تظل الصورة الشعرية هي جوهر الشعر، فمنذ الجاحظ (ت 255هـ) ووصفه الشعر بأنه ضرب من النسج وجنس من التصوير إلى أحدث الرؤى النقدية في خائلية الشعر وطاقاته التصويرية، لا تزال البحوث والدراسات تترى في موضوع الصورة والخيال في النص الشعري، وطبيعة القوى المنتجة لهذه الطاقة المبدعة..
وبالرغم من اختلاف منهجيات التناول، وتعدد اتجاهات الدارسين ومذاهبهم فإن دراسة الصورة الشعرية تمثّل موضوعاً نقدياً حساساً في إطار الفهم والتأويل، وتمثل كذلك إضاءة مهمة يكشف بها الناقد عوالم المبدع الداخلية، وأسرار الكون الإبداعي لديه. وعلى هذا قامت دراسات نقدية عديدة، عربية وغربية، قديمة وحديثة.. وما «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» لعبدالقاهر الجرجاني (471هـ)، ومنهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجني (684هـ ) إلا أمثلة واضحة على الاهتمام العميق بالمخيلة الشعرية ونقدها.
وفي نقدنا العربي الحديث يمكن الإشارة إلى بعض الأمثلة البحثية الجادة في هذا الجانب كدراسة مصطفى ناصف «الصورة الأدبية» وعمل جابر عصفور المميز «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب» ودراسة عبدالقادر الرباعي «الصورة الفنية في شعر أبي تمام» وغيرها. أما الدراسات الغربية حول الصورة في الشعر فأكثر مما تعد وتحصى.
وهذه الدراسة الصادرة عام 2008 للدكتور عيسى السليماني تسعى للإجابة عن سؤال جوهري لعله يمثل عمقها ومركز قضاياها، كما يجيب عن مفهوم الدراسة الذي يشكل جدلية العلاقة بين النظر والتطبيق، وبين الشاهد واستنتاج التحليل، وبين الظاهر والباطن، ثم أخيراً بين البنية السطحية بكل تشكلاتها للرسالة، و بنيتها العميقة التي تحدد انتماءها للزمان والمكان العمانيين في عصر الشاعر والقصيدة وذاكرة الباحث، وهو يحفر في المعلوم من أجل معلوم آخر، لعله الجواب في نهاية هذا العمل النقدي المتخصص.
وبناء على هذا فقد تردد في ذاكرة المؤلف معنى الصورة الشعرية، فهل الصورة هي التشبيه، أم الاستعارة، أم المجاز…؟
إن البحث المتأني قد كشف اللثام عن معنى الصورة الذي اختلف فيه النقاد، فلم يقف التفكير عند كونها مجازاً أو استعارة، بل هي أبعد من ذلك.. الأمر الذي حدا بالمؤلف لمناقشة مصطلحية لمفهوم الصورة عبر رؤيتها الحديثة التي تعتمد اعتمادا كبيرا على طاقتها الفنية من خلال ممارسة العمل الشعري.
وللوصول إلى هذا البعد، سعى الدكتور عيسى السليماني للبحث عن فهم أعمق وأدق للصورة وتمثلاتها في آفاق القصيدة العمانية الحديثة؛ من خلال أنموذج لعله يمثل تلك الرؤية، فيما أنجز من أبحاث في ذلك، فلم يجد سوى دراسات انزاحت عن تمثل ذلك البعد الفني للصورة في زمن الدراسة ومنهجها، لكونها سلكت طريقاً غير الذي سلكه هو نفسه، إذ اتخذت تلك الدراسات لنفسها مناهج وصفها في مكانها من هذه الدراسة، ليستنتج أنها في مجموعها لم تقف عند بنيات ومكونات تلك الصورة التي نطمح إليها؛ مما شجعه على قراءة القصيدة العمانية، قراءة تفاعلٍ مع النص، لكونه علاقة جدلية بين المبدع والمتلقي.
