نعيش زمن البحث عن الذات، فيما نملك ويتملكنا، فيما يحيط بنا ويسيّرنا، أو قل في ثقافتنا التي ورثناها، والتي سنورثها لمن يأتي بعدنا، والذين سيورثونها كذلك للخلف، هكذا تتوارث الأجيال والثقافات، إلى أن يعلن الدهر استسلامه للقدر.
وبهذا المعنى نسلط الضوء على النص المتوارث، تراثنا الذي وجدنا أنفسنا ندور فيه، وعندما أقول تراثنا، أعني بذلك الأنا الفردية، والنحن الجمعية، والأنا هنا أضعها أمام الآخر، أي كان موقعه ومكانته.
يوحي لفظ التراث للبعض على أنه مجموعة من الأشياء المادية، يتطاير منها الغبار، وتنبعث منها رائحة الهرم، ويسودها الاهتراء، وبالتالي تنزوي هذه الصور في ذاكرة قاتمة، لا تقيم أي وزن للتراث، ولا تفرق بين تراث مادي متمثل في أحجار وأدوات، وأزياء.. ألخ، وبين تراث غير مادي شفاهي، أعتمد على الذاكرة في البقاء، هذا التراث الشفاهي ساهم في تدوين التاريخ، الأحاديث النبوية مثالا، فبعد وفاة الرسول كُتبت الأحاديث من أفواه الرواة، وهكذا دخل التراث الشفوي في دائرة الاهتمام، وليست الأحاديث وحدها التي انتقلت من مرحلة الشفاهية إلى الكتابة، بل سبقتها أيضا العديد من الآداب والسير والبطولات في الثقافة العربية، إذا هل يحق لي أن أقول أن جزءا من ثقافتنا العربية كان شفاهيا في البدء؟، ثم أصبح مكتوبا بعد ذلك، أقول نعم إذا أمعنا النظر في المرحلة التي سبقت الإسلام، المسماه «بالعصر الجاهلي»، مع تحفظي على الاسم، لأنه برأيي أن تلك الفترة لم تكن كلها جاهلية، بل فيها جوانب مشرقة يمكن أن تذكر، ولم ينقطع هذا التراث الشفوي عن التدوين في العصر الإسلامي، فعلي سبيل الذكر، رحلة ابن بطوطة، إذ لم يكتب ابن بطوطة شيئا خلال رحلته، وإنما أملاها، بأمر من السلطان المغربي أبي عنان، على الكاتب والشاعر محمد بن جُزَي، الذي فرغ من تدوينها في سنة 1356 .
بعد هذه الإطلالة أود أن أتحدث عن مكونات الأدب الشفاهي، والصداقة، والدبرارات.
الأدب الشفوي:
أعني بالأدب الشفوي، كافة الآثار اللغوية التي تثير فينا بفضل خصائص صياغتها انفعالات عاطفية أو احساسات جمالية، والتي تعتمد على الشفاه في إيصالها إلى الآخرين، وأقصد كل الأدب المنطوق باللغة الشحرية، وهي الدبرارات والنانا والأمثال، والحكم.
يصنف الأدب الشفوي ضمن التراث غير المادي، الذي يُقصد به « المعتقدات والأساطير وأشكال التعبير اللفظي والمعارف والمهارات التي تعتبرها الجماعة والأفراد، جزءاً من تراثها الثقافي، وبذلك يُدرج ضمن التراث الثقافي الذي يُقصد به « مجموعة النماذج الثقافية التي يتلقاها الشخص من الجماعات المختلفة التي يعيش معها».
الدبرارات:
الدبرارات : هي قصائد طويلة مكونة من عشرات الأبيات الموزونة، يطرح فيها الشعراء آراءهم، وقضاياهم، ويحرص الشاعر على تأثيث دبراراته بمفردات جميلة ورائعة، وتقال في المدح والهجاء والرثاء والتحريض أحيانا، وقد أجاد العديد من الشعراء في هذا المجال نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الشاعر عامر سهيل العمري المعروف (بعامر شودر) والشاعر محاد سعيد إرعيب العمري، والشاعر محاد سالم كشوب المعروف (بمحاد الفهد).
الصداقة :
تمدنا المعاجم اللغوية العربية بالعديد من التعريفات للصداقة، فقد جاء في لسان العرب لابن منظور، الصداقة من الصديق، والصديق نقيض الكذب، وبهذا تكون الصداقة هي النصيحة والإخاء، والصديق هو المصادق لك، والجمع صدقاء، وصدقان وأصدقاء وأصادق، وقد يقال للواحد والجمع والمؤنث، كما ذكره اسامة سعد أبو سريع في كتابه الصداقة من منظور علم النفس الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة عدد179 والمنشور في فبراير 1993، الكويت.
