«في البدء كانت الماء»
……………
الكرة المائية
من سَمّاها الكرة الأرضية وهي، كلها، ماء؟
«اليابسة» لا تشكل إلا جزءاً ضئيلاً من «الكوكب المائي» الذي صار اسمه، لسبب ما، الكرة الأرضية.
لا بد أن الفكر الديني الدوغمائي هو الذي سَمّاها. هو الذي وَسَمَها بهذه الصفة المجحفة بحق «المحيطات المائية العظمى»، عندما «كانت الأرض غَمْراً». وهذه التسمية، أيّاً كان سببها ودواعيها، مخالَفَة صريحة لواقع هذا الكوكب الجميل.
عندما ندور حوله ونتعمَّق فيه، نكتشف أننا، فصيلة البشر، أقل سكانه شأناً، وأضألهم. فمعظم كائناته مائية أو في أعماق البحار والمحيطات والأنهار. ومع ذلك، لا نكفُّ نحن اليابسين ( سكان اليابسة) عن التبجح والتنمْرد فوق «الجزيرة الأرضية»، ولا نتوَرَّع عن إغراقها بنفاياتنا التي ستخنقنا ذات يوم.
تسافر بأسئلتك وتعود بلا جواب! لأن العالم غير معني بها؟ أما آن لكَ أن تدرك أن عليكَ أن تغيّر كل شيء: السؤال، والجواب المحتمل عليه، والنظرة إلى الكون، وإلى الكائنات، وأشياء أخرى. ولكن كيف يمكن لك أن تفعل هذا دون أن تتجشَّم عناء سفر طويل قبل أن تصل إلى ما تريد. وأنت لا تريد شيئاً. بلى! أريد أن أسافر. («قالوا: متى تموت؟ قال: عندما يهترئ حذائي».نسيتَ ذلك)؟
محطة «بانْكوكْ»
يحل المساء هادئاً على «بانْكوكْ».
وأنا واقف فوق الماء، أمام الجسر الملكيّ المعلّق في الريح.
حَمّارة الشمس بنفسجية قاحلة وهي تغيب وراء الأفق المليء بالغمام. لكأن الأرض انتهت للتو من مواجهتها مع المحيطات العظمى التي لا تكف عن محاولة ابتلاعها، وقد ملأ دخان صراعهما الفضاء.
طيور سود تتلاحق متلاعبة بالسكون المريب فوق النهر. النهر العظيم الذي يشبه كثيراً نهر النيل، أو الفرات، لكن ماءه حمراء. والغروب الآسيوي العميق يزيدها حُمْرة واصفِراراً.
على ضفته الشاسعة أنتظر، واقفاً، «تاكسي الماء» الذي سيعيدني إلى حيث أسكن:« بونتْ سنترْ سيلومْ هوتيل»، في قلب المدينة المذهلة، والتي ستذهلني أكثر يوماً بعد يوم.
كمْ خلَّفْتُ ورائي من المدن والأمكنة المثيرة للمخيلة، لكن هذه المدينة لها نكهة خاصة، لأنها مليئة بالغرابة والمفاجآت. إنها «كل آسيا»، وهي ليست غريبة على «أوروبا»، مع أنها في أمان منهما، في الظاهر، على الأقل. خصوصيتها تبدو لي أكبر من محاولات استيعابها.
وأنا أكتب هذا، تسقط الشمس نهائيّاً في الغياب. ولا يبقى لها أثَر فوق الماء. وفي سقوطها المرعب تترك النهر لشأنه، وكأنها لم تكن تبرق فوق سطحه منذ ثوان. النهر العظيم الذي يغدو، على الفور، أصفر، باهتاً، وبلا بَريق. وتختفي الطيور التي كانت تلعب فوقه، منذ قليل. ولا يبقى حولي سوى وجوه أهل المدينة المبتسمة على الدوام، وهي تلوذ بعيونها، تفتّش عما يمكنها أن تفهم، أو تخمِّن، ما أكتب. ولا تجد لما يشغل عيونها جواباً. ولا تكف، مع ذلك، عن الإبتسام.
وهذه الحال، حال «عدم التفاهم السطحي»، هي أفضل الأحوال التي يمكن أن يواجهها الكائن في سَفَره. لأن الإتصال المبتسر والمسطَّح مع الآخرين يبتذل غربة الروح عند المسافر، ويُخَفِّف وَقْع المكان الجديد في نفسه. وهما(الإحساس العميق بالغربة الوجودية، وغُموض المكان الذي يوحي بتفرُّده) ضروريان لإدراك «جلالة» الأمكنة التي نتجشَّم عناء السفر من أجل مشاهدتها.
في «بانكوك»، أشمُّ رائحة الشواء، أينما سرت. وتذوب نفسي اشتهاء. ولا أقرب منه. لأن الله وحده يعرف ماذا يشوون. اكتفي بالتطلّع المستريب. وأبتعد حتى تطمئن لواعجي. أنا في مكان آخر. هذا ما يدلُّني عليه الدخان اللامتناهي المنطلق من الشواء الذي يستوي فوق الماء.
أقف في الصدمة.
أقف فوق الماء الأحمر الثخين، ماء النهر الكبير الذي يمشي الهُوَيْنى مثل امرأة مفرطة السمنة في بوادي «الجزيرة» التي غرقت في القَيْظ. لكن هذا النهر شديد الثَخانة لأنه ملَوَّث حتى الموت. هنا لا شيء مستغرَباً. العالم يبدو مستسلماً لمصيره المحتوم: الولادة، الحياة، الموت. وهل للكائن مصير آخر، في الأمكنة الأخرى؟لا! لكن الاعتبارات الدينية والأخلاقية هل التي تُلَوِّث الحياة بمفاهيمها اللامتناسقة. وتضع العقبات التي لا يمكن تخَطّيها أمام براءة الكائن حتى يستحيل في النهاية إلى وحش.
وأجدني أتساءل: هل أظل واقفاً فوق الماء؟
هنا، الناس كلها تتَجَذَّب، وتفوح منها رائحة الغبطة والرغبة في الإتصال. لكأن صفحة الحياة انقَلَبَتْ، هنا، إلى وجهها الصحيح، بعد أن صار ت في أوروبا وفي الشرق العربي، معكوسة على الدوام: العُبوس، والصمت، وأقل الكلام عند الضرورة .أوه! اللعنة! وما هي الأسرار الكونية التي تخبِّئها تلك الرؤوس الفارغة؟
حتى النساء الأوروبيات الصامدات، عادة، في وجه الرجال، في الظاهر على الأقل، صرْنَ يبتسمن برحابة، وهنَّ يتطلعْن بمكر في وجوهنا، وكأنهنَّ يقلنَ: تعال! ولكن مَنْ سيغامر بالمجيء؟ تلك هي المشكلة. لقد أرخصنَ أنفسهنّ عندما صرْنَ محاطات ببحر من النساء المذهلات. وتلك هي خسارة الحياة التي يسببها الجهل بالعالَم، لا بالذات، فحسب. أما العربيات فلا وجود لهنَّ، هنا، أصلاً. هن مكتفيات بأردافهن الثقيلة، وعيونهن الناعسة المؤمِّلة ما لم يعد مأمولاً، بعد الآن، رابِخات في إقامتهنَ الدائمة في المكان. يا للهول!
اللاخوف من الماء
لماذا نخاف من الماء، حتى أننا سمّينا المحيط الأطلسي: «بحر الظلمات»؟ ألأننا انبثقنا من الصحراء؟ أم لأن «الأرض الدينية» كانت، في الخراب الأول، غَمْراً؟ أم لأسباب أخرى أجهلها أنا؟هنا، هم يعيشون الماء وكأنها التراب الناعم في «الجزيرة». يمشون خائضين فيها بمتعة، ويأكلون عليها، وفوقها ينامون، ويتَمارسون. وعندما يغضب النهر ويفيض عليهم، لا ينحسرون، وإنما يعْلون من مقامهم فوقها، فيبدون معلقين بأعمدة الخشب الصلدة والألواح في فضاء رطب ومغسول.
