الغضب أن تعلكَ صخرةً
قُدت من جبل شمس
أن تعلك خطْباً
أن تبيد جيشاً مدججاً
في صحراء محتشدة بالأشباح والصخور
***
ذكرياتٌ مضغوطة في عُلب
ديناميت
تحلّق فوق الأشجار
على شكل طيور مهاجرة
وأحياناً
تحملها الشاحناتِ الموحشة
إلى جبهة الحرب
***
الرعاةُ انطلقوا
مع قطعانهم المضاءةِ
بالشُهب والنجوم
قطعوا مسافات باهظة
ربما تشبه تلك التي قطعها
السندبادُ أو عوليس
أشرفوا على تلال البلدةِ
التي وُلدوا فيها
تجولوا بعيونهم الدامعة
في الأفق
والسياج
ظلوا هكذا
من غير أن تكتمل الحكاية.
***
غابة حيوانات
تتراكض حرّة في خيال الطفل
كما كانت في سهوب أفريقيا
قبل هجوم القَتلة
وسماسرة القارّات.
***
ها هو الفجرُ
يبدأ في الانتشار
وهو بالطبع
لا يحمل نثار الطَلع
ولا رائحة الياسمين
يحمل أرقَ الرجل
أرق المرأة
الذي بدأت سحائبُه
تغمر المكان
***
الرجل الذي عادةً
ما يحمل طفلاً
ويتجه نحو الشرفة
أو أمام الباب
يشير بأصبعه الغضَّة من غير كلام
نحو أسراب الطائرات والطيور
متبوعة
بنظرات الدهشة الممطرة
في صحو سماءٍ مملوءة بالرحمة
والأموات.
***
«وُلدتَ حرَّا
أيها الطفل
وسترسف في القيود
أنى ذهبت»
وهذا، ما تشي به النظراتُ الطفلة
حين يذهب الرجل
إلى فتح الباب
نحو البهو والفراغ
يتبعه باب آخر
والسور
يتوالد إلى أسوار
هكذا…
«لصحراء العالم
أبوابها الموصدة»
***
يرفُّ الطائر الطنّان
على أهداب الشجرة السكرانةِ
في فضاء الربيع.
يرتدُّ إلى الخلف بحركة موسيقيّة
لا يعرفها غيره، يمتص الرحيقَ، تحدوه
غيمة من هديل اليمام الحالم في الظهيرة..
بلونك الفردوسيّ
تتغذى على الأزهار
كما تتغذى المرأة العاشقة
أو الصوفيُّ
على الحب
منحتك الآلهةُ قوة اللطافة
التي تتكسر أمامها
الضواري والنسور
إنك التجسيد الأسمى
أيها الطائرة الصغير، أيها الطفل
لنظرة (الطاو)
إلى الأشياء والكائنات
***
متسلقو الافيرست
والقمم العالية
تحيط بهم أحزمةُ الجوارح
والانهيارات
نحو الأعالي
لا يرون شيئا في طريقهم أو علامة
عدا ظلَّ طائر
يجتاز المفازةَ
نحو الضفاف المزهرة
***
يعود الطائر الطنّان
إلى غدران الشجرة
وكأنما إلى مجرّةٍ من الحنان
يعود الطفل
إلى حضن أمه
ملتهماً حليبَ الأعماق.
***
ينام الطفلُ
بين ألوانه القزحيّة
والأنهار
حتى في احتدام قيظ الصحراء
والليل
يحلم بملائكة خضْر
وأيام ستكون أكثر امتلاءً
بالزهور والحيوانات.
***
يحدّق الطفل
في النافورة المزدانة
بالمياه والأضواء
تنطفئ، تنبلج
على ضفاف البحيرات الشاسعة
في الخيال
على الحواف
تحلّق فراشات زرقاء
وعصافير تتجمّع من كافة
الجهات.
***
هذه الموسيقى القادمة
من بلاد النهرين
تجرني إلى شباك غيمها الجريح
باللحظة الحميمة
في الأيام الخوالي
والأطفال
الذين قضوا في الكوارث والحروب.
***
بماذا أكْسر
حِدّة هذا الصباح
لغربان نافقة
تحلّق على شكل عصائبَ
تنقض على فريسة وهميّةٍ
في الخواء؟
بماذا أكسر
استغاثة الحشود
المتدفّقة
من جهات لا مرئيّة
تطالب بالعدالة والانتقام؟
عقبان الربع الخالي
وقد أحكمت قبضتها
على الذاكرة والمكان.
