«ربح الشعر الحديث بانضمام نجيب خداري شاعرا يعرف كيف يكتب بإشراق طفولي وبفرح من وجد ضالته بعد سنوات من التيه في قفار اللغة والأسئلة المبهمة ».
عبد العزيز المقالح
إن الشعر شعور وخيال، وفعل وانفعال. ولذلك فلا مناص أن يسبح كل شاعر في عوالمه الخاصة وأن يستظل بظلال لا يستظل بها غيره. ومن ثم، فإن كشف هذه العوالم والأسرار والظلال لا يتأتى للقارئ إلا بالغوص في شعرية البنى التحتية المفضية إلى سيكولوجية المبدع. وبما أن الشعر تيه وحلم وخيال، فإن استعجال اقتحام مجاهله، أمر قد يحبط الإفصاح عما يمور به هذا العالم المركب، سيما وأن ديوانا مثل «يد لا تسمعني» للشاعر «نجيب خداري» محكوم بملابسات إبداعية يتشابك فيها الذاتي بالموضوعي، والسيكولوجي بالماورائي. ولئن كان هذا الشاعر مهووسا بمراجعة مفاهيم الخلق الشعري، فإن هذا الهوس أمر طبيعي لدى كل شاعر أصيل يعي بأن الشعر تعبير فني لا يقبل التنميط أو التحنيط أو الرسو على هيئة هندسية ثابتة. ولعلها المسلمة الفنية التي تبدت منذ الأناشيد الدينية القديمة والملاحم الشعرية مرورا بمختلف التشكيلات الشعرية الغربية والعربية التي لم تعرف قرارا أو استقرارا على مرّ التاريخ.
ولا شك أن «نجيب خداري» قد وَعَى هذه التجاذبات البويطيقية اللامستقرة، لأن ديوانه يعكس اختمار تجارب شعرية متباينة في مدارات مخيلته المتوجة باحتكاكه الطويل بالقصيدة المغربية التي أسهم من خلال إشرافه على الملحق الثقافي لجريدة «العلم «المغربية في بلورة تحولاتها وإبدالاتها ومساراتها الفنية والجمالية.
وهكذا، فقد صار الاحتكاك وعدم استعجال القول الشعري عاملين قويين لحشد حدسه الشعري ابتغاء خلق نموذج شعري يكسر البنية والدلالة ويحملهما نحو آفاق جديدة، مما يفيد أن ديوان «يد لا تسمعني» يجسد بيانا شعريا يسعى إلى تشكيل مخاض فني خلاق.
حـول مورفولوجيـا الديـوان
إن أول ما يجذبنا أثناء قراءة عنوان ديوان «يد لا تسمعني» هو الآليات اللغوية التي تنتظم متخيل هذه العبارة، والتي تمنحه خصوصيات ذات مسحة خاصة في ملامسة حدود الشعر. وبما أن الشاعر يدرك ما لواجهة الديوان من أثر على نفسية المتلقي، فإنه اختار عتبة صادمة ومفاجئة، سيما وأن للعنوان وظائف تعبيرية وانفعالية وتأثيرية ينفرد بها عن سواه من مؤسسات فضاء واجهة الغلاف، وذلك لأنه أبرز عتبة تستثير أسئلة القارئ، بل وتسعفه على اقتحام متاهات النص. فهل استطاع المظهر التركيبي لهذا العنوان احتواء ملابسات الإنتاج النصي خاصة وأن العنونة بنية نصية أساسية لتوليد الدلالة، وعلامة سيميوطيقية تضمينية لتحقيق التماس والتجاور بينها وبين مختلف مكونات العمل الفني ؟
إن عبارة «يد لا تسمعني» باعتبارها عنوانا لهذه المجموعة الشعرية، تهب النص إمكانات التمثل واعتبارات التشكل لدى المتلقي، ولذلك فهي لا تؤدي وظيفة التسمية والتعيين والإشهار فحسب، وإنما تسعى إلى امتلاك وظيفتي الاحتواء والانعكاس؛ أي احتواء الجزء للكل، وانعكاس الكل في الجزء. ومن ثم، فقد تغدو هذه المتوالية اللغوية الإيحائية تركيبة بليغة ومُوجِزة لأول عنوان فرعي داخل هذا الأثر الأدبي وهو «يدي على يد لا تسمعني» بوصفه عنوانا للمجموعة الأولى من قصائد الديوان التي تتضمن ثماني عشرة قصيدة وهي على التوالي: «تحت الصفر»، «ذات خوف»، «دمي دمها»، «رعشة»، «مشهد»، «وراء الليل»، «أبعد من موت»، «كأني لا أشبهك»، «خلف نافذة الوقت»، «لحظة»، «حكمة»، «لهاث»، «حضور»، «انتظار»، «أكاد أسميها»، «هوية»، «الأقاصي»، «عشق». وهي قصائد تحكي سيرورة المعنى الذي يشكل أبرز تيمات المجموعة الأولى من هذا الأثر حيث يحضر الخوف، والتيه، والموت، والعشق، والانتظار، والحلم.
أما المجموعة الثانية، التي تحمل عنوان «الظل أشد اشتعالا»، فقد اشتملت على ثلاثة وثلاثين عنوانا فرعيا، انبنى اثنان منها: «بين يديك» و«يدان من هواء» على مكوِّن «اليد» الذي يعد أبرز علامة لغوية في هذا الديوان. ويلحظ القارئ أن عبارة «يد لا تسمعني» لا تهيمن على البنية النصية الأساسية. ومرد هذا التعتيم الدلالي إلى لعب الشاعر على استراتيجية الاستفزاز وتفجير الأسئلة الفاهمة القادرة على إدراك الآليات الخفية التي تجعل من الديوان نصا متكاملا أو ملحمة سيكولوجية غير قابلة للانفصال أو التجزؤ على اعتبار أن العنونة «عملية لا تخلو من قصدية كيفما كان الوضع الاجناسي للنص، إنها قصدية تنفي معيار الاعتباطية في اختيار التسمية، ليصبح العنوان هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه وفق تمثلات وسياقات نصية تؤكد طبيعة التعالقات التي تربط العنوان بنصه والنص بعنوانه.»(1)
وهكذا، فقد يبدو عنوان «يد لا تسمعني» إعلانا لتشكيل مظاهر التناغم البنيوي والدلالي المحددين لأنماط الكون الشعري داخل الديوان. ولذلك أمسى بمثابة مجال لتوليد المعاني الافتراضية في تعالقها وتفاعلها مع بنية النص، مما يجعل العنوان مطبوعا بوضع خاص في التمثل والتعبير والاشتغال لأنه يشكل نواة البؤرة التخييلية. وتكمن بلاغة الاتساق الدلالي بين العنوان والنص الأساسي في تكرار لفظة «يد» داخل المتن الشعري في صيغ مختلفة يوضحها الجدول الآتي:
المفردة الصفحـة عدد المرات المجموع
يـــدي 112-66-9-9-5 5 21
يــد 113.113.111.68.43.42.42.9.5 9
أيـدي 5 1
يـديـك 44.41.41 3
يــدان 55.52.52 3
يلاحظ بناء على معطيات الجدول الواصف أعلاه، أن كلمة «يد» تكررت إحدى وعشرين مرة في صيغ صرفية وأحكام إعرابية متباينة. وقد ارتبطت في مدارات سياقاتها التداولية بذات المتكلم السارد والآخر؛ المخاطب الذي قد يكون هو ذاته ذاتا منسلخة من ذات المتكلم. ولذا فقد وُظفت هذه الكلمة في النص الشعري لتترجم عبر مناجاة وجدانية مأزومة في مجملها علاقة الذات بالأشياء التي تحاورها عساها أن تحدث انفراجا في خارطة انفعالات المتكلم، يقول في قصيدة «ذات خوف»:
يدي/ على يد لا تسمعني/ على صخرة/ تمسدها… عَلّ فراشة تطير/ تعصرُها… عَلّ نبيذا يسيلُ 2
وقد تفصح اليد في قصيدة «بين يديك» عن شيء مثير، غريب، غامض وغير مطاوع لنقل الإحساس والتجربة والمعاينة، يقول الشاعر:
الذي بين يديك/ مثـل/ هـوامّ/ الليل/ لا يسير إليكْ../ الذي/ تـراهُ/ لا تـراهُ/ الذي/ يفرحـك/ يبكيك
الذي/ تركض/ حين يركض/ لا تلتقيـان
الذي/ إن مدَدْت إليه يدا/ ذابتْ/ في/ برزخ/الوهم.
الذي إن كففت عنه يـدا/ صِرْتَ/ دون يـدٍ/ دون غـدٍ. (3)
إن هذا الشيء الغامض والغريب الذي تنتظمه صلة مبهمة مع الذات لا ينتج سوى الانفصال والتباعد والوهم حين تركض هذه الذات خلفه أو تمد إليه اليد. بل إن استنكاف ربط الصلة مع هذا الشيء المبهم منتج الوهم قد يؤزم الوضع حيث تصير اليد مبتورة على مر الزمان مما يدخل الذات الراكضة المتطلعة في أزمة هوية دائمة.
إن صلة اسم الموصول [الذي] منسوجة في إطار علاقة التشابه والاختلاف، والتشابك والانفكاك والشد والجذب، والتباعد والتقارب بين الصلة والموصول [الذي هو الأبعد من ترابك / الأقرب من سحابك، الذي هو أنت / لا يشبهك / الذي لسته / مشتبك بأغصان روحك] لتتوج هذه الصلة مع المبهم بالسمو في الأعالي كناية على الشطح والإشراق. لدرجة يصير معها الموصول في قصيدة «يدان من هواء» عبارة عن ذات ميتافيزيقية يصحو صاحبها وهو يكابد ألم النزول من الأعلى إلى الأسفل المادي المحكوم بعلاقة الربح والخسارة:
تركت ليدين من هواء/ أن تصفعـاني/ ونزلت/ إلى
أسفلي/ أحصي الخسارات.(4)
غير أن اليد التي كانت على وشك الانبتار والانفصال عن ذات المتكلم السارد في قصيدة «بين يديك» تتحول في قصيدة «أول حلم» إلى مرادف للعين حيث يتم تحطيم المسافة بين الحواس لأن الأمر يتعلق بمكونات الروح لا بالجسد؛ إذ تصبح اليد هنا أداة للرؤيا التي تحْدُسُ ابتسامة الطفولة، وتستشرف الأفق في آخر زمن الحلم. يقول الشاعر في قصيدة «أول الحلم»:
تسبقنـي عيني/ لتُضيءَ عتمـة الزاوية/ تـسبقنـي يدي/ لترى بسمـة مريـم/ وهـي تـطاردُ/ في آخر الحلــم/ أول الفراشات.(5)
يبدو أن «اليد» لا تعرف حالات أو مقامات قارة، لأن شروخ الذات تُصيّرُها نفيا منْفِيا يُعيد ماجريات الاستشراف إلى درجة الصفر من الوصال والاتصال )لكن السرير يسبح / في لذاذة النوم / والغطاء وثير، ولا يد تسبقني، ولا عينُ / ومريم في أول الحلم(6). بل إن اليد قد تتحول في خضم عدم تواصلها مع ذات المتكلم في قصيدة «انطفاء» إلى حفارة القبر وحمالة الروح نحو أفولها وانطفاءاتها. يقول الشاعر:
ليد من تراب/ أن تحمل الروحَ نحو انطفاءاتهـا/ ليد من تـراب/ أن تحفـرَ قبرا/ أن تودع القلب/ جثـة السمــاء.(7)
إن امتزاج المادة بالروح، والتراب بالهواء، والقلب بالسماء، يُدخل الذات المتحللة في تضاربات التيه(القبرـ السماء).(8) وهو ما يوحي بأن عالم الحدس منقول عبر الرمز والإيحاء، لتصبح «اليد» المتحولة إلى حاسة هيولية، نواة للتعبير عن شطحات المبدع، مما يحيلها إلى رابط معنوي قوي بين داخل النص وخارجه.
وبما أن «اليد» جاءت صلة للموصول المبهم، فإنها وردت نكرة، ولم تستعمل معرفة إلا مرة أو مرتين، لأن المعرفة تقييد والنكرة تعبير عن المطلق والشمول. وتبعا لهذا التفسير، يمكن اعتبار «اليد» في العنوان، وفي ثنايا الديوان بإفرادها وتثنيتها وجمعها عامل ربط بين الصلة (الجسد) والموصول (الروح)، سيما وأن فلسفة هذه الذات تمتح مقوماتها من مقامات التحير والتقلب والاضطراب.
