناك علاقة بين شعبية قيادي ما مثلا وبين كفاءته، ولا بين شعبية تصور ما وبين سداد ذلك التصور. من هنا عبثية التقييم على أساس العدد الغوغائي.
فكل معيار إحصائي هو حركة ضد العقل بالنسبة للإنسان العاقل، لكنه بالنسبة للفرد التجمهري، مصدر انفعالي كونه يتحرك وفقا له، لذا يميل باستمرار إلى تصديق الإشاعة وإلى فرضها بالقوة كحقيقة، بجعله الايمان الجماهيري معيارا لصواب نزعته التدميرية للحقيقة. لذلك لن يكون تناولنا لهذه الظاهرة الحشودية المنتجة من قبل وكالات معتمدة أديولوجيا، بناء على صواب أو خطأ أفعالها، وإنما بناء على السلب الكلي الذي ينتزعها من فاعليتها التي لا تنمو إلاّ في سياق سيرورة الخطأ والصواب. حيث تفقد الكتل الجماهيرية الموجهة عن بعد، جسمانية عناصرها وتندثر فردية أجزائها وتختلط فيما بينها دون تمايز أو سيمياء جسدية، يفرزها هوياتيا، ويؤرخ تاريخانيتها-زمانية معطياتها الحسية وإدراكها لهذه المعطيات. إنها كُلّ هيولي وليس التفافا لمجموعة أفراد حول قضية ما، فالقضايا يتم تبنيها من قبل أجساد قادرة على أن تمنح هذه القضايا من ذاتها، وبالتالي تفردنها وفقا لنمطها الجغرافي والنفسي والتاريخي، أما مع اختفاء بنية الجسد عن هذه الإحتشادات، فلن يكون هناك إدراك خاص لقضية عامة، ولن يكون هناك تبن عام لقضية خاصة، فالتصفية الجسمانية لا تكون بالتنكيل بها، كما كان معتمدا في النظم العقابية الكلاسيكية، بل تتم في الواقع المعاش، بتنكيل الذات داخل الجسد، إي إذابة الممكنات الداخلية بمحركاتها الخارجية، وبالتالي إنهاء مفهوم الداخل والخارج، بجعل كل حركة فردية، محض تحريك خارجي، ولكن بدلا من تحريك هذه الأجساد كالدمى عبر خيوط مرئية، يتم تحريكها بالريمونت كونترول.
بادئ ذي بدء، ما الذي نقصده بالتجمهر..؟. كلاسيكيا، هو تكتل تزامني في المكان والزمان. غير أن هذا الالتقاء المكاني لم يعد ضروريا مع التحول الهائل الذي اجتاح مفهوم الواقع، بعد اختراقه بالبعد الافتراضي الذي ميَّع المسافة بتجاوزه للقيم الترابية والزمانية في آن؛ إذ لم يعد الواقع قائما بكثافته حيثما نكون في علاقة ملموسة معه، يشترطها البعد التخيلي الذي يؤسس مرموزاتنا ومسار اتصالنا بالأشياء وبالآخرين، وبالتالي يؤلف وجودنا الخاص داخل العالم. فقد تداع القوام الطبيعي للواقع المنزاح عن واقعيته المرئية واللامرئية، لحساب الوجود الافتراضي، الذي مغنَّط البعدين المادي والتخيلي نحو دائرته الشيطانية الخاصة، وأعاد تموضعهما وفقا لوجوده الخاص، نازعا عن الحالة الطبيعة كل ما يعيق حضور المصطنع الخرافي ـ ولا أستخدم كلمة الصناعي احتراما للدقة التي يستخدمها جاك مونو في تأويله لهذا التعبيرفي الجسد الاجتماعي. لقد بات المجتمع مركبا من تعيينات مضافة ومختلفة عن العوامل المؤسسة لقوامه التاريخي الموروث، فالشاشة سلطة صناعية لإنتاج الفرد الأداتي، وهي تعتمد في ذلك على القوى السحرية لهذه الصناعة التي لا تكلفها سوى الثرثرة المستمرة وقودا لإدارة معامل إنتاجها. هذه المنهجية اللامرئية لقمع المعنى في الفعل البشري، تنزع عن الهوية الاجتماعية عنصرها التأسيسي الخلاق، ألا وهو الخيال، فالشاشة التي احتلت مكان المخيلة لدى المتفرجين، أعطبت قدرتهم الفكرية، بتجانس الكل الاجتماعي في كتلة حشودية عبر اشتراكها في نفس الآليات التأسيسة للتصور، لذلك تتماهي كليا فكرته عن ذات الشيء سلبا أو ايجابا وفقا للموقف المسبق المحدد لهم اتخاذه، لذلك صار المجتمع مؤسسا لأجل خدمة مذهبية معينة، إنه يخدم كمجموعة دارات مسننة الوظيفة التي تؤدي إلى انعدامه كمجتمع. إذ أن التخلي عن الجانب التخيلي لإنتاج الشيء الاجتماعي، بتبني منظومة استهلاكية مسبقة الصنع لفكر الشيء، بدلا من نظام استخدام سياقي يفردن المجتمع المنتج بخواص أشيائه التي تحدده هوياتيا في طريقة استخدامه لها، وتفويض الشاشة للاضطلاع بدور المخيلة الاجتماعية المشرفة على عملية تأسيس الحاوي والمحتوى الاجتماعيين، تحيل الشاشة إلى الساح الذي يجتمع فيه المنتخبون للبقاء في يوتوبيا التلفزة. إذن. لم يعد المكان شرطا ضروريا لتأسيس مفهوم الجمهور سواء بمعناه النفسي أو الأنتولوجي. كيف يتم ذلك.؟ ما شروط هذا التحول.؟. ليست الشاشة تقنية ما فوق إنسانية ـ وإن حددت لأغراض ما دون بشرية، لكنها نتاج سلطة مذهبية منغلقة بعنف وخائفة بشدة، لذلك تسعى لتطوير وسائل سيطرتها بما ينسجم والادعاء الحقوقي لنمو الوضع المدني للإنسان المعاصر، وقد وجدت هذه السلط ضالتها في الفضائيات التي حلقت بها خارج المكان وخارج الزمان، فكانت الشاشة وكانت التصفية عن بعد. طبعا هناك هرطقة داخل النظام الكهني وهناك خوارج عليه، لكنني لن أجادل في وجود هكذا جنون بالنسبة إلى عقلانية الطغمة السائدة، باختصار لن أتحدث عن أبله ديكارت داخل المنهج المدرسي الموروث لإمبراطورية الإعلام المعاصر، بل سأتناول الكتاب المقدس للخبل العام. إن الأحزاب، سواء تلك الموجودة في السلطة أو في خارج السلطة، هي نظم ولائية مغلقة، وجمهورها جمهور ديني حتى لو كان ملحدا، لذلك هي جيوش مدجنة ومدججة ضد كل عقلانية فردية، حيث تعمل على تهيئة المناخات التربوية المكونة لأفراد أمَّا موالين وأمَّا بدون فاعلية، ويتم استثمار غير الموالين بطريقة أفضل، حيث يتحولون إلى مشجب لتعليق الادعاءات والدعايات الديمقراطية. وبحكم أنها مالكة للمال وللقوة، فهي بالتالي المحتكر الأبدي للمعرفة المقننة، تلك المعرفة المتمثلة في نظمها التعليمية وقواعدها الصحية وبرامجها التلفزيونية ومؤسساتها العسكرية وكل ما يفرض مذهبية العمال على المنطق الفني للعمل. لذلك هي بحاجة إلى قمع كل نواة مستقبلية تفكر بأن يتغير الوضع القائم إلى حال مختلف عما هو عليه. حتى لو كان ذلك من داخل جسدها، فبروز النزعة الانعتاقية لدى الأفراد، يجلب معه مجموعة من المفاهيم المزعزعة لثبوتية المبادئ الحجرية التي قامت عليها هذه المؤسسات القسرية، ذات الهيكليات الهمجية، لذلك تعمل على تقييد معلومات الناس بمصادرها، لتكون هذه السلط الدوغمائية، مرجعية مطلقة لحافز الحركة الاجتماعية، وعندما تؤمن مكانتها المرجعية في الذهن الاجتماعي، تصبح حتى معارضة هذه السلط من انتاجها الشخصي. إنها بذلك تكون المؤسسة للنظام الاجتماعي بمرموزاته وأخلاقياته. من هنا هزلية بعض المعارضات في المجتمعات التي نعايشها الآن.يترشح من هذه الوضعية، إلغاء الصيرورة وتجذِّر الماهية الأزلية بالنسبة إلى الضرورة المطلقة لقوانينها السرمدية وإلى الشعوب المطواعة بالضرورة، حيث يتوجب عليها متابعة المسلسلات التركية للتزود بالخواء كجزء من طواعيتها في الرضوخ لخطط الرضاعة الوطنية. فالتسمر التزامني للجمهور الوطني شهوراً طويلة أمام الدراما التركية ـ الشبيهة بالتعليم الإلزامي المفرخ للطلبة المطبلين ـ هو تقنية سلطوية لطبع الخمول في المتفرج ـ المواطن، وهذا التركيب الحديث للمواطن ـ متفرج، هي السمة الدستورية الجديدة لكيان الدول في الشرق الخرافي. والتسمر التزامني عنصر آخر في بنية الجمهور النفسي خارج شرطية المكان، الذي يحتشد ـ يتجمد منضبطا بأمر الشاشة لشهور طويلة، متابعا سيرة الحشو المفرط، ممتثلا للاشيء في الدراما التركية ـ موضة القنوات العربية والكردية * ـ التي هي إلهاء ٌ مطلق، كونها لا تعالج موضوعا ذا أحداث تحولية مفاجئة لبنية الحبكة، بل وإنما تجرد الحدث السردي من زمانيته، وبالتالي من المعنى، باستحالته حشوا ضد السرد؛ إذ يطول زمن العرض أكثر من الزمان السردي، لذلك لا تتفاعل الشخصيات مع ظروفها وتنعدم بالتالي آنية الحدث، وتختفي إمكانيات التوقع في زمن الجمهور. فعندما تستمر وجبة إفطار مثلا أو حفلة عرس بزمنها المحدد داخل السيناريو من عدة ساعات إلى أيام، دون معالجة مشاهدها بإجرائيات مونتاجية وبالتالي زمانية لتعميق بنية الحدث وإحكام حبك علاقاته، يخرج المتفرج من الزمن ويتحول إلى صدى مرادف للحشو الذي يتابعه منذ أيام دون حكاية، وهذا يذكرني بأفلام الكرتون التي كانت تبطئ زمن الحدث ـ ضربة لاعب الكرة مثلا، لتثني زمن الضربة ـ الحدث بزمن الذاكرة التي تجوف الزمن المعاش بزمن التذكر المسوغ لاستمرار طلوع القدم ونزولها أياما عدة. أما في الدراما التركية، فلا شيء يتم تذكره، ولا زواية أخرى تضاف لآفاق الإفطار أو الدبكة، غير مطها على زمن المتفرج، لإفراغ هذا الزمن من فاعليته، وتأدية دورها التدجيني، بحشد الناس حول الخواء. فيصاب المتفرج التلفزيوني بنكوص طفولي، لقبوله هدية اللهاية التي تخشخش في أذنيه أصواتا تلهيه عن سأمه التعبيري. هذه الانضباطية العمياء بالتسمر التلفزي، هي التي تحيل الشاشة إلى بنية تحتية جديدة للجمهور المنوَّم، حيث يفرض الكل الجماهيري على جسده، هيمنة الشاشة ـ أباها الأعلى، الذي ينظر من عليائه لعشيرته وهي تلتئم حول برامجها المبرمجة لمصيرها فيما وراء واقعها المعاش. إن الامتثال لنداء الطوطم ـ الشاشة، بالتظاهر الهستيري ضد أو مع قضية ما، دون إدراك النسق الغازل لتلك القضية، هو صيغة أخرى للاحتشاد اللامكاني، كونهم لا يعايشون الأمر الذي يغذي انفعالهم ويدفعهم للتحرك اللاواعي وفقا لأمر التعبئة في المعايشة الافتراضية لواقع الشاشة، التي تربطهم بذاتها وتحفر في العمق اللاشعوري سيماءها السلطوي. فاللغة الدارجة اليوم هي لغة