كاتب وناقد عراقي يقيم في المغرب
تنهل رواية «ذهب مع النفط» للروائي البحريني عبداللـه خليفة، من واقعنا العربي، في الخمسينات والستينات، وما أفرزته الثروة النفطية في دول الخليج العربي من تشكيل لأشكال الحياة، وما فرضته من تعامل وعلاقات بين الناس في هذه البلدان، كعلاقتهم بالفكر السياسي، وكذلك فهمهم المزدوج لهذا الفكر، والتباس الكثير من العلاقات بين السلطة السياسية والفرد، طوال تلك العقود من القرن الماضي بسبب، الحرب الباردة، السابقة بين القطبين العالميين، القطب الاشتراكي والرأسمالي، وانعكاس ذلك الصراع على منطقة الخليج العربي، باعتبارها مركز الصراع العالمي على الثروة النفطية، وخضوع المعسكرين للمفهوم الاقتصادي- السياسي الكلاسيكي المتعارف عليه: من يضع اليد على منطقة الخليج من المعسكرين، سيضع خصمه تحت رحمته ان شاء خنق اقتصاده، وإن شاء أطلق له آفاق التطور والحياة والرفاه الاقتصادي.
بدأ الروائي في عمله الجديد، وكأنه بوضع مشابه لأزمة بطله «سلمان أحمد سلمان»، فهو يعيش هذه الشخصية، بكل تعقيداتها النفسية، وظروفها السياسية والاجتماعية، ويتعاطف معها إلى درجة التماهي، يقول آ.أ.ريتشاردز عن ابتكار المتشابهات في الأدب: «أن القدرة على رؤية المتشابهات موهبة يمتلكها بعض الناس دون البعض»(1) والغوص في أعمق ما في أزمة البطل من تناقض، واختلاف، ويصل في فصول من الرواية إلى درجة الرفض، فسلمان يرفض سلمان، حد الإفناء، فهو شخصية فريدة في الأدب العربي، وفي أدب عبـداللـه خليفة ذاته، ولم اقرأ لهذا الكاتب مثيلا لهذه الشخصية على كثرة ما قرأت له من روايات وقصص، وأعتبر نفسي من المتابعين لأدب هذا الكاتب(2) فشخصية سلمان في الرواية غير منتمية لواقعها أولا، وغير منتمية لذاتها ثانيا، وقد فاقت (اللامنتمي) في مفهوم الكاتب الإنجليزي كولن ولسون – لوصف الانقطاع الاجتماعي في المجتمعات الغربية- بأنها غير منتمية لنفسها أيضا، بل هي تنفي ذاتها، وترفضها، وتشعر بالعار من كل ما تقوم به من أفعال، ولا تستطيع أن تحدد ماذا تريد من واقعها أو ما هو حلمها؟! الذي من أجله لا تزال تعيش وتأمل بتحقيق وجودها من خلاله.
تقنيات الرواية
تنتمي تقنيات الراوية، إلى ما تعارف عليه النقاد برواية السيرة، الذاتية، فالروائي مع بطله الرئيسي، في رحلة كشف، مستمرة من خلال فصول قصيرة، تستخدم فيها كل وسائل الروي، الدايلوج والمنللوج، الذي يستخدمه بطريقة مؤثرة في العمل حيث يكون» للمونولوجات الذاتية- والنقل المباشر، ويكون تأثيرها القوي عندما تستخدم طرائق البوح الشخصي لصالح رسم منسجم ومتناغم للشخصية بين صوت السارد، وصوت أناه في الماضي، وبصيغ تمهيدية تنزاح عن الصيغ المألوفة، ويتراكب منظوراهما لما هو قادم من العالم الخارجي وبصيغ تركيبية غامضة أو غير مكتملة والعالم الداخلي للشخصية»(3) وكذلك الوصف الصوري السينمائي(4) والسرد Narration الذي ينتمي في بعض فصول الرواية المؤثرة، إلى الرواية الفرنسية الجديدة، التي بدأها الآن روب غرييه، والروائية فرانسوز ساغان، وغيرهما، حيث الوصف الشيئي، لما يحيط بالبطل من أشياء، لرسم الأجواء النفسية، وتحولات الواقع حول الأبطال، ورصد تلك التحولات من خلال سيرة الشخصيات المحيطة بالشخصية الرئيسية المحبطة بصنيعها في هذا العالم، حيث يتحول السارد، من خلال الحوار مع الذات إلى واصف أيضا لباقي الشخصيات، ومتحدثا باسمهم، وبالرغم من استخدام الكاتب الوصف الواقعي والشخصيات والأحداث الواقعية، لكنه يصل في نهاية الراوية إلى ما نسميه بالكذب الروائي Fiction Novelist ومتاهات الرواية اللاواعية، خصوصا في وصفه لكارثة لم تحصل في الواقع، ولم تسجل من قبل كحدث تأريخي في منطقتنا العربية، من خلال، الغرق الكلي لدولة عربية بكامل شعبها في البحر، والتي يتحدث عنها الكاتب في روايته، وأن الانتقال من واقعية نقدية، إلى الرواية الفنتازية، ورواية الواقعية السحرية، التي اشتهر بها كتاب أمريكا الجنوبية كأمثال أستورياس، وبورخس، وماركيز، وغيرهم، هي محاولة من الكاتب لتعميم النموذج الذي طرحه في روايته، وجعله شموليا لا ملامح وطن خاص له، أو لما حدث على أرضه من أحداث واقعية في متنه الروائي.