لاشك أن التيه في مجاهل التأويل، أول ملمح لشعرية الديوان، وأبرز علامة لإثارة شهية القراءة؛ إذ يصبح العنوان بانفتاحاته صورة تخييلية تعبّر عن شمولية النص الشعري، وهي الصورة التي تحث القارئ على التشفير المندرج ضمن مرحلة ما قبل القراءة استعدادا للانخراط في ثـقافة النص. وذلك لأن العنوان حسب «شـارل غريفيل»، و«ليو هويك» Ch. Grivel et Leo Hoékـ علامة لسانية تقوم بتعريف وتعيين دلالته وإثارة قرائه. بل إنه بتعبير «فليب لوجون Ph. Lejeune» بمثابة خطاب حاشية يوجه القارئ ويتحكم في القراءة(9). وعليه، فقد يغدو عنوان «يد لا تسمعني» مستفزا ومومئا بانزياحه الدلالي ومظهره التركيبي. وما يجمع بين طرفي الوصل (العتبة النص) على مستوى التشكيل اللغوي والدلالي هو التيه السيكولوجي وغياب التواصل بين الذات والآخر. وهذا ما تترجمه عناوين قصائد الديوان الموزعة بين كلمات مفردة و(عددها ستة وثلاثون عنوانا، نذكر منها: رعشة، مشهد، حكمة، أفق، نبع، صباح، بياض، ليل، كفن، انطفاء…)، تستبطن المحذوف والمسكوت عنه طلبا للإيجاز والإيحاء المستفز لذهنية القارئ، وبين تعبيرات مركبة (ويبلغ عددها خمس عشرة قصيدة نذكر منها: وراء الليل، خلف نافذة الوقت، تحت الصفر، بين يديك…) توحي بمحمولات غامضة وأكوان ميتافيزيقية ينبجس من أعطافها التشخيص الصوفي.
أمـا الإهداء (إلى أبي وأمي) فأكبر برهان على ثنائية الخفاء والتجلي والانصهار الروحي في شرايين اندحار الوجود، يضاف إلى ذلك كونه تعبيرا عن توحد الوعي باللاوعي، مما يعكس إحساس الشاعر العميق بجوهر نشأة الكون الفيزيقي. وإذا كان الإهداء تقليدا إبداعيا، وأداة إجرائية للإخبار عن العلاقة القائمة بين المبدع والمهدى إليه، فإن الديوان يحفر مجاريه الدلالية وفق تعالقات الأصل والفرع (آدم/ حواء) والجوهر والعرض (الذات الإلهية/الذات البشرية) والحاضر والآتي (الدنيا/الآخرة).
ومما يزيد من الدلالة الإيحائية للنصوص الموازية المرتبطة بديوان «يد لا تسمعني»، تأخير المقدمة (حصار المحبة) التي ذيل بها الشاعر «نجيب خداري» قوله الشعري مكسرا بذلك هندسة التأليف النمطي الكلاسيكي، ليشعل بذلك أسئلة منهجية يصبح معها خطاب الخاتمة/المقدمة مفتاحا لمفارق عوالمه السيكولوجية والروحية والثقافية.
وإذا كان خطاب المقدمات يمتلك سلطة توجيه القراءة، فإن الشاعر قد أخّره جاعلا منه خطاب خاتمة وإضاءة بعدية حتى لا تؤثر آراؤه الفكرية والنقدية في مسارات القراءة، ولكي لا تلعب أدواته الإجرائية وتمظهراته الاصطلاحية دورا في الفحص والتحليل، وعيا منه بالعلائق الجدلية التي تربط العمل الإبداعي بمقدمته، مُضمنا إياها أفكارا وأسئلة تلامس جملة من قضايا الإبداع والذات والآخر؛ يقول «وقفت، دائما، بسذاجة، أو بنباهة، أمام البدهيات، طارحا أسئلة جديدة. جعلني الشعر أقترب أكثر من أسئلة الذات والآخر، واللغة، والحداثة، والتراث، والجمال، والفن….»(10)، وهو الأمر الذي يؤكد أن هذه الأسئلة هي المصدر المنهجي الكامن خلف المقصد من الكتابة الشعرية لديه، حيث أضحت هذه الخاتمة/المقدمة/حصار المحبة أفضل أداة لاستنباط الأبعاد الرؤيوية التي تفصح عنها موضوعات إبداعه الشعري.
التيه السيكولوجي أو الفرح بتيه الغابة
إن الحداثة اقتباس من أفق الاحتمال وإبحار في أكوان الممكن والمحال، ولذا راح الشعر العربي الحداثي يشتغل على هذا «الرهان» الذي يسعف الشاعر على بلورة الأسئلة الحارقة والتهويمات القارسة كمعادلات لتأمل الذات في ظل تواجد يقتضي مبدأ الإجبار ولا يُتيح فرص الاختيار، الشيء الذي يبرر لجوء الشاعر «نجيب خداري» إلى مساءلة الذات على خلفية التيه وارتياد آفاق وجودية مبهمة، يقول في قصيدة «دمي دمها»:
ولا تذرني/ لمن يقتلني كل حين/ ويزرعني في فم المهاوي كل حين/ (هاوية تمضي/ وهاوية تجيءُ)/ ولا تذرنـي…/ وامض إلي سريعـا/ مثل أنواء الشتاء/ سريعـا/كما نزوة دُوري/ إلي… إلي… إلي/ يا حبيبي/ يا ملاكي.(11)
ويقول أيضا في قصيدة «رعشة»:
ألهث/ في اتجاه/ الموجة العالية/ بينما القاربُ/ وحيدا/ يعبث/ بقليل/ الماء.(12)
ويضيف في قصيدة «أبعد من موت»:
كم أشتهي/ أن أطلق صوتي/ عاليـا/ أبعد من جبال الخوف[…]/ كم أشتهي/ أن أغرز هذا الجسد/ في صحراء/ بلا ضفاف/…/ اشتهاء/ وموت/ يغزلان كل هذا البياض.(13)
وفي قصيدة «الظل أشد اشتعالا»، يقول:
أتبعثـر/ في الظل/ تحملني ريح/ أكثر عبثـا/ إلى فوق/ حيث الأغصان/ عالقة في السحاب/ تحملني ريح/ إلى أسفل/ حيث جذور/ تَـصٍـلُّ/ في قرارة الرَّمْـل/ مثل المحـارِ.(14)
ويضيف في قصيدة «صباح»:
لا أحد/ في هذا الصباح البارد/ سوى طائر/ يشاغب/ شمسـا/ خافتـة/ سوى بحر/ كثير الصمت/ سوى شبح/…/ لعله ظلي هاربا مني/ إلى شساعة الأفق/ إلى لذة الرمل/ في شاطئ بارد… ووحيد.(15)
إن «التوه: لغة في التيه. وهو الهلاك. وقيل الذهاب. يقال «ما أتوهه في ما أتيهه». وتَوَّه نفسه: أهلكها… وتاه في الأرض يتيه… أي ذهب متحيرا وضلّ… ويقال: مكان مِتْـيََهٌ: أي يتيه فيه الإنسان».(16)
بناء على هذا التأطير المعجمي «لدلالة التيه»، يستشف من هذه المجتزءات الشعرية أعلاه، وغيرها مما تزخر به نصوص الديوان، أن «التيه» تيمة أساسية في هذا المتن الشعري. وهو «تيه» صادر عن حيرة الشاعر وتمزقاته السيكولوجية التي تذهب بعيدا إلى حد الغربة والتبعثر والتشطي. (لعله ظلي هاربا مني/ أتبعثر في الظل تحملني ريح أكثر عبثا/ وتزرعني في فم المهاوي… إلخ) وما سواها من معاني التيه التي لا يقوى الشاعر على تحملها، فيستجدي حبيبته لإنقاذه من الضياع والتبخر في لجج المهاوي التي تتقاذفه (هاوية تمضي وهاوية تجيء). فالتطويح بالشاعر داخل مِتْيَهات بلا أفق أو قرار (صحراء بلا ضفاف جبال الخوف، فم المهاوي، شساعة الأفق، بحر كثير الصمت…) إقحام لذاته المتشظية في ورطة التيه التي احتار في الخروج من متاهاتها (المسالك إلي بعيدة / بحثت عني في بياض الليالي/ فوجدتني شتات الرمل/ أشلاء موج/ تصفع الشاطئ المضيء / وتصفعني).(17)
إن انكتاب الصور الشعرية داخل هذه النماذج يتم عن طريق الخرق والاختراق ومجاوزة الجاهز والنمطي، ولعله المسلك الفني الذي يسلكه شعر الرؤيا التوليدي الذي يسعى حسب «رونيه شار R. Char» إلى الكشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف، إذ يجد الشاعر نفسه في موقع إحساس جديد بحضوره في الوجود، وفي موضع البحث والحيرة المنبجسين من رؤية ميتافيزيقية تبصر الأشياء إبصارا كشفيا يحدو بالشاعر إلى القفز خارج المألوف، وإلى الكشف عن العلائق الخفية الموجودة بين عناصر الكون في لغة مناسبة للتعبير عن التداعيات السيكولوجية التي تبتعد بالذات عن الحاجة إلى الارتباط بالزمان والمكان؛ الأمر الذي يمكن الشاعر حسب أدونيس من تغيير إيقاع «نقل» الواقع بإيقاع إبداعه.(18)
وعلى هذا الأساس، فقد تـُلمع «شعرية التيه» النابعة من «المتاهة السيكولوجية لذات الشاعر، إلى تقنية جمالية يتحايل هذا الأخير بموجبها قصد إيجاد ممكنات للتعبير عن اللحظة الهاربة، والذات المتشظية، والزمن المنفلت، وأمكنة اللاقرار واللاعودة باعتبارها عناصر للدفع بشعره من «حالة الاحتباس» إلى «حالة الخلق والتدفق» اللذين تنسج على خلفيتهما «لحظات التيه» التي لا تدركها إلا الحواس المسكونة «بعشق الشعر وبجنون رؤاه»(19). يقول الشاعر في قصيدة «دمي، دمها»:
سلاما يا دمي/ سلامـا/ سأسقيكَ ما يتنزّل في باحتـي/ من ضوء الكلام/ ومن ضوء الحمام/ سأسقيكَ، فلا تَذَرْني/ لحنيني/ ولا تذرني/ لجنوني.(20)
ندرك أن الشعر عند «نجيب خداري» «متاهة للانكتاب» و«أفق لمجهول» لا يرسو على قواعد محددة. ولذلك ألفيناه يصوغ تشكيلات هندسية هائمة، متنقلا في التصوير والتوليد بين رؤى وتهويمات متنوعة عَله يعثر على تشكيل شعري يستوعب متخيل المتاهة السيكولوجية «التي تفجر انسياب الوجدان في شكل شعري تجريبي يرتاد الأشياء الميتافيزيقية ويعبر بالمجرد واللامحسوس مختبرا «شعرية التيه» الموقعة بألق التحير، وألم التبعثر، وهوس الجنون. وهي المشارطات الدلالية التي تؤازر حدوسات الدهشة واللاتوقع، وتطعم شعره بطاقة التحول واختراق الحدود، واللعب بكلمات التيه المعبرة عن مدارات الفراغ في الوجود الكاشفة عن «انكتاب بويهيمي» يشع بالأسئلة الحارقة، ويتسع لاستيعاب شروخ الجسد وتصدعات الروح التي تقحم الذات في «متخيل المجهول»، إنقاذا لها من قيود اللحظة وسياج التفطية (هناك خلف الشجرة جسد عار / هناك تحت قبري هسيس الرغبة / ووراء الليل ضوء لا أراه / هل كنت مجنونا لأنسى ظلي وحيدا…).(21) فبهذه اللمسة الفنية ينسج الشاعر إيقاعات «التيه الجنوني» الذي ينبئ بملامح الانخطاف والوجد الصوفي والذي يقلص المسافات ويبرر مكاشفات المقام الموحي «بشعرنة التيه وشعريته» حيث يمد الإلهام الذات القدرة على تشكيل المافوق واقعي لتنمحي بذلك أطراف الوعي بلوغا لمناطق اللاوعي المفعم بالهلوسات والتذكر والأسرار الماورائية التي تحرر القول الشعري، وتجعل سر كل عملية شعرية كامنا في حالة الحلم التي تمثل أكمل نقطة في التجرد الممكن أن يتوصل إليه الفكر البشري». (22) يقول في قصيدة «خيمة اللون»:
وحين يقيس الرسـام/ظلال/ اللوحة/ يتراقص/ في/ عيون/ الشاعر/ لون / مثل/ أحلام/ متعبه/ […]/ كأني أرى وجه غـلام/ يصارع/ مملكة/ الغيم/ كأني أرى نوافذ سابحـة/ في البنّيّ الشفيف/ تخاصم جبسـا/ وتهفـو/ للأزرق /الأبيض…/ لكن الأزرق/ يعبر في أول التشكل ـ/ نحـو/ بياض/ السريرة.(23)
يتكشف من خلال هذا النص الشعري وغيره من النصوص التي تتوسل بالحلم كأداة للتعبير عن تداعيات الرؤية ومدارات التشكل، أن العفوية البشرية لا تتحقق في الشعر إلا في حالة حلم النوم أو حلم اليقظة الذي يفجر الواقع الداخلي للذات عائدا بها إلى ينابيع الطفولة ومرحلة الخيال الرمزي الضارب في التاريخ، يقول في قصيدة «نزار»:
والغُنْيَةُ/ تخرج من فم الطفل/ تنهيدةَ فَراشٍ/ والضحكةُ/ أرقُّ / من سمكةٍ/ تتزلّق/ في خيالٍ/…./…/ أمسكُ بتلابيب نومه/ ونحلم معا.(24)
إن سؤال الإبداع يتحرك داخل ترسيمات شعر الحلم لدى «نجيب خداري» خارج المنطق والواقع تعبيرا عن الرغبات اللاواعية والميول المتوارية؛ إذ في الحلم كل شيء يبدو سهلا وطبيعيا، وتنعدم مسألة الإمكانية والفكر المنطقي (وجه غلام يصارع مملكة الغيم نوافذ سابحة في البني الشفيف تنهيدة فراش والضحكة أرق من سمكة تتزلق في خيال)، حيث يغدو الحلم في توقيعاته الفنية وسيلة معرفية، ورؤية شعرية ونشاطا فكريا يقدم بدائل خيالية لسيكولوجيا الذات في ارتباطها باللاوعي ترجيعا لأصداء الطفولة والزمن السحيق المكتنف بالأسرار والألغاز التي تمد شعر نجيب خداري «بالأحلام والهلوسات الصادرة عن اللاشعور» الذي يتيح له القدرة على تخيل الصور اللاواقعية ويقود نشاطه الفكري داخل دوائر الحلم واللاوعي.
