شاعر ومترجم من فلسطين.
مائةٌ فِي المائةِ
هُنا جسَدي الشَّاغرُ
خذهُ معكَ بعيدًا إِذا كنتَ تريدُ.
هُنا النَّظرةُ الشَّاغرةُ فِي عينيَّ
اقرأْها بالطَّريقةِ الَّتي تُريدها، أَغوِها.
هَنا يدِي الشَّاغرةُ
اقبِضْ علَيْها، بدونِ حاجةٍ للمَعْنى،
أَو أَعدْ أَيَّ شيءٍ فِي المُقابلِ.
هُنا ابتسامَتي الغامضةُ
ليسَ لدَيْها أَيُّ اتِّصالٍ حقيقيٍّ معَ مَا يحدثُ فِي الدَّاخلِ.
أَنا هُنا، امرأَةٌ تتحرَّكُ معَ الزَّمنِ،
وعيِّنةُ مِن أَجزاءِ جسدِها
تمَّ تطهيرُها لسلامةِ عقلِكَ.
هدمٌ
يهدِمونَ المنازلَ القديمةَ فِي كلِّ مكانٍ
فِي (بكِّينَ)، و(داليانَ)، و(شانغهايَ)، و(نينغبُو)، و(قوانغتشو)،
والجنونُ نفسُه فِي كلِّ مكانٍ ليكُونَ مريحًا وواسعًا،
وتَقاتلٌ ثابتٌ
هوَ الاقتصادُ كمحيطٍ،
ومثلَ سُوءِ الحظِّ لاَ أَحدَ ينجُو،
ولا يُعاني الاقتصادُ مِن الحنينِ،
والاقتصادُ لاَ يعرِفُ المثاليَّ، ولاَ تاريخَ
ساحةِ البيوتِ القديمةِ الطِّرازِ،
ولاَ قُرى الصَّيدِ القديمةِ،
ولاَ النَّوافذَ الصَّغيرةَ والأَبوابَ الخشبيَّةَ للجَنوبِ،
ولاَ شعارَ البيوتِ، والشَّوارعَ القديمةَ علَى طولِ ضفافِ نَهرِ (اللُّؤلؤِ).
هدمٌ: فِي كلِّ مكانٍ
الأَرضُ مغطَّاةٌ بالخَرسانةِ المسلَّحةِ،
وهمْ يحاولونَ التَّفوُّقَ علَى بعضِهم البعضِ فِي الارتفاعِ،
والرَّخاءِ،
والتَّماثلِ،
ويحاولونَ أَن تكونَ أَكثرَ برودةٍ،
وأَينمَا تَذهبُ
فالأَوراقُ المتساقطةُ تَجتاحُ بسببِ
رياحِ الخريفِ،
وتبِيدُ.
هلْ تؤمِنُ؟
هلْ لاَ يزالُ أَيُّ واحدٍ مِنكم يُؤمِنُ بذلكَ
الخجلِ؟
وذلكَ الإِحراجِ؟
وبِأَقفاصِ العبيرِ؟
وبشهوةِ العظامِ؟
هلْ؟
الشُّربُ وحدِي
جلبتُ زجاجةَ نبيذٍ مِن الشُّرفةِ،
وأَزلتُ الغطاءَ بسكِّين مطبخٍ،
ثُمَّ اقتربتُ مِن الهواءِ بعدَ المطرِ،
وشربتُ إِلى أَن بدأْتُ أَشعرُ أَنَّني سكرانةٌ.
العمليَّةُ بسيطةٌ ومحضةٌ
فِي اتِّجاهِ الزَّمنِ،
ويمكِنُ أَن تزدادَ لتكُونَ سُلوكًا،
وأَنا متأَكِّدةٌ
أَنَّها تجلبُ لِي متعةً فاسدةً.
ليالٍ
تأْتي وتذهبُ،
وأَحيانًا أَنالُ أَيَّامي المختلَطةَ،
لكنِّي أُحبُّ طعمَ هذَا الشُّعورِ بالوَحدةِ.