عصــر النفط
يضعنا اسم الرواية في تماس مباشر مع الحدث الرئيسي للرواية، بل ان اسم الرواية، هو العتبة الحقيقية، للمتن الروائي، حيث تضعنا هذه العتبة أمام أسئلة عديدة منها، من هذا الذي ذهب مع النفط؟! هل هو الوطن الذي غرق تحت البحر؟! أم شاهين وهيمنته، السلطوية، الذي يوجه رسالة صوتية في نهاية الرواية من منفى أوروبي بعيد؟! أم ذهاب ذكورة سلمان أثناء التعذيب، خلال فترة اكتشاف النفط، وذهاب هذه الذكورة يعني بمفهومنا الشرقي للذكورة، ذهابا بيولوجيا للشخص المعني في العمل الروائي؟! تبدو صفحات الرواية الأولى من «ذهب مع النفط» توطئة لعمل روائي طويل، يحكي عن فترة الخمسينات والستينات، من القرن الماضي ليحكي لنا عن علاقة المواطن العربي، الأكثر وعيا، بحكومته المحافظة في ظل، صراع دولي مصيري، بين دول الشرق والغرب، حول(النفط) الثروة الاستراتييجة، التي اعتبرت السبب الأول في عدم استطاعة الألمان، ودول المحور الفوز في الحرب العالمية الثانية(1939-1945)، لافتقارهم لهذا المنتج الاستراتيجي بكميات كافية، والتي حبا الله بها وطننا العربي بوفرة، حيث بدأت أولى حقوله الأكثر غزارة في العالم في منطقة الخليج العربي تكتشف في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، ليكتشف بعد ذلك بعقدين في مناطق أخرى من الوطن العربي.
«ذهب مع النفط» ورواية التماثيل
لخليفة التماثل والاختلاف:
في صفحات (التوطئة) من الرواية، نجد سلمان أحمد سلمان الضحية السياسة، والمعتقل السابق، والذي أغدق عليه الوضع الاقتصادي النفطي الجديد، مميزات الرفاه المعيشي، لا يزال غير سعيد بل ومهددا وجوده بسبب تطرف ابنه الديني، والرواية تبدأ بـمغزى هذا الابن، وضياع الأب في أحزانه وإدمان الشراب ومفردات الرفاه الجديد، الذي يحتقره سلمان في دخيلته أشد الاحتقار، لكنه يعيشه بكل تفاصيله اليومية: «تشنج. التلفزيون أخرس. الخدم يمشون على رؤوس أصابعهم. الفضاء أسود. الريف المليء بالفلل والقصور والحدائق، ذي الأنوار الساطعة، لا يراه.»(5) ويقول معبرا عن ذلك الرفاه الموجع للرأس: « ويحاول أن ينهض لكنه لا يستطيع، ويتذكر حشد الخادمات اللواتي كن فئات متعددة بعضها يطبخ وبعضها يغسل وبعضها يتلوى على السرير. الآن عليه أن يدفع فواتيرهن المتأخرة وتكاليف إجازاتهن»(6) ويصف منصور صديق سلمان: «الأستاذ الكبير سلمان احمد سلمان الذي كتب المقالات والأبحاث عن الفقه والعقل وأصول المحاكمات والقانون الدولي ينهار، ويترك العزاء ويشرب ويشرب بدون خروج؟» وبالرغم من كل هذا الوصف إلا أن سلمان لا يشعر بالأمان الاقتصادي «فالمبدع أو المفكر الذي يعيش في مجتمع وأسرة ويطلب منه أن يقدم العون والرعاية الصحية والمادية لنفسه وأسرته أو لمن يعول، ولكننا لا نجد على مر التاريخ البشري والعربي خاصة إلا حفنة معدودة من المفكرين والمبدعين استطاعت أن تستمد من هذه المهنة كفايتها المادية»(7) ويقول عنه سلمان للتعريف بصديقه: «هذا منصور يعرفه ولا يعرفه، استحما في بركة السجن واصطادا السرطانات للعشاء المحاصر وراء الأسلاك وحين خرجا ظل منصور يعلك الجمل نفسها، ويدخن الشيشة كل يوم».(8)
