كاتبة وقاصة من العراق.
لي مخيلة تجمح بعيداً أيها السادة، وكثيراً ما كنت أنسج قصصاً عن أصدقائي الذين يغيبون وتنقطع أخبارهم عني، متناسية قصصهم الحقيقية، وبعد فترة طويلة أصبحتُ لا أفرق بين ما يحدث لهم فعلاً وما ابتكرته مخيلتي، هذا الأمر يريحني في كثير من الأحيان، وفي أحيان أخرى يحرجني أمام العهد الذي قطعته على نفسي بعدم نسيان حكاياتهم.
تفرق الأصدقاء، كل واحد منهم مضى الى مصير كان سيعجز عن استيعابه قبل سنوات لو علم بنوع ذلك المصير.. لم أعِ هذه الحقيقة الا بعد أن بدأت خطواتي تسلك مصيراً آخر غير ما كنت أتوقع، ربما أنا الوحيدة التي تركت زمام أمرها دون أن تسعى لشيء، مصيري هو الذي قاد خطواتي فتبعته، في بعض الأوقات أشعر بالرضا لما آلت إليه الأمور، فامرأة مثلي كان يمكن أن تقتل برصاصة طائشة، أو يتشظى جسدها بفعل انفجار أعمى، أو تختطف وتصبح وليمة لغرائز اللصوص، وفي أوقات أخرى يسكن الحزن قلبي على كثير من الفقد.. أتذكر ذلك الحزن الشاسع عندما مات أبي، وتبعته أمي بعد أيام قليلة، الآن كم أشعر بأنهما محظوظان حين انتهت حياتهما قبل أن يستوطن الرعب أرض بلادي، ربما لو كانا على قيد الحياة لاختلف شكل موتهما وفقد قدسيته.
ها أنا أجلس في شقة صغيرة، لا أسمع فيها إلا أنفاسي الرتيبة وصدى خطوات تدنو وتقترب مني، أدرك تماماً أنْ لا أحد يسكن معي، لذلك، وخوفاً من التباس الهواجس، أعزوها الى الشقة المجاورة، وحاولت قدر المستطاع أن لا تسحبني تلك الخطوات الى ماضٍ تعمدتُ أن أدفن متعلقاته في حفرة عميقة من رأسي، وقلت لنفسي سأبدأ من الصفر.
الصفر هو نقطة البداية، وهو نقطة اللاعودة أيضاً..عندما تصل إليه يكون فيه إحساسك منعدماً بالأشياء، فإذا قررت أن تواصل المسير وتتبع قدرك، سيكون عليك قبل كل شيء أن تخرج من دائرة الصفر، بمشقة كبيرة طبعاً، ثم عليك أن تدرك المصير الذي ستذهب إليه، فقد يرفعك الى سماوات السعادة، أو يلقي بك في أتون التعاسة، لا توجد منطقة عازلة بين الحالتين.. في الحالة الثانية إما أن تعود الى منطقة الصفر وتحاول الصعود، أو تقرر أن تبقى هناك في حالة تشبه حالة من يمضي بعد لحظات الى الموت.. وفي الحالة الثانية سيكون عليك إدراك أن الإمساك بالسعادة لا يعني أنك امتلكت مصيرك النهائي، لأن من طبع السعادة أن تخدع من يطالها، تماماً مثل امرأة لعوب ذات مزاج متقلب يحلو لها أن تعذب معجبيها.
أنا لست في منطقة الصفر، ولم أتبع تلك المرأة اللعوب، لا أتعمد تغيير مصيري بل أترك الأيام تجري كما النهر، أو مثل جدول هادىء أو حتى بركة آسنة.. مصيري هو الذي أخذ زمام أمري، وتركت له العنان ليرسم لوحة أيامي، وها هو يوصلني الى هذا المكان ويختار لي شقة صغيرة في بلد غريب لا يعرف لغتي ولا يهمه أن يتعرف عليّ أو يعقد صداقة من نوع ما.. أنزل الى البريد فأجد رسالة واحدة تتكرر صيغتهابداية كل شهر، أذهب بها الى البنك فأصرف ما تكرمت به الحكومة.. أمشي في الشوارع المغسولة بالعذوبة حتى تكل قدماي، أحياناً أجلس في مكان وأحتسي القهوة مع أنني لا استمتع بمذاقها، أو أتناول قطعة بيتزا دونما إحساس بلذة الطعام، ونادراً ما أذهب الى البحيرة وأضيع بعض الوقت وسط الصخب، ثم أعود الى الشقة وأجلس قرب شباك الصالة وأتابع حركة المارة لأغزل الحكايات عنهم، فيما يمرق من حين لآخر سنجاب، يجري قفزاً ويتسلق جذع شجرة.
