لقد أولى الأدب العربي قديمه وحديثه عناية خاصة لمسألتي الخيال والفانتازيا في عملية الخلق الفني وصياغة النص الأدبي، وذلك لما تتيحه عوالم الروح والخيال من مساحات شاسعة للتعبير وآفاق رحبة من الحرية وبالتالي الإبداع والمزيد منه على نحو لا يعرف سقفا معينا، تصطدم به الموهبة والرغبة في تقصي حقائق الذات والعالم والموجودات.
ولنا في المدوّنة الأدبية العربية نماذج عديدة، تُظهر استدعاء عدة آثار شهيرة وذات قيمة مضمونية وفنية للخيال وللفانتازيا، كجناحين استثنائيين حلق بهما الأديب العربي في فضاءات عجائبية وسحرية وأسطورية، فكان الخيال، حافزه لركوب المغايرة وحيلته لتمرير أعمق الرسائل وأخطرها. فالخيال هو جواد الأديب العربي الذي لا مفر له من ركوبه للذهاب بعيدا حيث مدن الأعماق وسماوات المعاني والدلالات المتمنعة.
ومن هذه الآثار التي وفر فيها الخيال لأصحابها متعة السفر ولذة ابتكار عوالم جديدة تبني فيها الذات الكاتبة وفق الهندسة التي تشتهيها والمعمار الذي ترتضيه، نذكر على سبيل المثال رائعة «ألف ليلة وليلة» وكتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي و«البخلاء» للجاحظ وحتى «كليلة ودمنة» لابن المقفع رغم أنه أثر فارسي، فإنه قد أثر في الثقافة العربية.
إن كتاب « ألف ليلة وليلة» بشخصياته الأدبية الخيالية كعلاء الدين وعلي بابا والسندباد البحري وغيرها، يمثل أثرا مليئا بالسحر وبعوالم الخيال والفانتازيا الفسيحة ذلك أن شهرزاد صاحبة الذكاء والبراعة في فن الحكاية، قد استنجدت بالخيال لتمنع عنها مصير القتل ولترويض شهريار الذي آلى على نفسه إفناء سلالة حواء بسبب خيانة زوجته له. وأمام هذا المصير المفجع واجهت شهرزاد آخر جواري شهريار الموت بالفن. فكان خيالها طوق النجاة الذي تتشبث فيه كل ليلة حتى مطلع الفجر. ومن خلال حكايات تتغذى بالخيال وأدواته حظيت الإنسانية بعمل أدبي ممتع، تقاوم فيه المرأة السلطة والمركبات النفسية وفوضى العالم والظلم وسيادة الغرائز، إضافة إلى أنه عمل يشكل وثيقة أدبية دامغة تؤكد الصورة الإيجابية للمرأة وقدرتها على ابتكار عوالم أفضل وتحويل وجهة الواقع المادي إلى غير أهدافه وذلك عن طريق الحكاية وفن القص والتشويق إلى حد الانجذاب والشد فكانت شهرزاد بخيالها تطيل عمرها وتجعله في حالة موازاة مع شساعته وثرائه وبراعته جاعلة الحياة مكافأة تضاهي كفاءة الخيال عندها ورحابته.
وإذا كان الخيال أملى على شهرزاد أن تبعث الروح في شخصيات من وضع تشكيلها، فإن المقفع الذي عاش في القرن الثامن الميلادي قد مرر أفكاره ورسائله على لسان الحيوان، كقناع كان تقريبا أول من ابتكره من أجل محاربة الظلم، في حين أن الجاحظ طوع خياله للذهاب في السخرية الموجهة أشواطا بلغ فيها مستويات متقدمة في النقد والبلاغة ومفككا للأوضاع التي عليها أمته اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا وذلك عن طريق تفكيك المنظومة القيمية وأنماط السلوك لدى مجتمعه بالاستناد إلى الخيال الفسيح الذي آمن له تجسيد المبالغة كأداة من أدوات النقد الذكي واللاذع. ومن خلال هذه الأمثلة، نتبين أهمية دور الخيال في التعبير عن مضامين خطيرة وحساسة بشكل رمزي وغير مباشر من جهة وفي شحن همة المخيلة لدى الأديب العربي لابتكار عوالم جذابة وجديدة ومختلفة وفي صياغة العالم الذي يهفو إليه والقيم التي يرنو إليها من جهة أخرى.