ومن بداية متن الرواية وحتى نهايتها، يشعر القارئ بالضياع مع سلمان، إذ يضع الكاتب بين أيدينا شريحة اجتماعية متكاملة من الطبقة الوسطى، التي عانت شظف العيش قبل اكتشاف النفط، ثم تغيرت حياتها بعد اكتشافه، ليصير العمل السياسي هدفها، وهي تبحث عن أجوبة لمعنى أن تحيا، وهي في تصادم مباشر ومستمر مع من يمثل رجل السلطة، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، الذي يمثله المسؤول الحكومي شاهين، السياسي الذي لديه نفوذه السلطوي، وتجارته، ووضعه المميز في المجتمع، وقتذاك، وشخصيات أخرى مركزية في الرواية كفريدة زوجة سلمان، وابنه أحمد، وأبو سلمان عامل الصباغة، الذي يموت وهو بكامل صحته بسبب سوسة نخرت خشب السلم الذي يعمل عليه، فسقط وهو يتسلق درجاته من شاهق في أحد الأيام، فاقدا حياته، وأم سلمان التي يقعدها مرض السكر، ويجعلها شبحا ثقيلا، وهي تدور على كرسيها في أنحاء البيت، راوية بوجودها السينوغرافي في الرواية عصر ما قبل النفط وأخلاقه وأساليب تفكيره.
* روايات وقصص لعبدالله خليفة
من شخصيات الروايات السابقة للكاتب عبد الله خليفة، التي تتشابه من بعض الجوانب، مع الشخصية الرئيسية «سلمان أحمد سلمان» في رواية «ذهب مع النفط» شخصية «حسان يوسف» في رواية التماثيل،(9) بينما تقترب شخصية «شاهين» في ذهب مع النفط من شخصية «ياسين كافود» فكلاهما شخصيتان تستغلان ظروف التحولات بعد اكتشاف النفط في دول الخليج، وتستخدمان كل الوسائل الأخلاقية وغير الأخلاقية للاغتناء، وتأكيد وجودهما من خلال ظلم المحيطين بهما، ففي رواية «التماثيل» كما في رواية «الأقلف» للكاتب وقصص كثيرة من مجموعته «دهشة الساحر» حملها متن المجموعة التي صدرت عام 1997 وقصة(نجمة الصباح) وهي أقرب القصص لما نرمي إليه في دراستنا، ونجمة الصباح، في القصة، هو اسم الجريدة التي يعمل فيها بطل القصة الذي يجرده الكاتب حتى من اسمه، كإشارة ذكية على الانسحاق التام لمهنة الصحافة التي كانت في بدايتها في سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي في دولنا العربية: (اثنتان وثلاثون سنة وأنا أعمل في جريدة نجمة الصباح. كان مكانها في البدء شقة صغيرة وسط السوق. كانت نوافذ الغرف القليلة الضيقة، التي نعمل فيها، تسرب ضجة المارة والباعة، فترتجف صيحات المشترين وأبواق الدراجات والسيارات على أوراقنا، يمتلئ المكان بدخان السجائر والعربات وروائح المأكولات الشعبية الساخنة، ويندفع إلينا الصغار لحمل الأعداد، والقراء يفيضون من ينابيع كلامهم).(10) وهنا يخدع الكاتب بمكر عجيب، قراءه بهذه البداية الضاجة بالحياة ومفردات الكفاح اليومي الجاد، لصحفي يعمل في جريدة يومية، ولكنها ليست إلا بداية لجذب انتباه القارئ والإمساك به، خصوصا وان الكاتب ينوي أن يفضح حياة كاملة لرئيس تحرير جريدته، الذي بدأ مناضلا يدافع عن حقوق الناس، ويعيش حياة حميمية مع صحفيي جريدته، ويشاركهم حياتهم البسيطة المتعففة ثم تتغير حياته بتغيير مقر الجريدة من شقة صغيرة وسط السوق، الى بناية جديدة كبيرة