الناظر عن بعد تبدو له الكويت بلادا جميلة وثرية وهادئة وهي كذلك فعلا تتجول فيها فترى المباني الفخمة والشوارع الأنيقة والناس في أفضل حالاتهم، قد تجلس الى أحدهم فيعاملك بلطف وينفتح معك في أحاديث هادئة ولكن وحده الكاتب يمدّ قلمه فيسقط أقنعة المدن ويجوس في الشوارع الخلفية ويدخل البيوت الفوضوية ويلامس أوجاع المهمّشين، والروائية فوزية شويش السالم واحدة من كتّاب الكويت التي انشغلت بالكتابة عن الواجهة الخلفية للكويت واهتمت بالمنسيين والبؤساء من ذلك مثلا روايتها «سلالم النهار»، بما يعني انها اختارت ان تكتب وفقا للمدرسة الواقعية الاجتماعية التي تتحدث عن المسكوت عنه في مجتمعات العالم الثالث وفي دول الخليج وهي بذلك تكتب عن قاع المجتمع عن الطبقة المهمشة والمنسيّة بل اختارت «قاع القاع» أي انشغلت بتفاصيل الفساد والفوضى، وان كان قاع المدن يختلف من بلاد الى أخرى وفقا للمنظومة الثقافية والاجتماعية وقد يتمثّل في ظاهرة الزواج السرّي أو في أطفال الشوارع أو في عالم الدعارة فانها تتحدد في المجتمع الكويتي في شريحة البدون والتي بقدر ما يحاول السياسي التعتيم عليها والاحتفاظ بواجهة سياسية جميلة ولمّاعة فان أدباء الكويت اهتموا بهذا القاع كلّ على طريقته ابتداء بالروائي الكويتي الكبير اسماعيل فهد اسماعيلفي روايته «في حضرة العنقاء والخلّ الوفي» وصولا الى الروائي الشاب والموهوب سعود السنعوسي الحائز على الجائزة العالمية للرواية العربية عن روايته « ساق البامبو» وانتهاء بآخر الاصدارات (2013) رواية «الصهد» لناصر الظفيري.. والروائية فوزية شويش تستغل شريحة البدون لتذهب بعيدا في رصد ملامح الفساد الشديد في الواجهة الخلفية للبلاد ولعل بمثل هذه الواقعية التي تُسمّى وفق المدرسة الامريكية بـ«الواقعية القذرة» التي تتوغّل بعيدا في المسكوت عنه والمهمّش والتي نهل منها مثلا الامريكي بول أستر في ثلاثية نيويورك والمصري صنع الله ابراهيم في «تلك الرائحة»حيث يكشف الأدب عن مستنقعات القاع المتعفّنة التي تعتبر حقولا خصبة للابداع مثلما يذهب الى ذلك الشكلانيون الروس. قد اختارت الروائية فوزية شويش قد المسلك التجريبي – بمعنى ما – لمقاربة المُهمل في المجتمع الكويتي واهتمت كثيرا بوصف التقلّبات النفسية لشخوصها ومن خلال ذلك تكشف هذه الشخوص للقارئ تجاربهم الحياتية المتقلبة ويقومون بتعرية قاع المدينة.
1 – عتبات ممكنة …
أ / دلالة العنوان «سلالم النهار»:
تختارالأديبة فوزية شويش السالم عنوانا ايحائيا يميل الى الشعرية « سلالم النهار» :
– السلالم : جمع سُلّم وقد تكون في البناءات هي سلسلة من الدرجات تعتبر وسيلة تواصل بين الطابق والآخر وبحيث تجعل حركة الانتقال من الاسفل الى الاعلى بأسلوب مريح وآمن .
كما يمكن للسلم ان يحيلنا على السلّم الموسيقي وهو تسلسل النغمات (ري – مي – فا – صول – لا – سي) والسلم الموسيقي نوعان فيه الكبير والصغير وبالنسبة الى الألحان القائمة على السلالم الكبيرة تبدو لامعة ومبهجة ومتفائلة في حين تبدو الألحان المعتمدة على السلالم الصغيرة كئيبة وجادة.
– النهار من «الصبح الى المغرب أي من طلوع الفجر الى غروب الشمس» وهو جمع نُهر وأنهر والنهار ضد الليل وهما لا يجتمعان أبدا ونقول كناية عن انفراج الأزمة «نهار آخر الليل» ( المعجم الوسيط )
الأديبة فوزية الشويش السالم تجعل للنهار سلالم لنصعد بتدرّجفي اتجاه الضوء والحياة، بما يعني ان اللحظة الراهنة المفترضة هي الليل، الظلام، هي حراك اجتماعي موبوء بأمراض مختلفة لعلها الجهل والتخلّف والفوضى وأوجاع المسحوقين بما يعني ان الأديبة تخرج من قاع المجتمع وترتقي سلالم اسمنتية لتطلع الطابق الأعلى من الحياة أو لعلها ترتقي على سلالم موسيقى لتنتقل من أنغام الكآبة الى أنغام البهجة .