ذلك أن الخيال مظهر من مظاهر قوة التجربة الإبداعية، أداة ذكية للقول وللنقد وللسخرية دون تحمل تبعات هذه الأفعال، التي عادة ما تتصدر لها الظروف السياسية والمجتمعية بالمرصاد، فيصبح ساعتها الخيال وقودا به تتحرك شجاعة الأديب وتتحقق جرأته الفنية .وبالتالي فإن الخيال ليس طريقنا لتوفير بديل مواز للظروف السياسية والمجتمعية الكابحة للتعبير والنقد وللتجديد، بل هو عنصر لازم وأحد أهم مكونات كيمياء الفن بوصفه فعلا في الواقع وحافزا لإعادة ترتيبه وتخليصه من الفوضى الذي تلحقه به قيم الغطرسة والجور والمركبات النفسية وسلطة العادات والتقاليد ذات الحراسة المجتمعية العتيدة والصارمة أي أن الخيال أبعد ما يكون عن حل به نُعوض محدودية التعبير وانعدام الحرية، بقدر ما هو أداة فنية وإبداعية أساسية ومظهر من مظاهر الكشف عن قدرة المبدع على الخلق والابتكار والترميز.
وحال الشعر مع الخيالي والسحري لا يختلف عن حال السرد، بل انه يتجاوزه من ناحية أن الشعر هو أساسا ضرب من ضروب التخييل وهو الذي يُحفز المتلقي على ترويض مخيلته وتنمية مهاراتها. ولنا في تعاريف النقاد والبلاغيين القدامى ما يصب في هذه الخانة ويدعمها ويؤصلها بمعنى التأصيل التاريخي لدور الخيال في العملية الإبداعية فيقول الجرجاني إن «الخيال قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة، بحيث يشاهدها الحس المشترك كلّما التفت إليها فهو خزانة للحس المشترك» ويضيف الجرحاني أن التخيل جزء لا يتجزأ من العمل الفني وأن الشعر يقوم على المعاني التخيلية، بل إنه يذهب إلى حد إعلان أن الكذب في الشعر يعني حرية التعبير المطلقة والاتساع والتخيل واختراع الصور الفنية. ويؤازره في نفس المسار ابن سينا الذي يعرف الشعر بأنه «كلام مخيل» إذ يستعمل الشعر التخيل لتفكيك وإعادة بناء الموجودات والقيم والأفكار وأنماط السلوك والمنظومات الرمزية.
ولعل هذا التأكيد على المنزلة الكبرى والأساسية التي يحظى بها الخيال في العملية الإبداعية والتوليدية الجمالية، هو في أحد أبعاده نتاج أثر الفلسفة اليونانية في الثقافات عامة، بما فيما الثقافة العربية إذ الخيال كأداة لممارسة الإبداع قيمة متفق حولها.
وبالنسبة إلي تقتات القصيدة إلى جانب التجربة الحياتية والنبض الحي لتلك اللحظة الخارقة المفجرة لحالة الكتابة، من قدرتي على التخييل، خصوصا أن الذات الشاعرة في قصيدتي ترنو إلى بناء عالم مغاير وتؤسس لقيم تفتقر إليها أو نتوق إليها أو نحن إليها.
والصورة الشعرية التي تعد مركز الإبداع الأول الذي يكشف عن قدرة الشاعر في إنتاج صور مستحدثة ومركبة ومدهشة وقابلة للتأويل أكثر منه التفسير، تتكئ في تشكلها على الخيال والميثيولوجيا والأسطورة والعجائبية والخرافة والروحي. ودور الخيال في القصيدة هو صهر كل هذه العيون مع بعضها البعض وتحويلها إلى نافورة متجانسة، يمارس فيها الشاعر لعبة إعادة ترتيب العناصر وحرية استدعاء أبطال أسطوريين والتلبس بهم وأيضا جعل الهامشي في عالم الواقع، مركزيا في عالم الشعر، باعتبار أن القصيدة الحديثة توظف المخزون الثقافي الرمزي لإنتاج معان جديدة. من هذا المنطلق، تهفو قصيدتي إلى جعل اللغة فضاء يقوم على الاستعارة كما هو الحال في هذا المقطع:
طِفلةُ الجُنُونِ أنا
هِوَايَتِي
اِبْتِكَارُ قِنْدِيلٍ لِنَهَارِي
اِبْتِكَارُ وَهْمٍ
يُحَدِّقُ في عَيْنِ الحَقِيقَةِ.
اِبْتِكَارُ مَوْتٍ
يُضْحِكُ الشبَنَفْسَج
يُطِيلُ حياةَ أُمي، عُمْرَ أَبِي.
ابْتكَارُ جَسَدٍ
يَقِف فيه الزَّمنُ
يُورِقُ فيه المَكَان
شَجَرَةَ زَيْتُونٍ.