يُبقِي يومٌ مضَى نفسيَ شريكةً
مثلَ نسخةٍ مِن بعضِ لحظةٍ فِي المستقبلِ،
حينَ سينمُو العشبُ فِي السَّماءِ،
وحينَ ستهبُّ الطَّريقُ مِن خلالِ السُّحبِ.
مجالٌ كهربائيٌّ
الحاسوبُ، والهاتفُ، والهاتفُ الجوَّالُ،
والإِضاءةُ، والمقابسُ، وشاحنُ الهاتفِ الجوَّالِ.
أَنا هُنا، أَجلسُ لدراسَتي،
وكُتبي، والكهربائيَّاتُ المذكورةُ أَعلاهُ مِن حَولي،
وقَلبي ينشقُّ نصفينِ؛
نصفٌ يبحثُ عَن السَّلامِ فِي الأَدبِ،
والآخرُ يرتفعُ منفعِلاً بِتلكَ الأَجهزةِ
عندَما التَّيَّاراتُ الكهربائيَّةُ للتَّردُّداتِ المختلفةِ تمرُّ عبرَ لَحمي ودَمي.
لقد أَصبحتُ جسدًا مكهرَبًا غيرَ معروفٍ حتَّى الآن إِلى الكَونِ،
ثُمَّ أَسمعُ الرَّعدَ؛
ذلكَ الرَّعدَ هُوَ رعدٌ كهربائيٌّ، والمطرُ مطرٌ كهربائيٌّ،
أَو ربَّما إِنَّه علَى العكسِ مِن ذلكَ: أَنا إِلكترون،
والعالمُ هوَ عملاقٌ، ومجالُ كهرباءٍ صاخبٍ.
رأَيتُها بأُمِّ عينيَّ
كانتْ فِي وقتٍ متأَخِّرٍ مِن اللَّيلِ:
أَرواحٌ تخفقُ تجاهَ جدارٍ
مستقلَّةً، ووحيدةً.
ناقصُ سنةٍ أُخرى
فِي أَيلولَ الماضِي
وقفتُ فِي جاداتِ الخريفِ
أُشاهدُ الأَوراقَ الحائمةَ الميِّتةَ،
والحشودَ المرتفعةَ.
فِي أَيلولَ الحاليِّ
سافرتُ إِلى السَّاحلِ.
المطرُ الضَّبابيُّ للجنوبِ،
وأَشجارُ الأَثْأَبِ(*) بجانبِ نهرِ (اللُّؤلؤِ)
لمستْ رُوحي.
فِي أَيلولَ المُقبلِ
سيأْتي الخريفُ مرَّةً أُخرى،
وأَنا لاَ أَزالُ أَكتبُ الشِّعرَ
هُنا فِي أَرضِ الأَحياءِ
أَحلمُ – ناقصُ سنةٍ أُخرى.
نقلُ الجرَّةِ
نقلتُ اليومَ جرَّةً كبيرةً
مِن النَّوعِ الَّذي يَستخدمونهُ لتخليلِ الخضرواتِ
إِلى دِراستي فِي الشُّرفةِ.
هذَا الوعاءُ الدَّاكنُ الاحمرارِ
هوُ قطعةٌ فظَّةٌ مِن العملِ
ببَطنٍ كبيرٍ عظيمٍ،
وشقوقٍ فوقَ كلِّهِ،
وتأْتي معَ غطاءٍ دائريٍّ صغيرٍ،
وأَنا لستُ متأَكِّدةً ممَّا أَنا ذاهبةٌ للقيامِ بهِ مَعها.
أَجلسُ القُرفصاءَ علَى الأَرضِ هناكَ، وهيَ تعكِسُ الضَّوءَ
بهدوءٍ ومباشَرةً.
الآنَ، إِذا خلعتُ الغطاءَ
فإِنَّه يمكِنُها أَن تحملَ كلَّ الرِّياحِ فِي هذهِ الغُرفةِ.