فيها السكرتيرات، ووسائل الراحة، وو.. ويتحول إلى رجل سمين بالكاد يستطيع المشي على رجليه، فيعزل طريقه إلى غرفته عن طريق مصعد خاص، وهي إشارة ذكية أخرى للتحول، الفكري والحياتي عن الناس وهمومهم، والاكتفاء بحاجات الذات وحدها، ولم يره أحد بعد ذلك إلا فيما ندر، ولا يسمع إلا من خلال أسلاك الهاتف والأوراق، وتحولت كلماته الهادرة فيما سلف إلى كلمات هادئة، ناعمة وأيضا إلى جمل مبتورة! وعن ماضي رئيس التحرير حين كان ملتحما بقضايا الناس، عندما كان مقر جريدته وسط السوق، يحدثنا الراوي: «كانت الأحذية تدوس فوق الأوراق والبقايا.تحدق في وجوهنا باحثة عن مسامير مضيئة، أو وشم سحري، تقلقل الطاولات التي تئن بضراوة. وتكاد الأحذية أن تدوس أقدامنا، لكنها تتكاثف وتنهمر فوق باب راشد العلي. نراه مخفورا بوجوه صلدة، ومسدسات لامعة، يبتسم إلينا ويسخر «ذاهب إلى وجبة خفيفة فهل يريد أحد شيئا؟» ويعود بعد ساعات أو أسابيع، منتفخ الوجه، كدماته الواضحة لها إضاءات زرقاء، وخطوط خده كالكثبان محملة بآثار الجنازير الحديدية، والقبل الضارية على حد تعبيره».(11) ان السمات العامة لرئيس التحرير هي ذاتها من جوانب كثيرة، السمات الشخصية لياسين كافود في التماثيل وشخصية شاهين في ذهب مع النفط، والكاتب في كل مرة ينظر لموضوع الظلم الاجتماعي وتوزيع الثروة وقراءة المستقبل في بلداننا العربية من خلال، ما تنتجه مجتمعاتنا من ظواهر وملابسات، ويؤشر عبر تلك الشخصيات المحورية في مجتمعاتنا مناطق الخلل.
* رواية «ذهب مع النفط» والتصالح مع الماضي:
لم تبق شخصية سجين «شرق المتوسط» رواية عبد الرحمن منيف وحدها تمثل بشاعة حياة السجين السياسي العربي، في المعتقل، بل جاءت هذه الرواية لتضيف نموذجا آخر أكثر تأليما للوجدان، والضمير الإنساني، فقد أضر التعذيب والمعاملة القاسية في السجن بطل رواية «ذهب مع النفط» كثيرا حتى أنه خسر رجولته، ولم تفد بعد ذلك كل ما حاوله البطل لاستعادة هذه الرجولة من زيارات مكوكية للأطباء، ووصفات الدواء المختلفة: «الآلام مضنية والأسئلة والدهشة اكبر منها، لأن ما فعله لا يستحق كل هذا العنف. بضعة اجتماعات وبيانات في اتحاد الطلبة في الخارج. لكن الرجلين كانا مستميتين في تمزيقه، الضربات على الخصيتين كانت مروعة، سقط بعدها وخيط طويل من الدم كان ينهمر من قضيبه»(12) وينقل لنا الروائي الصورة، الكالحة، التي بناها المعتقل السابق عن عدوه شاهين، في أيام عذابه السابقة: «ليس ثمة وجه يراه سوى شاهين، كل يوم يغرز فيه نصاله، ويتصور نفسه ذاهبا إليه مخفيا خنجرا في ثيابه..»(13) إلا أن تلك الصورة العدائية تتغير إلى نقيضها، حالما يطلق سراحه فيصير مستشارا قانونيا لشاهين، وكاتبا ليومياته في تصالح أليم مع الماضي، لا يخلو من حقد متأصل إلى درجة الشيزوفرونيا المرضية، والماسوشية التي يحرص المريض بها على تأليم الذات، واهانتها، أقصى درجات الاهانة للحصول على الراحة المؤقتة والتصالح المرضي مع النفس، والمحيط من حوله مبررا ذلك بالحصول على منافع مالية، واعتبارية من علاقته بمن تسبب في آلامه السابقة.