أيكون ذلك هو السبب وراء تمَوُّج أجسادهم وهم يتحركون بطزاجة وكأنهم في حفل كونيّ راقص؟ وهو أيضا وراء شعور الاحتقار العميق للبدانة الجسدية عندهم؟ أم هو ضيق المكان المسوول عن كل هذه المزايا؟ و»المكان الضيق يجعل الجسد ليِّناً كالعجين». مَنْ قال ذلك؟
بوذا العملاق
أدع الماء ساكنة، بها تخوض النسوة الجميلات، والرجال كذلك، وأمشي.أريد أن أتشرّب الأمكنة وكائناتها. ولا بديل عن الملامسة الحسة مع الأشياء إذا ما أردنا أن نتعرّف عليها.
الآن، أنا أمام معبد «بوذا» الشهير في الحي الصيني القديم على ضفاف نهر «شاؤو فرايا» الكبير الذي اختاره الملك « راما الأول» ليكون في قلب بانكوك التي سَوّاها عاصمة للبلاد عام 1782، بعد ما كانت العاصمة «تونْبوري». وقد كانت «بانكوك»، قبل ذلك، مجرد مدينة صغيرة للصيادين.
معبد «واتْ فرا كاوو»، حيث يتمدد «بوذا» العملاق لا مثيل له. وبشكل عفوي، أجدني أسلِّم عليه بتبجيل: «عِمْ صباحاً، سيدي «بوذا« الجليل. عمْ صباحاً»! لكن «بوذا«العظيم لا يرد. هو، الآن، من الحجر، وكان ذات يوم، مثلي من «الفُخّار». ويقولون إن محبته للناس هي التي جعلته يتجَسَّد حجراً. وأنا لا زلتُ أمشي كالغراب وحيداً، وقابلاً للكَسْر. يا للخيبة!
أمام جسد «بوذا» الذهبي الذي يملأ مساحة معبد كامل، أُدركُ أن «الصين» فتحَتْ «تايلاند» بـ»بوذا». وأن الفكر الديني، أيا كان مصدره، وفحواه، لا بد له من تجسيد. وهو، عندئذ، سيفعل فعله المنهجيّ، في الأرواح والعقول، تدريجياً إلى أن يقضي على «مناوئيه»، أو يضمّهم إلى حظيرته.
وكما يعلمنا التاريخ، عندما نبشِّر بمذهب ما، لا بد لنا من اجتراح معجزة، أو ابتكار «كائن مذهل»، أو « دَوْر في الكوسْموس»، أو حتى «كارثة»، لكي تسير الأمور على ما يرام. و«بوذا»، هذا، الذي جسده مطليّ بالذهب الخالص، هو خير دليل على أهمية «العَظَمَة» في الوجود. وهو الذي مَهَّد لدخول الصين القارية إلى هذه الأصقاع.
لكن «بوذا»، على عكس «أديان حوض المتوسط التوحيدية» الثلاث، التي نشأت، كلها، في المنطقة العربية بين الفرات والدجلة والنيل، لا يهتمّ لا بالعقاب، ولا بالثواب. وهو لا يعلم مما يفعله أتباعه شيئاً. ولا يهمه أن يعلم. لا جنة لديه. وليس عنده جهنم. هو لا يعلم الغيب. ولا علاقة له بالماضي، أو المستقبل. لا وَعْد عنده، ولا وعيد. وإنما مثال يُحْتَذى: »مَنْ أراد أن يفعل مثلي فهو (ليس من أتباعي) وإنما هو مثلي. هو أنا».
ومع أن ذلك قد يبدو « تحصيل حاصل» حسب مذاهب النقد الحديث، إلا أن الفكر الإنساني القديم لكي يصل إلى هذه المرحلة العالية من النقاء الفكري والإعتقاديّ، كان قد مَرَّ بآلاف التصوُّرات والمفاهيم والاعتقادات، قبل أن يصل إلى «مرحلة الكلمات » القادرة على أن تشرح الأفكار، وتجعلها جاهزة للتقديس.
أقدام «بوذا» أكبر من باقي أعضاء جسده الأخرى. معنى ذلك: أنها تُفَكِّر. ولقد صرتُ مؤمنا بهذا. فليس القَدَم مجرَّد آلة للمشي، إنها مصدر مهم من مصادر المعرفة الإنسانية. ولولاها لظل الكائن ثاوياً في مكانه لا يحير سؤالاً، ولا جواباً.
الآخرون يصوِّرون رأسه، وأنا أصوِّر رِجْلَيْه. وبعد لحظات من التأمّل أكتشف أن «موسوعة» كاملة مرقونة على أخمص قدمَيْه. وهذه هي صورتها. وأمتليء سعادة بهذا الاكتشاف. لكأنني كنتُ تحت قدَمَيْه وهو يسير. ومهما يكن الأمر، لا يمكن، أبداً، نقل الإحساسات العميقة التي تعترينا، ونحن نتأمله. «بوذا» ليس فكرة، وإنما هو تجسيد. تجسيد للخير، وربما للشر، أيضاً.
أوه! العظمة هي ما أراه الآن. ولكن كيف يمكن لي نقل الإحساس العاتي الذي يملأ نفسي، في حضرتها؟ وكيف يمكن لهذا الإبداع الإنساني الخارق أن يوجد، ولا يتيسَّر لكثير من الكائنات رؤيته؟ إنها لخسارة كارثية، فعلاً. ولكنْ مَنْ المسؤول عنها؟
أمكنة «بوذا» حُمْر، وخضْر، وبرتقالية. ولها الألوان، كلها، عندما تشرق عليها الشمس. الحجر يتكلّم معنا عندما نتأمَّله. لكأنه مادتنا الأولى، ونحن نعرف أنها: الطين. هم لا يبنون أهرامات ترقى إلى السماء لتقرِّبنا منها، بل هياكل صغيرة، قليلة العلو، لكن روعتها لا تُحَدّ. مادتها ليست أحجاراً كبرى هائلة الحجم، وإنما زخارف لونية مأخوذة من بساطة الطبيعة، لا تكاد تراها منفردة، لكنها حينما تجتمع تغدو تحفة معمارية بلا مثيل.
كنتُ أعرف أنني سأنذهل عندما أجيء. وهأنذا أتأكَّد من معرفتي تلك.
أمشي بمرح. أتَدَلَّل. لطف الناس،هنا، يجعلني أغيِّر مزاجي. لم أكتب كثيراً هذا اليوم. أفكِّر، مرعوباً، وأنا أتمَلّى الشواهد الإنسانية حولي: « كيف يمكن لحضارة الغرب التي أصبحت كونية، ونمط حياته، أن يأكلا حضارات الشعوب الأخرى، ويخرِّبا خصوصيتها»! «أن يجعلا الناس، من أي عرق كانوا، وفي أية بقعة يسكنون، متشابهين، إلى حد «عدم التعرُّف»على الإختلافات الإنسانية بيننا وبينهم. لكأن «الحضارات الإنسانية» أصبحتْ حضارة واحدة ( حتى لا أقول احتضاراً واحداً).
من هنا، من هذه المسافة القاصية، من الطرف الآخر للكرة الأرضية، يبدو لي جليّاً أن مقاومة هذا الإنهيار الكوني، أو مقاومة نمط الحياة الغربي، في الوقت الراهن على الأقل، تبدو مستحيلة ( مع أننا نعرف: أن كل مستحيل ممكن).
شاؤو فرايا ريفَرْ
النهر العملاق الذي يجتاز «بانكوك»: «شاؤو فرايا ريفر»، ماؤه ذهبية من شدة التلوّث. وهو يجري هادئاً وصموتاً وكأنه حزين لمصيره المخيف. على ضفتيه تقوم المعابد العظمى والقصور. وخصوصاً المعابد البوذية ذات الروعة اللامثيل لها.