البث، والأحكام القضائية هي حكم الإعلام، بعد تعميمه لآلية إصدار الأحكام في النفسية الجمعية للمتفرجين، الذين لا يترددون في الإصدار، ولا يتخذون مسافة عقلية من الحكم، إذ أنَّ المهم ليس هو الصواب، بل وإنما عبثية إصدار الأحكام وتجريد حرية الآخر في الخطأ الجدلي للتجربة الفردية. وهكذا ينتظم القول الاجتماعي ـ الليغن، متماهيا كليا مع التنميط اللساني لطريقة الشاشة في تضليل العقل داخل الحوارات التلفزيونية العصابية جسديا، حيث يتحول كل شيء إلى عضل ورد فعل هرموني، حتى الصوت بدرجاته العليا واستمراريته اللاطبيعة والمجردة من فواصل المعنى ـ الصمت، تستحيل عضلا عصابيا تحت ضغط هرموني، وبذلك تكتمل جملة المعنى في هذه الحوارت، والمتمثلة بغياب المعنى. يمتص المتفرج موضوعه التلفزي بكل تقنياته، ويسقطها على ذاته في علاقته بغيره، فتعم الفوضى في التواصلية الاجتماعية التي ينفجر فيها الترنح الجسدي كسمة جوهرية للتحاور. وتبدأ الحواس بالتخريف المميت لوظائفها الحسية، حيث يتعالى الصراخ وينعدم الإصغاء في الهيئة المعاصرة لكائن تلفزي بدون أذنين. فتختل علاقة حواسه بانفعلاته ويحس بجبروته في حدة بربرته ـ تحضرني صورة الوحش ذو العين الواحدة الذي يذكر هوميروس طبيعته غير الملائمة للتحضر، لكني سأترك هذه الصورة معلقة هكذا في فضاء الدراسة ـ،مرافقا لإحساسه المتضخم بمشهدية أفعاله الملتقطة من قبل الكاميرا الموضوعة في مخيال الفرد الجماهيري. فيفقد إحساسه بالمسافة الحسية الفاصلة بين واقع الشاشة وشاشة الواقع. ويتحاور مع غيره كأحد مشاهير الشاشة، فيتناوش مستخدما ذات التعابير والأحكام الإسقاطية للموضوع الذي احتل مكان الأنا فيه. وهذه صيغة أخرى للاحتشاد النفسي، عندما يلقن الجسم الاجتماعي على أداء نشيده التواصلي وفقا لتراتيل الشاشة. إذن الاحتشاد الواقعي يكون في المكان الافتراضي الذي هو قائم في كل وأي مكان، وباستغنائه عن القيم الترابية كبنية، يدخل العرض الفضائي في مجال الخرافة، بمد ظله السلطوي في الداخل والخارج وأينما يكون هناك متفرج. سابقا، كانت الدكتاتوريات، تلجأ إلى العمارة والبنى التحتية، لجعل المواطن قائما في مجال سلطتها، لتشعره بفضل هذه السلط عليه، في كل مرة يشرب فيها كأسا من الماء الوطني، حيث تتغلغل نِعم السلطة في الجسد الاجتماعي، الذي يجد في خضوعه ردا لجميل السلطة عليه. أما الآن، فالشاشة هي البنية التحتية التي ينمو المواطن ـ المتفرج عليها ويمتثل لأمرها.
تفترس الشاشة جمهورها، تذيبهم في ذاتها وتعيدهم إليهم كسلعة وكمستهلك لذاته السلعوية. إننا أمام نوع آخر من الاغتراب غير المادي، ظهر نتيجة لعناصر عبر سيبرنيتيكة، ولم يحظ باسم. اغتراب وجودي حيواني النزعة. إذ أنَّ الأمر لا يتعلق بالقوة الفيزيائية التي يبذلها العامل، ولا تؤهلها ليدخل في علاقة شرائية مع المنتج الذي يقوم بإنتاجه. نعم الخط العام للاغتراب قائم في صيغته الماركسية، والمتمثل في تحول الجسد إلى دارة لخدم رأس المال المحتكر، غير أن هناك بعدا آخر يتجاوز هذا الوجود لأجل صاحب رأس المال، وهو أن المواطن المتفرج، يغذي بداخله عنف حيواني غير مبرر بعلية الخطر المحدق، وبالتالي يطور من الداخل ماهية الموضوع الذي استلبه كليا، ويتحول إلى مجرد وعاء يتلون بلون السحر التنويمي ـ تيار المعلومات التي تحضه على التلون بلونها. فالعامل في صيغة الاغتراب الماركسي، يبقى محتفظا بهامشه التخيلي كفردية سرية، رغم جهده المسخر لخدمة رب عمله، لذلك تبقى هناك إمكانية موازية تعمل ضد بقاء العامل مغتربا. أما المتفرج ـ المواطن فهو عارٍ تماما من ممكناته التحررية ومن تخيلاته الشخصية، مما يبهت حتى أقصاه نازع انعتاقه،لأن آلية الفعل الاشتراطي لديه تكون محكومة بترابط إكراهي مع الشيء الذي يثيره، فيتحرك بدون وجود موضوع التحرك، وتسيل حواسه دفعة واحدة، بذات المنبه البصري السمعي، فيشم الكلام ويلمس الصوت في التداعي الخفي لحواسه التي تترجم معطيات العالم الخارجي إلى خزعبلات. لذلك يسهل تسويق بضاعة أيديولوجية في السوق الجماهيري، ويسهل سَوق هذا الوسط كيفما اتفق، وفقا للضرورة أو لمزاج أحد القادة السياسيين، الذين يتبرمون أحيانا من غياب صورتهم عن الفرجة الإشهارية للشاشة. حيث يتحول الجسد المكبل بنظام إكراهات لا مرئية إلى رأسمال عشائري مندمج في بنية الموضوع الذي سُخرت الأنا لخدمته. هذا الارتهان الرمزي للجسد الاجتماعي بالطواعية العمياء للطوطم الإعلامي، الذي يحرم بنوته حقهم في الرشد، يفرض التسلية بالقوة على قوامه الأخلاقي، فتتحلل رمزيته التاريخية، وبالتالي قدرته الخلاقة على إعطاء معنى هوياتي للشيء الذي يحدد سياق استخدامه طبيعة الكائن الذي يستخدمه ويصنفه، أي، يجعله حاملا للرمزية الاجتماعية المؤسسة. فحرمان المجتمع من إنتاج المعنى الخاص لتعيناته، يعني حرمانه من إنتاج نفسه كمجتمع. إن مسطح التنميط الذي تريدنا الشاشة أن نتجانس فيه، يرمي بنرد الوعي أمام خيارات غير مسبوقة، حيث تكون كل الخيارات محددة مسبقا، فتنعدم إمكانية الخيار؛ تزمين وعي الشيء بنمط اختيار هذا الشيء، وتصبح كل حرية اختيار فيما بعد عبثا بدون طائل.