الحركة الجديدة، في ديوان الشاعر الفلسطيني وليد الشيخ «أن تكونَ صغيرًا ولا تصدّقُ ذلك» (الصادر لدى منشورات «أوغاريت» برام الله)، هي سرد لقطاتٍ يعود منشأ الكثير من صورها إلى «المراهقة» التي تمثّل تيمةً رئيسية في بنية النصوص المطبوعة بطابع يوميّ وتهكمي، وتصل بالشاعر حدودَ الثرثرة، غير الشعرية، أحيانًا، عندما يتعلق الأمر بقرابات وأدوار وإلزامات مؤسسات الحزب الشيوعي، العائلة، السلطة الوطنية، والاحتلال الإسرائيلي. ولعلّ ما يميّز الشعراء عن بعضهم البعض، بعد الفروق في الموهبة، أنهم يأتون بأفكار جديدة ومختلفة، ولكن المعاني واحدة. اختلاف فكرة أيّة مجموعة عن سواها، تكون شهادة شعرية لها. وإذا كانت بعض الأفكار الفرعية، في النصوص، ذات شعرية متداولة بين الشعراء وعادية، في سياق الأحداث، فإن الفروع تكتسب الاعتبار من قارىء ينظر لأصل العمل وفكرته المختلفة. إذ هناك نصّ من بين نصوص العادة الفلسطينية بعنوان«وطن» رُفـِعَ في فكرة العمل الكبيرة، وله معنى حسّاس، ولكنه عاديّ في حركة/عادة تدول المعاني الوطنية، بين أصحاب هذا الـ«وطن» الصغير: «كأنه ملعب لكرة القدم/ بين منتخبين لعائلة واحدة./ شيء يذكر بالنهايات/ في مسرح تابع للقطاع العام/(ليس عندنا سوى قطاع غزة) الممثلون من الذين رسبوا في امتحانات معهد التمثيل العالي»(ص31). إذن، للخروج على سياقات الإلزام والرتابة والبيروقراطية في تسليم وتسلّم شعر الخسارة، يختار الشاعر الفلسطيني وليد الشيخ «المراهقة»، لأنها المرحلة الحسّاسة في عمر الإنسان والوجود الوطني من طريق ذلك، لما تنطوي عليه من طياش وتمرّد ولا مسؤولية ونفور وفوران شبقي، ورغبة في الخرق والتعدّي على عادات وتقاليد ومطلقات كثيرة. وهذا ما نلمسه خلال طاقة السرد المقروءة، في المجموعة الصغيرة حجمًا، الواقعة في سبع وسبعين صفحة من القطع المتوسط. خلالها سيشعر القارىء بعجلة الجملة واللقطة المسرودة «بمخيلات فاسقة». وهو الشعور ذاته الذي سيشير إلى اندفاع الشاعر وذهابه مذهبًا فرديّا مناهضًا، يقوّض به الجانب النفسي والروحي المقابل، في هذه المرحلة الحساسة، حيث يمرّ المراهق بحالات الخجل والتأنيب والميل إلى الرومانسية والإعجاب والبحث عن المثل الأعلى للتأسّي ومحاكاة الصورة المثالية التي تحيطها هالةٌ من الوقار. مراهق يزيح الأيديولوجيات الكبيرة: ضدّ هذا الجانب، تحديدًا، سيصعّد الشاعر من (أكشن)المراهقة، وسيسرد لقطات العادات والرغبات السرية والعلنية، بصوت عال: «لي عادتان سرّيتان يوميّا/ وعادات علنية/ رغبات مدفونة في التمثيل/ بطولة مع منى زكي/ أقبلها كل خمس دقائق دون توظيفٍ درامي»، بطريقة توحي بهدر الوقار والتحرّر من النزعة المثالية والتمثيلية، بالسير في سياق الأولاد المراهقين الحالمين بطباعة «القبلات الطائشة على وجوه بنات العائلة»(ص71)، واستهداف أجساد النساء في الأماكن والمرافق ووسائل النقل العامة، كالحيّ والمراحيض والتاكسي والباص: «أن تمارس تلك العادة/ في المراحيض العامة/ على رسومات فاجرة لنساء بدينات/أن تكون صغيرًا/ ولا تصدق ذلك»(ص32). كذلك العيش بأحلام مشغولة بنزعة انتقامية يقتنص منها المراهق فرصة اليتم الذهبية، مستولدًا ومستدرّا طاقاتِ العطف والشفقة والشبق: «أن تقف قبالة السماء وتحلم بأن يموت أهلك جميعًا ويأخذك الجار إلى بيته/ لتنام جوار ابنته..»