ب / لوحة الغلاف :
صورة الغلاف تتماهى بشكل ما مع عنوان الرواية عندما نجدها لوحة تفتح على داخل غرفة مظلمة ويفتح الباب لنرى توهّج النهار ونلمح طيفا بدون ملامح واضحة يترك النهار خلفه ليدخل الليل لعلها طريقة مقصودة لارباك القارئ بالدخول في الظلمة وتأكيد ان صاحب الطيف يترك الضوء المبهر ليحتمي بالسواد الداكن وربما هي طريقة للتأكيد ان العقل الذي استكان طويلا للظلمة لا يعتاد بسهولة الضوء تماما مثلما كان الفيلسوف اليوناني افلاطون يفعلفي امثولته الشهيرة «الكهف» (1) يدفع المتفلسف الى الخروج من كهف العادات والتقاليد والأحكام المسبقة والمعارف الجاهزة واليقين المتكلّس لينطلق خارج الكهف واكتشاف المثل الحقيقية ولكن هذا المتفلسف الذي اعتاد ان يفكر في الظلام لا يتحمّل ضوء المعرفة فيحتاج أن يعود الى الكهف في كل مرة حتى يُعَوّد بصره على تحمّل الضوء الساطع خارج الكهف وحتى يَعتاد عقله على التفكير العقلاني ضد ثقافة الكهف ..لذلك تبدو لوحة الغلاف تتمّة لعنوان الرواية فاذا كان العنوان (سلالم النهار) يغادر بنا الليل لتصعد بنا السلالم ضوء النهار فان لوحة الغلاف تقوم بحركة ارتدادية من خارج الضوء والعودة الى الظلمة على طريقة افلاطون وعندما نقرأ الرواية نجد الروائية فوزية شويش في بنائها السردي تنزل بنا في كل مرة عبر السلالم الاسمنية الى قاع المجتمع وعبر السلالم الموسيقية الى فوضى الواقع لتعود وتصعد بنا في اتجاه الحياة حيث الحركة والحب والتصالح مع الذات عبر شخصيات مرتبكة يبدو انها اختارتها بعناية لتعكس حراكا شديدا في قاع المجتمع الكويتي.
– ملخّص الرواية :
الرواية كما أجدها لا تهتم بأحداث، لا تفكر في حبكة ولا تنشغل بحكاية وانما تهتم بشخوص وتنصبّ على تركيبة معقّدة للشخصيات وتتوغّل في هواجسها وأحلامها وانكساراتها وتبيّن صعوبة تصالحها مع عوالمها ومن ثمة الرواية تهتم بالعلاقات الانسانية المرتبكة.. لذلك وجدتني بعد قراءتها مرتين أتأكد ان السرد فيها لا يقدم الحدث كأولوية وانما يقدم الشخوص وهي التي تسرد حكاياتها والقارئ هو الذي يكتشف حبكة الحكيولعل هذا من عناصر الجِدّة في الرواية التي تدور حول شخصيتين أساسيتين هما فهدة والرشوش شقيقان من بدون الكويت من خلالهما نتعرف على شخصية مركّبة ومتناقضة وقلقة وحالمة وهشّة تمثلها فهدة في جانبها الأنثوي والرّشوش في جانبها الذكوري، تعاني هذه الشخصية من صعوبات نفسية واجتماعية وتحلم النفس بالأفضل وهذا الأفضل يبدو في آخر الروايةباختيار المرأة فهدة الانزواء في مكان بعيد عن بلادها والانغماس في تجربة روحية كأنها تعتذر من نفسها عن كل الدرن في مجتمعها واختيار الرشوش طريق العلم والمعرفة الاكاديمية بعيدا عن بلاده أيضا ولعله في الحالتين تنتهي الى تقنية دفاعية من الشخصية الرئيسية لمواجهة الفساد والفوضى والجهل المتفشي في البلاد وذلك بتحصين الذات بالاشباع الروحي من جهة وطلب العلم من جهة اخرى.
2 – الشوارع الخلفية أو واقعية القاع :
الشخصيتان الرئيسيتان اذن هما فهدة والرشوش شقيقان من البدون، ومن خلالهما نقترب من لعبة الذكورة والأنوثة وفق علاقات اجتماعية متكلّسة تسمح بالظلم وتبرّر له لتكشف عن طبقة اجتماعية مهمّشة،وتذهب بنا الى الشوارع الخلفيةالتي يسودها الفساد والفوضى . هناك تنتشر الرشوة وتتكدّس ثروات من المتاجرة بأحلام المقهورين من العمالة الأجنبية ويتم « توزيع المخدرات والخمور واختطاف الخادمات وبيعهن لقوّاد شبكات الدعارة والقيام بأعمال السرقة من سرقة أسلاك الكهرباء النحاسية الى سرقة الأفراد الى جانب تزوير الأختام والمعاملات المغشوشة وغيرها « ( ص 27 ) .
تبني الروائية فوزية شويش عالمين في روايتها عالم الوجاهة والرّخاء والهدوء الذي يعيشه الكويتيون ( السكان الأصليون ) وعالم الفساد والفوضى والاحتيال الذي يتمعّش منه الكثير من البدون (الهامشيون ) ، عالمين متناقضين يكشفان عن « قاع المدينة « الذي تعرّفه الدكتورة عفاف عبد المعطي في كتابها « واقعية القاع في الرواية الأمريكية والمصرية « (2) جاء الفصل الأول حول تحديد مفهوم «واقعية القاع» فتقول ان المقصود هو» قاع المدينة بكل ما ينطوي عليه من بؤساء ومهمّشين وعادات وتقاليد وتراث يعبّر عن فئات زاخرة بالحكي ومغرية على كتابتها روائيا».
عادة ترتبط « واقعية القاع « بثقافة المعيش اليومي للمضطهدين التي تتمظهر من خلال حكي يسرده الراوي والروائية فوزية شويش تجوس بقلمها داخل النسيج الاجتماعي وتفكك كل مظاهر الانسجام الوهمي في المجتمع الكويتي،فتهتم ببداية صعود الطبقة البورجوازية الطفيلية التي تتغذّى علىمختلف أشكال الفساد في المعاملات والادارات (في فترة سنوات الألفين ). وهي بذلك تقضي على مفهوم الحلم الخليجي الذي تصدّره الأنظمة الخليجية لتوحي برفاهتها بل ان الروائية فوزية شويش تذهب بعيدا في التغلغل في قاع المجتمع حيث يمكن أن نقول أنهذه الرواية مقاربة أدبية تسمح بالولوج في العالم البسيكولوجي للانسان المطهد وتلمّس حالة التشتّت النفسي الذي يجعل منه كائنا مقهورا في صيغة الأنثى (فهدة) والذكر (الرشوش) لذلك تستغل الروائية فوزية شويش شخصية البدون هذه التي تقيم في القاع والتي قد تدفع بهم من جهة الى التكالب على المزيد من الاستثراء لردّ جوع شديد للمال الذي يتحوّل الى هدف في ذاتهومن جهة أخرى قد تدفع بهم الى حالات الانهيار واليأس فيختبرون تجارب قصووية في الحياة تؤدي بهم تجربة الانسحاق والتي تدفعهمالى اختبار الشذوذ. وفي الحالتين يتعمّق انفصالهم عن ذواتهم.