إنَّ التوق للشيء كانفعال، هو في الوقت ذاته طوق. وعندما يتوق مجتمع ما لأن ينمسخ، عبر تطويره للعمق الحيواني القابع في كل فرد، يكون قد سوَّر نفسه بطوق لامرئي على تعيّن ثابت لا يتغير، وبالتالي لا يتأنسن، فيتوقف التصعيد الاجتماعي للرغبات، ويغدو راغبا في كل شيء. لكن هذا التوق لإباحة حد ما بإزالة ما يخالفه من الحدود المتباينة عنه، تأتي مغلفة بنظام تسمية لا تخجل من جهلها** بنظام التسمية، فتتراكم الأسماء المؤسسة لصرح الجهل تحت قوس الحرية الفردية. لقد فصَّل «سبينوزا» بدقة الترابط غير العقلاني ما بين الانفعالات وبين الأسماء التي نلبسها لهذه الانفعالات.(1) وبيَّن المدى العنيف الذي قد يصله الانفعال نتيجة لتسمية مريضة، فيستمرض الشخص المنفعل بدون علية مرضية. هذا النظام المرضي للحكم عبر التسمية، وإلقاء الأسماء على عواهنها، هي إحدى آفات الفضائيات العابرة للعبور ذاته. كيف ذلك..؟
يرى « ميشيل سير» بأن الرياضيات قد ولدت من رحم المحاورات الأفلاطونية(2)، وهو بذلك لا يجانب الصواب، بل يصيبه ويذكر الجدل العقلي بطبيعته الرياضية التي تتطور إلى خواصيتها القولية، بإزالة الخطأ عبر مسار تجادل البراهين حول الخطأ، قبل إظهار الصواب ـ لقد كان أديسون يقول في نهاية كل تجربة فاشلة، بأنه برهن على خطأ هذه الطريقة أيضا، لإنتاج عقلانية كهربائية ـ. وهذا تماما ما فعله بارمنيدس في محاورته التي حاجج فيها على لاصوابية القول بواحدية الواحد، ومن ثم برهن بذات الأدوات الفنية على صوابية القول بكثرة الواحد. هذه الاستحالة الفنية أنتجها جدل عقلي تمثلَّ في الآتي: افترض بارمنيدس صواب التصور الأول للبرهان على خطأ هذا الافتراض، ومن ثم َ حللَّ خطأ التصور الآخر للبرهان على صوابه، وقد أُسنِد دور المجادل العقلي للبراهين في فرضية بارمنيدس، لكل من سقراط وأرسطو الشابين حينذاك، ومع ذلك طالب بارمنيدس سقراط، التمرن على الحوار، وإلا ستفلت منه الحقيقة( 3 ). هكذا يتصاعد جدل البراهين، لا لتصادر بعضها مثلما يحدث في الحوار التلفزي، بل لتلتقي في حقل الحكمة. إذن الحوار ليس مجرد آلية صوتية، بل هو فعل ذهني، وتجسيد مادي للوعي، لكنه بحاجة إلى تمرن كبير للوصول إلى الحقيقة عبر التجادل في سداد أو عدم سداد الأفكار، لذلك يعتبر الحوار إحدى آليات الارتقاء البشري، التي تدفعه للتفاعل عبر أفكاره مع فكر الشيء، لتنفتح ذاته المنغلقة على وجهة نظر الآخر، باتخاذ الآخر زاوية نظر أخرى لي كراء ٍ للشيء. غير أن الشاشة عممت نمط آخر من الحوار، نوع من هستيريا الحركة والصوت، دون أي علاقة منطقية تربط الكلمات بأشياء الموضوع. حيث تنتقل هذه الفوضى الذهنية عبر أولية التماهي مع الشاشة إلى المتفرجين خارج نطاق العرض، فتصدر من مجموعة مؤلفة من خمسة أشخاص أصواتا متزامنة تعادلهم عددا، وعندما يتحدث الجميع في الآن ذاته دون إصغاء، تتكاثف الحماقة فوقهم كغيمة داكنة. وتكون نتيجة هكذا حوارات، المزيد من النفور المتبادل والتململ من تفويت بعض هنيهات صمت لم يتم حشوها بأصوات عصابية، تنعكس فيها بنية المجتمع المريض. إن إبداء الرأي لا يكتمل بدون شخص آخر يصغي باحترام وصداقة لهذا الرأي. أما التناوش فهو ضد الفاعلية التواصلية لتنمية الوعي المجتمعي بقضاياه. هكذا يتسرطن المرض المجتمعي وينتشر عبر آلية الهدم التي توفر شروط سواده، بافتراسه للخلايا الصحية التي تنكمش إلى عنصر ديناصوري مهدد بانقراضه المجتمعي. من هنا ضعف الفاعلية النقدية للعناصر العقلانية في المجتمع على مواجهة هذه الهجمات البربرية. فما أن تظهر دراسة أو حتى مقال ضد الايمان العام، حتى يتكالب عليه الرأي الغوغائي العام ويجرده من وجوده، مطالبا القصاص منه بسحله في الشوارع ومن ثم قتله، لكن القصاص يتطلب تناظرا في الأدوات، غير أن هذا التناظر مستحيل بين كائن يفكر وآخر يتحرك تحت ضغط هرموني مبرمج، لذلك لا تتناظر الأدوات ويتم الرد على الكتابة بالاغتيال. لذلك لن يفي حجر الحلاج شيئا في المعضلة الراهنة، حيث يتجاوز المرض المجتمعي المعاصر بركة الايمان الراكد، فقد تهستر الركود وصار أكثر همجية من غياب فاعليته النقدية.