يعيشون مع الماء وكأنها جزء من تكوينهم ( وهي كذلك فعلاً). وصغيراً، كنتُ أخاف البَلَل والماء، حتى أنني كنتُ أركض نحو أمي محتمياً بها منها: «يمّا بلَّلَتْني المَيْ»! وأبكي وأنا أشير إلى بقعة البَلَل وكأنها الدم. لكن الناس في بانكوك لا يعرفون ذلك الرُّهاب اللامنطقيّ واللامفهوم من «مادة الماء». وهم، إضافة إلى ذلك، يسيرون فيها ليل-نهار، وكأنهم يسيرون فوق التراب.
معابدهم تغطس فيها، أيضاً. وتماثيل معبوذاتهم. هم متعددو الآلهة، ونحن موحِّدون. لكن هذا لا يغيِّر في تعاملهم مع الآخرين شيئاً. لهم أخلاقهم، ولنا أخلاقنا. وبهذه المناسبة، أكتشفُ (ولو متأخراً) أن للفكر الديني التوحيديّ، أثراً كبيراً في «إرادة السيطرة»، والتوسُّع، والاستعمار. وقد تجلّى ذلك، وبعدائية صارخة، في فكر أقوام «حوض المتوسط»، وفي فلسفتهم، وسلوكهم ( شرقاً، أولاً، حيث نشأ هذا الفكر، وانتشر. ومن بعد، غرباً).
وهو (الفكر الديني التوحيديّ) يناقض التعددية. ولا «يرتاح» إلا عندما يدخل الناس( كلهم، إنْ أمكن) فيه. وهو ما جعل «الأقوام الأولى» التي استوطنها هذا الفكر، تستوطن، هي الأخرى، بدورها، الآخرين لتزرع فكرها «الأوحد» فيهم. يا ستّار!
معبد «وايتْ آرون»
هذا الصباح، أيضاً، سأستقل «تاكسي الماء». سأتفرَّج على المدينة المشرقة والهادئة، برغم ضخامتها. أنا بعيد عن ضجيجها لأن ماء النهر الثخينة تحميني. بعد معابد «بوذا» البارحة على الضفة الشرقية للنهر، اليوم سأزور «وايتْ آرونْ». وهو تحفة من تحف التاريخ.
«وايت آرون»، يجب أن تراه لتدرك ما أقول ( وإنْ لمْ يكن بالضرورة ما أحس). إنه صرح لا مثيل له، أو على الأقل لم أرَ، بعد، ما يقاربه في الروعة. إنه إبداع إنسانيّ يقارب الكمال (وحتى هذه يجب رفعها من الجملة. أقصد: يقارب). ولا أدري كيف تَمّ إنشاؤه. فهو مبنيّ من زخارف، وأحجار لامعة شديدة الصُفْرَة، وجدرانه مَجْدولة بشكل يكاد أن يكون إلهيّاً. ولكن كيف تمكَّنَت أيدي البشر من القيام بعمل «غير بشريّ»؟ هذا ما يخطر لك قبل كل شيء، عندما تراه. وهنا، أمام هذا الصرح اللادنيوي، تفهم لماذا يُقَدِّس البشر الجمال.
وإذا أردتُ أن أكون دقيقاً، وأنا أكتب عنه، سأقول فقط:» لا مثيل له». لأنه لا جدوى من الاسترسال. ولا خير في وصف أكثر إطناباً. ومهما يكن الأمر فإن الدهشة الجمالية التي نحس بها إزاء هذا الصرح، لا معادل لها في الحياة. أنظُرْ!
في أعلى المدخل البهيّ أجراس صغيرة معلقة، تحرّكها الريح كيفما هَبَّتْ. فتترقرق الموسيقى الشجية بنعومة خضراء. لكأنك في صحرائك الأولى، تحيط بك من بعيد موسيقى أجراس الرُعاة الآيبين مساء إلى مراحاتهم، وهم سعداء. ما أحلى الصوت! لأنه يستوجب الصمت. ويجعل الكلام يتراجع إلى المرتبة الثانية. فلا جدوى من الكلام.
لكن العين تنافس الأُذن على كل شيء. وليس عبثاً أنهما متجاورتان. مع أن الشاعر العربي القديم، سَبَّق إحداهما على الأخرى في حكاية الهوى: «والأذن تعشق قبل العين أحياناً». لكن العين الرائية لها مدلولها، ومستواها. وأمام هذا «البرج بابل» التايلاندي لا بد من ترك الحرية للعين ليأخذ النور الإلهي مداه.
«برج بابل» في بانكوك؟ بلى! لكن أهله لم يتآمروا عليه لمجرد أن طاغية كان يسكن بالقرب منه، ويتحكّم بمصير البلاد. للطغاة أزمنة ويزولون حتماً. لكن التاريخ لا زمن له. ولا ثمن. وهو أغلى من الحرية الكاذبة بكثير. اللعنة على المتآمرين. لعنة تاريخية لا براء منها.
ما يذهلني، الآن، هو أننا ما زلنا مؤمنين بأننا مصدر الحضارة. ولكن عن أية حضارة نتكلم؟ وهذه الروائع العظمى أوليس لها تاريخ مثل «روائعنا» التي أبدعناها؟ وكيف يمكن لمن لم يرَ هذه أن يدرك، أصلاً، معنى الحضارة والتاريخ؟
سأحاول، الآن، أن أرقى البرج الصاعد إلى السماء، علَّني ألتقي بروح «حمّورابي» العظيم، أو بنَفْحَة من«تصوُّره الشخصيّ» للعالَم الذي كان يرقد في الأسفل. ومَنْ لا يَرْقَ عالياً لا يَرَ ما تحت قدمَيْه.
أصعد، متطلِّعاً عن كثب إلى كل شيء، وأنا أصرخ: عَظَمَة، يارجل! وأصير أرى المدينة، كلها، قابعة في الحضيض مثل بركة سابحة في النار، ولم يعد ينبثق منها سوى دخان الرماد المتهالِك قبل أن ينطفئ إلى الأبد. أي! «بانكوك» العابثة. هكذا كان الآلهة، أو الكائنات القصوى، يفصلون أنفسهم عن الزاحفين فوق القاع، وهم ينادونهم : «نحن هنا»! محرِّضينهم على التجاوز والسُمُوّ.
وهي نقطة تشترك فيها الإنسانية أينما ذهبنا. تذكَّروا: «بابل»، و«الإهرامات»، و«الأولَمْب»، و«الأهرامات الأولى» في أمريكا اللاتينية، وبالخصوص في المكسيك، و«صروح الهند» القديمة، كما في «بيناريس»، و…
أتابع الصعود بمشقة هائلة. يلزمكَ جهد كبير لكي تقترب قليلاً من السماء. حتى أنني صرتُ أتصوّر أنني بعد هذا الصعود المثير، سأهبط نحو نفسي التي امتلأت بالنور: نور المعرفة الأرضية الذي لا مثيل له. وإلى أن أهبط، عليَّ أن أصعد النصف الباقي من «برج بابل» في «بانكوك»
نتسلَّق البرج بحبال من حديد، فالْـمَرَس القديم الليِّن، لا يجدي، هنا، نفعاً. نحن ذاهبون نحو السماء. وكلما ذهبنا أبعد ضاقت الأرض علينا. ونبدأ نتشبّث بالصور والأخيلة. والفضاء من حولنا ساكن ومبهوت. ما هًَمَّ! علينا أن نتابع الصعود لنرى النهاية. وتبدأ أنفاسي بالتسارع: أنفاس الكُبَيْش الصغير الذي يريد أن يصير كَبْشاً كبيراً حتى ولو ضَحّى به أهله. لكن تلك الإرادة، وحدها، لا تكفي، لأن العالَم مملوء بالأعاصير.