لكن الروائية فوزية شويش لا تهتم بالحكي بالطريقة التقليدية ولن تجد في روايتها عقدة وحبكة ولا تدرّج الى حل متوقّع بل تنشغل بشخوص مرتبكة ومتأزمة وتجعلها واسطة بينها وبين القراء وبذلك ترفع الغطاء عن قاع المجتمع .
أ / أزمة المكان :
في «واقعية القاع» يتحوّل المكان الى بؤرة تفسّخ وانهيار وفوضى وهذا ما يجعله يفقد دلالته ويصبح مجرد اطار موضعي تجري فيه الأحداث، وفي كل الروايات الكويتية التي قرأتها وتهتم بشريحة البدون أجد دائما شخصية البدون مرتبكة جدا في علاقتها بالمكان بحيث يفقد المكان دلالة الاستقرار ويعجز عن تثبيت الشخصية ولا يضمن لها الشعور بالانتماء بهذا المعنى يصبح المكان عنصر تأزم لدى البدون لهذا نلاحظ مثلا ان الروائي الكويتي ناصر الظفيري في روايته « الصهد « يركز على المكان الذي يصبح متحركا ولذلك نجد شخصية البدون فيه كائن متنقل باستمرار ولعل « رواية الصهد « من أكثر الروايات التي قرأتها فيها تعداد للأمكنة بما يعبّر فعلا عن أزمة انتماء وعجز عن التكيّف مع المكان والروائية فوزية شويش تنتبه الى أزمة الانتماء هذه تقول على لسان الشخصية فهدة « الأشياء التي تفرّق بيننا وبينهم كثيرة …لعل أوقعها وأصعبها على الرّوح هو أنهم فيها مواطنون ومنتمون اليها ونحن لسنا لنا حق في مواطنتها، ولا الانتماء اليها ولا التمتّع فيها نحن لسنا بوافدين ولسنا بمقيمين ولا جئنا باتفاقات وعقود .. نحن « بدون « بدون أي شيء يحمينا أو يغطينا أو يؤمننا نحن عراء منبوذ في بدون « ( ص 40 )
العلاقة بالمكان ستشهد اختلافا بين المرأة والرجل، فَهْدَة ستغادر الكويت نحو اروبا ( مع زوجها ضاري ) وشقيقها الرَشُوشْ سيبقى داخل الكويت وهنا سنلاحظ كيف ان المكان سيصبح مهتزا حتى لدى القارئ نفسهفالطريقة التقنية التي اختارتها الكاتبة ستجعل من القارئ يتأرجح بين مكانين مختلفين كلّيا الكويت وأروبا بما يعبّر عن اهتزازات الشخصية المحورية التي تتمظهر في شكلها الأنثوي من خلال فهدة وفي شكلها الذكوري من خلال الرشوش .. ولعل تغيّر المكان واهتزازه يعبر بشكل بيّن على حالة التيه التي تعيشها هذه الشخصية المحورية .
ب / أزمة الشخصية المحورية :
1 – تصدّع الجسد :
لعل أبرز ملامح التيه بما هو حالة ضياع وتشتّت وشرود يتمظهر في ذلك البحث الشديد عن الذات لرأب صدعها والذي يأخذ شكل التوغّل في مغامرة الجسد للتصالح مع الذات وهنا تقوم الروائية فوزية شويش بجرأة من خلال دفع فهدة الى اختبار تجربتين قاسيتين وهما تجربة الدعارة واغواء الذكور في شوارع باريس من أجل متعة جسدية رخيصة وأيضا من خلال تجربة السِحاق التي تقوم بها فهدة مع بنات جنسها .. لكن الغريب ان فهدة تدخل هاتين التجربتين بمساعدة زوجها بل بايعاز منهلتصالحه مع ذاته ولاشباع رغباته تقول ( ص 84 / 85 ) «يشرح لي ويعلمني (…..) يحدثني عن كتابة الجسد (…) يدفعني الى قراءة كل ما يحبه ويهواه من كتب …»
عن تجربة البغاء نجد في ص 123 ..
« يقف قريبا مني ( الزبون ) ليتأملني يقلّبني من فوق الى تحت يُصَفِّر ويسأل بكم الليلة ؟
يستمرّ الكلام فيما بيننا حتى نصل الى السعر المقبول من الطرفين «
ويكون حضور الزوج « ضاري « عندما تقول فهدة ص 124 « جسد البغاء بكل معطياته وأدواته تمثل له فلسفة عالم شهي في غاية الاثارة ، لا يريد منه الا الاثارة وفن الاثارة . وهذا ما تعلمته منه .»
عن تجربة السّحاق نجد في ص 119
« يهمس في أذني برقة غير مألوفة ، يطلب مني مجاراة الجو والانسجام معهن، لم أفهم الرسالة الرقيقة على غير العادة يعيد الطلب بوضوح أكثر ورجاء أكبر ملفوف بنوع من التوسّل الطارئ، تركت مكاني واتجهت اليها لم يكن واردا عندي حب السحاقيات ولم أجد في نفسي أي ميل اليهن ولم أوضع في محك معهن من قبل لحظتي هذه ، اقتَرَبَتْ مني والتَصَقَتْ بيّ ومن ثم أحاطتني بذراعيها وأخذت أصابعها تتخلّل خصلات شعري..»