يشرح « ميخائيل شميد» في دراسة فذة عن سبب الربط ما يلي : «كل كلام، حسب فرويد، للموضوع / المريض / يكون ناتجا من تعاون سلسلة تصور الأشياء مع سلسلة تصور الكلمات. وتداخل هاتين السلسلتين المستقلتين عن بعضهما تكون ناتجة عن قانون التحريك.»(4) والسلطة التي تملك قدرة تحوير علاقة هاتين السلستين، وتملك سلطة تحريكنا للكلام، جردت علاقة ما نقوله بما نتحدث عنه، فيستدرك المتحاورون أنهم لم يتحاوروا في الشيء الذي اجتمعوا لأجله. وبما أن طريقة عرض الموضوع أساسية في تحديد بنية المريض،فإن التعابيرـ الأقوال الاجتماعية التي من خلالها يجسد المجتمع وعيه بأشياءه الاجتماعية وبموضوعاته، تظهره كمجتمع مستسلم للشاشة في وضعية المصاب بهوس الثرثرة. إن بنية التفكير هي التي تتحول نتيجة هذا الذهان الذي لا يميز كلماته عن أشيائه، فتجده يتحدث بلا فواصل حتى الإنهاك، ويجد في إنهاكه الصوتي نصرا لعنفه الحيواني الذي سلب الآخر مساحته الصوتية، فالصوت يتحلل إلى نظام مكاني، ويقاس بالمتر صعودا ونزولا. إنها اللازمة المدخلية الطبيعية لدخول الإشاعة ساحة الحدث الاجتماعي، لتتمركز كمرجعية لإطلاق الأحكام، فما تحتاجه الإشاعة لكي تسود، هو بنية مرضية مهيئة لأن تستقر وتنتشر الإشاعة فيه ومن خلاله، وليس هناك أفضل من المواطن ـ المتفرج بيئة لتسيد الإشاعة صرح الحقيقة. إذ أن أفول واقعية الواقع تستدعي بالضرورة خمول وعي الناس بذاتهم التاريخية، وبالتالي غيابهم عن فكرة الحقيقة. إنه ترتيب منطقي لذهنية مريضة. خذ مثلا التعبير الآتي: «يقال بأنك قلت ذلك». تصبح في اليوم التالي ما يلي: «لقد قال فلان ذلك». وهكذا يصبح الادعاء المبني للمجهول في الشاشة، إلى جرم قام به شخص محدد، تمت إدانته على ذمة ذاك المجهول، وقد أصبحت هذه العبارة المعزوة إلى مجهول، الأساس القانوني للمحاكمات الأنترنيتية. إن عبارة «هكذا يقال» مقولة غيبية للإنسان القاصر، بإحالته لمسؤولية القول إلى المجهول الذي يحتمي به، ممثلا بذلك عجزه عن استخدام عقله الشخصي. هذه الإحالة اللغوية إلى الماورائيات، تجانس كل المؤسسات الاجتماعية في تعّين مغلق، حيث تنتشر هستيريا الحكم في المنزل مثلما تنتشر في المدرسة والجامعة والعيادات…إلخ، بتحول كل هذه الهيئات إلى مصحات عقلية لإخماد الجنون الخاص، وجعل الواقع مراقبا من قبل مجهول، وتجريد الجنون ذاته من طبيعته المرضية، بتحويله إلى تهمة تستوجب العقاب. إنَّ التسمية المرضية الحاكمة بمسميات كيفية مغتربة عن الأفعال التي تتم تحت طائلتها، هي نظام تدليسي لسبب ربط الأشياء بدوافعها، وهي بذلك تكون القاعدة الذهنية التي يرتكز عليها الخبل العام لممارسة نشاطه التدميري للكائن الاجتماعي؛ إذ أن الخمول كترسيمة مطبوعة في بنية المتفرج ـ المواطن، يسلبه تدرجه الشعوري، ويُحصره في وضعية حيوانية متناوبة بين القفز مهتاجا أو التقرفس خامدا كميت، فالشاشة تستثمر في الليبدي، في المجال الحيوي لنشاط الكائن المستسلم، لذلك تتشّعوَذ وتفرض سيطرتها السحرية على التوجهات الحياتية للفرد المتحول ـ بتبعية عمياء ـ إلى روبوت.