تقول فريدة معاتبة زوجها سلمان، الذي لم يعد كما كان قبل الاعتقال: «كل مرة تقول ذلك، وتدفعني إلى السرير وتتعرى وتكتسحني بالقبل ولا شيء يحدث…»(14) لتجعلنا في قلب الأزمة الروحية للأسرة التي تزعزعت بهذا التغيير البيولوجي للزوج، الذي يعقبه تغير مواز في علاقة سلمان بشاهين فيقول واصفا جلاده، على أمل التصالح مع الماضي، لتغيير الحاضر، والحصول على نوع من التعايش في ظل المصالحة بين النقائض التي تبدو مستحيلة: « ليس ثمة كرم من أي نوع يا سلمان، سوى عمله الخاص، وحتى السيارة اشتراها من هذا العمل المتدفق عليه بالمال، لكن أن يسلمه شيئا أو يفتح له كنزا فهذا أشبه بحلم، وعليه أن يعاود الركض في قاعات المحاكم وصالات الرقص والشرب يقتنص المتخلفين عن الدفع» (15)
* الأقنعة في الرواية
يستخدم الروائي عددا من الأقنعة في روايته، وذلك ليضعنا أمام مستويات مختلفة للحدث الرئيسي، فالابن أحمد هو صورة من الأب سلمان، وفريدة هي صورة أنثوية أخرى لزوجها سلمان في بحثها عن الحياة السوية، والتي ليس في داخلها ما ينبئ على روح التضحية الحقيقية بل هي حالما تكتشف عجز زوجها الجنسي بعد مغادرته السجن، وبعد فترة قصيرة من ذلك الاكتشاف، تقرر الطلاق منه والاقتران بآخر، وقد اعتقلت هي أيضا فيما بعد بسبب عثور الشرطة على أسلحة وأعتدة تعود لابنها المتطرف، في بيتها، الذي تعيش فيه مع زوجها الجديد، فهي صورة أنثوية للزوج السابق سلمان، الذي يعتقد أيضا في قرارة نفسه أنه لم يفعل شيئا خطيرا ليعتقل، أما الابن الذي لا يجده القارئ إلا من خلال والده وما ينقله عنه من أفكار وصور وأخبار، نجده صورة مجسمة لشباب الأب، ماعدا النزعة الدينية، فلدى الأب نزعة باخوسية مهيمنة، ومحبة شديدة لمتع الحياة، وفهم واقعي لمجرى الأحداث من حوله، ونجد ذلك مقلوبا في القناع المستخدم كابن في العمل الروائي: «سمع سلمان أصوات حياة في البيت. منذ مدة طويلة لم يكن هناك سوى أنين الحجر. ولغو الحياة يصدر من حجرة الابن. على العتبة حشد من النعال والأحذية المتهرئة. هذه بشارة الجنون»(16) القناع الآخر المستخدم في الرواية قناع شاهين، فهو الوجه الآخر لرغبات سلمان المدفونة في صميم وجدانه، ولكي يستطيع الأخبار عن أدق أسراره، التي يعرفها سلمان، فقد ابتكر في الرواية تسجيل سيرة لحياة شاهين، يحكي فيها كل ما عاشه شاهين أثناء مراحل حياته المختلفة، ويتساءل شاهين وهو متوتر الأعصاب في أحد فصول الرواية: « ماذا فعلت بكتاب حياتي؟
لم أنجزه. كتبت بعض الفصول الأولى.
هل القصاصات القليلة التي قدمتها تسميها فصولا ؟!