***
يعتقد (الطاويون)
أن الخواء هو المطلق
وكذلك الفراغ
لكن الجثَّة
التي ما فتئت تتدحرج
منذ ملايين السنين في دهاليز
هذا الفراغ
أربكت أنهار الفضاء الغزيرة
أربكت منابع الخلْق
حين هربَ ثور الحكاية
إلى شِعاب جبالٍ مجهولة.
***
مضى الطفل في حال سبيله
تاركاً أثره على الرمل
في ذاكرة سُحب تعبر
بحر عُمان
وفي قلب الزهور المتفتحة
كل صباح.
***
يتدفّق النبعُ
من ذرى الأشجار
ليستقر في مخيّلة أيلٍ
نَطحتْه العاصفة.
***
سلام عليك
يا نبع الأزل
يا طفولة الشجر والنجوم
أفراخ الصقور التي تحاول
الطيرانَ نحو الأعالي
طفولة الظبي المذعور
في الفلاة
والسمك السابح
تحت أضوية القمر الموشك
على الغياب.
***
يحاول أن يجمع أوصال قَصيدة في الحديقة
حديقة الألعاب والرموز.
كأن يأخذ الدبَّ القطبيَّ من مُنتَبذه
ويوقعه بين الكلاب النابحة والأفيال
التمساح بجوار النافذة
حيث يحلّق الحمام ويتماوج
العصفور الأزرق والسلحفاةُ
قبل أن تُبحر نحو البعيد
نقَّار الخشب بجوار الواويِّ
والكباش على مقربة من الذئب
تمثال بوذا الصغير الراكع من خشية
وبراءة..
نَظر الطفل إلى مخلوقاته الضاجّة
في الحديقة
لم يعْجبه الصنيعُ ولا الاتفاق
بعثر الجميع في ضربة واحدة
ومشى إلى الضفة الأخرى
من كونه الخصيب.
***
كان يتهادى في الأفق الأجرد
ذلك الطائر الوحيد تتبعه النظرةُ البكر
من منْعرَج هواء إلى آخر
حتى يتحدان في روح واحدةٍ
تسبح في موج الأحلام.
***
لم يستطع النوم
طوال ليالٍ موحشة وأيام
كان الأرق ربيب حياته
والظلام توأمه الحكيم
تقلّب بين مدُن مكتظة
بالأشباح والنياشين
لم يفتحْ نافذةً
لم ينظر إلى أفق
كان يصغي إلى زئير حيوانات
تتعارك في الرأس
حتى علا صوتُ الأذان
بالحنوِّ القادم من أغوار
قريته المضمحلّة
فنام على وداعة غائبة.
***
ليس الوداعُ
إلا مُختَصر التاريخ والأيام.
***
آفاق تترنّح تحت حوافر القصْف
جوامع تسقط
أبراج تبصقها الريح
والأنهار التي كانت تسقي
حضارات البشر، جفّت
كثعابين ميّتة
في خيال الطفلِ
الذي وُلد من صدمة الحرب.
***
في هذا المكان النائي
على ضفاف بحر العندمان
بأكواخه ونخيله المتمايل في الريح
يأتي الطائر كلَّ مساء
يجلس على نفس العمود الخشبي
يطلق صياحه الأقرب إلى نواح
المفطور بالغياب
ساعات تمتد إلى أحقاب
يجلس الطائر على عموده الخشبي
يأتي الليل وتتلاطم الظلمات
وهو على قمته
يرقب الفضاء ويطلق الصيحات
حتى ينفجر صوت صياح آخر
من ظلمة الحقول
يتبادلان النداء
يلمّان شملَ الليل المتصدّع
في صرخةٍ واحدةٍ
وحدة الليل والألم
وهذا الجناح الميممّ شطرَ الأبديّة.
***
مضى ذلك الزمان
الذي كان فيه الرجال
كان فيه النسوةُ
من الحضور الشفيف
(حضور الشجر المفعّم بحنان الملاك)
يرفعون اليتمَ
عن كاهل الغرباء
وعابري طريق الحياة السريع.
***
أولئك المشرّدون
يفترشون أرض السور المهدَّم
في البرك الآسنة
على مدار الأيام
هكذا
يشربون ويبصقون
محدّقين في الطحالب والطيور
وأفراس كثيرة تسبح
في وحل الهذيان
حتى تمتلئ البرك
بالليل والبصاق.
***
لستُ نادماً على شيء
إلا على كوني
ما زلت موجوداً
على هذه البسيطة
المتخَمة برفات الأسلاف.
***
أمنح طفلي
فرصة الحَيرة
في مرآى القطط والكلاب
وأمنح نفسي
فرصة احتساء كأس
في حانة الرأس المهشَّمة
على مدار الأقوام.