خيال الصورة الشعـرية
اللغة روح الشعر وأداته السحرية التي تصهر عناصر التخييل في بوتقة إبداعية متميزة. فالشعر بهذا المعنى لغة ذات انبناء رؤيوي يحمل الإحساس بأسرار الذات وتصدعاتها داخل الكون المحكوم بالفراغ. وعلى هذا الأساس لا يمكن للغة الشعر إلا أن تكون رمزية إيحائية إشارية يصعب فهمها وتذوقها ما لم يمسك القارئ بتفجراتها وتدفقاتها وانسياباتها خارج نظام المعاجم، لتكون بذلك مفتاحا رئيسيا لولوج عالم الشاعر المثقل بالرموز التي يكثر حضورها في الأحلام، والشعر، والأساطير. وإذا كان التعبير العقلاني يعبر بالتقريرية والوضوح، فإن الرمز ينقل المجرد بالمحسوس، حيث تتحد ذات الشاعر بعناصر الكون من خلال الرمز الذي يتخذ منه المبدع معبرا لتصوير التنافر وترجمة هيام الروح.
يقول في قصائد مختلفة:
1ـ في عينيهـا/بحر يستريح/وشمس/غاربـة.(25)
2ـ هي ذي الأرض/تحتي تذوب//والريح/تحمل بكاء الطفل/إلى أم بعيدة/أدور/حيث دار الحلم/أمشي فوق النهر/إلى سيدة النهر…/في برزخ الغواية والرعب/أراهـا…/ثم تتلاشى اللحظة/مثلما يتلاشى الطمي والماء.(26)
3ـ لَمْ أَغْرَقْ/ قاربي لم يبارح الحلم/ والموج ما زال يَجْلِدُ/ صخور الصدر/ الليل/ بلا نجمةٍ/بلا نباحْ ـ/يقضم ما تناثر من روحي.(27)
4ـ دَعْ أشجارَكَ/ تحملْنَـا/بعيداً/إلـى/مملكـةِ الشمس.(28)
إن الريح، والشجر، والماء، والطير، والظل، والبحر، والنهر، والموج، والشمس،والقمر، والسمك، والليل… تمثل جميعها العناصر الأولية لمتخيل الشاعر «نجيب خداري»، إذ يغدو الشعر عنده صورة يعبر عبرها عما يستحيل التعبير عنه، ويتخيل ما يتعذر وجوده في الواقع، مغيرا حقيقة الأشياء، معيدا ترتيبها من جديد، هادفا إلى تمطيط الوجود وتوسيعه عبر الخيال الخلاق باعتباره وسيطا لإبراز قلقه أو تيهه أو موقفه الخاص تجاه الذات والكون والحياة؛ حيث لم تعد الأشياء داخل نسيجه الشعري تراعي العلائق الموضوعية الرابطة بين الأشياء الواقعية، وإنما تتحطم بفضل تفجير اللغة في صور غريبة. فكيف يمكن للبحر إذن أن يستريح في عيني امرأة ؟ وأية علاقة تربط بين استراحة البحر وغروب الشمس؟ وهل تحولت الأرض تحت أقدامه إلى جبال من الثلج حتى تذوب ؟ وهل بإمكان الريح أن تحمل بأمانة بكاء طفل بريء تفصله المسافات عن أمه البعيدة ؟.
حينما يتلاشى الزمن ويمتزج الطمي بالماء يتحول الشاعر إلى نبي أو ولي يمشي فوق النهر قاصدا حارسة النهر. وبما أن عناصر الكون قد انصهرت فقد انقلبت المعادلات بحكم تبادل الأدوار، ليصير القارب حالما، والموج جالدا لصخور صدر الإنسان، والليل قاضما لروحه، والأشجار حاملة لذاته نحو الأفق المحترق.
(المادة تنشر كاملة بموقع المجلة www.nizwa.com)
من هنا ندرك قدرة خيال الشاعر على تشكيل صور شعرية لا وجود لها في الواقع المحسوس، مما يتيح للقارئ أن يتأمل عوالم خفية يضمرها قوله الشعري. سيما وأن الرمز إيحاء يتجدد بتجارب الشاعر ويتلون بمعاناته التي تمنح للخيال أسلوبا يفجر به الشاعر الإيقاع الرمزي للموجودات، ويحقق رؤاه الشعرية الخلاقة، التواقة إلى تغيير نسق الأشياء التي تتعرى داخل البناء الشعري لتكتسب أبعادا فنية جديدة تترجم صلة الإنسان بجوهر الكون. فالشاعر يشعر بعملية بناء اللغة وبكنه إيحاءاتها وبسحر إيقاعاتها، وبتوحد كياناتها داخل ذاته وليس العكس. لأنه لا يعزف على مبدأ الانعكاسية أو الإدراك البراني لتجاذبات الأشياء، بل على مبدإ «الإفراز الداخلي» لنزوعات النفس البشرية إقصاء للمسافة الفاصلة بين الوجود، أو ما ينبغي أن يوجد. ومن ثم فقد يصير الانزياح مجالا لاستبدالات الدوال، وتشكيلا لاستعارات لغوية قادرة على سبك التيه الذي يكشف شعرية الصور الإيحائية، التي لا تتكشف إلا للعارف بأحوال العشق والخوف والحلم. وهو الأمر الذي يجعل مسار فك الرموز عند الشاعر متجها من الكلمات إلى الأشياء، لأن مسألة إدراك الصور الاستعارية موكول إلى العوالم الممكنة المتوارية وراء الكلمات التي تحيل على هذه الأشياء التي «لا تصبح شعرية بالفعل إلا بفضل اللغة. فبمجرد ما يتحول الواقع إلى الكلام، يضع مصيره الجمالي بين يدي اللغة».(29)
وهكذا، فإن الذي يكسب النماذج الشعرية أعلاه قدرتها الإيحائية ليس تلك الأشياء في ذاتها (الليل، القمر، النجوم، الموج، البحر، الطير، الظل، الشجر، الماء….(، وإنما انتظام هذه الأشياء في منظومة كلامية، يهيمن عليها سلطان الخيال وإيحائية اللغة اللذين يجعلان دور الشعرية كامناً في مساءلة انبناءات الصور لا المحتويات المحكومة بالتغير. مما يفيد أن عبقرية الشاعر كلها معزوة إلى إبداعه اللغوي عملا بقول «مالارميه»: «إننا لا نصنع الأبيات الشعرية بالأفكار، بل نصنعها بالكلمات».
إن مقولة «مالارميه» تدفع القارئ إلى التعامل مع الشعر من زاوية الاهتمام باللغة لا الإيديولوجيا، وبطريقة القول لا بالمقول، لأن مدارات السبك هي التي تمد شعرية اللغة بموضوعاتها. فالوقائع الشعرية في الأبيات المذكورة أعلاه تبتدئ من الآونة التي استراح البحر في أعين الحبيبة، وذوبان الأرض تحت الأقدام، وانتقال البكاء عبر الأثير، وتلاشي اللحظة، وجلد الموج لصخور الصدر، وقضم الليل للروح… إن هذه الوقائع تدخل البنية التركيبية في قانون الخرق الذي يمكن الشاعر من بناء صور استعارية أصيلة حيث يعمل على تسخير كلمات سائدة مألوفة في مدارات لغوية جديدة. ( يدي على صخرة تمسدها… علّ فراشة تطير / تأوي إلي كلماتك فأسكنها بحر صمتي(30) / من عنف الكلمات أتينا… من ورد البكاء(31) / حين يشتعل العشق أسميها(32) / تسيل ذاكرة يشتبك فيها لهب وأغصان(33) / حب يشيخ انتظارا ومطر لا يأتي(34) / علّك تسمع نأمة الحلم أو ترى أجنحة النوم تهوي وتطير(35) / ترمي السنابل جنونا أشقر(36) / «شكري «ينفض أسئلة التعب(37) / للنبع الصغير متحدرا من رابية الحزن أن يبكي(38) / شيء ما يندلق مثل زورق الحقيقة(39) /بحثت عني في بياض الليالي…(40) (.
إن العلاقات الناشئة عن منظومة هذا القول الشعري، تحطم المعاني الجاهزة، وتنقض الصور التي تحول دون فعالية اللغة وخيال الكتابة. إنها علاقة تنطوي على نوع من التوتر واللاتطابق بين الواقع والصور التي ترسم هيئاتها وأشكالها مشاهد تدمر المعنى وتمزق الأسلوب، لتستجيب ذات الشاعر لهذه المشاهد بمشاعر وأفعال محددة منها: تمسيد الصخر، وإسكان الكلمات في البحر، واشتباك الأغصان باللهب، وسماع نأمة الحلم، وشيخوخة الحب، وانحدار النبع من رابية الحزن، والبحث عن الذات في طهر الليالي…. ولعلها المعاني التي تزجي بهذه الصور فيما يمكن الاصطلاح عليه «باللاواقعية الحسية التي نقصد بها خلق الصور من خلال اندغام المواد الواقعية (الصخرة البحر المطر السنابل السماء الرابية النبع الصواري..( في انسيابية اللغة وتدفقات التعبير التي تبعد التحققات العيانية، لتفسح المجال للتجسيد الاستعاري الكامن في تركيب المتخيل الشعري الهادف إلى تحطيم الحدود الفاصلة بين الأشياء في الواقع… ومما يزيد من حدة انكسار التحققات العيانية داخل المتخيل الشعري لدى نجيب خداري، ارتياده للصور المتناقضة إلى درجة التنافر والشذوذ، يقول في توقيعات مختلفة:
1ـ لم أحفل كثيرا/ بهذا الصمت/ يثرثر في ضاحية الروح ؟(41)
2ـ ومثل بلـّـور الظلام/هذا النبع/شفيفٌ/معتمٌ/عذبٌ/أُجاجٌ/واصلٌ/قاطعٌ/…./هو أيضا/ثرثار/بلا صمت
مثل امرأة.(42)
/3ـكأني الشيء/حبيبه/كأني الشيء/نقيضه.(43)
4ـ في عتمة الأعشاب/خشخشة كتيمة.(44)
إن الشاعر وهو يشيد العناصر المكونة لهذه الصور الشعرية، لا يكتفي بتمثيل الموجودات، بل يصوغ من خلالها تركيبات لمستويات أعمق من الرمزية، دون أن تنحصر فعالية هذه الصياغة في الاستعادة الآلية؛ راميا إلى تشكيل عالم مغاير في تعالقاته يجمع بين «الأشياء المتنافرة والعناصر المتباعدة في علاقات فريدة تذيب التنافر والتباعد وتخلق الانسجام والوحدة».(45) وهي وحدة منبثقة من نسيج التركيب الذي يجعل من التنافر معبرا إلى اللاواقع المجسد عبر الصمت المثرثر، والخشخشة الكتيمة، والبلّور المظلم، والنبع الشفيف المعتم، العذب الأجاج، الواصل القاطع… فبهذه الصور يوحد الشاعر بين أشياء ليس من طبيعتها أن تنصهر في الواقع هادفا إلى تغريبه والخروج به من حقيقته المعتادة عن طريق تغيير أشكاله الثابتة، والقفز بعناصره من الشيء إلى ضده مرتكزا بالأساس على الجدة في التركيب، وتعميق الانفعال عن طريق تشيؤ الوجدان وأنسنة الأشياء، موظفا تقنية ذكر الشيء ونقيضه ابتغاء حفر فعل قرائي صادم يعتمد التضاد في تشكيل الصور التي تخلق توترا لدى المتلقي الذي ألف تذوق الشعر بناء على الارتباط المنطقي لا التداعيات الشبيهة بصور الحلم حيث تتناغم المتناقضات وتتقارب المسافات البعيدة. وهو ما ينأى بالصور الشعرية داخل الديوان عن الجمود والانبناءات الناتئة، ويبعدها عن التكرار والابتذال قصد اكتناز القدرة على الغرابة والإثارة وعيا من الشاعر بأن الفن سليل الدهشة التي تنتاب النائم المنتشل من تجاويف صور الحلم. هكذا، نتبين كيف تجتمع المتناقضات، وتتآلف المتنافرات في حقل لغوي محكوم بسلطة الخيال الذي يشرع الصور الشعرية على النهايات المفتوحة.