(ص32). حيث في نصّ بعنوان «مراهقة»، يحدّث المراهق الفقير نفسه، عن الجوع والحرمان، ولا يتجسّد حلمه الطائر للشرفة بظهور تلك المرأة البنت: «الشاورما حجّة كي أقف قبالة بيتك/ لا أنا أستطيع شراءها/ ولا أنت تذهبين للشرفة»(ص63)، ولم تجدِ نفعًا الحماقاتُ القربية من المنزل ولا البعيدة، مثل إثبات عدم الخوف من أحدٍ بشرب النبيذ أو الدخان لأول مرة. وأيضًا، لم يثمر التنافس مع الأولاد على وهم المرأة المرسوم على الطين، ولا التعالي عليهم بإظهار علامات الرجولة، إلا الوهم الكبير والتصاغر بسببه: «أن تشرب نبيذا لأول مرة/ كي تثبت أنك لا تخاف أحدًا،/ أن تصعد الجبل/ لتنافس الأولاد بظهور شعر العانة/ وترسم على الطين/ ما تظن أنه المرأة/………../ أن تكون صغيرًا ولا تصدق ذلك!». لذا، سيتمثّل الشاعر حركةَ تردّي أو اندفاع «الفتى» -في نصّ بهذا العنوان- «الذي نزل مسرعـًا من الحافلة».. خارجًا على الإلزامات وإشارات المرور والخطوط الكثيرة الحمراء، وعلى أنماط الرتابة بآليتها التنظيمية وطباعها الشعاراتية والعائلية والوطنية والعالمية. متهكّمـًا وشاهدًا، في نصّ بعنوان «إشارات» على «إشارات بيضاء من بوتين إلى أيتام البريستريكا/ وسوداء من بوش إلى أتباع عمر بن الخطاب/ وزرقاء من شارون إلى المستوطنين/ وصفراء من جامعة الدول العربية إلى رفح»(ص40). وملتزمًا، كشاعر، في النصوص، أيما التزام، بثيمة المراهقة بشقّها الانفعالي، العصياني، الفاسق والبذيء، بوصفها، الآن، إزاحة مراهق صغير لآباء الأيديولوجيات الكبيرة. وهذه الإضافة للتوضيح فقط: عند التأمل في لوحة الغلاف التي اختارها الشاعر لمجموعته، فإننا نرى شاهدًا كبيرًا قديمًا على درجات مختلفة من اللون النبيّ والشحوب وشيء أقرب للأخضر الطحلبي على الشاهد. وجوار ذلك يوجد شاهد أنثوي صغير يتوسّطه خطّ أسود أو فارق صغير، وإطار جانبي أسود واضح، وفوق الشاهد يوقّع الشاعر اسمه، بخط أسود عريض وواضح. أما الخلفية أعلى الشاهدين فهي بنيّ غامق وفاتح. هذه القراءة للوحة الغلاف المختارة، تتلاقى، إلى حد ما، مع ما نقرأه، في نصّ «مرة رأيتك في الباص»، الذي فيه يقول الشاعر: «كلّ شيءٍ عندك قريبٌ من البنيّ أو من اخوته/ وعلى فكرة، أنت تشبهين الخريف/ وأنا أحبّ ذلك»(ص59). غير أنه لم يعد يحبّ صورة الحزب الشيوعي وسقطت، من عينه، كمثل أعلى. ولا عاد يستمدّ من شعاراتها الفارغة الأخلاق والمثل المعطوبة. ولا هو يكترث لإشارات جامعة الدول العربية. «لا شيء محدّد أفكّر به» -يقول- إلا الحرية بمعيارها الفرديّ والجنسي والعدمي وصولا إلى حدودها القصوى في الإهمال والتشويه وإعلاء الرذيلة على شعارات الفضيلة. مشيرًا، في نصّ بعنوان «ممنوعات»، إلى «الباص» الذي يقوده سائق عجوز، ويضع أصحاب هذه الوسيلة الجماعية إشارات وتنبيهات أخلاقية مكتوبة على لوحات صغيرة ملصقة في الداخل: «ممنوع البصق/ والتدخين/ أو إخراج اليد والرأس/ أو رمي النفايات من الشبابيك/ أو التكلّم مع السائق». كذلك الإشارة إلى ممنوعات الأهل في «البيت»: فـ «ممنوع لبس الشورت على البلكون/ أو النظر في عيني الأب مباشرة/ أو النوم حتى الظهيرة/ أو أن تلعب الأخت على الباسكاليت»، فضلا عن «ممنوع التجول»، القرار العسكريّ الإلزامي