***
ما الذي ستسرده الريح
هذه الليلة
غير الحكاية المضجرة ذاتها
عن قوم عاشوا
ثم هلكوا
تاركين أثرهم
في المُدُن والكهوف
خالقوا أثر
ممحاتُه الريح
الريح مفخرة العبور والزوال.
***
امنحيني أيتها الريح
وقتاً كافياً
لأرتب أمتعتي القليلة
وأسرج رحْلي
مودعاً أصدقاء
غير موجودين
وعائلة غربان هرِمة
أطعمها الخبز
من كفي كل صباح.
***
مضى ذلك العُمْر
الذي كانت فيه الجوارحُ
تطير كسُحب جهْمة وضاحكة
تخضّب السماءَ
بالصياح والحنين
الجوارح التي تطعم أفراخها
في الذُرى
حيث الأعشاش مواكب باذخة
للطرائد والحبور.
***
أوشك الرُسلُ
على إنجاز المهمّة المقدّسة
بعد وصْل الليالي بنهاراتها
وقطْع القفار
لكن النجمة – الدليلَ
انطفأت قبل وصولهم
بقليل.
***
لا شيء يَلجم هذا السهلَ
عن الحلم
بعاشق يضاجع معشوقته
بشَبق الأزمنة الغابرة،
على بساطه المتموّج بالمطر والريح.
***
ما الذي تقوله المرأةُ
لصديقتها
في اللوحة المقابلة
ما الذي تقول النظرة الحائرةُ
في الممر المغلق
أو في زنزانة السجين؟
***
إلى: ل كافياني
تعشق الضحيّة جلاّدها
بعد طول عشرة ولقاح
كما تعشق الزهرةُ النضِرةُ
ضوءَ الفجر
ومدرارَ المطر.
***
الطيور في الحديقة تعوي
مقلّدة أصوات
ذئاب منقرضة
الكلاب في بغداد
تنتفض وتعوي
مقلدة
عاصفة الغارات
والقصف الحربي.
***
بنى الفراعنةُ الاهرامات
آية مجدٍ لا تغيب عنها شمسٌ
ولا ليل
لكنّ السيادةَ
كانت للفراغ
والخلود أيضاً.
***
العصافير العابرة المدُن والبيئات
العصافير الناعمة
انقضّت على الشجرة التي يسكنها النحلُ,
مملكةُ النحل المشعّة في الأعالي.
العصافير افترستها كطيور ضارية،
طيور (جبل الكور) الجاثمة
في مغيب المدُن والآفاق.
***
دموعك يا صغيري
تختزل دموعَ العالم
هذا الكيان النبيل
أخاف عليه أن ينكسرَ
كبلّور أو ضفة حالمةٍ
أمام غول الصواعق
لكني فكّرتُ:
أن الطفولة الجبليّة
لها صلابةُ المعدن الكريم
وحزن الضفاف.
***
دموعك
أمسحها بيدي المرتجفة
وأتمنى لو تحلّ روحُ المسيح
لحظةً عابرةً
كيْ أشفي الألم الذي يدفعك
إلى البكاء
وتعود إلى لهوك البريء
والبسمة الحانية
لكن المسيح يا صغيري، رحلَ
منذ زمن
والأرض هجرتها الآلهة
كما عبّر الأقدمون.
***
ها هي الحمّى اللعينة
تعود
وتتركني في قَعْرِ مظلم من الوحشة
وقلّة الحيلة
يدك الصغيرة ترتخي إلى جانبك
ورعشة تسري
في الجسد الصغير.
***
حينما تمرض الطفولة
يمرض الكون
ويفترسه السرطان:
هكذا أطلق طائر صرخته
وهو يعبر الأفق الأخرس
باتجاه المحيط.
***
يفتح الستارةَ
ينظر إلى الفجر الطافي
وقد ملأت أشلاؤه
الآفاق
يمعن النظرَ والتحديق
كي يعود إلى النوم
بذخيرة جيدة
من الأحلام.
***
غرباءُ
من قبلُ ومن بعدُ
وفي تلك المسافة
التي بدأتْ تتشكّل فيها الخليقةُ
على هيئة بشرٍ وطبقات
غرباءُ
عن أنفسهم وأطفالهم
يحدّقون في سُحبٍ عابرةٍ
ويقولون:
هؤلاء أمهاتنا.
ينظرون إلى الغبار
ويقولون:
ها هو الأب السيّدُ
الموئلُ والمصير..
أيها الأب المبارك
في كل الأزمنة والأقوام
ترفقْ بمخلوقاتك
متزاحمةً على بابك في الأعالي
ترفّق بها
وهي ترفس
بين المضيق والهاوية.