إن الطبيعة المضمارية للحوار التلفزي، تحول دون امتثاله لمنطق علاجي. فالوقت دائما مُداهم، والأحداث الساخنة لا تنتظر، والشركات المعلنة تطالب بأسهما الزمنية في وقت العرض، والمُخرج يعد الجميع بالحديث كفاية ـ كأنه منحة طعام ـ، ومقدم البرنامج يهندس نفسه عوضا عن هندسته للزمن، وكل ذلك في بوتقة مغلقة لوقت البرنامج. فيظهر كل ما تقدم مبتسرا، ملمحا إليه، عجولا، وغير مؤطرا لسياق الموضوع الذي يناقشه، والمعلومة غير المحملة بأبعادها التي تتقاسمها، تكون محض ضلال. إن تحليل الضحك التهكمي الذي جرى نتيجة الحوار الذي جمع بورديو بغونتر غراس في منزل الأخير، أثمر عنه كتاب ممتع حول هذا المفهوم. والحوار الذي جمع تشومسكي بفوكو، كان ذا تأثير بليغ على كل من شاهد ذلك الحوار حتى بدون أن يفهمه، فقد كانت طريقتهما في التحاور هي الفائدة العظمة للمستمع أو حتى للمتفرج. وذلك لأن مثل هذه الحوارات تسعى لأن تعالج من عدة زواية وعبر مجموعة علوم، الموضوع الذي تناقشه، دون الالتزام بضابطية وقتية تفرض طبيعتها على الفكر، فتجعله مبتسرا وقاصرا على القول، في حال انتهاء وقت العرض قبل اكتمال القول. أو تفرض عليه الحشو والتهلهل، في حال انتهاء القول مع وجود فائض زمني لمدة العرض، فتستكمل بالثرثرة. إن حلبة الشاشة واقع تفاعلي مختلف لقيم الحوار، كونها تتحكم بضبط علامات ترقيم الجمل، وبالتالي تصادر قولها، بتقنية توظف كلام المحاور لخدمة قول الشاشة الخاص. لقد شاهدت برنامجين عن الحرية الجنسية والمثلية الجنسية، أحدهما في قناة بي بي سي، والآخر في قناة لبنانية. ولحسن الحظ كنت مطلعا على كتابات بعض المتحاورين، خصوصا فيما بتعلق بالمثلية الجنسية الذي قدمته قناة بي بي سي كفيلم وثائقي، ومن ثم كحلقة نقاش عنه. وقد كان أحد ضيوف الحلقة مختصا فيه. لكنه لم يحرك ساكنا. ظهر كأنه يجهل الموضوع الذي تجمعوا لأجله. وفي اللحظة التي استرد فيها الضيف تركيزه، انتهت مدة العرض. أما برنامج القناة اللبنانية، التي تناولت موضوع الحرية الجنسية، فقد كان الضيوف ثلة شعراء. حيث تمَّ مناقشة موضوع حساس بعقده شعريا، وانتهى البرنامج بتعابير لطيفة، لكن لم يعلم المتفرج، لماذا اجتمع المجتمعون. فاختلط مفهوم الجنس بمفهوم الجسد، والأيروس بالأهواء. لم تعد الشاشة مجرد شاشة، بل صارت مرجعية حكم. لذا، فإن تطرقها للتابو الاجتماعي، يزيد من تباحث الجميع في التابو، لكن بدلا من تحليله، يضيفون المزيد من الركام حوله. فالخلط الذي جرى في موضوع الحرية الجنسية بين الجنس والجسد، اختزل الجنس إلى فاعلية استمنائية، واشترط الحب بالجنس. كما أنه لم يخرج بالجسد خارج حده الجنسي. إن الجنس والجسد سياقان متقاطعان في مسطح الفعل الجنسي، والفعل الجنسي يستمد ماهيته من انفتاحه الجسدي ـ الكوني. لكنهما كمرجعية تحليلية مستقلين. فالمرجعية الفكرية للجنس تعود لعلم النفس ممثلة بفرويد وآيرك فروم ويونغ..إلخ. أما المرجعية الفكرية للجسد، فتعود لفلسفة الجسد فلسفيا وابستمولوجيا، عبر ليبنتز وبرغسون وجينيه وبوهم وبوانكاريه.. إلخ. كوننا نتحدث في الجسد عن علاقة الوعي بالمعطيات الحسية الخارجية وعلاقته بالكمون النفسي الخفي وفقا لصيغة بوهم حول الجسد الكلي. ـ في الأدب، تعتبر رواية «أرواح هندسية» لسليم بركات من أفضل الروايات التي عالجت وعي الجسد بذاته في العالم العربي المموه لحدود الجسد بتجاوزه لحواسه ـ. أما مع الجنس، فالأمر يتعلق بكيمياء نفسية، جغرافية وحقبية التعين، ندرس من خلالها فلسفة المتعة وانفتاح الذات، مثلما ندرس انغلاقها، وبالتالي دراسة الوعي المجتمعي لأطر العملية الجنسية. فالعذرة والشرف المعلق عليها، تأسيس اجتماعي لرمزية جنسية سلالية التمثل لمخيال مجموعة بشرية محددة. وما ترتب على هذه الترسيمة يكون ذو خواص نفسية وليس بيولوجية، لذلك لا يجوز القياس خارج نظامها الاجتماعي والتاريخي في آن. لأن الوضعية الاجتماعية للجنس هي وضعية غيرية بحكم غيرية المجتمع الديناميكي، وكل ثبوتية جنسية، هي ثبوتية مجتمعية. لذلك لا بدّ، أن نحلل مفهوم الحرية قبل ربطها