وبالعودة إلى بعض دواوين الشعر المغربي المعاصر كديوان «الفروسية» «لأحمد المجاطي» و«رماد هيسبريس» للخمار الكنوني، اللذين يؤرخان للهزيمة، ويكرسان واقع الخذلان مع الإشارة إلى الانتصارات الموقوفة التنفيذ. وكذا «الأعمال الشعرية الكاملة» لـ«محمد بنيس» المؤثثة بأسئلة الصدمة والتصوف والمرأة والحب الجنساني الشبقي الذي يتصارع فيه الرومانسي والرمزي، فإن ديوان «يد لا تسمعني» ينزاح كليا عن هذه المسارب الفكرية ليخط لنفسه تجربة المغايرة في اللغة، والفكرة، والرؤية، والدلالة، والإيقاع… كمكونات فنية يلحمها مبدأ التيه السيكولوجي المغموس في الانخطاف الصوفي. فـ«التيه» عنده لا يكرس هزيمة سياسية أو إيديولوجية، وإنما يؤجج المفارقة الوجودية عن طريق وصف حالات التوتر ومقامات انكسار الذات أمام الخوف والموت والحب والقلق والتساؤل… وهي المفارقة التي حدت بالشاعر إلى ابتكار أخيلة وصور جديدة وصلت ذروتها في العنونة (يد لا تسمعني( وعدد من العبارات الشعرية القائـمة على الغرابة وتعدد الأصوات والتعابير المنزاحة. ولئن أضحت عبارة ( تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة( ميسم تجربة المجاطي، فإن عبارة «يد لا تسمعني» قد سجلت لخداري مكانة خاصة في مجال انزياح الكلمة. فالملفوظات لا تكتسب فعاليتها الجمالية إلا بلمسة الشاعر الفنية التي تمنحها معنى ينفجر من انفعالات الذات لا من بطون المعاجم. وهو أمر طبيعي لأن الشعر أكثر الفنون إيمانا بالحرية في تشكيل المعنى وخلق نظام رمزي جديد؛ [تركت ليدين من هواء / أن تصفعاني / ونزلت إلى أسفلي / أُحْصي الخسارات…((46). فتحقيق القيمة التواصلية موكول لما تتركه الأصوات والتراكيب والدلالات والإيقاعات من أثر في نفسية المتلقي. وذلك لوعي الشاعر «نجيب خداري» بأن القول الشعري يتحرك تحت هاجس خلق نظام مغاير دونما أي رابط بالمواضعات الموضوعية (شمس تشحُبُ على الصخر / والراية سوداء / تنذر بخريف بارد / وحب بارد / لماذا يرتعش القلب / كلما رأيت غيما…/ لونها البرتقال / وبينها والماء / بنفسجة / في البراري / بينها آية الموج والريح…(.(47)
إن الشمس، والصخر، والراية، والسواد، والغيم، والماء، والموج، والريح… ألفاظ تمتح دلالتها من تشكيل المعنى حيث تمسي الصور الشعرية تضمينات لوحدة عضوية وشعورية تنم عن حس جمالي ناجم عن انبناءات تجريبية تفجر طاقة اللغة باعتبارها أداة لتركيب الفكر وتصوير العاطفة. ولكون الرمز في الديوان نتاجا لسياق القصيدة، فإنه لا يحوي دلالة محددة، بل إنه عبارة عن بنية عضوية محكومة بشروط التيه والتشظي وتقطع أنفاس الذات التي تشكل من اللغة المتضادة أبعادا روحانية ومواقف وجودية تختفي بموجبها متحققات الدلالة. ومن ثم، فقد يغدو التكثيف الرمزي مركبة للغموض الفني، فهو يُضفي على شعره قيمة خاصة لأن «القصيدة التي تبذل نفسها لقارئها من أول لقاء هي بالضرورة قصيدة مسطحة. أما القصيدة التي تمنحنا مع كل قراءة جديدة بعدا جديدا من أبعادها فهي بالضرورة قصيدة غنية العمق»(48). وبذلك تصبح الألفاظ داخل ديوان «يد لا تسمعني» معطى لغويا يتعذر القبض على مدلولاته؛ الشيء الذي يزج بموجوداته الشعرية في تعالقات رمزية تؤطرها ينابيع الأصول وترسبات أخيلة الطفولة، وهو ما يفيد أن هذه المدركات الخارجية ليست سوى رموز لتشكيل الحقائق الفنية لا الحقائق النفعية. وهي رموز تعاود الظهور داخل الديوان ضمن سياقات ومقامات تتحرك وفق مبدإ سيكولوجية الذات التي تخول للشاعر القيام بأسفار في عوالم الامتداد، وتجعل من التشكيل الشعري معادلا لعالم الحلم المطبوع بدلالات فنية مفاجئة ومخالفة للمعاني التواصلية المعتادة؛ مما يورط المتلقي في تحريك فكره وتوليد معاني النصوص الشعرية، عبر قراءة إبداعية لهذه الكتابة الشعرية العميقة التأملية، المنتجة لصور مجازية مغرقة في الخيال. ورغم بساطة الألفاظ وعفوية إيحاءاتها الاستعارية فإن لها الأثر النفسي المحكوم بجمالية التعبير وسيكولوجيا التيه اللذين تتفتق عنهما علاقة متوترة بين الواقع اللسني والوضعية التواصلية الملفوفة بغموض يجعل الوظيفة الإفهامية للغة غير متحققة بحكم انعدام التلاحم بين المكونات النصية والضوابط التداولية. فالشاعر يتحرك داخل لعبة الخيال الهادف إلى الافتراض، والاستشراق، والاستكشاف المشروط بالنمط السيكولوجي الميتافيزيقي لا النمط الفيزيقي الاجتماعي. وهو ما ينتج تمثلات وهمية تلقي بالخطاب داخل التفكير بالكلمات حيث تتحد الإسقاطات الذاتية بحقائق الوجود في صور شعرية بديعة. ولذا، فقد بدا توتر الخاطر مولدا لأصوات خفية وحروف سحرية ترسم تخيلات الوجدان في الفضاء؛ إذ لم تعد «الجبال» أمرا جغرافيا طبيعيا، وإنما أمرا سيكولوجيا )جبال الخوف(، ولم تعد «اليد» أداة للمناولة وإنما أضحت كيانا ماهويا خارجا عن التعيين الوظيفي )يدي على يد لا تسمعني(. إن الخيال هنا، يركب الصور بطريقة مفاجئة متباعدة تمزج بين الحسي والمعنوي داخل انسياب شعري محكوم بمنطق التعويم الفني، ليصبح التخييل أساسا للإبداع الشعري، لأنه يخرج الواقع إخراجا جديدا عن طريق الجمع بين المتباعدات»(49). ومهما بدت صور التخييل ممزقة ومتباعدة، فإن الاستعارات لا تحصل إلا لكي تثير انزياحات استبدالية مفادها أن هذه الصور ليست مجرد تحويل للمعنى، بل هي تحويل لطريقة إنتاج هذا المعنى الذي ينط في صور التخييل من الواقع السيكولوجي إلى الواقع الخارجي حتى تتشكل التصورات المبهمة تشكلا مغايرا تنتقل بموجبه سيكولوجية الخطاب من أنا الذات إلى عالم الأشياء. ولعله المبرر الفني الذي حدا بالشاعر إلى استثمار معجم الأشياء بكثافة لا تخضع لمشارطات القانون الطبيعي، بل لنفحات الروح وانعطافات الذات التي أعادت ترتيب عناصر الكون بلمسة فنية بارعة.
وهكذا، فقد خرجت الصور على غير مخرج المألوف، إذ استدعى الشاعر لهذا الغرض مجموعة من المقومات البنائية كـ«الحذف» الذي يعتبر الصيغة الفنية للعنوان الرئيسي ومعظم العناوين الفرعية، و«القلب» (دعي وحشنا الصغير يفرح بتيه الغابة / دعي الصفصافة تعبث بالريح ((50). و«التشبيه المقلوب»: (كأني لا أشبهك في طفولة القلب / ولا أشبهك في جسد يبكي أو جسد يعوي..).(51) وتشابك ألفاظ النفي والإيجاب )قادمة (لا أدري) من ظل في داخلي أم من لمعة الغياب)،(52) وذلك ابتغاء اختراق الذات وارتياد المابعد باعتبارهما صفتين تؤهلان الخيال إلى صناعة شعرية الخطاب بناء على وهم الوجدان وملحقات الإدراك الباطني. وهي شعرية تدني المتلقي من شعر يواجه الذات والآخر والكينونة والينابيع والفناء وما بعد الموت… ولعله الدنو الذي يجعل التفكير الشعري لدى «نجيب خداري» يوازي التفكير الفلسفي المضيء لمناطق العتمة في الذات والوجود. ومن هنا يتضح أن تقنية نفي الواقع في شعره لا تعني هوسه بتشكيل جمالي متعالٍ على منطق الطبيعة والنفس (لست في حاجة إلى النهار/ كي أبصر الليل/ لست في حاجة إلى الشمس كي أحلم بالقمر/ لست في حاجة إليّ/ كي أصدق أني أحبُّك)،(53) بل تشكيل جمالي نابع من محددات هوية الذات في الوجود. ومن ثم، فإن «نفي الواقع» لا يفيد «نفي الحقيقة»، بل ويُعدّ قبسا يرفع شعره نحو مدارج التسامي. سيما وأن التخييل نقيضه «الواقعية» لا «الحقيقة»، مما يدرك معه أن الشعر يظل مفعما بحقيقته الجوهرية الخاصة التي تعبر به في اتجاه حل التضاد بوصفه جسرا لتعرية الثابت والمتحول، والروحي والنزوي… وغيرها من الثنائيات التي تدفع الشعر إلى تأمل الكون في كنهه الخفي.
تشكلات التشكيل في «يد لا تسمعني»
يُعد التشكيل باللغة جوهر بلاغة التركيب الشعري باعتباره بناء يتوخى التصوير، وتناغم الإيقاع، والرسم في الفضاء… وغيرها من الأدبيات التي ترقى بالجوانب الفنية للقصيدة. وبهذا، يتخطى الشعر الشكلية التزيينية ليغدو كيانا إبداعيا محكوما بابتكار الصور الجديدة، والأنساق اللغوية المستمدة من مقولات الخلق والحرية والاختلاف وارتياد عوالم تشكلات المبنى والمعنى التي ظلت مصادرة من قبل النقد القيمي والخطاب الإيديولوجي.