ويكون حضور الزوج في حديث فهدة عنه الى احدى السحاقيات ص 120 « زوجي رجل فضولي أحب مشاهدة طقوس العلاقة بينكن «
أن تدخل المرأة هاتين التجربتين القاسيتين من أجل إمتاع زوجها يعبّر هذاعن شدة إغتراب المرأة في ثقافة ذكورية مستبدة لا تسمح لها حتى بالتواصل مع ذاتها الا عبر وسائط الذكر نفسه، ففهدة لم تكن تقدر على التعبير بنفسها عن حالة التشتت التي تعيشها والضياع الذي يهدّها والتّيه الذي ينخرها وتضطر وهي في أضعف لحظاتها أن تحتمي بزوجها لا من أجل استعادة توازنها بل من أجل اشباع رغباته وبذلك تعبّر عن عمق الاستيلاب الذي تعيشه المرأة الخليجية.
من جهة أخرى نجد أن الرشوش الذي يفضّل البقاء في الكويت يسعى من جهته الى التأقلم مع قاع المدينة وأن يجد له أدوارا تقرّبه من عالم الثروة والجاه وبذلك يسمح لنفسه بولوج أنفاق متشابكة للفساد لتحقيق هذا الهدف ولكن يعجز عن ذلك وينتهي بين يدي العدالة بتهم الفساد المالي .
ب – القتل الرمزي :
عندما تتلاشى شخصية فهدة في شخصية الزوج،ويتماهى الرشوش في واقع الفساد بحيثننتهي الى استلاب شخصيتيهما اي يفقدان كل شعور بالانتماء الى ذواتهما وتصبح فهدة منقادة الى زوجها والرشوش تتحكم فيه منظومة الفساد وهذا ينتهي بهما الى التشيؤ بالمعنى الذي يحدده لوكاتش عندما يؤكد ان التشيؤ هو فقدان كلي لكل قيمة مادية أو اجتماعية فكأن فهدة قطعة بيزل في يد الزوج وكأن الرشوش قطعة شطرنج في يد عمه يحركه كما يشاء، بمعنى يمكن أن ننتهي الى أن هذا التشيؤ هو قتل رمزي تنتهي اليه الشخصية المحورية (فهدة والرّشوش ) ذلك أن فهدة قبلت بانسحاقها الشديد في عالم زوجها وقد كان لها أن تفرّ منه في أروبا، كما ان الرشوش كان يمكن ان ينقذ نفسه ويختار لنفسه حلا آخر للتواصل مع ذاته غير التوغل في عالم الفساد .. عملية الانتحار الرمزي التي تُدفع اليه الشخصية المحورية تنتهي بها الى الشعورالتام بالتلاشي حتى أننا نلاحظ انه يتم إسقاط كل الأفعال عنها ولا تصبح قادرة على المبادرة ولا على التحكّم في نفسها، لذلك نجد فهدة تحتكم بشكل مطلق الى سلطة الزوج والرّشوش يحتكم كليا الى سلطة الواقع وفي الحالتين يبدوان كقشة في مهبّ الأحداث ..
ولمواجهة هذه الحالة من الانتحار الرمزي أو الموت المقنّع تتدخل الروائية فوزية شويش لتسمح بولادة ثانية للشخصية المحورية من خلال منحهما فرصة ثانية لمراجعة الذات وإكتشاف الحقيقة وذلك من خلال تجربة روحية توفرها لفهدة واختبار جديد يقترحه الرشوش على نفسه ، كيف ذلك ؟
3 – « الطريق الملكي « للحقيقة :
أ / التجربة الرّوحية :
بعد موت الزوج « ضاري « تنتقل بنا فهدة الى تجربة روحية شفافة وكأن رحيل ضاري كان يعني التخلّص الكلّي من السلطة الذكورية المستبدة وبالتالي الخروج النهائي من تجارب الجسد القاسية التي لم تحقق التوازن لفهدةلذلك تختار أن تتجه الى جهة الروح وتستكشف تجربة جديدة تجعلها تقترب أكثر من ذاتها المتشظيةتقول فهدة (ص 163) « لأول مرة أشعر بها .. السكينة التي تملأ الروح .. تعبئها الى الحواف بالشبع، لأول مرة أصل الى هذا الشبع (…) هذا كل ما كنتُ في حاجة اليه . «
ومرة أخرى تختار الروائية فوزية شويش لبطلتها هروبا من الكويت لتعيش تجربتها الروحية ولعل في اختيار منطقة بعيدة عن الوطن إيحاء ان هذه التجربة جديدة في كل جوانبها تقطع كليا مع التشريط الثقافي لبلادها وتنفصل تماما عن ما يشدها الى القاع لذلك تختار الابتعاد عن الوطن حتى تولد من جديد وتستعيد حريتها وتؤسس وجودها..