بمفهوم الحرية الجنسية. إذ أن عدم الموافقة بين الخبرة المجتمعية والفكر، سيؤدي بالضرورة إلى إلغاء حرية أي مكون نطالب بحريته. وقد أظهرت تجربة التحرر الجنسي، تسليعا للجسد وربطته بسبل عبوديته، أكثر من إحداث يقظة أيروسية. فتحرر الأنا من أصفادها التي تعيق علاقتها بموضوعها، قد يتحول إلى فعل التحام قوي، توحد عشقي بالموضوع، وبالتالي بدل من أن تتحرر الأنا، تندمج في موضوعها الذي يمزقها، باستثمار الموضوع الجنسي للنقص التاريخي إليه، مما يجعل الحاجة الجنسية والليبيدو متداخلين بحيث تنعدم إمكانية ردع هذه الحاجة من قبل الأنا الخاضعة للمبدأ الجنسي. على الجنس لكي يتحرر أن يفطن لحريته. باستنتاج جمالية ذي أثر إنساني في العملية الجنسية، مما يساعد على تأسيس وعي جنسي بالحرية الجنسية. فحرية ممارسة الجنس مع حيوان، تترجم لدى ذاك الحيوان إلى فعل اغتصاب. ومحاولة إضفاء اسم حرية على هذا الفعل، تعكس هوية وهمية للشيء محل التسمية. مرة أخرى، أحيل لدراسة شميد الآنفة، التي يبدأها بعبارة : «كل شيء يبدأ مع الإسم». فالأسماء التي ينفذ التطرف من خلالها، لا تعكس النظام السلوكي للمتطرف، فهو يردي الحياة الشخصية للناس باسم آداب لا يمتلكها سلوكيا. وهو بذلك يتماثل من حيث الخضوع لنظام تسمية متخارجة عنه، مع اسم الحرية الذي يستخدم لإضفاء شرعية أخلاقية على ميول الجنس الشرجي، والجنس مع الأطفال، والجنس الجماعي. إذ أن الآلية التسويغية لفعل التسمية هذا، يبيح كل شيء حتى بدون تقديم مسوغات، لأن التسمية تكون مسبقا قد قدمت وصادرت كل تسويغ ممكن. إن عدم تصعيد الشخص لنزواته الجنسية المتدفقة من عمق حيواني غير مرئي، وتمريرها تحت قوس الحرية الجنسية، تضعه في علاقة ميثولوجية مع ذاته، بحيث يستهلك عبر شراهة الشهوة، ذاته. واختيار الحالة الجنسية باسم الحرية، لا يجرد هذا الخيار من وعيه المجتمعي، حتى لو كان هذا الخيار مقصيا من الواقع الاجتماعي. فالتجربة الجنسية للنساء النمساويات مثلا، لا تقاس حتى أوروبيا على مثيلاتها من النساء الأوروبيات. وهي في مبادرتها للرجل، باستلامها لزمام مبادرة الطلب الجنسي، تعكس بينتها المجتمعية للجيل المولود في سبعينات القرن الماضي. وهي صيغة لا تقبلها النساء النمساويات ولا الرجال النمساويين المولودين في أربعينيات القرن الماضي. إن حقبية وفرادة التجربة الجنسية، تعكس سياقها الثقافي غير الخطي. وبالتالي تشترط لمناقشتها، إلى ايضاح أنساقها التي تتقاطعها، وهو الأمر الذي تفتقر إليه أولية إنتاج البرامج التلفزيونية في الوضعية الحالية. فضعف معالجة الشاشة لمواضيعها، مستقل عن قدرة ضيوفها المستدرجين لفخ الإخراج التلفزي، لذلك يخرج المتفرج من حلبة الشاشة ممتلئا بالتشعب الذهني الذي يؤهله لأن يثرثر حول أمر يجهله، بتركيبه من خردوات جمل تلفزية، كلاما بلا فواصل نسقية رابطة. إنه بذلك يعبر عن الحالة التي انتهى إليها نتيجة الحدث التلفزي، وهو بذلك يمدد الأواليات التلفزية في تواصليته المجتمعية، ليستمر فعل الشاشة التلقيني في ترييض الجسد الاجتماعي، بإذابة مقولات الشاشة في منظومة القيم المجتمعية المتحللة إلى غايات استهلاكية محضة، فـ : «الذوبان الحالي للثقافة وللتسلية لا يؤدي فقط إلى فساد الثقافة، بل إلى جعل التسلية أمراً ثقافيا بالقوة».(5). بحيث تتسلعن القضايا وتتدرج في أهميتها وفقا للحاجة الاستهلاكية المقننة لمعرفة الناس بالعالم الذي تعيش فيه. فدارفور على سبيل المثال، لم تشكل قضية إنسانية حتى الآن لدى الجماهير المدربة لتهتاج على أنغام بيانات القادة المدافعين عن مصير الرئيس السوداني، دفاعهم عن مصيرٍ محتمل. لذلك لم تدخل تلك الإغتصابات للنساء الدرافوريات ثقافة الجماهير الحقوقية، بل وجدت عبر نظام برمجتها، أن من الحق إبادة شعوب بأكملها في سبيل المسيرة العرقية. هكذا تتمرن الأجساد على التحرك اللاارادي، المكره بعلاقات تتجاوز مكانيته، منتزعة إياه من جغرافيته، ليغدو عضوا في عصابة ذهانية فضائية التعين، ليس لها خارج أو داخل، بل مجرد أوهام هوياتية تفرضها بقدرتها الهدامة للتواصل.