ولقد كان هذا الحصار عاملا مساهما في اتجاه تخطي تهميش تشكلات تشكيل القول الشعري المعاصر؛ إذ حاول العديد من شعراء التفعيلة بدءا من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة.. تكريس منظورات متباينة في مجال هندسة فضاء الكلام الشعري ساعين إلى إبداع الواقع وليس محاكاته، باحثين عن جوهر الفكر والواقع والذات داخل الإدراكات الحسية المنقولة عبر انفعالات التفاعل مع اللغة في علاقتها ببياض الورقة؛ وعيا من الشاعر بضرورة «الانفلات من ابتذال المقروء، ومن لغة مؤسسة على مسلمات جد قديمة»(54) باتت عاجزة عن إمداد القصيدة بجدل الرؤيا والكينونة، وترسيخ المغايرة عبر تنويعات التجريب المؤهلة لصياغة الأفكار المستحدثة داخل فضاءات تستوعب الانفعال الطارئ في علاقته بلاوعي الذات وينابيع الطفولة، يقول الشاعر نجيب خداري:
وراء الليل/ضوء لا أراه/………/………/هل كنت مجنونـا/لأنسى ظلي/وحيدا/مرتعدا/في/بستان/الطفولة.(55)
يتجسد التشكيل في هذا المقطع عن طريق ألفاظ وعبارات ذات نسق علائقي يحول بنية المتن الشعري إلى لوحة تشكيلية توحي بامتداد الذات في الزمان والمكان. وهو وحي يبرهن على «أن الشكل ليس أداة أو وعاء، بل هو بمثابة بواعث لرغبات مركبة أو بسيطة. وهي بواعث تكون بنية تتمثل في نقطة ذات أبعاد خاصة تقوم على سطح ما. وأن هذه البنية المكونة من شكل فوق السطح تبدو جوهرية لفهم عمليات الإحساس والتلقي».(56) وبما أن جمالية التشكيل ملمح بارز في ديوان «يد لا تسمعني»، فإن تشكلات المعنى والمبنى لا تخضع فيه لمقاسات شكلية أو معنوية جاهزة، وإنما هي ربط جدلي بين التعبير والانفعال اللذين تتشكل بموجبهما الانبناءات اللغوية التي تسبح في خارطة الوجدانات على صفحة البياض حيث ستصبح هذه اللغة غاية في ذاتها يبحث الشاعر عنها فيها لكي يصوغ منها عالمه الجمالي المسكون بذاته. يقول في قصيدة «كأني لا أشبهك»:/بعض ندائي/ضوء/يسبح/في/مائك/المعتم/وبعض/ندائي…. هبـاءْ.(57)
أما في قصيدة «لهاث»، فيحيك أنفاسه عبر الشكل الآتي:
يا أنتِ/صدرك هذا، المتنزِّلُ أنفاسي/المتصعِّدُ أنفاسي/ألهثُ/جريحاً/في/ ضيائك.(58)
وفي قصيدة «انتظار» يعكس الشاعر القلق الذي يستفز كيانه دافعا به إلى الانتحار:
قادمـة/مثلما استفزّ دمي/قلقٌ/مثلما انتظرتُ/وانتحرتُ.(59)
بينما يترجم الحزن والبكاء وآهة الجسد في قول شعري يعروه التعرج والحذف قائلا:
وللنبع الصغير/متحدراً من رابية الحزن/أن يبكي/أن يحكي/أني يبكي/أن يحكي/………/………/ولهذا الجسد الموتور/أن يطلق آهةً أخيرة.(60)
توحي هذه النماذج برغبة الشاعر «نجيب خداري» في بلورة حكي سردي ورؤية بصرية تثري التشكلات الشكلية التي جربها أجيال من الشعراء ضمن سيرورة ثقافية تسعى إلى إبراز معاناة الذات في الحياة والوجود. ومن هنا ينبثق وعي الشاعر بإمكانات اللغة وتعييناتها المساهمة في تكوين الشكل الذي يمتح خصوصياته المركزية من توزيع الكلمات والعبارات بشكل يفاجئ الإحساس والبصر على حد سواء، هادفا نحو تشكيل «سيرة التيه والانفعال» من خلال تثبيت حقائق لغوية مرتبطة بالأحوال السيكولوجية، وتلونات الذات المقولبة في إطار الكونية المتوارية في اللاوعي الذي يفصح عن مخزون فعل الانفعال بعيدا عن ضغوطات «الأنا الأعلى للغة»، ابتغاء تدوين تجربة الذات بحساسية وجودية ولمسة صوفية. وبهذا تؤسس كتاباته عن الذات الوجودية تشكيلا لغويا يحيل الكلمات إلى كائنات حية تموج بمواقف وحالات ومقامات تشهد باستسلام الشاعر لتيار اللغة وتوالي الصور والرؤى على مخيلته.
ويتكشف من خلال الجانب الإيقاعي لهذه النماذج وغيرها، أن الشاعر يصوغ أشكاله المشهدية وفق ألفاظ متوازية في التركيب والصرف والإيقاع موظفا التناغم الجرسي (المتنزل أنفاسي / المتصعد أنفاسي / انتظرت / وانتحرت / أن يبكي أن يحكي…(، وامتداد النفس عبر المدود مركزا على الألف والياء المناسبين لاحتواء مشاعر الحزن والتأوه والأنين، ساعيا من وراء هذا التشكيل إلى تقديم معمار مموج يجسد تصاعد الأنفاس وتنازلها، ويرسم تيه الروح في الفراغ متحديا بهذه التشكيلات الفنية صلابة المادة والمنطق العمودي للزمن، وغيرهما من العوائق التي تحول دون النفاذ إلى الدواخل والأعماق. وما دام التشكيل أسلوبا لتصوير الأشكال، وإبداعا يقيم وجودا من أشياء موجودة بتركيبة أصيلة.(61) فإن الشاعر «نجيب خداري» قد عمد إلى طرق تعبيرية متميزة تمكنه من احتواء مشاعر الذات وإدراك هواجس الآخر، خاصة وأن التشكيل تصور ينتظم الحالات الحدسية والذهنية والوجدانية، وارتباط ماهوي بين ذات المبدع وموضوعه. ولعله المعطى الذي حدا بالنظرية الجشتالتية إلى إدماج مقولات الشكل في تأويل العالم المادي، والبيولوجي والذهني وكذا تفسير المجالات المتعلقة بالسيكولوجيا(62) حيث يصبح للهيئات النفسانية وأحوال الأبدان دور في تشكيل أشكال البنية الشعرية، وهو ما يفسر خروج الشاعر «نجيب خداري» عن النظام الرتيب لشعر التفعيلة، وتوزيع الكلمات فوق سطح البياض وفق تعيينات تجزيئية تعكس وعيه بانعطافات النفس وإدراكه الخاص لطوبوغرافيا الوجود. ومن أجل تحقيق توافق بين المحتوي وتدفق الإحساس، لجأ إلى مخاطبة عين القارئ عبر تقنية اللعب بالسواد على البياض مازجا بين مكونات الشعر وتشكلات الرسم، مستغلا الكلمة عوض الريشة حتى ترسم العلامات اللغوية صورا إيقونية(63) دالة تترجم التفاعل العضوي بين الرؤيا والانفعال، إذ تبدو هذه اللوحات اللفظية متجاوزة لزخارف الأنساق اللغوية لتخط تجاذبات الذات في صور شعرية خلاقة تخفي تمثلاته لقدرات فن الرسم في صنع هذه الصور التي يستحيل تأويلها تأويلا صارما. غير أن الثابت فيها كونها تحمل رؤيا خاصة للعالم، وتأملا وجدانيا للوجود، فالشاعر يستثمر مساحات الفضاء لغرض توصيل الانفعال وليس لغرض الإلحاح على وحدة التفعيلة أو القوالب النمطية التي تعوق إثارة الصدمة وإحداث الدهشة في نفسية المتلقي.
هكذا، يتضح أن ديوان «يد لا تسمعني» يتحرك داخل وضع تشكيلي يتغيى توليد المعاني عبر لوحات لغوية تروم النزول بكينونة الذات من التجريد إلى التجسيد، مما يجعل هذا الشعر يتفتق عن لغة تخدم الكلمات دون أن يقتصر على اللعب بتموقعاتها في الفضاء، وهو ما يسمح له بتسمية المعاني بالألفاظ التي تم التعامل معها كأشياء تؤثث الفضاء قصد خلق نوع من التناسب بين أنفاس الذات ومعطيات الواقع الخارجي، لتغدو التوازنات الصوتية، والصور الشعرية، والطاقة الإيحائية للكلمات توقيعات مجسدة في فراغ، وتشكيلات متموجة فوق البياض. فتارة يتخذ الخط الشعري شكل أسطر متساوية، وأخرى يبدو منحوتا وفق قالب دائري، وثالثة يتشكل داخل بنية خطية متعرجة، الشيء الذي يشي بانفتاح التشكيل عند «نجيب خداري» انفتاحا تتفاعل فيه انفعالات الذات بالرؤية والإحالة اللتين تخضعان مقولات الزمان والمكان لتعيينات تختص بتشخيص القول الشعري في تحرر من الفروض الجاهزة والتشكيلات الصارمة المرتبطة بتقليد الظواهر الحسية وعيا منه بأن الشعر خرق للطقوس ونبش في حفريات الأنماط والأشكال التي تميز الشعر عن باقي الأجناس الأدبية. يقول وهو يوقع تشكيلات متباينة في الفضاء:
1ـ علـّـكَ تسمـعُ نـأمـةَ الحـُـلـمِ/ في أوراق الكَـستنـاء/ أو/ ترى/ أجنحـة/ النوم/ تهـوي/وتطير/تهوي/وتطير.(64)
2ـ هل أنفـض نـومـي ؟
هل هـو/ أول/الفجـر/أم/فاتحـة/الليـل ؟ (65)
3ـ ما الذي يضيءُ تلك العيون الدائخة ؟
هل الأخضر/المزْرَقُّ/في قرارة الموج/ أم/ريشة/ من/ سحاب/ الوقت ؟/كأني أرى وجه غلام/يصارع/مملكة/الغيم.(66)
إن الشاعر يغرف مادته الشعرية في هذه النماذج المختارة وغيرها من عالم المرئيات [أوراق الكستناء أجنحة، الأخضر، الموج، ريشة، سحاب، وجه، الغيم…]، غير أنه ليس ذلك العالم الذي تطبعه قوانين منطقية، وإنما هو عالم مرئي مخلل بالشخصي واللامرئي [نأمة الحلم، أجنحة النوم، انفض نومي، العيون الدائخة، ريشة من سحاب، مملكة الغيم] حيث يغدو هذا العالم مصاغا داخل الحلم وفق خطة تشكيلية غير مستقرة كما هي حال الزمان والمكان والألوان في الحلم. فالشاعر لا يصدر في صياغته عن مبدأ الرؤية الحسية، وإنما عن إدراك حدسي منبعث من تصور رؤيوي للوجود وليس عن انفعالات الهروب الرومانسي، يقول:
………/………/في آخرة الليل/تمدُّ سحابة من بياض/سُلـّـمـًا/أسـود/إلـى/أرض/هائمة.(67)
إن اللعب بالكلمات على البياض يسمح للقصيدة بخلق «شعرية بصرية» تعزف على جذب عين القارئ قبل نفاذها بين الأسطر الشعرية ليغدو الشاعر متنقلا بين هذه الأسطر المتفاوتة، مخترقا قسوة النظام العروضي، مهدما مبدأ تمام المعنى بتمام المبنى، قاصدا إلى ابتكار رسومات تشكيلية جديدة تفصح عن تحرر مطلق من مشارطات تنظيم السواد على البياض، وفق انبناءات هندسية تخرج الحروف والألفاظ والعبارات في هيئات تكسبها حضورا متنوعا وجديدا تنطرح بموجبه تساؤلات جمة أمام المتلقي مثل: لماذا يترك الشاعر مساحات بيضاء على الشمال تارة، وعلى اليمين تارة أخرى ؟ ولماذا يعرج الكلمات حينا، ويقذف بها بشكل عمودي كأنها ركام من الأحجار حطها السيل من عل… إلخ ؟
إن حدوس الإجابة قد تنطوي على تفسيرات تنم عن استغلال الشاعر لتقنيات الكتابة خدمة للتعبير عن تقطع أنفاس الذات وفراغات الوجود، وانثناءات الوجدان، لتصبح القصيدة تمثيلا لأجسام ذات هيئات بصرية متدلية أو مائلة أو متراكمة تعمل جميعها على توليد تشكلات جديدة بواسطة استغلال تقني للمساحات النصية.
تشوف الخيال أو الانجذاب نحو الكمال
يعدّ التصوف أخصب جوانب الحياة الروحية لأنه تعميق لمعانيها واستبطان لظواهرها، وتأمل لأحوال النفس في الوجود. ولذا فإن الاعتراف ببروز الحقيقة الكونية المطلقة للتصوف يعني مناقشته وفق وضعيات ثقافية وتاريخية تمسي المعرفة الصوفية بموجبها مجالا يبتعد عن السبل العادية وعن كل ما لم يعد منخرطا في الوحدة العقدية أو الاجتماعية لمجتمع ما.(68)
ومهما يكن، فإن الشاعر الصوفي يظل منجذبا نحو الكمال والجمال اللذين يشكلان وعيه بالذات والكون، ويوسعان من قوة خياله المتشوّف دوما إلى الأجواء العليا التي تحتضن الروح. ومن ثم، فقد تغدو تجربة «نجيب خداري» خليطا من الرموز الصوفية كالشوق والسفر، والتيه، والحب، والحلم، والنوم، والضياء، والليل، والشجر، والبرزخ، والمحبة، والخوف، والصحو، والسكر… ولعلها التجربة التي يسعى الشاعر إلى تجليتها من خلال بحثه الدائم عن جماليات لغوية يبوح من خلالها بعوالمه السيكولوجية قاصدا السمو بواسطتها إلى تحقيق كمال الجمال في المقول والمأمول. وهذا ما يفسره الحضور القوي للرمز الصوفي النابع من صميم التجربة الصوفية أو المستعار من حقول معرفية أخرى.