إِحالاتٌ
قِبالَتي: الطُّرقُ، والمبَاني، والعقاراتُ، وعددٌ قليلٌ مِن المنازلِ.
قِبالَتي: قِطعُ الأَعشابِ، والأَشجارُ، والمارَّةُ.
قِبالَتي: الأَرواحُ، والنَّوافذُ.
أَنا فِي عالمٍ آخرَ، ومدينةٍ أُخرى، وغرفةٍ أُخرى
أُشاهدُ مِن الهوامشِ،
وغيرُ قادرةٍ علَى المشاركةِ الكاملةِ في حياةِ هذَا العالَمِ.
أَنا نصفُ إِنسانٍ فيِ أَفعالِي،
وكنتُ أَحصلُ منكَ علَى الغذاءِ الَّذي يتيحُ لِي الاستمرارَ فِي العيشِ،
ونِصفي الآخرُ يجرفُ الغيومَ، وأَزهارَ وقتِ الصَّيفِ،
وأَوراقَ الخريفِ، وبُحيراتِ الأَرضِ،
والأَنهارَ، والجداولَ الَّتي تتقدَّمُ بجرأَةٍ نحوَ المحيطاتِ،
والمرتفعاتِ، والمراعيَ، والغاباتِ البدائيَّةَ الواسعةَ،
والرِّيحَ فِي حلولِ اللَّيلِ، وأَمطارَ الصَّباحِ الغزيرةَ، والأَبخرةَ
الَّتي لاَ يمكِنُ التَّنبُّؤُ بِها، والأَماكنَ البعيدةَ، وخطَّ سكَّةِ الحديدِ المهجورةِ، ومُدنَ الَأشباحِ،
والصَّحارى، والسُّباتَ، والتَّعفُّنَ، وبذرةً ارتدَّتْ إِلى الغبارِ
دونَ أَن تُلاحَظْ.
ذِكرُ الأَشياءِ حتَّى تأْتي
فجَّرتْ ريحٌ سريعةٌ زَهريَّتي عاليًا ليلةَ أَمسِ،
فتناثرتِ الزُّهورُ، وكُسِرتْ الزَّهريَّةُ نصفَينِ،
وطُرحتِ القطعُ علَى الأَرضِ بِبراءَةٍ طفوليَّةٍ.
إِنِّني أُدرِكُ، عاجلاً أَم آجلاً، أَنَّ كلَّ أَشيائي المنزليَّةِ
ستَتحطَّمُ بالرِّيحِ،
وسيَتركُونني واحدًا تلوَ الآخر،
وأَنا سأَكونُ الأَخيرةَ للتَّحطيمِ،
أَستلقِي ببراءَةٍ طفوليَّةٍ فِي غرفةٍ صغيرةٍ معتمةٍ:
تنمُو الزُّهورُ علَى رأْسي،
وأَبتلعُ زيارتَها عامًا بعدَ عامٍ،
بَينما تلكَ الرِّيحُ السَّريعةُ التَّي تهبطُ مِن السَّماءِ
تجلبُ العواصفَ، والرَّعدَ، والغضبَ الَّذي سوفَ لَن يتحطَّمَ أَبدًا.
جوهرةُ البحرِ
ماءُ البحرِ هذَ ا أَكثرُ زُرقةً مِن السَّماءِ:
إِذا استطعتُ اصطيادَ الكلماتِ منهُ،
فأَنا متأَكِّدةٌ مِن أَنَّهم سيقولونَ إِنَّها تخلَّتْ عَن الأَملِ أَيضًا،
ولاَ تريدُ بسطَ المشاعرِ بإِسرافٍ
فِي الأَعماقِ أَكثرَ.