وأصير أنْهَتُ، وأنا أتصاعَد بمشقَّة تزداد خطوة بعد أخرى. أُثَبِّتُ قدمي، جيداً، قبل أن أخطو، من جديد، فوق سطح الكون، حيث «بوذا» العظيم يبثُّ أنفاسه التي تنقلها الريح الحائمة حول البرج. «تَسَلَّقْ»! أقول لنفسي، وأنا أتهيّأ لمتابعة الرقيّ.
وأنا أكتب هذا أكتشف أن الثقافة العربية: «ثقافة تَهْويليّة». لأننا لا نرى العالَم، أو الكائن، أو الشيء، كما هو، بل كما نحب أن نراه. وهو ما يعني أننا لا نقَدِّر مزاياه الطبيعية التي يتمتّع بها، بشكل عفوي، ولا نعطيها ما تستحق من الأهمية (أو من عدمها). وإنما نُضْفي عليه طابعاً آخر «فوق حقيقي»، أو أكثر من حقيقيّّ (وإنْ كان لا يَرى ذلك، أو يحس به، إلا نحن). هكذا نروح نغمره بروعة متخيَّلة، أو زائدة عن اللزوم، لكنها شديدة البساطة، وقريبة من الروح، لدرجة أننا نصير نعتقد بها، نحن الذين أخترعناها.
وأجدني أتساءل: «أي أثر، أو تأثير، للفكر الدينيّ التوحيديّ الذي يشكل التجريد، أوالمَحْض، ركناً أساسياً فيه، أي أثر له في مثل هذه البُنى والتصوُّرات والأماثيل»؟
وأُعيد النظر في «برج بانكوك» الرائع، ولا أحس بأي تغيُّر في رؤيتي له، ولا إليه، حتى وأنا استهدي بما كتبتُ. وأكتفي بما أحس: لأن الروعة لا تحتاج إلى برهان. ولكن، إلى مَنْ هو جدير برؤيتها.
«غورية بانكوك»
أنحدر، أخيراً، من قبَّة البرج إلى المدينة.
أدخل، هذه المرة، في «الغورية». «غورية» بانكوك التي لا مثيل لها. بالمقارنة إليها تبدو «غورية» القاهرة صحراء بلا سكان، حتى ولو أضفتُ إليها«بولاق الدكرور»، و«أبو العُلى».
هنا لا تستطيع، لا المشي، فقط، وإنما حتى التنفُّس. البشر العابرون، والمقيمون، يشكلون كتلة واحدة صلدة لا يمكن اختراقها، حتى بشَقّ النفس. وهم، مع ذلك لُطفاء، ومترعون بالصبر والتحمّل، وبالسعادة المكبوسة. لا يلتصقون بمؤخرات النسوة العابرات، كما يفعلون في دمشق. ولا يَتَكاتَفون، أو يَتَمارَرون كتفاً لصقَ كتْف، وإنما يَتَثالون كقطيع مدرَّب على الَسيْر في المنحدرات الصعبة (يفهم هذا مَنْ كان منكم راعياً، ذات يوم).
يساعدهم على هذا المرور السُهولي لُيونة أجسادهم، وطراوتها، وصغر حجومهم، مقارنة مع «علوج «الشرق العربي، والغرب الأوربي، على السواء. في خضم هذا الحَشْد المرهوب، أقف، وأكتب، وأمشي، دون أن «يدفشني» أحد بأوراكه الهائلة. أمشي! لاأعرف إلى أين تأخذني قدماي.
في مدخل «الغورية»، والأفضل «الغوليّة»، تخاف. فتحجم عن المسير. وتقف في مكانك. تخاف من الولوج في هذا الجَمْع الأصمّ، فتتردد. لكن الرغبة في ولوجه لاتُقاوَم. فتبدأ الخطوة الأولى بحذر. ومنذ أن تخطوها يَلْتَمُّ اليَمّ، يَمّ البشر الخُضَمّ، حولكَ. فتذوب فيه. وتصير تمشي. تمشي آمناً وكأنك في صحرائك القديمة. وتتمتَّع بتَماوُج البشر من حولك، وكأنهم أمواج المتوسط الدافئة في «الحَمّامات».
وتظل تمشي. تمشي الهوَيْنى طيلة النهار. لا تعرف إلى أين يأخذكَ المسير. ولا مَنْ ستقابل. ولا منْ هم الذين ستمر بهم. وأية أهمية لذلك طالما أن المجهول، وحده، هو المعلوم. لأنه، وحده، الذي يحمل إمكانية التعرُّف، والاكتشاف. ولكن، مَنْ بإمكانه أن يعرف شيئاً في هذا المحيط اللامتناهي من البشر؟
من شدة الزحام تصير تمشي وَرْباً كالسلْطعان. كالسرطان البحري عندما يلاقي العقبات. عندما يخترق الثقوب الضيقة كالمسامير. لكنك سريعاً تعود على أعقابك، منذ أن تدرك أن اجتياز هذا الجدار البشري يقع في نطاق المستحيل.
ومن جديد، تعود إليه مُصَمِّماً. فتصير توارِبه، مُنْدَحِساً بين الأجساد الغضَّة، مُرَقِّقاً بطنكَ ووركيْكَ، علَّك، تبلغ الغاية. لكن هذه الحِيَل، كلها، لن تفيد المستعجِل شيئاً. فتصبر. وتُتابع. وتصر على المتابعة. وعندما تدرك أن اختراق هذه الكتلة البشرية إلى آخرها ليس إلاّ حلماً غير قابل للتحقيق، تَعْفُص، فجأة. وتصير خارجاً. وإلى النهر تعود. وتحس بسعادة بالغة، وأنت تَتَنَسَّم، من جديد، ريح النهر الباردة التي بدأتْ تصل، أخيراً، إليك.
استطبنا الأقامة في المكان، فَحَلَّ علينا السفر. صرنا نعرف أن الإلْفَة هي الخطوة الأولى في الهَجْر. وما يميِّز مكاناً عن آخر هو هذا الإحساس الغريب بأنكَ صرتَ جزْءاً منه. وعندئذ، لا مفر لكَ من من الإبتعاد عنه قبل أن يبتلعك، كما يبتلع البحر أسماكه الصغيرة الهائبة. لكن النفور من مكان ليس بالضرورة سلاحاً ضده، ولا حماية منه، أو وقاية من الإنهيار على عتباته. أحياناً، يكون النفور من مكان أشدّ فتْكاً من الإلفة معه. هل فهمتم، الآن، لماذا نعشق أمكنة كثيرة عندما نحب مكاناً واحداً، فقط؟
مطاعم ميكروسكوبية
يحوِّلون الشوارع، والساحات، والأزقة، وحتى فوق النفايات، إلى مطاعم ميكروسكوبية تعمل في الهواء الطلق، و«على الحارك». وهو ما يجعل الماشي متخماً على الدوام برائحة الطهي، والشواء، والأشربة، والحساءات. ويعطيه شعوراً بالشبع، وأكاد أقول بالقرف من الأكل. الناس هنا لا تقعد لكي تأكل إلا نادراً. يأكلون وهم يمشون، وفي الحافلات، أو المترو، وفي الطرقات، وفي أي مكان يجدون في إمكانية ليمضغوا طعمتهم، قبل أن يتابعوا سيرهم نحو ما لا أدري أين.
زمن الطعام ليس زمناً أساسيا هنا.أو هذا ما يبدو من كثرة الآكلين الماشين. وعلى أية حال، لا يوجد الكثير من الأماكن التي تسمح لأحد منهم بالجلوس الطويل، والثرثرة، والتلَهّي، أثناء الأكل. ولا أدري إنْ كانوا يفعلون ذلك في بيوتهم.
ويذكِّرني ذلك بأكل الصحراء المتحرِّك باستمرار. فقد كنا نأكل ونحن على ظهور الإبل، والخيل، والحمير. ونأكل ونحن نمشي، ونعمل، وأحياناً حتى ونحن نقضي «حاجتنا الطبيعية».