ولئن هيمنت على المعجم اللغوي لهذه الأضمومة الشعرية، لغة الرمز، فإنها لا تصل إلى حد الإغلاق الدلالي مهما غمضت معالم المعنى، وحالت الرمزية بين عبارة النص وفكرته. ولا يسعى الشاعر أن يخلق بهذه الرموز أجواء محكمة الإبهام، وإنما يكرس حالة في العشق، وسلوكا في المحبة، ومقاما للسفر والتسامي. وهي حالات من البوح التي تسم قوله الشعري بنوع من الإشراق والوجد الذي يرحل به في عوالم الماوراء، والخلق، والغياب، والهناك، والمختفي، والبعيد… يقول في قصائد مختلفة:
1ـ في البعيد: / نغم متصاعد / وصفصاف / وطيور / وريح هاربة. [ص16]
2ـ هناك خلف الشجرة / جسد عـارٍ. [ص18].
3ـ هناك تحت قبري / هسيس رغبة. [ص18].
4ـ وراء الليل / ضوء لا أراه. [ص18].
5ـ كم أشتهي / أن أطلق صوتي / عاليا أبعد من جبال الخوف. [ص20].
6ـ قادمة [لا أدري] من ظل في داخلي / أم من لمعة في الغياب. [ص32].
7ـ الذي هو الأبعد من ترابك / الأقرب من سحابك. [ص43].
8ـ والريح تحمل بكاء الطفل / إلى أم بعيدة. [ص53].
9ـ والأرض ما تزال دائخة تحتي / وما زال النوم بعيدا. [ص54].
10ـ يا تلك النخلات اصطفي بعيدا. [ص58].
11ـ هل هناك غير الريح / يهز نخلة بعيدة. [ص64].
12ـ كل المسالك إليّ بعيدة. [ص76].
13ـ دع أشجارك تحملنا / بعيدا إلى مملكة الشمس. [ص94].
14ـ أنصت لهذا الليل / من بعيد تندلق الأصوات. [ص104].
إن كلمة «التصوف» تعني باليونانية «المختفي» أو الإله الذي يتوارى أو تخفت أو تنطفئ علاماته. ومن هذا المنطلق يصبح التصوف في «الديوان» منقسما بين أحداث غريبة [نغم متصاعد ريح هاربة تحت قبري هسيس رغبة ضوء لا أراه قادمة من ظل في داخلي الأرض دائخة تحتي تحملنا بعيدا إلى مملكة الشمس…]، وبين المطلق [الهناك البعيد الخلف الغياب الانطفاء…] الذي تتم موقعته داخل اللامرئي باعتباره بعدا كونيا غامضا. يقول في قصيدة «انطفاء»:
ليد من تراب/أن تحمل الروح نحو انطفاءاتها/ليد من تراب/أن تحفر قبرا/أن تودع القلب/جثة السماء !.(69)
يتعذر إدراك اللامنتهي خارج تمفصلات مقامات الذات التي تجد نفسها مقذوفة في اتجاه الانمحاء والانطفاء، الشيء الذي يجبر الشاعر على أن يجعل من معجم الجسد (اليد الروح القلب…) وإحداثيات المكان (بعيد خلف ما وراء) ميسما جوهريا للإشراق، حيث تمسي علامات وضعية الخفوت والتواري والانطفاء والغياب… لعبة لممارسة ازدواجية التجاذب بين الداخل والخارج، وبين النسبي والمطلق في الكون. وهو ما يزكي فرضية انعزال الذات بشكل هامشي في منطقة الظاهر الملحوظ الذي يفسح المجال لبروز التناقض بين الحالات الخاصة الاستثنائية (تجربة الذات)، وبين الدلالة الكونية (المطلق) التي ينتدب الشاعر نفسه شاهدا عليها. إن فهم التجربة الصوفية لديه لا يتم إلا بواسطة كلمات ورموز التيه السيكولوجي حيث تمتد المصطلحات الدينية (الروح القبر الريح الخوف الرجاء الرغبة الرهبة البرزخ الظل الضياء الماء الظلمة الشمس السحاب الجسد…) لتواصل حضورها داخل حقول دلالية رمزية تفصح عن صور شعرية نابعة من الأفكار المرتبطة بالتكوين والخلق والنشأة. فهذه الاصطلاحات التي تنسج علاقات رمزية جديدة تجعل من الظواهر السيكولوجية أو لغة الجسد وسيلة لتفتيت اللامعبر عنه بوصفه إحساسا بتجربة يتعذر التعبير عنها بلغة الكلام المتداول، مما يفيد أن الشاعر يخترق الإحساسات التي تسمح له بحدس المسافة الفاصلة بين الرمز والحقيقة التي تخبرها الذات بواسطة هذه الكلمات الخاصة بملكة الوجدان الذي يحيل الرموز أسرارا ووحيا (أنصت لهذا الليل / من بعيد تندلق الأصوات). و«الوحي حسب ابن عربي منه ما يلقيه إلى قلوب عباده من غير واسطة فاسمعهم في قلوبهم حديثا لا يكيف سماعه، ولا يأخذه حد ولا يصوره خيال، ومع هذا يعقله ولا يدري كيف جاء ولا مَنْ جاء، ولا ما سببه».(70)
إن الشاعر قائم على انشغالاته بعقله، وعاكف عليها بقلبه. وهو ما يكفل له الانسلال داخل المتواري واللامرئي حيث تقوم اللوامع مقام المحسوسات، وتبدو المعارف تجارب معيشة مغمورة بقوى دافعة تمد الذات بنفحات وأفكار وأحوال غريبة تمكنها من الاختراق أو سماع الأصوات أو تخيل الرؤى، يقول «نجيب خداري» في قصيدة «الظل أشد اشتعالا»:
أتبعـثر/في الظل/تحملني ريح/أكثر عبثـا/إلى فـوق/حيث الأغصـان/عالقـة في السحاب.(71)
يستنتج أن تحقق الرؤيا، وإبصار اللامرئي يتم عن طريق التجربة الباطنية، وانصهار عناصر الكون (الذات الظل الريح الأغصان السحاب) لأن مفهوم الاتحاد يتعلق بتوكيد مطلق الوجود الذي يشمل كل الموجودات، وكذا الاتصال بالوجود الحق إلى أن تصل الذات إلى درجة الفناء التام حيث «كان طريق التصوف حسب عبد الرحمن بدوي سلما صاعدا ذا درجات نهايتها عند الذات العلية، وكان سفرا يرقى في معارج حتى ذروة الاتحاد».(72) يقول الشاعر:
………/………/………/في آخرة الليل/تمُـدُّ سحابة من بيـاض/سلمـا/أسود/إلى/أرض/هائمـه.(73)
يوحي هذا المقطع برمزية الارتقاء التي يطفح بها التراث الديني والمعتقدات الروحية والطقوس الشامانية المعبرة عن الأسفار الأسطورية نحو السماء. وحسب ميرسيا إلياد، وهو يتحدث عن المعتقدات الياقوتية (les croyances yakoutes) فإن الشامانات كانوا يرتقون فعلا إلى السماء. وكان بإمكان المتفرجين مشاهدتهم وهم يحلقون فوق السحاب برفقة الحصان المقدس.(74)
ولئن صعد الشامانيون إلى السماء عبر حصان أو حبل أو جبل أو شجرة، فإن يعقوب (عليه السلام) قد حلم بالارتقاء عن طريق سلم تصل قمته إلى السماء، بينما رأى محمد (صلى الله عليه وسلم) سلما يرتفع من بيت المقدس نحو السماء. وعليه، فلا شك أن مخيلة الشاعر «نجيب خداري» تستحضر كل هذا الزخم من الإيحاءات المرتبطة برمزية الارتقاء؛ إذ على السلم كانت ترتقي أرواح الأتقياء نحو الإله، وبواسطة السلم الذهبي ارتفع «دانتي Danté» بسرعة خارقة فبلغ عنان السماء. وبهذا يتأكد أن رمزية السلالم والارتقاءات قد تخللت مختلف المشاهدات والشطحات الصوفية. والتصوف، يقول الجنيد، كالأرض يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالقطر يسقي كل شيء. وهو حسب أبي يعقوب المزابلي حال تضمحل فيها معالم الإنسانية، مما يخوّل لتجربة الوجدان واندفاعات الذات التي تقع حركتها خلف الظواهر المحسوسة، أن تتحد بالمطلق واللامنتهي الذي يخرج التجربة عن المألوف ويدخلها في مدارات الوجد والحلول والانخطاف كمؤشرات على حضور السرمدي واللامرئي المنفلت عن التملك (الأبعد من ترابك / الأقرب من سمائك).
والواقع، أن اتحاد الموجودات، وفناء المتعلقات بالمتحققات عن طريق سلم البياض لدليل على المكاشفة التي ترفع الحجاب بين المرئيات واللامرئيات؛ أي بين الجسدي والروحي، والأسفل والأعلى، والهنا والهناك، والقريب والبعيد، والمكشوف والمحجوب… وغيرها من الثنائيات التي تعبر داخل الديوان عن الانمحاق الذاتي والانطفاء الروحي في الوجود حيث «يُصبح الكشف حسب ابن عربي معرفة الحق في الأشياء، والأشياء على الحق كالستور. فإذا رفعت وقع الكشف لما وراءها فكانت المكاشفة «فيرى المكاشف الحق في الأشياء كشفا كما يرى النبي صلى الله عليه وسلم مَن وراءه من خلف ظهره، فارتفع في حقه الستر وانفتح الباب مع ثبوت الظهر والخلف».(75) وقد تومئ كثرة الألفاظ الدالة على الخلوة والوحدة في الديوان (قصيدتا «رعشة»، و«وراء الليل» مثلا) إلى كشف ستار المحسوس والاطلاع على عوالم اللامرئي. وسبب «هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح»(76) التي تجعل الشعر قبسا من عوالم سرية ماورائية تتجاوز المألوف، وتتوق إلى استكمال التجربة الروحية المستنبطة لأسئلة المعرفة الوجدانية باعتبارها رحلة للذات في الوجود. وقد اعتمد الشاعر من أجل تجلية هذه المدركات غير الحسية على خياله الخلاق المسعف على تصوير الأشياء بواسطة الوجدانات الناتجة عن الضوء والحلم والنوم كمفردات تكررت كثيرا في مواقع مختلفة من الديوان:
1ـ سلاما يا دمـي/سأسقيك مما يتنزّل في باحتـي/من ضوء الكلام/ومن ضوء الحمام12.
2ـ ووراء الليل/ضوء لا أراه18.
3ـ بعض ندائي ضوء يسبح/في مائك المعتم25.
4ـ تأوي إلي كلماتـُـكِ/ فأسكنها بحر صمتي/ آوي إلى حزنِـكِ
كي أضيء الروح27.
5ـ يا تلك/ انحني لعصفورة/لا تحسن التحليق/دُلّيهـا على سمـاء/أقلّ فظاظة/دُلّيها على دماء/أقل صُراخـا/أو/على/ضوء/عالق بالغيوم.(77)
في البدء لم يكن الكون إلا مياها غارقة في السديم، وقد أشار ميرسيا إلياد «Mercia Eliade»(78)، وهو يتحدث عن الأساطير النشكونية، إلى شساعة الفضاء قبل أن يعبر الاله «ايو Io» عن رغبته في الخروج من استراحته حيث بزغ الضوء وأصبح الكون موجودا. وبعد هذا الضوء أضحت كلمات التكوين رمزا لطقس الخصوبة، ومصدرا للقضاء على العجز الجنسي والشيخوخة، وكذا نشر الضياء حول الأشياء والأماكن الخفية، وإلهام الشعراء، ومحاربة مختلف الأسباب الدافعة إلى اليأس.ولقد ظلت الممارسات الطقوسية لدى الإنسان تردد الكلمات النشكونية: «لتنفصل المياه، ولتتشكل السماوات، ولتكن الأرض»، من أجل تبديد الظلام.
يبدو النور المتنزل من ضوء الكلام، السابح في الماء المعتم، المضيء للروح، العالق في سماء الغيم، سببا في الكشف والظهور؛ إذ «لولا النور يقول ابن عربي ما أدرك البصر شيئا فجعل الله هذا الخيال نورا يدرك به تصوير كل شيء… فنوره ينفذ في العدم المحض فيصوره وجودا».(79) والوجود نور، والعدم ظلمة، والنور كل نفحة ربانية تنأى بالكون عن الظلمة التي هي صفة للطبيعة. وقد جاء عن أكابر المتصوفة وهم يتأملون تجاربهم في موضع النور، أن «بين العبد وبين الله ألف مقام من النور والظلمة. وإنما اجتهاد القوم في قطع الظلمة إلى النور».(80) يقول الشاعر في قصيدة «مملكة الشمس»:
أيهـا القـادم/من تـلال الضـوء/لا تـمـلأ بيادرنـا/بريح الرمـل/ولا بفزاعات الأطفال.(81)
تحقق اللغة الاستعارية التي يندسّ الشاعر وراءها، قولا شعريا مؤسسا على إدراك الوجود بعيدا عن القيود التي تسيج المعرفة، حيث يصبح الخيال حسب ابن عربي أحق باسم النور من جميع المخلوقات الموصوفة بالنورية. فنوره لا يشبه الأنوار، به تدرك التجليات، وهو نورُ عين الخيال لا نور عين الحس [ضوء الكلام، ضوء يسبح، أضيء الروح، ضوء عالق بالغيوم، تلال الضوء…].