وأيضا الاستناد إلى لغة تستدعي بعض الرموز والأساطير:
وفي موقع آخر يحضر النبي يوسف الذي أُولي شطر الحسن والقدرة المتفردة في تفسير الأحلام ومعه زليخة رمز العشق الجارف:
رَأَيْتُ الآنَ «يُوسُفَ»
هُنَا علَى مَوْجةِ الشَّوْقِ
يَمْشِي، وَاثِقًا،
ولمّا بِهِ أمْسَكْتُ
قَالَ :
«اللَّيْلَةَ، فِي حُلْمِي أرَاكِ»
فعدْتُ
إلى يقْظَتِي.
وفي قصيدة أخرى تسجل الكاهنة البربرية حضورها الثوري الرافض:
يا أبتي،
كيف صدّقت بياض قرن الجاموس
وأن عظم الجمل أسود
وأنه ربما ستنجب لك الحبيبة بعدي طفلة.
كيف استطعت الجلوس ألف عام عند رأسي
تتيمم بتاجه
ترتّب حاجبي
وتحرس ليلا غاسقا غشّى شعري.
تسلّم وجهي فضيحته
وأقداحا تتمايل في ليلها.
تعلّمني الكتابة بالغياب
والسيّر خطوة واحدة
من قمّة جبل إلى صدره.
يا أبتي،
دعنا في غدائر الكاهنة نغتسل
نحترق وفاء
نأخذ القرار في حالة سكر!
ومرة أستدعي هيلين التي صورتها إلياذة هوميروس كأجمل نساء أرض والتي فرت إلى طروادة بسبب وقوعها تحت سحر آلهة الجمال عند الإغريق فينوس حيث هامت حبا برجل غير زوجها.
إضافة إلى استدعاء إله النار لدى الهندوس «أجنبي» و«أنكيدو» الشخصية الشهيرة في الميثولوجيا السومرية وبطل ملحمة «جلجامش» الباحثة عن الخلود وإكسير الحياة.
هل نحن يا جدتي
واحد أم كثر
ومن للآخر يحتاج أكثر
الملتفون حوله أم الذي حوله ملتفون.
من الأكثر دهشة
الأنبياء أم الشعراء
من رتّب الكون
أم من نصّب الأطفال خلفاء.
يا جدتي،
حرريني من شروري
حرري
ذاتا مباركة!
يا أيتها الرّبة «فاكا»
تكلّمي
خبّريني عن آخر حفل للتّضحية
عن حيرة بددتها ترنيمة الخلق
إن «آجني» أقسم بحرق الكوخ
فماذا يا جدتي أقول
والأنبياء في الخارج ينتظرون!
ويمكن القول في هذا الصدد إن الخيال هو الذي يجعل الشاعر يستفيد من معارفه داخل القصيدة ويعيد إنتاج تلك المعارف بشكل يجعلها جديدة ويبعث فيها الحياة والمعنى من جديد بإبداع وخارق لما كانت عليه. فالخيال يساعد الكتابة الشعرية على المحو في اللحظة التي يؤمن لها البناء إضافة إلى تشكيل كائنات تكون قناعنا في التعبير كما حاولت ذلك في قصيدة «أنثى الجنون» أو «أنثى الماء» وغيرهما.
إن الخيال كما أتحسسه في القصيدة يزاوج بين خيالي الشخصي والخيال الذاتي والجمعي المشترك وهو مطيتي لبلوغ هدفين اثنين: الأول ممارسة لعبة الشعر بما تعنيه من هندسة وابتكار وتمنع وترميز وإنتاج وإعادة إنتاج وترتيب الفوضى وتوظيف المخزون الجمالي للإنسانية .والهدف الثاني يتيح لي مساحة خصبة للتعبير ولممارسة وظيفتي في الانشقاق والهدم لاسيما وأن الذات الشاعرة في قصيدتي تسعى إلى الانتقام فنا وبناء من الواقع المباشر خصوصا الواقع الاجتماعي والسياسي العربي الذي يقف بالمرصاد ضد حق الفرد في التغيير وفي الوجود الكامل الحقوق متحصنا في ذلك بثقافة تعودت الإنصات إلى صوت الجماعة أولا ومصلحة الجماعة أولا في حين يأتي الفرد في مقام متأخر ولعل التخيل من الأدوات التي يُمكن التعويل عليها، كي يسترد الفرد حظوظه في الواقع المادي المحسوس باعتبار أن التخييل فعل في القصيدة، يتسرب إلى أرض الواقع بفعل التراكم والقدرة على النفاذ إلى مخيلة المتلقي والتأثير فيها.
شاعرة من تونس