المجتمع الحضري، الساكن، المستقر، وبخاصة في شكله البورجوازي المتأخر، هو الذي سَنَّ الجلوس الطويل حول طاولة مركزية معدَّة للأكل،لا من أجل الطعام فحسب، ولكن لقَتْل الوقت الزائد في حياة لم تعد مملوءة بالعمل، وإنما بالمَلَل. وفترات الطعام (حتى لا نقول الأكل)، في هذا النمط من الحياة، تكون أحياناً طويلة نسبياً وخانقة.
وأتصوَّر أن الغزاة، والتجار الأوائل العابرين للقارات، والمشرَّدين، وناقلي الأخبار، والمغامرين، ومخترقي المحيطات العملاقة، هم أيضاً، لم يكن لديهم ما يكفي من الوقت للجلوس حول موائد الطعام، لا من أجل الأكل، ولا من أجل التَجَشُّؤ في وجوه بعضهم.
أحد في بنكوك
اليوم أحد.. و«بانكوك» خالية. أستطيع أن أمشي فيها على هواي. أعطيت الشحاذ الأهتم الذي صادفته في أول الشارع المليء بالروائح والغبار، قطعة من النقود. فنظر إليها، وإليَّ بشَزَر، وكأنه يعاتبي: «هذه فقط»؟ ضحكت له. ولم يضحك. فعدت إليه، ووضعتُ في قصعته الفارغة ثلاثاً منها، فابتسم لي وهو يحييني.
فراغ المدينة مخيف، هذا النهار. بعد ساعات من المشي الهاديء المستمر، أتعب من السير. وفي نهاية الشارع الطويل، عند بائعة الشاي الشابة، أجلس مُقَرْفِصاً فوق مقعد بلاستيكيّ حقير، لكنه كان بالنسبة لي في تلك البرهة، ريش نعام، مغلَّفاً بالمخمل. آه! ما أجمل الراحة بعد التعب.
أطلب شاياً أسود، فتجيئني بماء ساخن أصفر متْخَم بالحلاوة واللاطَعْم. لكنني لا أستطيع أن أعترض، ولا أن أستبدله بآخر، لأن دَلْوها لا يحوي غير هذا الخليط الجهنمي. فأشربه على مضض متمتعاً بشاي آخر كان يسيل في رأسي، وأنا أتأمَّل جسدها الجميل.
أجلس طويلاً، محاطاً بالشَوّائين المكتظين حولها. أشمّ أدخنتهم العاصفة في الريح. وتمتليء نفسي اشتهاء ولا أجرؤ على الأكل، لأنني لا أعرف ما يشوون. وأحس أن المعرفة الأساسية في الحياة هي معرفة ما ذا نضع في بطوننا وفي رؤوسنا، وليست هي تلك الأساطير المجردة التي يفعمون بها نفوسنا فنزداد غباء وحماقة كلما أكثرنا منها.
الشواء عندهم فنّ وحرفة. وهم يمتعون بشَيّ كل شيء حتى الجراد والنمل والدود والعقارب والخنافس والصراصير. وهم فخورون بفن الأكل «البيولوجي» هذا. وكما أتصور فإن هذه «الأحياء الطبيعية « البَرّيَّة خالية من الهرمونات الإصطناعية التي تُستعمَل في تربية الحيوانات، ومن مضادات الحشرات، وغيرها من المواد الكيماوية التي تسَمِّم كل شيء. ولكن، مَنْ يدري؟ لعلّهم يُرَبّونها في حظائر خاصة، وبطرائق خاصة بهم نجهل كل شيء فيها. وإلاّ لِمَ تراهم يتمتَّعون وهم يأكلونها بكل هذه الشهية؟
صحونهم أكياس صغيرة من البلاستيك. ويبدون سُعَداء وهم يخلطون بملاعقهم البلاستيكية، أيضاً، كَوْم الأطعمة الممزوجة بلا حدود. لكأن الصنف الواحد من الطعام لا نكهة له ولا مَذاق. وأراهم يَلوخونَها كما نلوخ نحن السكر بالشاي، مثلاً، قبل أن يتَجَرَّعوها بشهية لا حدود لها. أهو الجوع؟ أم هو الاستمتاع المؤقت بما سيكون جزءًا منا بعد قليل؟ أم هو اختلاف الأذواق بين البشر، وكأننا فعلاً من التراب الذي نعيش فوقه، خُلقْنا؟
لا يلوكون الطعام بنوع من السأم والقرف، مثلنا، قبل أن يمضغوه. هم يمضغونه أولاً، ومن بعد، يصيرون يَتَمَطَّقون، مستعيدين طعمه (إنْ كان له طعم)، بعد أن هَبَط في حلوقهم بسرعة البرق. ألهذا تبدو أجسادهم وكأنها منحوتة من صَليل؟ وليس بينهم بَدين، أو بَدينَة. ولا «يتَمتَّع» أي منهم، أو منهُنَّ، بكرش «عربيّ فاخر»، ولا «بمؤخرة قُنْبُلية» تكاد أن تنفجر في وجهك قبل أن تمسَّها! اللعنة على الصحون الملأى بالسموم.
اليوم أحد.. وحدي أمشي في الشوارع الضيقة والخالية، تقريباً، من الإنس. آه! لَكَم تبدو الأمكنة موحشة عندما تخلو من ساكنيها. وفي هذه الحال، لا تستحق إلا الإسم العربي الجميل: «الأطلال»! منها نُطلّ على الماضي الذي كان سعيداً، أو تعيساً، لا فرق (حتى التعاسة تتحوّل إلى سعادة، بعد قليل). أم لأنناعشنا أجمل أيامنا فيها؟ وفي هذه الحال، أي معنى للزمن الآتي إنْ كان موسوماً، مسبقاً، باليأس؟ أم لأنها تعرف كيف تطلُّ هي على بؤسنا الروحي، ووحدتنا الإنسانية التي لا عزاء لها؟ أم…
ومهما يكن الأمر، يحضرني السؤال: لماذا سمّوها «الأطلال»؟ وكيف عرفوا أن هذا الإسم هو الإسم الوحيد اللائق بها؟ وأسمعني أقول، في فضاء «بانكوك» المخيف من شدة فراغة، هذا النهار:مَنْ يعِشْ بقلبه مع الشيء، يعْرِف اسمه.
في المساء الأخير في «بانكوك» أسهر في إحدى مقاهي «المثليين»، في حي «سيلومْ» الشهير. وهو يقع في قلب المدينة، وبالقرب من حي«سالادَنْغ» الشبيه بحي «بيغال» في «باريس»، حيث علب الليل، والمحلات المختصة بالجنس، وأدواته، والباحثين عنه، والمهتمين به، والعارضين أنفسهم بأريحية جنسية فائقة.
النور فيه أزرق. وتحت الضوء البارد يبدو كل شيء أبيض. الشارع، كله، لهم. والمقاهي تنتشر على الضفتين. بشر خليط من كل أنحاء الأرض، يتماررون بهدوء. يتجالسون. يتعانقون. ويشربون البيرة التايلندية الشهيرة «سِنْغا»، وهم يثرثرون براحة بال مثيرة للإنتباه. مثلهم، أطلب «سنْغا». وأجلس في منتصف الجمع بلا حذر. اللطف المنتشر في فضاء المقهى يجعل الكائن، من أي بقعة أتى، يشعر بالطمأنينة، وكأنه بين أصدقاء قُدامى.
المساء بدأ يبتعد. ولليل هنا طعم آخر. طعم الأجساد الجميلة الملفوفة بأناقة باذخة. حُسْن «تايلندا» لا مثيل له. ويزيده اللطف روعة. والحِسُّ الخافت يجعل الرائي (لا السامع، فحسب) يلحق المتكلم بكل حواسه ليلتهم ما يقول. وهو على العكس من الصوت العربي العالي والفارغ، أحياناً كثيرة، من المعنى والشوق، صوت مفعم بالحسية، ويكاد يفتح للسامع أبواب الجسد ليدخل منها.