ان كان لابد في كل مرة أن تكون فهدة في رفقة أحدهم ( زوجها في تجربة الجسد ) الا ان الروائية فوزية شويش تختار لفهدة رفقة جماعية هذه المرة وكأنه لا تستقيم تجربة لفهدة الا في ارتباطها بالآخر وان كان ذلك اقرار مرة اخرى بعجز المرأة على ان تعيش تجربة حياتية ما بمفردها لكن ولأن التجربة الروحية هي في دائماتجربة فردية خالصة تعيشها الذات مفردة تقول عنهافهدة ( ص 172 ) « لأول مرة أعرف الصلاة في جوهرها ومعناها في هذا الخشوع الذي يمسّ وتر القلب حيت يتردّد بذكر الله بفرح من وصل الى المرسى.» .. أي أن فهدة كانت تحتاج الى مثل هذا التطهّر للتخلّص من أدران الماضي، من فساد التجارب الماضية، من اربتاك ذاتها ومن عجزها الذي انتهى الى تشيؤها ومن ثمة الى موتها الرمزي لذلك يبدو حضور الخالة وزوجها شاهدين على هذه التجربة الجديدة والمغامرة الروحية
لكن كيف وصلت فهدة الى هذه التجربة الروحية ؟
يبدو أن الأزمة التي عاشتها في تجربة الجسد وعدم قدرتها على التصالح مع ذاتها قد ثبّت خللا في شخصيتها ولم يكن لها من حل سوى الانعطاف نحو الرّوح العطشى تسعى الى إروائها بمعنى أن هذه التجربة الروحية يمكن ان تتنزّل في اطار تجربة صوفية انسانية وليست صوفية ميتافيزيقية لأن فهدة كانت تفتقد انسانية الانسان ، كانت تبحث عن العدالة والحقيقة والخير وأحبطت من واقع اجتماعي كان يخبئ تناقضاته الرهيبة خلف وجاهة المدن وفخامتها وأناقة الشوارع وجمال حدائقها .. بمعنى ان تحوّل فهدة الى هذه التجربة الروحية كان في سياق تحوّل اجتماعي عاشته وحاولت ان تتبع مصيرها بمساندة من زوج سرعان ما تحوّل الى سلطة مستبدة.. اذن التصوف هنا يرتبط بأزمة نفسية ومن ثمة يصبح بالنسبة للشخصية ملاذا للتغلّب على الأزمة والاجابة عن أسئلة الحياة التي كانت تطرحها فهدة ويستجيب لتعطّشها للحقيقة وللعدالة ولذلك ننتهيهنا مع فهدة الى الحديث عن الصوفية بماهي تجربة انسانية فردية خالصة وشفافة .
الباحثة في الأدب فاطمة عثمان (3) في رسالة ماجستير لها تتحدث عن أحد أشكال التصوف في روايات نجيب محفوظ فتعتبر أنه « ان كان المقصود بالتصوّف تلك الطاقة الرّوحية المتعلقة بالقيم الانسانية العليا والتي تدفع بالانسان الى الحلم بغاية نبيلة وفي نفس الوقت تدفعه نحو العمل لتحقيق هذه الغاية فهو اذن تصوف ايجابي «
الروائية فوزية الشويش تسعى لتأسيس تجربة التصوّف الانساني الايجابي لذلك ستقوم بتوفير أهم عناصره التي تجعل منه فكرة وذلك :
بروحنة المكان أي التعامل معه بوصفه مكانا مؤهلا لتحمّل تجربة روحية تخيّم عليه السكينة والجلال وأيضا الى روحنة الزمان الذي يغلب عليه الصمت والهدوء تقول ص 183:
« وأدركته مع شروق كل شمس ومغيبها على هذه الجبال المتجلية برحمانية هائلة وبجلال قدسي عجيب, في صمتها وسكونها وفي الضوء المتكسّر على خلجانها الناحتة ممراتها في كهوفها السرية.»
يبدو ان الروائية فوزية شويش ستتحكّم في شخوصها ومناخاتهم كما يجب وستمكّن فهدة من التوغل في هذه التجربة الصوفية الانسانية وتسعى أن تضفي عليها بعدا ميتفازيقياأيضا لتجعلها تجربة حقيقية تعاش وجدانيا وحسيا أيضا وتؤهلها للولوج بها الى المراتب القصوى وذلك بامتلاك فهدة كتاب رابعة العدوية في لحظة عجيبة لا تخضع الى منطق عندما تجد الكتاب في مسجد صغير ومن ثمة تدخل في أجواء صوفية من خلال تماهيها مع قصائد لرابعة العدوية .
لعل اختيار الروائية فوزية الشويش تحديدا لرابعة العدوية لم يكن عفويا وربما جاء لتقاطعات التجارب الحياتية التي عاشتها رابعة التي انغمست في تجربة الجسد وتردّيها في حالات من الفوضى والفساد والمجون وايضا ما عاشته فهدة في تجربة الجسد من شذوذ ومهلكة للرّوح .
ان كانت فهدة قد استندت في تجربة الجسد على زوج سرعان ما استبد بها وسيطر عليها فان فهدة في تجربة الروح تستند على شخصية رابعة العدوية وتجعل الواسطة معها قصائدها التي تموج بحب الله وإن كان حضور الزوج المادي قد انتهى الى قتل رمزي لفهدة فان حضور رابعة المعنوي قد أعاد الحياة إليها.
أيضا كان لابد من حدث عجائبي آخر تمثّل في مغادرة ثعبان لجحره دون أن يلحق ضررا بالمتعبّدين (ص 18 ) لعلها أرادت ان تضفي جانب من الاثارة الغريبة حتى تضفي أجواء مقدّسة على هذه التجربة الرّوحية .
ما يؤكد ان التجربة الصوفية هنا ليست بالمعنى الميتافيزيقي وان أوهمنا حضور رابعة العدوية بذلك بل هي صوفية انسانية ويبدو هذا جليّا في حضور حداثي طريف للفنان التشكيلي الألماني الكبير بول كلي ( أحد رواد الفن الحديث ) وربما اختيار فوزية الشويشلبول كلي ليرمي بظله على هذه التجربة الصوفية التي تعيشها فهدة يعود الى طبيعة هذا الفنان الذي تأثر كثيرا بسحر الألوان خاصة في القيروان ( بتونس ) واحدة من أهم المدن الصوفية في بلاد المسلمين وربما إقحام بول كلي يضفي رمزية فنيّة جمالية على هذه التجربة الصوفية. هذا ما يجعلني أؤكد أن الصوفية في « سلالم النهار « هي تجربة صوفية عقلانية بالأساس ، هي فكرة بالأساس تسعى إلى تحقيق توازن في شخصية المتصوّف على اعتبار انها طاقة روحية متعلّقة بالقيم الانسانية العليا يهدف الى تحقيقها في عالم روحي لا يمسه فساد الدنيا ولا شهوات الجسد ولا فوضى المجتمع ولا ضجيج المادة انه طاقة روحيةحسب تعبير برقسون تمثّل تجربة ممتلئة بالشعور وبالحياة والحركة تسعى الى تحقيق انسجام روحي .