وهكذا، فقد كاد الضوء المتكرر أربع عشرة مرة أن يشكل لدى الشاعر حجر الزاوية في بناء نظام الروح التي تستضيء بنور الكون ساعية إلى مشاهدته أو البلوغ إليه. والواضح «أن الله نور العالم يصل إليه العارج باختراق الحجب أيا كان نوعها».(82) وبهذا يتأكد أن الشاعر منجذب إلى النور لأن الإنسان صادر عنه. و«النور لا يحترق بالنور، ولكن يندرج فيه أي يلتئم معه للمجانسة وهذا هو الالتحام والاتحاد».(83)
توسل الشاعر، وهو يشيد «نظام ضوء الكون» بالحلم والنوم باعتبارهما أداتين لتداعيات التعبير وإشراقات الرؤى المتأرجحة بين عناصر الأقطاب المتضاربة [الأعلى والأسفل/ السماء والأرض/ الظلام والضوء/ الروح والجسد/ الانطفاء والتجلي/ الظل والاشتعال… إلخ]. فالحلم والنوم وسيلة فنية لإخصاب الخيال، وتقوية تعلقه بالزمان السرمدي حيث ينفتح المغلق على المطلق ويرتبط الكون بالكائن والمكوّن. ومن ثم، تصير متعلقات الزمان والمكان لديه بديلا لذلك العالم المجهول الذي لا يتكشف إلا خلف الشجرة، ومن خلال رغبة الجسد، وتلال الضوء… وعبر هذه العناصر التي تؤثث فضاءه الشعري، يبدو الشاعر منجذبا نحو متاهات الغيب التي تحقق له التوحد عن طريق الحلم والنوم اللذين يلتحم بواسطتهما القرب والبعد، لتمثل الرؤيا وفق ما هو غير موجود على أنه موجود عن طريق الخيال الذي يحيل المستحيل ممكنا. ولذلك تأتي عوالم الشعر تعبيرا عن المعاني الخارجة عن المألوف. يقول في قصيدة «ولادة»:
بينمـا أمضي إليـك/أرقب الزمــن:/صيفـا/خريـفـا/ينامان في سرير واحد/يتبادلان الرغبـة/في عراء الأشيـاء.(84)
إن خيال الشاعر يفجر الصور التي تمثل المعنى المجرد تمثيلا واضحا. فوهم الخيال في هذا التصوير الرمزي الذي تنصهر فيه ذات الشاعر مع الذات الحسية في الكون، يتساوق مع الصورة المشخصة التي تمثل المجردات [نوم الصيف والخريف في سرير واحد]. ويلاحظ أن الشاعر لا يقف عند حد التمثيل المجرد بواسطة النوم، وإنما يوظفه للغوص في عوالم صوفية، يقول:
1ـ خـارج كل وقت/ أرتدي النبــع/ لأنــام/ وحين أغمض العين/ أراه.(85)
2ـ علـك تسمع نأمـة الحلـم/ في أوراق الكستنـاء/ أو/ تــرى/أجنحـة/ النــوم/ تهـوي/وتطيـر/تهـوي/وتطير.(86)/3ـ هـل أنفض نومــي؟/هـل/ هــو/أول/ الفـجر.(87)
إن الخيال عند المتصوفة هو أصل مدركات الوجود، لأن الناس في الدنيا نيام لا يرون إلا خيالا، وإذا ماتوا انتبهوا. وهو ما يبين أن متحققات الوجود لا تتحقق للذات إلا في النوم، يقول ابن عربي:
النوم جامع أمر ليس يجمعه غير المنام فـفكر فيـه واعتــبر
إن الخيال له حكم وسلطنةعلى الوجودين من معنى ومن صور
وليس يدرك في غير المنامتبدو له صور في حضرة الســور.(88)
إن النوم حالة تنقل الشاعر من الوجود الحسي إلى الوجود الغيبي باعتباره أصل مصدر الكون. وبهذا المعنى يصبح النوم لديه مركبة لاختراق الأجواء (ترى أجنحة النوم تهوي وتطير)، وآلية للتحكم في شؤون الكون كلها لأنه يشخص المجردات، و«يرد ما ليس قائما بنفسه قائما بنفسه، وما لا صورة له… يجعل له صورة ويرد المحال ممكنا، ويتصرف في الأمور كيف يشاء».(89) وبما أن النوم مجال للتفكير، وسبيل للرؤيا، فقد باتت مدركات العين لدى «نجيب خداري» أمرا واقعا (وحين أغمض العين أراه) مما يوحي بأن الروح لا يغيب عنها شيء في الوجودين. ففي «الآخرة، يقول ابن عربي، لا ينام أهل الجنة ولا يغيب عنهم شيء من العالم».(90)
لقد أدركت العين الحقيقة وهي في حالة نوم أو يقظة. ومثل هذا الإدراك لا يتحقق للإنسان حسب المتصوفة إلا في نومه أو بعد موته. ومن ثم، فإن رؤية المطلق لا تتم في كل الأحوال إلا عبر الإبصار الحسي أو الخيالي، لتمسي مقولة «البعد منك دنو» لابن عربي، علامة على المشاهدة حيث تتوحد أنا العبد بأنا الحق سيما وأن القرب اجتماع والبعد افتراق. وإذا كان القرب اتحادا، فإن البعد انفصال بمشيرات عرضية كالمكان والزمان والحد، وهي إحداثيات قد انمحت لدى الشاعر عندما أغمض العين.(91) وهو ما عبر عنه البسطامي بقوله: «للخلق أحوال ولا حال للعارف لأنه محيت رسومه وفنيت هويته بهوية غيره وغيبت آثاره بآثار غيره». فالمكاشف قد يرى في يقظته ما قد يراه في منامه. و«من الناس، من يدرك هذا المتخيل بعين الحس، ومن الناس من يدركه بعين الخيال».(92) وبهذا، يتكشف أن إغماض العين يحقق للشاعر إبصار صورة تنتمي إلى عالم الأزل حيث تمَثل المنظور بعين الحس الذي توقد لديه فأهَّله للرؤية دون أن تنتقل ذاته في الملكوت. ومن هنا، يتبدى أن الحق قد تجلى، لكن بأي عين تمت رؤيته. يقول ابن عربي:
إذا تجلى حبيبيب ـأي عين أراه
بعينه لا بعـيني فمـا يراه سواه.
إن الإبداع الشطحي في اضطرابه وجموحه أهداف يصيبها المبدع الصوفي في شبكات المطلق عبر الشعور واللاشعور، وبالجسد والروح، إذ تغدو الألفاظ والعبارات مشوشة للقلوب محيرة للعقول، يقول الشاعر في قصيدة «أول الحلم»:
تسبقنـي عينــي/لتضيء عتمـة الزاوية./تسبقنـي يدي/لترى بسمة مريـم/وهي تـطارد/في آخر الحلـم/أول الفراشات.(93)
يلمح هذا المقطع إلى أن للشاعر عينا تضيء العتمة، ويدا ترى بسمة الحلم، وهي تطارد الفراش. لكن هذه الرؤية لا تتعلق بمشاهدة عادية، بل بابتسامة الينبوع (مريم/ الطفولة) أو ابتسامة مريم العذراء/ البتول التي انقطعت لربها ففاقت كل نساء زمانها سموا وقداسة. ولعل ما يلون أجواء هذا الحلم هو تحليق الفراش الذي «يخبر عن الحال بألطف المقال ثم يمرح بالدلال طمعا في الوصول إلى الكمال».(94) فالضوء والفراش والحلم عناصر لتجربة صوفية تهدف إلى إنتاج الجمال في القول ساعية من خلال هذا الجمال إلى تبديد الظلمة بالضياء، ومحو القبح بالحسن، وإزاحة الواقع بالحلم، يقول في قصيدة «نزار»:
والغُـنيـةُ/تخرج من فم الطفل/تنهيدَةَ فَراشٍ/والضحكـةُ/أرقَّ/مـن/سمكـة/تتزَلَّقُ/في خيــال/………/………/أُمسك بتلابيب نومـه/ونحلم معـا.(95)
يُعدُّ هذا المقطع الشعري الحافل بالمفاهيم الصوفية (الفَراش، الخيال، الحلم، النوم) تجسيدا للتأمل في الكون بطريقة ميتافيزيقية. فبسمة مريم، وغنية الطفل، وتنهيدة الفراش، والإمساك بتلابيب النوم… دوالّ لإنتاج الجمال الذي يحمل قوة إحياء العالم بواسطة الخيال باعتباره ملكة تسعف الشاعر على استعادة صور اللاوعي التي تتشبه له في اليقظة والحلم. خاصة وأن الحلم أشياء يراها الإنسان في نومه. ولعل ما تصبو الذات الحالمة إلى تحقيقه هو تحطيم العلاقات الحسية، لترتقي نحو عوالم الوهم التي تتوسل بها الذاكرة لنسيان صلابة الواقع. وما يقوي درجات الحلم والارتقاء بالنفس، انشغال الشاعر بالهوى ومكابدة جروح الشوق. فالمحب الذي يشغله شغف الوجد بالمحبوب يبحث عن وسيلة تقربه منه. وبما أن الحب مقام إلهي، فإن معاناته سكر للروح. فما «طابت الدنيا يقول ابن قيم الجوزية إلا بمعرفة الله ومحبته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته، فنعيم المحب دائم، وإن مزج بالآلام أحيانا».(96) يقول في قصيدة «الأقاصي»:
في الجرح/نسكـن/نؤسس النهايات/ونبدأ الحبّ/من أقصى الحب ! (97)
إن الحب مسكن الجروح التي لا تعرف البدايات ولا النهايات، وبالحب والشوق تنضج المواجيد، فيأتي القول الشعري عبارة عن نفحات صوفية مخضبة بإشارات المكابدة والتلوينات السيكولوجية الطافحة بمقامات الوصال والدلال لبلوغ الكمال )نبدأ الحب / من أقصى الحب( عبر مجاهدة شاملة تهيء المحب للبقاء والحلول والتيه في الوجود اللامتناهي، وذلك لانفلات المحبة عن الوصف، لأنها لا تُحَدُّ بحد أوضح ولا أقرب إلى الفهم من المحبة(98) باعتبارها آخر منزلة للعامة، وأول منزلة للخاصة، وعن طريقها شحذ الشاعر مشاعره، وألهب أشواقه التواقة إلى محو الحدود والاقتراب من الكمالات التي تصل بقلبه إلى الجمال، يقول في قصيدة «تحت الصفر»:
اقتربـي/ الغرفة، الآن، أكثر ابترادا/ والقلب…/ زادت أحزانـه/ والطيور التي في اللوحـة/غادرت/اقتربي،/ما الذي يؤجج الرغبة/في زمن تحت الصفر.(99)
إن الشاعر يدرك أحواله المنبثقة من الفرح والحزن والجرح والقرف والرغبة وهي مكونات نفسية يكابد الشاعر بمقتضاها حرارة العشق ولذة البوح بالألم، مما ينأى به عن الإباحيات المتداولة في بعض نماذج الشعر الحداثي. وهكذا، فإن فرحة الوصال [اقتربي، ما الذي يؤجج الرغبة] تلهب لديه لذة الاتصال النابعة من قوة إدراكه للعشق. فالفناء الذي تصبو إليه ذاته لا يتحقق إلا عبر المحبة المتشوفة المقرة بالرغبة، سيما وأن حقيقة «المحبة كما صرح الحلاج هي قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك». يقول الشاعر في قصيدة «لهـاث»:/يا أنتِ/صدرك هذا، المتـنزّل أنفاســي/المتصعد أنفاسـي/ألهـث/جريحـا/في/ضيائــه.(100)
لا ينظر المبدع، هنا، إلى المرأة كذات قريبة المنال، بل كموضوع للهيام والتوهم والحلم، وهو ما يتيح لخياله أن ينطلق مستمدا جموح ثرائه من الحب الجريح حيث صدر الحبيبة ضياء، وذات المحب أنفاس تصاعد وتنحدر في الأجواء. ولذا، فقد تتجلى المرأة في خياله وتوهماته ذاتا نورانية يلهث الشاعر في ضيائها. وهذا ما يطبع تيهه داخل معرفة المحبة بالوجد والانخطاف واللهاث، لتملأ قلبه بفيض من أحوال النفس ومقامات الروح التي تضيق ببعد المعشوق، وتتسع بحضوره واقترابه )حين يشتعل العشق أسميها/ أكاد أسمي المساء(.(101)
إن حرارة العشق تولد لدى الشاعر شوقا غامضا غموض المساء، لكون المحبة سكر ونشوة ورعشة تصيب جوارح المحب بما لا سلطان له عليه، يقول ابن عربي:
شـوق بتحصيل الوصال يـزولو الاشتياق مع الوصال يكون
هو من صفات العشق لا من غير هو العشق داء في القلوب دفين.(102)