وأحس بالإنْس يملأ قلبي، وأنا أتمتم: « أخيراً! مقهى جميل ونظيف». وأضع ساقاً فوق ساق، وأنا أتملّى الخلق القادم من الآفاق. وأشعر بالراحة تُساق إليَّ بعصا خفية، لتبعد عني مظاهر السفر والإرهاق. الإنسانية المسافرة تعرف جيداً أن السفر ليس مغامرة، فحسب، وإنما هو متعة وعذاب. ومَنْ يطلب الراحة، ويخشى التعب والإرهاق، ما عليه إلا أن يظل نائماً في مكانه.
السفر إلى «المثلث الذهبيّ»
هذا الصباح، مع الإنسانية الراحلة، أرى غَبَش النهار في «بانكوك». الناس الذين يسافرون معي نصف نيام. وجوههم تُنْبيء عن التعب والهَمّ. أنا مسافر. وهم إلى أين يذهبون؟ وعلى الفور تقوم الصعوبات في وجهي. لا أعرف لغة البلاد. وبالكاد أتقن بعض الإنكليزية. إنكليزية المستعمرات القديمة، وهي خليط لغوي هجين يستعمله السائحون من أمثالي الذين لم يتعلموا لغة «أوكسفورد». فيها كثير من الهندية والباكستانية والصينية، ومن لغات أخرى كثيرة، وتستعمل فيها الأيدي والوجوه والإشارات، وفي نهاية الأمر سيضطر المستمع أن يفهم على المتكلم بالرغم من أنه هو الآخر لا يتكلم أية لغة.
لكن المشكلة اليوم، ستكون أعقد مما أتصور. سائقو التاكسي لا يفهمون أية لغة في العالم، غير التايلاندية. وسأضطر إلى اللجوء إلى شرطي السير الذي كان هو الآخر عاجزاً عن إدراك ما أريد الوصول إليه، مع أنني أبحث عن المحطة الرئيسية للحافلات، وهي الوحيدة في أطراف «بانكوك». وسيتوجب عليَّ أن أعود إلى الفندق لكي يكتب لي موظف الاستقبال إسم المحطة باللغة المحلية، أقدمه لسائق التاكسي. أخيراً، وصلتها.
منها سأنطلق إلى أقصى الشمال التايلاندي، حيث «المثلث الذهبي» المشهور. وهو يشكل الحدود المشتركة بين تايلاند، ولاووس، وبيرمانيا (أو صار اسمها الان). في هذا المثلث الخطر تعبر قوافل تجار الحشيش والأفيون والمخدرات، والمهرَّبات بشتى أنواعها. وفيها أقامت الملكة الأم: «متحف الأفيون».
محطة الأوتوبيسات مدينة، وحدها. شوارع، وغابات، ونواقل من ركن إلى ركن. وهي تحتل مساحة هائلة من الأرض. فيها يقعد الناس ويأكلون وينتظرون ويسافرون وإليها يعودون، من أي بقعة كانت في البلاد. ولولا رجل الشرطة اللطيف لقضيت اليوم، كله، بحثاً عن الرصيف الذي عليَّ أن أكون فيه للحصول على مكاني في الحافلة التي تنطلق كل عشرين دقيقة، من الرصيف رقم 6 إلى حيث أريد الذهاب.
وسيبدو الرصيف رقم ستة، رغم حجمه الكبير، ميكروسكوبياً في هذا الزَحْم العملاق من الأمتعة والحُمول، والآليات، والناس المتدافعين بلطف. وفي خضمّ هذه الحركة من الدخول والخروج، من الصعود والهبوط، من التوقف والمسير، سيبدو الكائن مهما كان شكله وحجمه مجرد «حِمْل» قابل للنقْل إلى حيث يشاء. عالم مرعب من البشر والشجر والأهواء. فلأركب، الآن.
ومنذ أن أجلس في مقعدي، أتنفَّس الريح الباردة، وأنا أردد: «ما أجمل الدنيا عندما نكون في الموضع الذي نحب أن نكون فيه». وعندما يتحرك الباص المجهَّز بشكل دقيق، أشعر بالطمأنينة، وكأنني في بيتي. لماذا؟ لأنني منذ أن أواجه العالم المتحرك حولي أعرف أنني بدأت أبتعد عن نقطة السكون التي كنت فيها.
أنا على الطريق، إذن. و«بانكوك» العملاقة تبدأ بالإختفاء التدريجي، بعد أن بدأ الغمام، غمام التلوّث، يبتلع أطرافها، متجهًا إلى قلبها الذي لن يقاوم طويلاً. وأصير أُلاحق المرائي التي تمر على الجانبين. أُلاحقها مستتراً ومستريباً. أريد أن امتزج مع المشهد الذي لا يكف عن الذَوَبان. أريد أن أستعيد ما يغيب، على الفور، عن عينيَّ، وهو ما زال ماثلاً أمامي، وكأنه لم يكن قد وُجِد، أبداً، من قبل. مَنْ سيراه، بعدي، بمثل اللوعة التي أراه بها الآن؟
ولكي أرى بشكل أفضل، أبدأ الكتابة. صرتُ أعرف أنني عندما لا أكتب «الشيء» لا أراه. الكتابة، عندي، أحسن وسيلة أملكها لكي أحتفظ بما أرى، وأحس. لماذا أحرم نفسي منها؟
ضواحي العواصم الكونية الحديثة، مثل باريس، ولندن، ودلهي، وبانكوك، وبيجين ( بكين، سابقاً)، وشنغهاي، و… كلها، تتكوّن من أشجار هزيلة، وطرقات وسخة، وأبنية من الأسمنت، وبشر تعساء. وهذا «المشهد المتجانس» إلى حد بعيد لا يغري المسافر بالتوقف عندها طويلاً، وهو خطأ أكيد. لماذا؟ لأن الأوضاع والكائنات لا حدود لاختلافاتها، وجوهرها العميق لا يُسْتَوعَب بالنظر، وحده، حتى ولو كان مُدَقِّقاً وحصيفاً. ما علينا، إذن، إلاّ أن نكتفي بما لا يكفي، وأن نتابع المسير للبحث عن دقائق أخرى قبل أن تختفي هذه « التحف الكونية» من الوجود الذي نراه، الآن.
أوه! على الطريق الذي لا يكف عن الاختفاء المتسارع، ونحن نصعد نحو الشمال التايّلانديّ الشاسع، أمواه فجَّة، وأساطير. مساحات لا نهائية من الخُضْرة والبواسق. أشجار هائلة الحُجوم تحيط بها المياه الراكدة، وكأنها عَجِزَتْ عن إغراقها، فاكتفت باللطوء تحت جذوعها الصامدة. وعلى الجانبين تمتد حقول الأرز اللانهائية الغرق. لا تلَوُّثَ هنا، ولا تكتُّلات.لا غمام، ولا عصافير. وأحس بالحنين الطفولي الغامر إلى لحظات الحياة التي وَلَّتْ، حين كنا ننصب الفخاخ للزرازير السود، وللعصافير المتبجِّحة، وللسُمّان المخاتل، في «الجزيرة». ننصبها عند البيادر، وفوق المزابل، وتحت المطر الزمهرير. ولا نصيد إلا نادراً. ومع ذلك، كنا سُعَداء.
نور الشمس الذي يُغافل الضباب ليظهر، وحده، يسطع في هذه الأنحاء. لاأرى نهراً، ولا بحراً. وأتساءل من أين يأتون بالأمواه إلى هذه الأصقاع؟ وكيف تكون »تايلاند» خضراء من الألف إلى الياء؟ وأكاد أنسى كل ما عرفته، من قبل، ورأيته، حتى أنني صرتُ أخاطب نفسي، متسائلاً بقَرَف، عندما التقيت بوجهي في المرآة: «هذا هو أنت»؟ «إلى هنا تلاحقني»؟ لكأنني سئمت من «الوحش» الذي يسكنني، من جهامته وضخامته، وقد بدا مُغالياً في «كل شيء» بين هذه الكائنات المليئة بالنعومة والمرابيع.