لكن لا تكتفي فوزية الشويش بتقديم تجربة صوفية لتحقيق التوازن في الشخصية المحورية لروايتها بل تنتصر الى المعرفة العقلية والتعليم الأكاديمي، لذلك يختار الرشوش بعد ان استنزفه قاع المجتمع الى السفر نحو أروبا ليدرس ويتعلّم يقول ص 220 « سوف أسافر الى باريس لأردس في جامعاتها مثلما فعل أبي ليس حبا فيه ولكن هذه هي فعلا رغبتي ..»، يبدو تحدّي الرشوش هنا شديدا وايمانه قويا باختياره طريق العلم والمعرفة كطريق ملكي حسب تعبير ديكارت ليفرض ذاته ويؤكد ان جدارة الانتماء الى المجتمع لا تكون بغير المعرفة المتأتية من الجامعات والتي تقطع مع الرداءة المتفشية في المجتمع ومع ثقافة الشعوذة والتسول والابتزاز واللصوصية .. الرشوش هنا يختار الغرب ليكون مصدر المعرفة وكأن الروائية فوزية التي كشفت في روايتها عنقاع العالم الغربي وما يمور فيه من انحرافات اخلاقية تعود وتصحّح هذه الصورة بأن تجعل الغرب مصدر للمعرفة والعلم.وبالتالي يظل الغرب أفضل طريق لتصحيح مسار الذات والارتقاء بالانسان وماعلى الانسان الا أن يختار البوابة التي يريد أن يدخل منها الى الغرب.. ولعل الأدباء في هذا لا يشذون عما سبقهم إليه المفكرون العرب منذ محمد عبدو وطه حسين وايضا كبار الأدباء مثل الطيب صالح . فوزية الشويش في هذه الرواية عندما تنتصر للغرب بما هو مصدر للعقل وفي ذلك اعتراف ضمني أن العالم العربي لايزال يرزح حتى أكوام من الجهلوهو في الألفية الجديدة حتّمت عليه البقاء في التخلف فرغم فخامة المدن الخليجية وأناقة شوارعها وجمال هندستها الاّ ان الفوضى تسكن أعماقها .
ب – باب المعرفة :
من خلال الانتصار الى البعد الروحي مع فهدة والانتصار الى البعد العلمي مع الرشوش نلاحظ ان الروائية فوزية الشويش تذهب الى ان التوازن عند الانسان لا يتحقق الا بايقاظ الجانب الروحي في الانسان والاهتمام بالجوانب القيمية الاخلاقية من جهة وأيضا بالايمان بالجانب العلمي المعرفيأي لا يمكن أبدا إنتصار الانسان خارج هذين البعدين وهي بذلك تقدم وصفة لمواجهة الرداءة المتفشية في المجتمع فالانسان دون العنصر الروحي سيكون مجرد آلة ، سيكون مجرد شيئ بلا احساس ولا رؤية ولا قيم وايضا دون العنصر المعرفي سيكون الانسان كتلة من الجهل التي تحوّله الى مرتبة أقل من الحيوان يجعله لا يحسن التصرف في الحياة ولا يجيد التفكير وبالتالي يجنح الى الاستبداد والانغلاق.
اذن توازن الانسان يكون بالانتصار الى الروحي والمعرفي معا لمواجهة الرداءة وبذلك تجعل الروائية فوزية الشويش وظيفة الادب أن يتخذ موقفا وتضمّن روايتها أطروحة تتوافق والمقولة الفلسفية ….
لعل هذه الأطروحة التي تضمّنها الروائية فوزية شويش في روايتها يجعلنا نستنتج أن قاع المدينة هنا تصبح عقلية كاملة تتحكم في الوعي السائد وعلامةتشير إلى تخلف المجتمع وفساده.
ولعل هذا يجعلنا ننتهي الى ان ما انشغلت به الروائية فوزية الشويش في روايتها ليس الاهتمام بقاع المدينة الكويت فقط وانما تعني بذلك قاع العالم الذي يحتكم الآن الى ثقافة العولمة بما تعنيه في بعض تعريفاتها الهيمنة الثقافية والاستبداد الثقافي بالمهمّشين والتحكم في مسار الشعوب اقتصاديا بحيث تنتشر قيم البراغماتية والاستبداد والاستغلال ويتفشى فيه ثقافة « الفتوة « التيتمثّلها الآن أقوى الدول التي تسيطر على العالم وتستبد بالشعوب المستضعفة والتي لا تراها مؤهلة لدخول الحضارة الا من خلالها وبمقاييسها تعتبرها دائماغير مؤهلة للحضارة لذلك وتحيلها دائما الى بدائية مهملة وبلا قيمة وهذا ما يجعل من الدول القوية تتعامل مع الشعوب المستضعفة وفق رؤية شوفينية متعصّبة ..