المارة الذين لا يربطني بهم أي حلم لا يدركون أن امرأة تجلس في صالة إحدى الشقق تراقب خطواتهم وتبتكر لكل واحد منهم حكاية قد لا تتطابق مع حكاياتهم، وجوه تمضي ولا يتسنى لي رؤيتها فيما بعد، وأخرى تتكرر.. وفي صباح كل يوم يخرج رجل عجوز صحبة كلبه الأبيض المبقع بدوائر بنية، تماماً عند الثامنة أو بعدها بدقائق، يخرج من بيت صغير محفوف بأشجار الكستناء، يقود سلسلة الكلب ويمضي باتجاه البحيرة، ويعود بعد ما يقارب الساعتين.
ذات صباح افتقدت الرجل العجوز وكلبه، كنت قد رأيته عند خروجه، ولم ألحظ عودته فرحت أبتكر له حكاية.. زلّت قدمه وسقط في البحيرة، كلبه عجز عن إنقاذه وحينما غطس الى الأعماق ولم تعد يده قادرة على التلويح لطلب المساعدة انتظر الكلب بضع دقائق وغطس هو الآخر.. الكلب لا يعي أنه سيغرق، كان يظن أنه سيمضي مع صاحبه الى مدن مسحورة.. وربما حدث العكس، الكلب هو الذي سقط في ماء البحيرة وحاول العجوز إنقاذه فسحب السلسلة لكنه أفلتها عندما هاجمته موجة صاخبة وأخذته هو الآخر الى الأعماق، وفي الحالتين كنت أراهما وهما يصارعان الموت الذي غلبهما في نهاية الأمر.
شعرت بوخزة ألم في صدري، لا أدري إن كانت بفعل ما آلت إليه هذه الحكاية، أم بفعل ألم حقيقي تسرب إليّ على نحو مفاجىء.. نهضت وأعددت مغلي الينسون، وأنا أتذكر كلما أعددته عبارة صديقتي نادية التي انقطعت اخبارها عني :
– تريدين ينسون لو يتذكّرون؟
فأقول لها كالعادة :
– النسيان أفضل.
وها هو النسيان يلفني.. أنا منسية بالنسبة لمن تبقى من أصحابي، وهم منسيون بفعل اضطراري الى حذفهم من ذاكرتي، وإذا ما حضر أحدهم عنوة وفرض ظلال ذكرياته عليّ جعلته لا يطيل المكوث بتجاهلي له.
النسيان وصفة ناجعة لامرأة مثلي تأبى أن تسرد حكايتها لأحد، حيث لا أحد هنا غير الغرباء الذين يمرون مسرعين، بمعاطفهم الثقيلة وقبعاتهم الغريبة وكلابهم المدللة، وهم أصلاً لا يكترثون بي ولا يهمهم أمري، بل يعنيني أن أبتكر عنهم الحكايات وأتسلى بها لأقطع هذا الوقت الثقيل الذي يتمطى من حولي..لكنني لم أتسلّ أبداً بقصة غياب الرجل العجوز وكلبه الأبيض المبقع.. شغلني الأمر كثيراًحتى أنني فكرت أن أمضي الى البحيرة لعلّي أراه جالساً على مصطبة وتحت قدميه يجثو كلبه، والاثنان يراقبان زوارق الصيد أو نزق الأطفال، الا أنني، في اللحظة التي قررت فيها المضي الى هناك، لمحته عن بعد، بذات الخطوات الوئيدة، ممسكاً بالسلسلة فيما الكلب يتشمم الأعشاب.. شعرت بالراحة وتبدد القلق الذي احتواني منذ ساعات، ورحت أتسائل: لماذا ينتابني القلق على رجل عجوز لا أعرفه؟ وأية علاقة ربطت بيني وبينه دون أن يعرف بها أو أفهمها؟ ولماذا كلما تأخر في الخروج أو في العودة جمحت مخيلتي وابتكرت له حكاية؟ وما هي حكايتي بالضبط؟ ستتساءلون أيها السادة أو يراودكم الفضول لمعرفة هذه الحكّاءة التي تتجاهل أمر حكايتها، ولعل ما أقوله سيريحكم حين تعرفون أنني طمرت حكايتي في بئر عميقة، حتى أنني إنْ راودتني الرغبة ووقفت يوماً على ضفاف تلك البئر وأخرجت فصول حكايتي، سيراودني الشك فيما لو كانت قد حدثت فعلاً أو أن جموح مخيلتي قد خلط الوهم بالحقيقة فضاعت خيوط الحكاية، تماماً مثل ما فعلت بقصص الأصدقاء الذين تفرقوا وما عاد أمرهم يهمني.. لا أدري بالضبط كيف حدث الأمر ولا يهمني أن أعرف.. يكفي أن أعيش كل يوم خارج منطقة الصفر، في شقة صغيرة أسمع فيها صدى خطوات غريبة لا ادري من أين تأتي، ولست معنية بتلك المرأة اللعوب التي يسمونها السعادة..حسبي أن ألاحق السناجب التي تمرق مسرعة، وأمشي في الطرق الغريبة التي لا تعرفني، وأبتكر الحكايات، وأنشغل لأمر الرجل العجوز وكلبه الأبيض.