***
ساحبةً أيّامها
بين الجفون والأهداب
المرأةُ الجميلة
بماكياجها الخفيف
تحاول أن تمحو به الأثر والعلامة
ما ان ترفّ الأهدابُ
أو تبرق العيون
إلا وتنشر مروحةُ السنين
رذاذَها الجارح
في المرآة
أو في قلب العاشق
الذي كان يحمل ثقل الليالي
ساهراً
في ضوء أطيافها اللاهبة
***
يتناسلُ البشر على مرِّ الأزمان
مولّين الأدبار للموت المرتبِّص
على العَتبة.. مولود هنا، وميّت هناك.
أعراس هنا وحربُ إبادة هناك.
لا شيء يلجم كوكب الغريزة السيّار،
ولا عبره إلا الحياة
في وثبتها واندفاعها من الأسفل والأعلى،
حتى مُنْقلب الوادي السحيق
حيث تزهر الجماجم والرفات.
***
النسور تتوافد من كل فجِّ وصوب نحو الجثث
الملقاة على قارعة الخلاء، تتجمّع حول
مآدبها السمينة، من غير أن تنهشَ
أو تخلعِ كتفاً أو عيناً، إلا من باب
الدعابة والتسلية، نزهة مُتْرفين
في جنان النِعَم الوفيرة على الأرض
الضاجّة بالأوراد والصليل.
***
ينتظرون لحظة الفرج
كما تنتظر الخليقة
في البرزخ الفاصل
بين الجنّة والجحيم.
***
في ليل العالم
ليل المدُن والبحار
يصحو البشر والوعول
والأسماك، وقد تحجّرت
في أشداق الضواري الخرافيّة
وفي أعماق الظلام.
***
كان المشهد الفضائي المتدافع بالغيوم والضَباب فوق الجبال المطلة على المدينة..
(حيدرة- الجزائر) أو بلد يشبهه..
كنت في التاكسي الذي يسألني سائقه عن العنوان الذي أنا ذاهب إليه.. تلعثمت كأنما الحيرة تقود السيارة إلى اتجاه غير معلوم بقيت هكذا والسائق الذي بدتْ على صوته نبرة العصبيّة يحاول المساعدة والتوضيح في هذا الجو الذي أضحى مظلماً وغامضاً كمغارة من مغارات الجان.
فجأة ينبثق من فراغ المدينة ووحشتها صوت حميم أعرفه في السنين المنصرمة، يدلني على عنوان المنزل الذي سأعيش فيه.. كان خارج المدينة، منزل ريفي على نحو من تناسق روحي في عمارته وانسجام.. بحار الخضرة المحيطة تغطيه بكثافة ورقة نادرين..
تجولت في ردهاته حتى وصلت إلى الغرفة الواسعة التي من المفترض أن أمكث فيها..
وفي هذه الأثناء رأيت أشخاصاً قادمين من الماضي والحاضر، دخلت فور رؤيتهم في نقاش حول مشكلات المسافة والزمن وكيفيّة العلاج الذي يرتئيه كل واحد من هؤلاء الفانين، كي يمضي في عبوره بأقل الأكلاف فداحة وجراحاً..
كان الجو غائماً على نحو مرْعد وبخور سحرة نائمين في كهوفهم البعيدة يحتل النيام..
***
لا أدري أي مدينة، أي شارع وزقاق، لكن كما يتراءى للنائم وهو في غمرة المياه السديميّة للأحلام وهي تجري من جهات عديدة، كان المشهد يشبه ساحة (شمدين) في دمشق حيث ينحدر الشارع الذي كنا نسكنه نحو الغوطة الباسقة بالسحْر والحياة..
وغير بعيد من الساحة قبر الشيخ محيي الدين ابن عربي الذي أخاله مزعوجاً ومرهقا من أفواج السياح الذين يتوافدون لزيارة الضريح..
كنت أمضي في طريق لا يشبه ذلك الطريق المعهود الذي يؤدي إلى البيت.. فجأة سمعت صوتاً خلفي أخذت أتبينه بصعوبة كمن يفكّ شفرة معقدة، إذا به صوت إبراهيم فتحي يتحدث إلى شخص بجانبه لم أستطع معرفته في المناخ الراشح بالغموض والشتات.
مضيت في الطريق الذي لا أعرفه من غير أن أسأل إبراهيم عن سبب مجيئه من مصر إلى دمشق..