لقد سعت هذه الدراسة – كما يقول كاتبها – لكشف الطاقات الجمالية التي تخفيها القصيدة، والتي تستطيع إثارة دهشة المتلقي، وإبراز العواطف من كوامنها، مع السعي لتبرير تلك الدهشة، وبيان أثرها الفني.
إن عملية اقتحام النص، تتطلب أدوات ومناهج متعددة، قد تكون بنيوية، أو سيميائية، أو أسلوبية، أو تفسيرية، أو لغوية، أو تاريخية، أو إحصائية، أو غيرها، ويمكن لبضهم أن يسمي ذلك بالمنهج التكاملي، إذ إن الدمج بين هذه المناهج هدفه الوصول إلى الغاية التي من أجلها يقتحم النص، ولتبرير تلك الدهشة الجمالية والفنية التي أحدثها، مع ضرورة الإفادة من تلك الأدوات الإجرائية الفعّالة في النقد المعاصر، وصولاً للصورة الشعرية بكل مكوناتها، ومن تلك الأدوات:
التوازي / والانزياح/ والمشابهة/ والمجاورة
والتشاكل/ والتماثل/ والتجانس
فهذه الأدوات لم تظهر بشكلها النظري، بقدر ما اتخذت كأدوات إجرائية كاشفة للنص محققة للبؤر الدالة، وبذلك أصبحت عوامل مساعدة.
إن القصيدة العمانية الحديثة في مستواها الذاتي والجماعي، عكست الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، وما ارتبط به من مؤثرات، لذلك نجد صورتها تماهت مع الماضي، وارتبطت بالحاضر رغبة في استشراف المستقبل.
فهي إمّا تعبير عن الحاضر بلغة الماضي وخصائصه في اجترار متماثل في دواله. وإمّا أن تكون هذه القصيدة قديمة، لكنها تسعى عن طريق التقليد والمحاكاة والتفاعل مع الحاضر، إلى محاولة الانعتاق من قيد التقليد، والتطلع إلى التجديد. وإما تعبيرٌ عن الذات الشاعرة وما يرتبط بها من أحاسيس وجدانية موحية واعدة بالتجديد شكلاً ومضموناً.
وعليه فقد سعى هذا العمل تحت عنوانه الحالي الصورة الشعرية في بناء القصيدة العُمانية لبناء تلك العناصر المكونة للصورة الشعرية في بنية القصيدة العمانية الحديثة منذ «1900 وحتى 1980م» من خلال مدخل ومهاد وسبعة فصول.
فالمدخل مثّل لمحة موجزة للوضع التي كانت تعيشه القصيدة في تفاعل مع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ثم وقفة مركزة ومتعجلة فتح المؤلف منها نافذة على الدراسات المنجزة حتى زمن الدراسة 2009م.
وأمّا المهاد فقد تناول المعنى الوظيفي الذي تقوم به الصورة الشعرية، إذ ليس ثمّة ثنائية بين الصورة والدلالة، وهذه رؤية نقدية بحاجة للمناقشة، مثلما أن الصورة تتحقق من كونها رؤية شعرية قائمة على تلاحم البنى الدلالية الأخرى «إيقاع، تركيب، تخييل» فهي نتائج لتلك العناصر مجتمعة، وإلاّ كانت مجرد إثارة الدهشة والزينة.
وتأتي الفصول السبعة لتشكل البناء الأساس للدراسة، حيث وضّح الفصل الأول ما أسماه الدارس «الصورة الإيقاعية» متناولا إياه من خلال المباحث الآتية:
المبحث الأول: الوزن وعلاقته بالغرض انطلاقاً من تقسيم البحور إلى ست مجموعات، وعليه فالدراسة الإحصائية كشفت اللاعلاقة بين الغرض والبحر، كما وضح المبحث درجة الحضور والغياب للبحور المستخدمة في القصيدة زمن الدراسة، ثم انتقل بعدها إلى دراسة ظاهرة التضمين في ضوء وحدة الوزن والقافية، إذ تشير الإحصائيات إلى ارتفاع نسبة تماسك الشطرين، مما يؤكد ذلك ترابط البيت.