4 – الخصائص الفنية:
المدرسة التجريبية – الواقعية :
قرأت أكثر من عمل روائي لفوزية الشويش وأجد انها اختارت أن تكتب وفق أسلوب تجريبي يقطع كليّا مع الكتابة الروائية الكلاسيكية التي تحترم التمشّي الخطّي للأحداث وتواكب تطوّر الشخوص وفق حبكة تنتهي تدريجيا الى حل ، أجد فوزية الشويش قد اختارت ان تكتب منذ بداياتها بأسلوب جديد على المشهد الأدبي العربي تحاول فيه أن تشتغل على الفكرة وتجعل من الشخوص مجرد قطع تحركها انفعالاتها ومواقفها وفق أطروحة ما وتحتكم الى سلطة الروائي وهي في ذلك تختار مواضيعها من المسكوت عنه تستمدها من العوالم الخفية وتنتقي شخصوها من المنسيين والمهمّشين وهي بذلك تسعى ان تجمع بين الاسلوب التجريبي من جهة والاهتمام بكل ماهو منسي وقذر في المجتمع وإن كانت هذه الرواية تحديدا (سلالم النهار) لا تقطع كليا مع الكتابة الكلاسيكية فهناك تمشي متسلسل للأحداث يجعلها تتصاعد دراميا ولكن أجد الروائية تحاول قطع ذلك أكثر من مرّة من خلال تقنية الفلاش باك التي تكسّر بها تسلسل الأحداث إضافة الى الانتقال الفجئي في المكان لتربك القارئ من جهة وتلزمه بالتركيز معها أكثر لتقنعه انها لا تكتب بشكل تقليدي.
أ – شعرية الأسلوب :
للتخفيف من جدّية هذا الاختيار الفني الذي يجمع بين التجريب والواقع العفن تعتمد فوزية شويش لغة مضمّخة بالشعرية فتكتب بلغة رهيفة موغلة في الاحساس والجمال وإن كان هذا الأسلوب الشعري في الكتابة الروائية له ما يبرره بما ان الروائية فوزية شويش هي شاعرة بالأساس ولها دواوين شعرية عديدة من بينها « إن تغنّت القصائد أو انطفأت فهي بي ( 1996 ) و« الموسيقى ماء أيضا « ( 2010 ) وإن هناك من النقاد من يرفض إقحام هذه االلغة الشعرية في الكتابة الروائيةويراها تتنزّل ضمن كتابة الكيتش التي تعتبر أحد أهم الاخلالات في الأدب الروائي لأنها تضعف النص السرديوتؤثر على القارئ كما يذهب الى ذلك الشاعر والدكتور التونسي منصف الوهايبي من « أننا إزاء لغة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، بل لا شيء فيها من «ماء اللغة» بل هي ورد بلاستيكيّ لا غير « ( 4 ) ولعل من وجاهة هذا الرأي ان مثل هذه الكتابة الشعرية تستعصى عن الترجمة ولا تحافظ على قوة النصوحجتهم في ذلك مثلا كتابة أحلام مستغانمي التي لم تحافظ على القيمة الأدبية للرواية وفشلت كثيرا عندما ترجمت بما يجعل من أدبها يسقط في الشعبوية .
طبعا الاختلاف جوهري بين ما تكتبه فوزية شويش وأحلام مستغانمي فان كانت المستغانمي تميل بشكل مفرط الى اللغة الشعرية والى مواضيع أدبية لم تغادر في الغالب اهتمامات الأنثى التي تجتهد في استقطاب الذكر وإرضائه فان فوزية الشويش لا تبالغ في الكتابة بلغة شعرية بل تستعملها بقدر يسمح بالتخفيف قليلا من جدية وصرامة المواضيع التي تقدمها كما أنها فيمواضيعها تهتم بمشاغل المهمشين في مجتمعها وتلقتط معاناة المنسيين وتنشغل بالقيم الانسانيةمثل المساواة والحرية والعدالةوتبحث في أسباب فشل المجتمعات الشرقية كما أنها تبدو قلقة منالأزمات الاجتماعية لدول الخليج التي تردّها الى تفشي الجهل الذي يسمح بسيطرة الخرافة وانتشار الفساد.
ب – تعدّد الأصوات :
من عناصر الحداثة في كتابة فوزية شويش تعدّد الأاصوات داخل الرواية إذ تتداخل أصوات شخوصها الأساسية من جهة وصوت الراوي من جهة أخرى بحيث تصبح كل شخصية هي راوية تقدم الأحداث وتطور فيها وتتفاعل معها بوصفها راويا عليما والراوي الكلاسيكي نفسه يتحوّل الى شخصية داخل الرواية يتأثر بأحداثها ويتفاعل مع شخوصها ويخلّف أثرا في وقائعها.
طبعا تبدو ظاهرة تعدّد الأصوات في الروايات متفشيّة الآن بشكل ملحوظ ولكن فوزية شويش من أول المبادرين ( في البلاد العربية ) بالاشتغال الفني وفق هذا الاختيار ولعل من أسباب هذا الاختيار رغبتها في الاهتمام في رواياتها بالفكرة وميلها الى الغموض الذي قد يعود لانتمائها الى مجتمعات خليجية محافظة جدا لا تسمح بلمس المسكوت عنه ولا الاقتراب من شوارعها الخلفية ولا التفكير بصوت مرتفع في أزماتها الداخلية.وهذا ربما ما جعل من كتاباتها نخبوية بمعنى ما أي أنها ترهق القارئ العادي الذي قد لا يجد نفسه مشدودا كما يجبالى هذا النمط الروائي وأعتقد أن هذا الاختيار يبدو مؤسسا عند الروائية فوزية شويش على اعتبار ان كل ما قرأته لها في الرواية يتنزل في هذا الاطار الذي يقترب من التجريبية وينحو نحو النخبوية وبالتالي ليس لي أن ألومها على هذا الاختيار وبالتالي تتحمّل وحدها مسؤولية هذه النخبوية التي ربما تفرض على كتاباتها مجالا محدودا من الانتشار ولعل هذا يفسر الموجة الحادة من الانتقاد التي استقبلت بها كتاباتها في الكويت نفسها والتي تشير اليه بشيء من الألمفي كتابها « رجيم الكلام « ص 63 اذ تقول « كانت السِهام في الكويت تتناثر عليّ من جهات عديدة، بأصوات مسموعة وأصوات خفيّة « (5 ).