طريق الشمال التايلاندي منبسط وطويل. سهول خُضْر تمتد إلى آخر البصر. لكأن الطبيعة مَهَّدت القاع لقرون عديدة من أجل أن نسير، اليوم، بلا عقبات على الطريق. ولكن، لِمَ يبد الأفق البعيد قريباً، ولا يَحُدّ الرؤية سوى كتل الأشجار على الجانبين؟ الشمس ناعمة. والظلال معدومة. لكأن ضوء الشمس يسقط عمودياً على الأرض. وأكاد أنسى أنني على خط الاستواء تقريباً.
السهول الشاسعة غَمْر. من أين تجيء المياه الراكدة التي تغمر هذا الكون؟ وكيف يبدو سطح القاع أبْرَقَ وكأنه طُليَ بالفضة؟ مساحات لا نهائية مغمورة، كلها، بالماء. بماء راكد وسَخين، وكأنه الأخ الأكبر للأرض.مزارع الرز اللامحدودة، والأشياء الأخرى اللاطئة تحت الغَمْر، والناس، والحيوانات، وربما أحياء كثيرة غيرها لا أراها، كل هذا الخليط الحي مغمور ومتهيّء للإنبثاق منذ أن تشيل الطبيعة صَكّ القَيْد عنه. وأجدني أتساءل: لِمَ عشتُ في ذلك الصَهَد الحارق والقَيْظ؟ مَنْ عَلَّمني نسيان الماء؟ ولِمَ أعذِّب نفسي، الآن، بأسئلة مريبة في هذا النهار الجميل؟
بعد ساعات من المسير، وقبل المغيب بقليل، تبدو، أخيراً، في الأفق القصيّ، بعض الأكمات الخضراء. وتأخذ التلال العملاقة بالبُروز. وشيئاً، فشيئاً، تتوَضَّح معالم الطبيعة وسماتها، فينكشف الغمام عن سلاسل الجبال الشمالية الهابطة من السماء: من فضاء «لاووس»، و«مَيانْمارْ» (برمانيا، سابقاً)، و«كمبودجيا».
يتابع الباص سيره المنتظم بمحاذاتها، أولًا، ومن بعد، بشكل متعامد معها، صاعداً بهدوء نحو الشمال. آه! الشمال الأسطوري، أو الذي تأسْطَر، مع أنه لا يحوي سوى البرد والحديد.
الآن، تبدأ القمم الصخرية للجبال العملاقة بالظهور الجليّ. قمم تثير الخوف الكامن في القلب. كيف انشقِّت القاع عنها؟ ومَنْ زلزل الأرض لتنبثق منها هذه التصاريف الصخرية الراسخة؟ لكأن يَد الطبيعة نحَتَتْها خلال الأزل، إلى أن سَوَّتْها سَواطير من صُوّان. وأصير أهذي ساكتاً: كبرتَ والعالَم صار صغيراً! مَنْ سيحتويكَ، بعد الآن؟
سيخوتائي
في «سيخوتائي» المدينة الأمبراطورية، والعاصمة الأولى لتايْلانْد، سألبس «دروعي النفسية»، وأبدأ الجَوَلان. لكي أصل الفندق البَرّي الذي حجزتُ فيه، استقلّ «بيكْ-آبْ» مكشوفاً من الخلف، أَضع فيه حقيبتي الصغيرة، وأجلس فوق مقعده الخشبيّ الأغْبَر. ويبدأ الإهتزاز، منذ أن يدعَس السائق الأهتم على دَوّآسَة الوقود. وأصير أتمايل ذات اليمين، وذات الشمال، وأنا أتمسّك بقوة بأطراف القضبان المعدنية التي تحيط بهيكل السيارة. ويذكرني ذلك بسيارات «الجزيرة» أيام الحصاد. عندما يتناثر فوق رؤوسنا التراب المنبثق من احتكاك عجلات البيكْ-آب بالتراب الناعم مثل الحرير، والحصى المطحون من كثرة المرور. وكنا سعداء لأن الريح تطيّر أثواب البنات، وتطلق العنان لضحكاتهنّ الغاوية، وهنّ يُلَمْلِمْنَ شعورهن السود المتطايرة فوق وجوههنّ.
وأصير أغني بصوت عال في صندوق البيكْ- آبْ الحقير، وكأني في ليالي الحصاد في الجزيرة، عائداً إلى البيت عند المساء. وأحس اللحن في قلبي دون أن أسمع الصوت. ضجيج السيارة لا يدع مجالاً للاستماع. وأكتفي بمتعة القلب الذي أخذ يتهَجّى العالم أمامه، وكأنه قلب الطفل الذي تعلّق، ذات يوم، بجناح البيك- آب القديم، دون أن يتمكن من الجلوس، من كثرة المتزاحمين.
«سيخوتائي» تعني «الفجر». فجر الأمبراطورية التايلاندية الذي رأى النور هنا، على هذه البقعة الخضراء من البلاد. في هذه البَطْحاء يرميني السائق اللطيف، وهو يهز رأسه امعاناً في الاحترام، مشيراً بأصبعه القصير إلى خلاء أخضر مليء بركام التاريخ، قائلا: «هذه هي المدينة التي تبحث عنها». وعلى الفور يستدير، ويختفي.
أوه! يا إلهي! ستسحرني خرائب «سيخوتائي». أطلال عظمى من زمن آخر. وهياكل مزخرفة لا حد لجمالها. توحي بالعظمة والاحتدام. لكأنك لم تَرَ شيئاً قبل أن تراها. حياتك الماضية، كلها، تبدو عبثاً، ما دمت لم تملأ عينيك بوقائع التاريخ الكوني الذي كنتَ تجهله «عن ظهر قلب»، إلى الآن. ما دمت لم تتمتَّع بمشاهد آثار الأمبراطورية التايلاندية التي ازدهرت، ذات يوم، وأفِلَتْ. ولم يبق منها، الآن، سوى دَلائل عظمتها القديمة.
«بوذا» الأعظم يتصدَّر المداخل والمخارج. يجلس هادئاً على حجر الأبدية، منتظراً آخر الدهر ليقوم، ويمشي بهدوء، كعادته، نحو الخلود. ولكن، إلى أين تراه يريد أن يصل، وقد مَسَح الأرض، من قبل، بقدميه؟ إلى «أعماق نفسه» التي جاهد طويلاً ليخلِّصها من نفاياتها وأخماجها، ليجعلها صافية «كعين الديك»، كما يقولون في «الجزيرة»؟ وهل بإمكانه أن يفعل ذلك، أن يقاربه، أو أن يصل إليه؟
أغلق الكتاب، وأترك لعينيَّ حرية النظر إلى هذه المجاهيل التاريخية العظمى التي تحكي طاقة البشر على التخيّل والإنجاز. وهو ما يجعلني أدرك أن الإنسانية لا حد لمخيّلتها المبدعة. وأن الطغيان، هو، وحده، الذي يسمِّم العقل، ويقتل المخيّلة. ولكن، متى يفهم العرب ذلك؟
في المدخل المهيب، «بوذا»واقفًا، مادّاً يده (على مستوى هيكله، تعبيراً عن التواضع. فهو لا يرفعها مثل الزعماء العرب المتغطرسين)، يده، ذات الأصابع الطويلة الجميلة، يُحَيّي بها الأزل الذي لم يُصَفِّ حسابه معه، إلى الآن. لكأن التاريخ ديمومة بلا نهاية ( وهي ما أثبتَتْه علوم الكوزموس الحديثة)، أو شيء من هذا القبيل. فنحن لا نظل معجبين بنفس الأفكار، لكن ديمومتها اللامتناهية تسحرنا، حتى عندما نعتقد أننا تجاوزْناها. لأن التعابير، أو الكلمات، هي الأخرى، مثل الأحجار المنحوتة، أو المصقولة، تستطيع أن تمارس سحرها الطاغي علينا، حتى خارج الفضاء التي أُنجِزَتْ فيه، أو من أجله قيلَتْ، أو بسببه وُجِدَتْ. ولكن، لمَنْ أكتب هذا؟
«الأعمدة التدمرية العملاقة»، ها هي ذي أمامي تهيمن على فضاء «سيخوتاي». أعمدة الصحراء العربية تقف في الرطوبة والغمام؟ العشب من حولها، لا الرمال الذهبية الآتية من نجد. لا شمس محرقة، هنا، ولا سُجون. بشر حر وطليق، متعدد الأهواء والأجناس يمشي مذهولاً أمام روعة التاريخ التايلاندي. والتاريخ لا يخص صانعيه، فحسب. وهو، مع الزمن، يصير ملكاً حتى لمَنْ لم يساهم فيه. لأن تراث الإنسانية واحد مهما تنوَّعت الأمكنة والعقول. وبالتحديد لأن الوضع على هذه الشاكلة.