من سلطات الاحتلال الإسرائيلي! الشيوعيون القليلون مضوا في الشوارع الفرعية باتجاه واحد: يرى الشاعر وليد الشيخ، في نصّ بعنوان «رام الله»، أنّ هذه المدينة «اقتراح أعمى»(ص38). وتتصاعد الاحتجاجات من أتون الذاكرة ويوميات اليسار المختلّ والوطن المحتلّ. فيتعرّض إلى انتساب المراهق الرومانسي للحزب الشيوعي، ناقدًا ساخرًا، من استلاب الفرد لفرديته ولاستقلاله باعتماده على جيب الأب، حتى عند دفع الاشتراك الحزبي، مثلما نقرأ في نصّ «حماقات بعيدة عن المنزل»، فيه يقول: «أن تنتسب للحزب الشيوعي/ وتدفع من جيب أبيك الاشتراك/ أن تجتمع مَرتين أسبوعيّا/ لأنّ الرفاق يدرسون سيغال/ وما العمل؟/…/ أنْ تكونَ صغيرًا/ ولا تصدّق ذلك!» (ص32). وفي ذلك توبيخ وبلاء عظيم، ودعوة للخروج على الإطار الأب المتسلط والمدينة العمياء والعائلة الحزبية والوطنية المتواضعة حدّ الشفقة والحزن على تضاؤل مسيرة اليسار وحشوده في الشوارع الرئيسية العريضة العامة للمدينة. فـ«الشيوعيون القليلون مضوا في الشوارع الفرعية باتجاه واحد»، والأولاد الذين وصلوا المراهقة مبكرًا هم صور تهكمية للرجال الذين وصلوا مرحلة المراهقة المتأخرة، ويعوّضون الطبيعة المثالية، الآن، بأوهام إنسانية جشعة، ويمارسون «حماقات بعيدة عن المنزل». وفي الشوارع الخلفية. ثم ها هو الشاعر، في نصّ بعنوان «مواساة»، يقول: «وحين التفتِ إليّ/ رأيت وجهك شاحبًا/ وكي أخفّف عنك/ أبلغتك:/ أني مذ درجت على تلك العادة/ في الأماكن المظلمة من البيت/ أو/ خلف الخزانة في بيت قريتي/ المملوءة برائحة تسع نساء وحيدات/ صار الذئب نوّاح الليل/ والصباح حفلة أولاد قضوا نحبهم في المحارم الورقية»(ص20). وبعيدًا عن ألم التبكيت، هناك مراهق، منذ أول نصّ بعنوان «ماء السكّر» يسيل لعابُ غرائزه لذة أمام «مشهد مكرّر في السينما الأمريكية،/ يركع ويطلب يدك/ بل جسدك/ وروحك/ وما بينهما من سوء قصد.»(ص11). متخلّصًا، بفعل (الأكشن) الأمريكي، من البيروقراطية والمسؤوليات والإملاءات الشكلية المتمثلة في نص«وجوه» بـ«سكرتير المنظمة الحزبية الأولى/يقترح جدول الأعمال/ ويسجّل ملاحظات بخطّ صغير جدّا»(ص43). وهنا يتعمّد الشاعر التقليل من أهمية وجود الخطوط الكبيرة، في إشارة إلى تراجع وجود الكبير أو الوجود الشيوعي الكبير. وفي الوقت ذاته، يكثر من استعمال وسيلتي النقل «التاكسي» و«الباص». وهناك، بشكل خاص، نصّ بعنوان «قصيدة في التاكسي»، وآخر بعنوان: «مرّة رأيتك في الباص» وفيه يقول: «أصعد للباص بجدية عالية،/ ولا أبتسم لأحد. قد تصعدين/ فجأة، عليّ أن أكون مستعدّا من اللحظة الأولى لرؤيتك./ كان من الممكن أن تسقط منك حقيبة الكتف، فجأة،/ في تلك المرة/ ويساعدك الناس في لم الحاجيات،/ لابد أن يكون في الحقيبة ساتان من باب الاحتياط،/ وملاقط للشعر الخفيف ومقصات للشعر الكثيف الأسود،/ وبنيّ الشفاه، وربما بيانٌ بخطّ صغير جدا عن الحزب،/ قد يكون كتاب، رواية باسمٍ يشير إلى أنّ الحياة مريرة ولها/ معان أخرى مثل: الحب في زمن الكوليرا!»(ص58). وعلى هذا النحو، يستمرّ الشاعر(المراهق) بالتقليل من مساحة الوجود الكبير للحزب الشيوعي، ويستبدل البلاغ الحزبي بـنصّ صغير جدا بعنوان «بلاغ» (ص22) يقول: «إنه صدرك بليغ كحكمة وإثمه فضاح».
شاعر وكاتب من فلسطين