ما يشبه الخاتمة …
غياب القارئ الأول :
الروائية فوزية الشويش في هذه الرواية تغوص في أعماق مدينتها الكويت لتجوس بقلمها في قاع المجتمع والشوارع الخلفيةحيث يفرّخ الجهل وتنتشر الفوضوى وقيم الفساد واللصوصيةلتتخذ موقفا ينتصر للجمال والروح والعقل في الانسان وتنطلق في بداية الرواية بشخوص محورية مهزوزة وضعيفة لتنتهي الى شخوص معتدة بنفسها واثقة من خطاها مطمئنة لتفكيرها هادئة في ايمانها متوازنة في أعماقها ولم يكن هذا ممكنا خارج التجارب القاسية التي عاشتها هذه الشخوص وبعيدا عن تدخل فج من الروائية فوزية شويش التي بدت لي تتحكم في خيوط السرد عن بعد وتجعل من الشخوص هي التي تقود أطروحة تؤمن بالانسان وتنتصر للحياة.
ما يلفت انتباهي في كتابة الروائية فوزية شويش أنها تثير تيمات بعينها فيها من الجرأة الادبية التي تحسب لها اذ اهتمت بختان البنات في روايتها « مزون زهرة الصحراء « كما تعرضت في روايتها « سلالم النهار « الى علاقات البغاء والسحاقتتحدث عن ذلك دون ان تجنح الى الفجاجة في الكتابة وان كنت ارفض الاسقاط القيمي الاخلاقي على الادب كما لا احبذ السقوط في المباشرتية واميل الى الايحاء دون الغموض ولكن فوزية شويش اجدها في تيمة ختان البنات مثلا تميل الى الغموض وفي البغي والسحاق تكتفي بنبش هذين الموضوعين دون التوغل فيهما وقد تبرر هي لذلك بأن مقتضيات السرد تحتم عليها ذلك ولكن انا كقارئة لست ملزمة بتبرير الروائية وأعتقد انه كان بالامكانفي رواية « سلالم النهار « مثلا وقد تجرأت على مثل هذه تيمتي السحاق والبغاء ان تترك للبطلة الحقل السردي فسيحا لتتوغل فيه بما يسمح للتعبير بشكل أعمق عن الأزمة النفسية لفهدة مثلا. قد أفسّر ذلك بارتباط الروائية فوزية شويش بمرة اخرى بمجتمعات خليجية محافظة ولكن كأديبة تفرض عليها لحظة الكتابة التخلص كليا من التشريط الثقافي لبيئتها والوفاء اكثر للكتابة ولكن قد يقنعني اكثر اذا اعتبرت ان الروائية فوزية شويش من بين الأسماء التي بادرت في المجال الأدبي لنبش مثل هذه التيمات وان ما ستأتي بعدها من أسماء ادبية لها أن تتجاوز ما خطته فوزية شويش وتتوغل بحرية اكثر وجرأة أعمق وفق في حقول السرد بين ألغام التيمات الموقوتة في مجتمعات عربية تتقن ثقافةالصمت .
ولعل أهم ما استنتجه في هذه الرواية لفوزية شويش ( وفي ما قرأته لها ) غياب العين الثالثة أو لنقل القارئ الأول الذي يظهر قبل أن يُدفع بالكتاب الى دار النشر بحيث يسمح بمراجعة نقدية عن مسافة من العمل ربما تساعد الكاتبة :
– من جهة على تفادي المنبسطات السردية التي تبدو فيها الأحداث هادئة أكثر مما يجب ويحدث فيها كثيرا أن يسترسل السرد في فائض لغوي قد يؤدي الى إطالة غير مبررة .
– ومن جهة أخرى الى الاشتغال على التقلّبات الفنية عندما تنتقل الكاتبة بشكل فجئي من شخصية الى أخرى أو من مكان الى آخر بما من شأنه أن يربك القارئ ويجعل من القراءة عملية مضنية ربما تدفعه الى النفور منها من ذلك مثلا ص 136 حيث يقع الانتقال فجأة من السارد الى الراوي دون اي مبرر سردي ودون تحضير القارئ .
– إضافة الى أن من مهمّة القارئ الأول الانتباه مثلا الى أن الشخصيات المحورية لم يزرع فيها القلق بشكل كاف يجعلها شخصيات أكثر تأزّمابخلق صدامات أعنف تبرز توقها للتخلص من قبضة الاحكام الاجتماعية ورغبتها في التحرر من سلطة الجهل، قد لا يكون القارئ الأول شخص بعينه تلتجئ اليه الكاتبة والرواية في شكل تخطيط أو مخطوط وانما قد تقوم الروائية نفسها بهذه المهمة ، وما يجعلني أحدس غياب العين الثالثة أن الروائية فوزية شويش ومن خلال كتاباتها الصحفية تقرأ في النقد الأدبي وتقدمروايات عربية وعالمية وهذا يعني ان تنطلق من خلفية معرفية نقديةتسمح لها الى حد كبير بتلافي المنبسطات السردية والشخصيات النمطية .
هذه الملاحظات النقدية ذاتية ولا تمسّ من قيمة الجهد الأدبي الذي تبذله الروائية فوزية شويش لنحت مسيرة أدبية تليق بها وتضيف الى المشهد الأدبي الكويتي الذي بصدد نحت ملامح خاصة به ذات قيمة إبداعيةفي الساحة الأدبية العربية .
فاطمة بن محمود\
\ ناقدة وكاتبة من تونس