بين أطلال «سيخوتايْ» الهائلة الروعة أقف حائراً، متسائلاً: إلى أين أتوجَّه، الآن؟ ولا يكون الجواب صعباً: «إلى تاريخي». إلى تاريخي الشخصي الذي أوصلني إلى هذه الأصقاع، وحَرَّضني على أن أبحث عمّا لن ألقاه. أعرف ذلك. وأنا سعيد بمعرفتي هذه. ومع ذلك عليَّ أن أتابع البحث والتقصّي والإختلاط. وعلى الفور تبدأ قدماي السير بهدوء، وكأنني فوق «بساط الريح» أطير. وأصير أتنقَّل بين روائع التاريخ مردداً، وبي جَذْوة من شدة الغبطة والجَمال: آه! أطلال «سيخوتاي» المدهشة.
في «سيخوتائي» الحديثة أقعد على الحجر لأكتب. المساء فيها مرعب من كآبته، وخُموله. مدينة العمال والفلاحين المنتشرين في السُهوب الوسطى في «تايلاند». وأفهم الآن سرّ كَثْرَة البيكْ-آبات الزرقاء والحمراء الملوّثة بالعجاج والتراب، والمُرَقَّعَة بالتوتياء الصدئة، وهي تجوب شوارعها وأنحاءها. على مقاعدها المهترئة يجلس سائقوها ذوو الأسنان الصفر المهشَّمة، والذين لا يكفّون عن الإبتسام، حتى وأنت ترفض خدمتهم.
أوساخ متراكمة وحُثالات. زجاجات الكولا المزيفة، وشراب البرتقال المائي الشديد التحلية. أغراض مطاطية من كل نوع، وأدوات. خردة ومحاريث، تملأ عين الناظر أينما سار فيها. تذكّرني «بالحسكة» الغَبْراء قبل خمسين عاماً. وهي مثلها، مثل «مدينة الجزيرة « القديمة، تتوسط سهولاً زراعية لا حدود لها. ومثلها، أيضاً، تعتقد، بسبب محدودية رؤية أهلها المزارعين، الغاطسة رؤوسهم في القاع، أن العالم، كله، يدور حولها. من أجلها وُجِد. وبسببها ما زال قائماً! وهذه، هي، في الغالب، «أهْوال» الفكر الزراعي الكونيّ، حتى لا نقول أحواله.
آه! «سيخوتاي» المدينة التي أنشأها، ذات يوم، إمبراطور عظيم.
ثقة الجهل
لكي أتقي شَرّ البعوض والذباب والقوارض الأخرى الشديدة الأذى، المنتشرة في هذه السهول المزروعة حبوباً، وأرزاً، وقمحاً، والتي صارت مستنقعات خرافية، لكي أحمي نفسي منها، أدهن جلدي وثيابي، كل يوم، بمداهين وسوائل طبية مُنَفِّرة، ونابذة للذباب وأصناف الحشرات الأخرى. وأشرب، إضافة إلى ذلك، كل صباح مجموعة من الحبوب الطبية لإتقاء الملاريا والحمى الصفراء والتهاب الكبد، وما شابه من الأمراض والحُمّى.
كل هذه الاحتياطات الطبية من أجل أن أتجوّل براحة بين هذه السُهوب، وأتمتّع بهذه المرائي اللامثيل لها على وجه الأرض. فتايلاند ليست هي «بانكوك» وضواحيها، ولا هي المدن الأخرى، فقط، إنها هذه الطبيعة الرائعة الجَمال، وهذه الآثار الإنسانية التي لا تعوَّض.
اليوم، سأترك «سيخوتائي» بعد أن سحرَتْني بجمالها. ولكن، ما هي هذه المدينة الصغيرة التي تتوسط كل هذه السهول؟ ولِمَ اعتبرَتْها اليونسكو من تراث الإنسانية الخالد؟ ومتى وكيف نشأتْ؟
بدأ تاريخها عندما طرد الأمير «التاهي»: «بانْجْ كلانْجْ» الـ«خُمَيْرْ» الذين سيصبحون «حُمْراً» فيما بعد. عندما طرودوهم خارج البلاد في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي. وبعد أن تحررت منطقة السهول التايلاندية، أسس هذا الأمير الطَموح مملكة، عاصمتها «سيخوتائي». وسيتعاقب على هذه المملكة ثمانية ملوك من بعد. ومن أهمّهم الملك «راما خامْهنْجْ»، أو «راما القويّ». وهو أول مَن استعمل الأبجدية التايلاندية الحالية. و«سيخوتائي» تعني «الفجر»، أو «ولادة السعادة». وهي كلمة سنسكريتية، مأخوذة من البوذية. ليس صدفة، إذن، أننا نجد في «سيخوتائي» أكبر تمثال لبوذا.
الباص يسير بسرعة كبيرة. وأنا أنظر الغمام المتكاثف حولي كالجبال. والعالم «الذي كان غريباً «يمر أمام عيني بلا حُجُب. وأجدني أتمتِم بمَلامة: «ثقتكَ الحمقاء بأنك تعرف كل شيء هي التي صَيَّرَتْكَ جاهلاً. وإحساسك البليد بأنكَ ترى كل شيء، أو أنك ترى ما تريد، هو الذي أعمى بصيرتكَ. أنظر! أنت لا شيء في هذا الخضمّ الكوني الذي لا يحدُّه سوى الغمام. تبَصَّرْ، إذن. واصْغِ إلى كل شيء. وتعلَّمْ حتى من الدود. نعم! تعلَّمْ من الدود الذي يعرف كيف يحيا برغم ضآلة حجمه، وعدائية الآخرين اللامتناهية تجاهه، مع أنه لا يفعل شيئاً غير البحث عن أسباب الحياة على أرض كانت بالأصل له». وبعد أن أسحب نَفَساً عميقاً، أصرخ: «آه! أيها الأحمق»! ويلتفت المحيطون بي إليَّ. ولا يفهمون مما أقول شيئًا. بلى! أيها «الغبيّ»: لقد فهموا كل شيء. أنسيتَ ما قلتَه، للتَوّ؟
ستَتْركُ «سوخوتائي» المتمركزة حول نهرها العزيز الذي يشبه «الخابور» إلى حد بعيد. نهر «يومْ» الغاطس في القيعان. ستتركها باكراً هذا الصباح، وأنت تكاد أن تبكي. لكأنك تركت قبر أمك فيها، مع أنكَ لم تَرَها إلاّ منذ يومين، أو أقل قليلاً!
ما أبدَع الأمكنة، وما أقساها عندما تستولي على قلوبنا.
(*) مقاطع من نص طويل بهذا الاسم
كاتب وجراح من سورية يقيم في فرنسا