المبحث الثاني: القافية: وقد درس هذا المبحث وحدة القافية من حيث وظيفتها الإيقاعية باعتبار المطلق والمقيد، كما بحث قضية تعدد القافية التي كانت بدايتها الموشحات فالرباعيات فالمخمسات، ثم تطورت على يد شعراء التفعيلة الذين سعوا لخرق وحدة البيت وتحطيم نظام القافية، ثم الخروج المطلق على القوانين العروضية، مثل ما هو في قصيدة النثر.
المبحث الثالث: التجانس ،حيث أبان التجانس الصوتي عن تراكمات صوتية وكشف لنا بأن ذلك لم يكن وليد الأوزان والقوافي فحسب، بل نتيجة شبكة صوتية جاءت ضمن مكونات أخرى، مثل «التشاكل، والتقابل، والتماثل، ورد العجز على الصدر، والتصريع».
وناقش الفصل الثاني الجوانب التركيبية المكونة للقصيدة في ثلاثة مباحث: أولها قانون «التقديم والتأخير» وثانيها: «الفصل والوصل» وثالثهما: «البنية الاعتراضية» لكونها بنى تركيبية ارتبطت بدلالة الرؤية للنص.
أما الفصل الثالث فقد اختص بالجانب التخييلي، وتناوله الباحث عبر مبحثين:
1- مرجعية الصورة.
2- ثم أبعادها التصويرية.
وأما الفصل الرابع فقد اختص بالمستوى المعجمي؛ ليكون جزءاً مهماً في بناء القصيدة، كما أنه يعكس المستويات المختلفة لواقع القصيدة، دينية وثقافية واجتماعية واقتصادية وتاريخية؛ ولتداخل هذه الجوانب في القصيدة العمانية انطلق الباحث في دراسته من خلال مبحثين: الأفقي، والعمودي.
وقد وصل إلى الفصل الخامس الذي اهتم بالوظيفة الدلالية المصورة من خلال خمسة مباحث تمثلت في الأبنية الآتية: النامي، الدائري، المركزي، المتكرر، التضاد، إذ إن هذه الأبنية تشكل رؤية متكاملة للمحاور الأساسية التي تدور حولها القصيدة العمانية، منطلقة من التركيب ومنتهية بالوظيفة.
ويأتي الفصل السادس ليرسم صورة (هيكلة القصيدة)، من خلال المقدمات الشعرية بأنواعها ووحداتها الجزئية والتطورات التي طرأت على هذه المقدمات من تقليد أو تجديد، كما رصد المبحث الثاني المتواليات الشعرية التي قُسّمت إلى ثلاثة أقسام: ثانوية، وموضوعاتية، ومكثفة. هذه المتواليات أبانت مدى الترابط بين الأنسجة الداخلية على مستوى القصيدة، كما أن ذلك الترابط عوّض الانقطاع على المستوى المفهومي.
أما الفصل السابع فقد جاء ليناقش المورث الثقافي ضمن مبحثين: الديني الذي تناول القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة النبوية. والشعري من خلال التقائه المباشر وغير المباشر للنصوص الأخرى الموروثة، أو السابقة، أو اللاحقة.
وفي الخاتمة التي رصد الباحث نتائج البحث ضمن مكونات الصورة المرتبطة بواقع القصيدة العمانية الحديثة «1900-1980م» في مستوييها العمودي والحداثي ،مبينا أنّ الشاعر العُماني استطاع أن يسبر أعماق البنى التخيلية في الفن الشعري عبر التمكن من توظيف أبنية الصورة الشعرية (النامي، والمركزي، والدائري، والمتكرر، والتضادي ) حيث كانت هذه الأبنية ذات دور مهم في بناء القصيدة دلاليا وجماليا في آن معا.
الهامش
– «الصورة الشعرية في بناء القصيدة العمانية» دراسة للدكتور عيسى السليماني – دار كنوز المعرفة- عمّان- الأردن 2009م.
عباس عبدالحليم عباس
باحث وأكاديمي من الأردن