أَكانتِ مِلحًا فقطْ، إِذِ اعترفتَ ورفضتَ
بنعومتكِ، كلَّ الحبوبِ
الَّتي تتبلْورُ في مرارتِكَ؟
أَكانتْ فقطْ ضوءَ الشَّمسِ الَّذي تراكمَ لفترةٍ وجيزةٍ
مُتحطِّمًا؟
مَا أَحصلُ عليهِ مِن خلالِ هذهِ الحياةِ هوَ كلُّ مَا لديَّ لأَتطلَّعَ قُدمًا.
شفافيتُكَ، ونقاؤكَ، هما مفاجِأتانِ جدًّا بالنِّسبةِ إِليَّ
إِذْ تترُكانَني دائمًا أَشعرُ لِلحظاتٍ
بخسارةٍ للكلماتِ.
قطعةُ السِّنتِ الواحدةُ
ثَمَّ قطعةٌ سنتٍ واحدةٌ، فِي حُجرةٍ، في داخلِ مِنضدَتي
كلُّها مِن تلقاءِ نفسهِا
بينَ قطعٍ غريبةٍ مِن الورقِ.
أَفتحُ الدُّرجَ أَحيانًا،
وأُنقِّبُ مِن خلالهِ،
ثُمَّ أُغلِقهُ
حتَّى بدونِ تسجيلِ وجودِ العملةِ المعدنيَّةِ.
اليومَ، وفِي لحظةٍ وجيزةٍ عندَما لَم يكُنْ لديَّ أَيُّ عملٍ لأَقومَ بهِ،
رأَيتُ، لأَجلي مرَّةً أُخرى، حرِّيَّةَ قطعةِ السِّنتِ الواحدةِ تتمتَّعُ
بضبطِ نفسِها، وصفائِها، وصمتِ عالمِها.
أَيُّ تشابهٌ هُنا معَ حياةِ إِنسانٍ؟
علَى الرَّغمِ مِن أَنَّها لَم تتكلَّمْ،
ومعَ ذلكَ، فهذهِ العملةُ المعدنيَّةُ كانتْ موجودةً ذاتَ مرَّةٍ.
المتثاقلُ
فِي قَدمي اليسرى: حذاءٌ،
وقَدمي اليمنى: حافيةٌ.
نعمْ، ستجدُني بهذهِ الطَّريقةِ غالبًا
ليسَ لأَنَّني حذاءٌ صغيرٌ،
ولكنِّي لاَ أَستطيعُ أَن أَنزعجَ بحثًا عنهُ.
أَحيانًا كنتُ أَدفعهُ تحتَ السَّريرِ، أَو فِي خزانةٍ
بساقٍ ممدودةٍ،
لذلكَ عندَما ترتفعُ قَدمٌ أَعلَى مِن الأَخرى
أَلومُ نَفْسي فقطْ.
يتجوَّلُ الحذاءُ فِي القَدمِ اليُسرى
فِي غرفةِ المعيشةِ،
وتتسلل قَدمِي اليُمنى حافيةً إِلى
خارجِ غرفةِ النَّومِ،
والاثنتانِ تنسِّقانِ لتَجلبانيَ إِلي دراسَتي.
بعدَ القراءةِ والقيامِ ببعضِ الكتابةِ
أَضع قَدمِي فوقَ مقعدٍ أَو علَى المنضدةِ،
وإِذا دفعتِ لِي العناصرُ حينذاكَ زيارةً،
والغرفةُ بأَكملِها صارتْ باردةً،
فإِنَّ قَدمِي العاريةَ هيَ الأُولى
الَّتي تعرِفُها.
الهوامش
إشارةٌ: القصائدُ هيَ مِن مجموعتِها الشِّعريَّةِ «هادئةٌ في عالمٍ صاخبٍ»، 2001م. تَرجمها إِلى الإِنجليزيَّةِ: سِيمُون باتُّون.
* شاعرة من الصين، مواليد 1968م.
(*) الأَثأَبُ: تينُ البنغالِ؛ شجرٌ ضخمٌ مِن أَشجارِ جزائرِ الهندِ الشَّرقيَّةِ. [م].