إنّ الأسئلة صيغ تركيبية للمواضيع التي تستفهم عنها، فهي لا تسائل المآل أو المضي، بل تسائل التناسج الحدثي للموضوع. لكنها تقفد قدرتها المبضعية في التسلية الثقافية، حيث تتمشهد صيغ السؤال، لتصبح حدثا بذاتها دون قضية استفهامية، فتنهمر الأسئلة في الساح التلفزي، بطريقة تشل معها القدرة الاستيعابية للشخص الخاضع للسلطة الإستجوابية. ففي الإستجواب تكون الإجابة مستحصلة سلفا، وكل إجابة يقدمها المِستجوَب تكون دائما إجابة متأخرة بلا طائل، فتنهال عليه الأسئلة كمتتالية عقابية له وللحدث الذي تمّ التنكيل به من قبل المذيعين الذين يسألون بزهو في قضايا لا تسع عقولهم لسياقها. فيهينون بذلك ضحايا تلك القضايا. لكنهم لا يأبهون لشيء لا يضفي على أسئلتهم مشهدية تهريجية. فيسترسلون في الأسئلة التي تطبع في حواس المتفرجين، خواص الإنسان الخامل. مما يدفع بالطرف الآخر، فيما إذا سنحت له هنيهة صمت ـ فراغ بين تتالي الأسئلة، إلى التأهب للانقضاض على الشاشة بالتحدث بلا توقف إلى أن يتم قطع صوته وصورته من الفسحة الإشهارية التي يطمح إليها دائما. يكثف الإنسان كلامه بالفواصل، يعمق خصوصيته القولية في التركيب الفريد للجملة، التي تتجرد من فرادتها في اللغط الجماهيري، حيث يتسيد الضجيج ـ السديم مبعدا الاستقطاع العقلي للمعنى. لذلك تكون الحوارات التلفزية، لغطا جماهيريا حتى لو كانا متحاورين اثنين. كونهم يخضعون لآلية كلامية متماهية مع النبرة الحشودية. لكنها في الوقت ذاته، نبرة العزلة الأنتولوجية داخل التجمهر الجمعي لضياع الفردانية داخل الذات. جاء الحوار، تأسس عبر تفعيل بيولوجية دماغية لتطوير الجدل العقلي لدى الذات، آناء تفاعلها مع مرآة ذاتها في العالم. إنه طاقة العقل الجدلي، فـ: «الدماغ المعزول حماقة بيولوجية لا معنى لها كالفرد الانساني المعزول»(6). غير أننا الآن نعايش العقم التواصلي، بمضاعفة سوء الفهم بيننا كلما تحاورنا وفقا لنمط الحوار التلفزي، بارتكاسها على الصوت المتواصل المعيق لترجمة المعطى الخارجي إلى تمثل عقلي. مؤسسة بذلك الشكل النفسي للمتفرج الجماهيري المتسمر ذهنيا خارج وقت العرض، منضبطا بآلية المعالجة الهستيرية للموضوع المرضي المتلفز. فعندما تتزامن أصوات المتحاورين بتنافس تعبيري لحدة الصوت، يتحول كل وأي مكان إلى حلبة. دون أن يعني ذلك جهلهم بقواعد الحوار، بل وإنما افتقار عقليتهم للجدلية، لنظام إصغاء حضاري ومعرفي. إنهم نموذج لتجمهر لا واعي، مستسلم كليا للموضوع التلفزي الذي يكون قد افترس أنوية المتفرج؛ النواة الجديدة لبنية الجمهور. إن الاستجابة الجمعية التي يبديها الفرد منفردا، تجعله حاملا للجمهور في كينونته أينما كان، بتكراره لذات الهتاف العام، لتراتيل الحشود العارية العنف؛ حبيسة التلقين المنظم لسلوكياتها. إن الشاشة مؤسسة سلطوية لإنتاج الجسد العام. لذلك تجدها تعتمد الرقم الرقابي للمتفرجين، معيارا لتقييم المستوى الفني لبرامجها التعبوية، فالتعبئة الجماهيرية قضيتها، والشكل الغوغائي لديمقراطية الأغلبية مبدأها الذي تنشد فيها قوامها العشائري. فهي تستشعر سحرها التنويمي عبر الأعداد الغفيرة التي تتبع برامجها اللاهية ومسلسلاتها البليدة، بمغنطة الدلالات الفردية نحو التماهي مع الدال الجمعي المدجن للمعنى في الرمزية الاجتماعية، التي يتم تصفيتها في العملية التحويلية للفرد الاجتماعي إلى متفرج جماهيري في عشيرة الشاشة. فالإعلام المعاصر، يجد أهميته في جماهيرية سلعه، وبالتالي في قدرته على الهبوط إلى رداءة التفكير الغوغائي العام، فيطور نفسه باستمرار نحو الدُرجة التي تتبناها الأغلبية الهائجة، نحو الشراهة الاستهلاكية للجمهور الذي يتبدى وفقا لفرويد : « وكأنه بعث للعشيرة البدائية، فكما أن الإنسان البدائي لا يزال على قيد الحياة في كل فرد، كذلك فإن كل تجمع بشري قادر على إعادة تكوين العشيرة البدائية»(7). هذه العشائر الراسخة في اغترابها، المتجمهرة بعنفها العاري في دوائر رهطية متصلبة خائفة. تسوق نفسها في الاتجاه ذاته الذي سلبها إنسانيتها، وانتزع منها هويتها الجسدية، بمجانسة عناصرها في كتل بشرية فجة، حشرية، تعكس في نظرتها سطوة الحيوان البدائي الذي احتل فيها مكان مثالها، وأحالها مرضا خالصا، ذا توظيف منهجي للعنف السلطوي. إنها صولجان الجلاد المعاصر للخلافة الإعلامية.
هوامش ومصادر :
1- سبينوزا. علم الأخلاق. ترجمة: جلال الدين سعيد. دار الجنوب. تونس . ص 221
2- تاريخ وفلسفة العلوم عند ميشيل سيرـ د. يوسف تيبس. مجلة عالم الفكر. العدد 4 ـ المجلد 30. أبريل ـ يونيو. 2002. الكويت
3- أفلاطون. محاورة مارمنيدس. ترجمة : حبيب الشاروني. المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة 2002. ص 32. 33
4- ميخائيل شميد. سبب الربط. ترجمة: د. حميد لشهب. مجلة مدارات فلسفية . العدد 15.
5- دوركهايم وآدورنو. جدل التنوير. ترجمة: جورج كتورة. دار الكتاب الجديد المتحدة. بيروت 2006. ص 167
6- جوليان هكسلي. تقديمه لكتاب تيارده شاردان « ظاهرة الإنسان». ترجمة ندرة اليازجي. مطابع ألف باء. دمشق. 1971. ص 8
7- فرويد. علم نفس الجماهير وتحليل الأنا. ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة. بيروت 2006. ص 108.