هي بداية مشروع كبير».(17)
* الموجة الجديدة
تتميز رواية «ذهب مع النفط» بتعدد أقنعة السارد، وتنوع الرؤى المطروحة في المتن الروائي، إلى درجة التصادم، وكذلك تنوع التقنيات المستخدمة فمن السيرة/ لا سيرة، إلى الرواية /لا رواية، حيث يتداخل السرد باليوميات، والتاريخي بالمعاش، والأسطوري بالواقعي السحري، وهي تقع ضمن رواية الموجة الجديدة في الأدب العربي(18) حيث لا نجد بينها وبين الأجناس الأدبية المستعملة، فاصلا فهي أيضا متواليات قصصية، وتجد فيها كل شروط القصص المستقلة، لكل فصل من فصولها أو لكل عدد من فصولها، ويربط بين فصولها شخوص يعيدون حكاية ما عاشوه في كل مرة بشكل مختلف، ويمكن اعتبار هذه الرواية من الروايات القليلة التي كتبها الروائي عبدالله خليفة، وهو يضع في اهتمامه أن يكتب نصا روائيا متميزا، ينهل من التاريخ، من دون أن يلتزم بأحداثه، ومن السياسة من دون أن يلتزم بمحدداتها المعروفة، وقد وضع نصب عينيه أن يجعل مداد قلمه، يكتب عن أزمة الإنسان في معايشته، لمتغيرات الواقع السريعة في بلداننا، وكفاحه الدائم للتأقلم مع الواقع، من اجل أن تستمر الحياة، والرواية بالرغم من دراماتيكية أحداثها فهي دعوة للحياة والتصالح مع الذات لصنع المستقبل القادم، وأيضا هي إدانة له باستقراء روائي تنبؤي لما سيحصل في العقود القادمة!
هوامش وإحالات
(1) ص91 فلسفة البلاغة/ أيفور أرمسترونغ ريتشاردز/ ترجمة: سعيد الغانمي-د.ناصر حلاوي/أفريقيا الشرق2002 الدار البيضاء-المغرب.
(2) يمكن مراجعة ما نشره كاتب المقال عن أعمال الروائي عبد الله خليفة السابقة: رواية الأقلف لعبدالله خليفة حاضر وماضي الكبت الجنسي والتطرف الديني في دول الخليج -القدس العربي العدد 5518 في 27 شباط (فبراير) 2007 – رواية رأس الحسين…رواية إحداثية لعبد الله خليفة عن مأساة كربلاء/ أخبار الخليج/البحرين/ العدد 11271 في 31 يناير 2009 – قراءة في أعمال الكاتب البحريني عبدالله خليفة عن الكاميرا والفلاش باك والحوار بين الذات والأخر -القدس العربي العدد 6238 في 25 حزيران(يونيو) 2009
(3) ص157 لا وعي النص–حسن المودن/دراسة نقدية/المطبعة والوراقة الوطنية-مراكش-المغرب2002.
(4) « لفهم العلاقة بين الصورة السينمائية واستخدامها كتقنية في العمل الروائي راجع ص103 تحت عنوان نسق السرد والنوع الفيلمي من كتاب الخطاب السينمائي من الكلمة إلى الصورة/ طاهر عبد مسلم/ دار الشؤون الثقافية العامة/2005 بغداد- العراق»
(5) ص5… رواية «ذهب مع النفط»/ عبدالله خليفة /الانتشار العربي/ بيروت – لبنان ط1 2010
(6) رواية ذهب مع النفط ص7.
(7) ص116/ الحكمة الضائعة / الإبداع والاضطراب النفسي والمجتمع/ تاليف د. عبد الستار ابراهيم/عالم المعرفة 280/الكويت2002.
(8) رواية ذهب مع النفط ص 8.
(9) يمكن مراجعة مقالي عن رواية عبدالله خليفة التماثيل بعنوان: تماثيل عبدالله خليفة وفضيلة أن تقول لا في بعض الأحيان.. رواية لا تنهج المناهج الروائية المعروفة- القدس العربي العدد 6430 في 10 شباط (فبراير) 2010.
(10) ص83 من مجموعة «دهشة الساحر» عبدالله خليفة /دار الحوار للنشر والتوزيع /سوريا /اللاذقية/ 1997
(11) ص84 المصدر السابق. وأنظر مقالي حول هذه القصة وغيرها من قصص المجموعة للكاتب عبدالله خليفة في المقال المنشور – قصتان مؤسستان للقصة البحرينية الحديثة/ أخبار الخليج العدد 11383 في 23 مايو 2009-
(12) رواية ذهب مع النفط ص16.
(13) رواية ذهب مع النفط ص20.
(14) رواية ذهب مع النفط ص 30.
(15) رواية ذهب مع النفط ص 71.
(16) رواية ذهب مع النفط ص98.
(17) رواية ذهب مع النفط ص107.
(18) ويمكن قراءة المزيد عن هذه الموجة في البحث المنشور حول روايات الحساسية الجديدة، في مقال للدكتور عبدالمالك أشهبون بعنوان «إدوار خراط وقضايا تجنيس النصوص السردية» مجلة العلوم الإنسانية العدد 16/17 سنة 2009 / الصادرة عن كلية الآداب جامعة البحرين ص40.