وجاء في كتاب « الفروق في اللغة، لأبي هلال العسكري؛ إن الصداقة تعني اتفاق الضمائر على المودة.
وتوجد العديد من المؤلفات العربية التي تكشف لنا عناية المفكرين العرب بالصداقة، فقد خصص ابن المقفع بابا بعنوان « في معاملة الصديق في كتابه (الأدب الكبير) يركز فيه على آداب التعامل مع الأصدقاء ومن أقواله « أعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء وعدة في الشدة، ومعونة في المعاشر والمعاد».
كما كتب ابن مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق» إن الناس يسعون في حياتهم لنيل واحدة أو أكثر من بين ثلاث حاجات وهي الله والمنفعة والفضيلة، وفي هذا الكتاب يظهر تأثر ابن مسكويه برأي أرسطو في الصداقة في كتابه (علم الأخلاق) الذي يميز فيه صداقة الفضيلة عن صداقة المنفعة وصداقة اللذة، ويقول أرسطو إن أفضل صداقة هي صداقة الفضيلة لأنها لا مصلحة من ورائها ولا لذة تجري خلفها، كما أن الصداقة الحقة لا تتكون بسرعة ابدأ، وأنها لا تكتمل إلا على مدى الزمن، ويقول أرسطو أيضا « إن البعد بين الصديقين لا يقطع الصداقة ولكن يوقف مظهرها إيقافا مؤقتا، وأن الصداقة الحقة تقتصر على شخص واحد لأن الروابط المتعددة لا تكون بالعمق المطلوب، فمن الصعب أن يحظى الشخص بحب الكثيرين ويرتبط معهم بصداقة كاملة.
الصداقة في ثقافتنا المحلية:
يُعد الإنسان كائنا اجتماعيا بالطبع، فهو لا يعيش بمعزل عن الآخرين، ولا يستطيع أن يتعايش مع الوحدة، فهو بحاجة دائمة إلى الأصدقاء، لذا فإن البحث عن الصداقة ليس وليد اللحظة، بل هو اهتمام منذ القدم، نظرا للمكانة التي تشغلها الصداقة كقيمة إنسانية جميلة، يعتز بها الفرد وتحافظ عليها الجماعة ويتقبلها المجتمع.
لذلك لم يكن من المستغرب، أن يحتفي التراث الإنساني بالصداقة، ويدعو إليها، كونها قُربى خارج نطاق الأسرة والعشيرة، وهذا ما نجده في تراثنا الشفاهي، إذ نجد في شعر الدبرارات المنطوقة باللغة الشحرية، الكثير من الشعراء الذين، يمجدون الصداقة، ويطلبون انتقاء الأصدقاء، والوقوف معهم، وقد ذكرنا بعضا مما كتبه أرسطو في كتابه ( علم الأخلاق)، الذي شدد على أهمية الصداقة بأنها احدى الحاجات الضرورية للحياة لأنه لا يقدر أن يعيش بلا أصدقاء مهما توافرت له الخبرات، فالأصدقاء هم الملاذ الذي نلجأ إليه وقت الشدة والضيق، ونجد بين ما ذكره أرسطو وبين ما نعيشه في محافظة ظفار بعض التماهي، ذلك لأن الفطرة الإنسانية واحدة أينما وجد الإنسان، بصرف النظر عن مكانه وزمانه.
للصداقة في ظفار مكانة متميزة، بل وسامية تلك الصداقة تصل في كثير من الحالات إلى القرابة ويصبح الصديق من ذوي القربى له ما عليهم وعليه ما عليهم، بل في بعض الأحايين بلغت الصداقة بين بعض الأصدقاء، في ظفار إلى حد التوريث، فالصداقة لا ترحل برحيل صاحبها بل تظل متوارثة كرباط مقدس، وأود أن أطلق على هذا النوع من العلاقة «بالصداقة المقدسة»، ويطلق على الصديق في اللغة الشحرية (العشير)، دليلا على المكانة التي يوليها الأقدمون للصديق، فهو صاحب وعشير.
لذلك لم يكن من المستغرب أن نجد الصداقة حاضرة حضورا ظاهريا في الكثير من موروثنا الشعبي، ففي الأمثال مثلا نجد :
– أتغُرب أعاشرك أد لخلف عش: ترجمته لا تعرف صديقك حتى تستبدله.
– أعشر إرحيم إخير، عر أغا إديفر: ترجمته الصديق الفاضل أفضل من الشقيق السيء.
– ألبيكي تو عر سُودقي، بُل إضحك تو عر خصمي : ترجمته ما أبكاني إلا صديقي وما أضحكني إلا عدوي.
– أيشقوا ثرن عيشور :ترجمته لا يتباغض الأصدقاء.
– إيير حكوم بجاش ألعد أعشر أديي :ترجمته من هرم وخرف لم يُعد صديق أحد.