إن الحب عند الشاعر جزء من ذاته، وفيض من وعيه. وهو عنصر يذيب به المتناقضات والتمزقات، وبه يسمو إلى الوصال والوجد والانحطاف. ومن ثم يصير الحب عنده بدون عشق عدم (كم أشتهـي/ أن أذرف حبي/ حتى/ آخر خفقة).(103)
يحكى في هذا الباب، أن «هنديا عشق جارية، فرحلت الجارية فخرج الرجل في وداعها، فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى، فأغمض العين التي لم تدمع أربعا وثمانين سنة ولم يفتحها عقوبة لها، لأنها لم تبك على فراق حبيبته».(104) وإذا كان الهندي قد عاقب جفاف العين بإغلاقها انتقاما للحب، فإن الشاعر «نجيب خداري» اشتهى أن يسكب دموع العشق حتى آخر خفقة من لحظات الاحتضار، بل إنه اشتهى أن تتماهى الأجساد وتتناسخ الأرواح. )كم أشتهي / أن أغرز هذا الجسد / في / صحراء / بلا ضفاف / اشتهـاء / وموتٌ / يغزلان كل هذا البياض(.(105)
تداول المتصوفة كثيرا مقولة «لا خير في عشق بلا موت»، لأنها ترجمان الفناء والحلولية والاتحاد وغيرها من المفاهيم الصوفية التي تثري علاقة الشاعر بروحه وقيمه، وتبلور تحالفاته مع الأزل والمطلق, وهذا ما يسعى الشاعر إلى بلوغه عبر العشق واشتهاء الموت حتى تحُلَّ ذاته في الذات الإلهية نفسها. ومن هنا، يتأكد أن الشاعر ينظر إلى محنة العشق بعين المحبة سيما و«أن الحب حرفان: حاء وباء… والحاء آخر الحروف من الروح، والباء أول الحروف من البدن، والمحب يكون روحا بلا بدن، وبدنا بلا روح».(106)
واللافت للنظر أن الشاعر مشدود في ديوان «يد لا تسمعني» إلى المفاهيم المطلقة وأسئلة الكينونة، باحثا في عمق قصائده عن الجوهري. فشعره صادر عن قوة الخاطر والإلهام، وعن قوة الحدس والخيال، والرغبة والحساسية، بوصفها أبرز مكونات النفس والوجدان. ومن هنا، فقد أضحت منهجية إبداعه الشعري تروم الاستبطان المؤسس على الاتحاد بالمطلق، محاولا إيجاد صلة عشق بين الموجود وواجد الوجود. ولئن فجر الشاعر في هذا الديوان أسئلة الجوهر والسمو والكينونة والمطلق، فذلك راجع إلى كون الشعر في نظره قد قربه أكثر من أسئلة الذات، والآخر، واللغة، والحداثة، والتراث، والجمال، والفن. وهو ما نقل إلى روحه هزة شوق أو ألم فراق، أو لذة وصال أو فجيعة. بل ألقت به مقطوعاته في بياض الصمت والصراخ والجنون، والحلم… وغيرها من المعاني والدلالات التي قد تقود القارئ إلى حلولية المتصوفة وانجذابهم وانخطافهم، وتلون الحال والموقف لديهم.(107)
وهكذا، فإن نظرته للشعر كتعبير على الماوراء تجعل إشراقاته رحلة في أكوان المحبة والجمال، مما حدا به إلى توظيف إمكاناته اللغوية ابتغاء تفجير ما يفيض به وجدانه من مواجيد وحالات عاشها وهو يكابد محنة المحبة المطبوعة بصدق المعاناة والإخلاص في محبة الخلق. ولذا فقد نزعم القول بأن «نجيب خداري» قد أبدع مقطوعة شعرية صوفية مطولة مشدودة برباط التيه ولغة درجة الصفر المحايدة المؤلبة حول تجربة رؤيا الخوف والحلم والنوم والحزن الوجودي بما يتفرع عنه من حب خافت، وقلق لافت، وموت لاهث… وهي المعطيات الدلالية التي تجعل خيط التيه ناظما لنسيج الظلمة والضياء والعشق والموت وغيرها من الثنائيات التي تجلت في إشراقات خاطفة. ومن هنا، فقد باتت إشراقة نسيج التيه تجربة لغوية تناسلت ألفاظها وفق بنيات دلالية صغرى تلتقي أطرافها الكبرى حول حياكة معنى التيه. فصوت الريح، وصوت الموت، وصوت الرفض، وصوت الصمت، وصوت الألم، وصوت الصراخ… كلها أصوات تنبعث ممتزجة بأنين الخوف والقلق الوجودي. وهو امتزاج يتخطى لغة الوصف الملفوظي المباشر، مبحرا في دواعي انهيار جوهر الذات حيث لا وجود داخل الديوان للإحساس بالاستقرار الداخلي والطمأنينة النفسية، بل إنه يكتنز الغموض متجها نحو تجربة وجودية ذات منطق خصوصي ينعي القيم وينأى بالشعر عن المنحى الإيديولوجي ليقحمه في المنحى السيكولوجي ذي البعد الصوفي المغموس في الوجد والإشراق والانجذاب.
الهوامش
1 عبد الفتاح الحجمري: عتبات النص، البنية والدلالة. منشورات الرابطة الطبعة الأولى، 1996، ص 19.
2 نجيب خداري: يد لا تسمعني: دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2005، ص.10-9
(3) نفسه، ص.43-42-41
(4) نفسه، 52
(5) نفسه، ص67-66
(6) نفسه، ص68
(7) نفسه، ص133
(8) نفسه، ص133
(9)- Gerard Genette, éd. Seuils, Paris, 1987, p.8.
(10) نجيب خداري: يد لا تسمعني. «حصار المحبة» الخاتمة. ص120.
(11) نفسه، ص 13.
(12) نفسه، ص 14.
(13) نفسه، ص 21-20.
(14) نفسه. ص 48.
(15) نفسه، ص 61.
(16) ابن منظور: لسان العرب. مادة «تاه».
(17) نجيب خداري: المرجع نفسه، ص100.
(18) أدونيس: زمن الشعر. دار العودة. بيروت. الطبعة الثالثة. 1983. ص11.
(19) صلاح بوسريف: رهانات الحداثة، أفق أشكال محتملة. دار الثقافة، البيضاء، الطبعة الأولى 1996، ص 35.
(20) يد لا تسمعني. ص 12.
(21) نفسه، ص.19-18
(22) إيفون دوبليسيس: السوريالية. ترجمة هنري زغيب. منشورات عويدات. بيروت. باريس. سلسلة زدني علما. ص58
(23) يد لا تسمعني. ص.83-82-81-80-79
(24) نفسه، ص71-70.
(25) نفسه، ص17
(26) يد لا تسمعني، ص54-53
(27) نفسه، ص75
(28) نفسه، ص94
(29) جان كوهن: بنية اللغة الشعرية. ترجمة محمد الولي ومحمد العمري. دار توبقال. الطبعة الأولى. 1986. ص 37.
(30) يد لا تسمعني، ص27
(31) نفسه، ص57
(32) نفسه، ص59
(33) نفسه، ص63
(34) نفسه، ص73
(35) نفسه، ص89
(36) نفسه، ص95
(37) نفسه، ص97
(38) نفسه، ص99
(39) نفسه ص97
(40) نفسه، ص99.
(41) نفسه، ص50
(42) نفسه، ص57
(43) نفسه. ص102.
(44) نفسه، ص103
(45) جابر عصفور: الصورة الفنية. في التراث النقدي. دار التنوير. الطبعة الثانية. 1983 ص87.
(46) يد لا تسمعني، ص52
(47) نفسه، ص34-15
(48) محمد أحمد العزب: طبيعة الشعر، وتخطيط لنظرية في الشعر العربي. منشورات أوراق، مطابع دار الكتاب، الدار البيضاء، ص.52
(49) جماعة من الباحثين [مدير المشروع: حميد لحميداني]. النص الأدبي بين الواقعي والمتخيل. منشورات وحدة النقد الأدبي الحديث والمعاصر. كلية الآداب ظهر المهراز. فاس. مطبعة أنفو برانت، الطبعة الأولى، 2003. ص165
(50) يد لا تسمعني، ص28.
(51) نفسه، ص24
(52) نفسه، ص32
(53) نفسه، ص26.
(54) محمد الماكري. الشكل والخطاب. المركز الثقافي العربي. بيروت، 1991، ص184.
(55) يد لا تسمعي، ص19-18.
(56) صلاح فضل. نظرية البنائية في النقد الأدبي. ص256.
(57) يد لا تسمعني. ص25
(58) نفسه، ص31.
(59) نفسه ص33
(60) نفسه، ص97.
(61) محمد عابد الجابري: أزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر. مجلة فصول. ع3. 1984. ص107.
(62) Paul Guillaume, La psychologie de la forme. Flammarion. p.5.
(63) عبد الله راجع، في البدء أغتاب همومي زمن القمل. مجلة آفاق. 1981. ص145.
(64) يد لا تسمعني. ص63.
(65) نفسه، ص81-65.
(66) نفسه. ص81
(67) نفسه، ص84.
(68) – Encyclopedia Universalis. Mystique. Corpus 15. p.1032.
(69) يد لا تسمعني، ص113
(70) ابن عربي، الفتوحات المكية.المجلد الثاني. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. ص375.
(71) يد لا تسمعني، ص48-47.
(72) عبد الرحمان بدوي: تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني. دار القلم. بيروت. الطبعة الأولى.
1975. ص19.
(73) يد لا تسمعني، ص84
(74) – Mercia Eliade; Traité d>histoire des religions. Payot, paris, 1949, Nouvelle édition, 1966, p.98.
(75) ابن عربي: الفتوحات المكية. مرجع سابق، المجلد الثاني، ص507.
(76) ابن خلدون: المقدمة. دار الجيل، بيروت، ص519.
(77) يد لا تسمعني، الصفحات على التوالي: 59 – 27 – 25 – 18 – 12
(78) – Mercia Eliade: Traité d>histoire des religions. Paris, Payot, 1949, Nouvelle édition 1966. p.344
(79) ابن عربي: الفتوحات المكية. المجلد الأول. ص306.
(80) سالم حميش: في التصوف بين التجربة وإنتاج الجمال. مجلة «الوحدة». العدد 24. السنة 1986. ص154.
(81) يد لا تسمعني، ص93.
(82) نذير العظمة: المعراج والرمز الصوفي. دار الباحث. بيروت. الطبعة الأولى. 1982. ص84.
(83) ابن عربي: الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص174.
(84) يد لا تسمعني، ص74.
(85) نفسه، ص57
(86) نفسه، ص63.
(87) نفسه، ص65
(88) ابن عربي: الفتوحات المكية، المجلد الثاني، ص183.
(89) نفسه، ص183.
(90) نفسه، ص 183.
(91) ابن عربي، المجلد الأول، مرجع سابق، ص305.
(92) نفسه، ص305.
(93) يد لا تسمعني، ص67-66.
(94) سالم حميش، مجلة الوحدة، مرجع سابق، ص152.
(95) يد لا تسمعني، ص71.
(96) ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين. ضبط وتحقيق: رضوان جامع رضوان. المجلد الثاني، الجزء الثاني. المكتب الثقافي. القاهرة، 2001، ص459.
(97) يد لا تسمعني، ص36
(98) ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين. مرجع سابق، ص319.
(99) يد لا تسمعني، ص7
(100) نفسه، ص31
(101) نفسه، ص37.
(102) ابن عربي: الفتوحات المكية. المجلد الثاني، مرجع سابق، ص364.
(103) يد لا تسمعني، ص20
(104) أبو القاسم القشيري: الرسالة القشيرية في علم التصوف. تحقيق معروف مصطفى زريق. المكتبة العصرية. بيروت
2003، ص326.
(105) يد لا تسمعني، ص21.
(106) أبو عبد الرحمن السلمي: المقدمة في التصوف. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص11.
(107) نجيب خداري: يد لا تسمعني: حصار المحبة. ص121.
لطيفة بلخير
كاتبة وأكاديمية من المغرب