ونحن في خضمّ الطريق، أدخلت يدي في جيوبي لأتأكد من مفاتيح الشقة، لكن لم أجدها فاعتراني حزن شديد.. كنت أمشي وأنا أترنح كمن أصاب قلبَه سهم مسموم.
مضيت صوب العمارة الواقعة على المنحدر بين الساحة المليئة بالباصات والصخب والطريق المؤدي إلى الغوطة، فلم أجدها.
وجدت مباني لا صلة لها بتلك العمارة ولا بالحي الذي كنت أعرفه. تذكرت البقال (أبوهائل) ومطعم (أبوسمير) قلت أسألهما عن أحوال المكان لكن لا أثر لأحد..
كنت أترنح محاولا انتزاع السهم الذي أصاب قلبي حين سقطت في كابوس اليقظة الرهيب.
***
صوتك الجريح
أيتها اليمامة
يطل دائما مع الفجر
على هذه المسْبَعة البشرية
قادماً في رحلته الطويلة
من غَبَش الأصباح الأولى
حين كانت السعادة
تهم بالسُكنى على هذه الأرض.
***
نام الرجال عن أطفالهم
في عراء هذه المسْبَعة
فأنجزت خفافيشُ الليل
مهمَّتها بضراوة الضباع
***
يجدّف الطائر
في هواء النافذة
ليستقر في عشه المجاور
يجدّف الشاعر
في الفراغ المسفوح
كبحر ينتشر على صفحته
قراصنةٌ شرسون..
الطائر في عشّه ينام
الشاعر يتيه في فراغه المدلهم
محدقاً في غيمة تحملها الريح
أو نورسٍ
يبحر نحو الجزر المستحيلة
***
هناك ثلاث مجموعات، بإمكانها توليد الجمال الخالص الذي يتعيّن على الأدب مقاربته وتسجيله، هي على التوالي: الأطفال الصغار، النسوة الشابات، والرجال المحتضرون.
(كاوباتا)
***
«لا يقبض الموت نفساً من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود»
أي شرح معجب، أو تعليق مهما بلغ هجاء وقذاعة، ليس فقط لا يضيف شيئاً، وإنما سيكون إساءة أكيدة لبيت المتنبي..
***
أفكر ، أنْ ليس من العدالة في شيء، بل من الظلم المطلق أن يمرض الأطفال.. هذا الابتلاء والاختبار القاسي من صفات البالغين والكبار، ومن سماتهم..
الأطفال ، تلك الكائنات الأثيريّة التي تشبه الملائكة، أو الطيور التي تشفي النفسَ من أمراضها حسب الأمير (ميشكين) في رواية (الأبله) وتشبه الموسيقى في كمال مقاماتها ودموعها، مرضهم ينمّ عن انحراف عاتٍ في الطبيعة، أعتى من انحرافات كثيرة تحفل بها حقول الخلق والحياة منذ دبيبها الأول على هذه الأرض..
ما الذي يفعله رجل وحيد أو امرأة وحيدة أمام طفل يرتجف في ساعات الفجر الأولى، غارقاً في العرق والحمى، وكأنه قُذف عارياً في شتاء من شتاءات سيبيريا..
ما الذي يفعله، أمام طفل يحتضر، طفل جريح، أطفال يتامى، أمهات ثكإلى، وسط ضراوة الحروب والفصول، وسط اجتياحات الجوع وعنف الطبيعة في تمظهراته المختلفة..
ما الذي يفعله الرجل والمرأة في أضواء الفجر الأولى أمام طفل يئن معلقاً بين الحياة والموت، كائن لم يعرف وجوداً ولا عدماً بعد..
لم يعرف إلا تفتحات البسمة في تويجاتها الأولى، إلا البراءة مطلقةً سراحها في بحار وغابات لا نهائية الخضرة واللطف والشفافية؟
***
«البقعة الحمراء على كوكب المشتري إعصار متنقل، يعادل في حجمه ضعف الأرض»..
إعصار الألم المتنقل، يجوب الأعماق، عاصفة التيه لبشريّة فقدت أي إحساس بالملاذ، بالحلم والأمل.. قافلة الأعاصير هذه، هي ألم الإنسان وعذاباته في كل زمان ومكان.
***
طيور القطا المعروفة بصلابة جناحها بين الطيور، هي أيضاً أهدى الطيور إلى أعشاش فراخها.. تهتدي إليها حتى وسط العواصف والأمطار وتلاطم ظلمات الليل وتكاثفها..
البشر أيضاً لهم مثل هذه المشاعر الجامحة تجاه نسلهم وأطفالهم، لكن هذا النبْل في المشاعر لا يمنعهم من إبادة أطفال الغير بدم بارد..