هذا بعض مما وجدناه في موروثنا الشعبي، عن أهمية الأصدقاء والصداقة.
لم تلد الصدفة هذه الأمثال والحكم، بل توصلت إليها قناعة القدماء، أي أن صياغة هذه الأمثال قد صاغتها التجربة، فالإنسان لا يحدد حُكمه تجاه الأشياء، إلا بعد يقين، هذا اليقين يقال عنه لا حقا حكمة.
نأتي الآن إلى بعض المقتطفات من شعر الدبرارات، واستشهد هنا ببعض الأبيات من شعر للشاعر المرحوم محاد سالم كشوب المعروف (بمحاد الفهد)، وقد اخترت أشعار محاد الفهد كونها محفوظة في أشرطة سمعية (كاسيتات)، يمكن سماعها وترجمتها، بالإضافة إلى غزارة الإنتاج الشعري لدى محاد الفهد خاصة فيما يتعلق بذكر الصداقة والصديق .
قبل ذكر الأبيات، أود أن أطرح رأياً في الصور الجمالية لشعر الدبرارات، التي يجسد فيها الشاعر ما يراه، وما يحيط به لذلك نجد المكان الجغرافي حاضرا بكثافة في الدبرارات، فالشاعر مثلا يصف حركة السحب ونزول الأمطار، وطلوع العشب، وعلو القمم الجبلية، ومن أروع الصور في شعر الدبرارت وصف امتداد الظل، وهو مالم نجده في جماليات الشعر العربي، هذا إذا استثنينا قصيدة محمود درويش (وصف الظل العالي)، كما يفصل الشاعر الزمن، إلى لحظات ومواقيت.
ونفهم من ذلك أن الإنسان يتمثل ما يحيط به ويدركه من خلال المعايشة، ويطرحه كأدب أو فن، بمعنى آخر أن الشاعر هو ابن بيئته، يرصد ما يدور فيها، ويستنطق مكوناتها من خلال مخاطبتها في الأشعار أو الرسوم، فعلى سبيل المثال، توجد في كل النقوش المحفورة أو المرسومة على الجدران في كل أنحاء العالم، توثيق للحالة التي عاش ذلك الإنسان، فهو يرسم حيوانات أراد صيدها، أو كان يمتلكها، أو يخط رسومات للشمس والنجوم.
من هنا نفهم حضور البيئة في الأدب الشفاهي في ظفار، مثل شعر الدبرارات، أو النانا وغيرها.
الصداقة في الدبرارات:
يأتي ذكر الصديق في الدبرارات (بالعشر)، والعشر أوالعشير تعني الصاحب.
وهنا يقول محاد الفهد في دبرارته :
تعبار بسن إرعبيب.. من عق إذ طلع بعقر
« إدور إزيون رحيم.. دون اتقبلب.. كون دفر.
ذبيش العك تطيف شنج.. بعشر ألغرب عشر.
بفرح أتفطنس لا… إذ حُرك ديش يشعذر.
ترجمتها:
رجع الزمان جميلا.. لكن عواقبه وخيمه
ففيه لا تزور أهل.. وصديق لا يعرف أصدقائه
والنخوة لا تتفطنها .. إذا طلبت منه يعتذر.
ويقول في دبرارة أخرى :
يصر أعشر إرحيم .. هير حِك أعيون بشنضف
بش اصُنخ إكساء ..عق أعضيض بينسف.
ترجمتها:
يقف الصديق الفاضل .. إذا امتحنته السنون.
فيه الهمة تجد.. في ذاته والبدن.
يقول الفهد في دبرارة أخرى:
«عمد أعشر إرحيم .. دك أتبتلى بذفذف
كل حهل تكسش لا ديديت.. بعق اركن ينضف»
ترجمتها:
أعتمد على الصديق الفاضل .. ولا تبتلي بالبقية
دائما تجده على ارتياح .. الهمة فيه والعزيمة.
ختاما أقول أن تراثنا الشعبي مليء بالصور الإنسانية، التي لا نلتفت إليها إلا بعدما نجدها لدى ثقافة الآخرين، ونظن في بادئ الأمر إن ثقافتنا شعبية لا ترضي غرورنا الذاتي، فنتبنى ثقافات أخرى، لا تمثلنا ولا يمكن أن نصل إلى جوهرها، إذا أن الجوهر يعني الذات نشعر، فما قيمة الأشياء إن فقدت جوهرها؟، وما معنى الحياة بلا ذات؟.
وأقول في نهاية هذا المداخلة ما قاله الإمام الشافعي:
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
فلا خير في ود يجيء تكلفا
ولا خير في خل يخون خليله
ويرميه من بعد المودة بالجفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها
صديق صدوق صادق الوعد مُنصفا.
قاص وكاتب من عُمان