تعد الرحلة من الألوان التعبيرية الأولى، التي تعتمد السرد بضمير المتكلم، وتعبّر عن الأنا مع انفتاحها على الآخر، وتقديمها صورة عنه، منطبعة بأحاسيس الإعجاب، أو الاستغراب، أو الاعتزاز بالذات، وهي من الأنواع القصصية التي تتداخل فيها أنواع عديدة من الخطابات التي عرفتها المجتمعات الإنسانية، وتداولتها، كالشعر، والجغرافيا، والتاريخ، والسيرة الذاتية، أو الغيرية، والإيديولوجيا… وغيرها من الخطابات، كما تضمن نصوصُ الرحلة لقرّائها توفير المتعة، والتشويق، وتخبرهم بالكثير مما يجهلون، استنادا على ما يولّده فعل السفر، والتنقل من أحداث متراتبة، ومشاهدات، ورؤى متجددة بتجدد المكان، والزمان، وحالات النفس الرحالة.(1)
وقد أنجز الجزائريون رحلات كثيرة نحو المشرق منذ دخول الإسلام إلى بلاد إفريقية، والمغرب العربي، لأغراض مختلفة، أبرزها طلب العلم، والقيام بفريضة الحج، والسياحة ببلدان المشرق الكثيرة، واقترنت الرحلة إلى المشرق حديثا، بأسباب سياسية، وحضارية، من مثل القيام برحلات كشفية، أو التعريف بالجزائر، وكذلك القيام بمهمات سياسية، وسفارية، وكذلك حضور مؤتمرات، وملتقيات علمية.
وكانت أبرز المدن المقصودة في أول عهود الجزائريين بالرحلة، بغداد محل الخلافة الإسلامية، وكذلك قاهرة مصر، وهي محل علم وثقافة، ومعروف عن أهلها، وعن أهل مصر جميعا، حسن الضيافة، والعناية بالغرباء، وفيها جامع الأزهر، الذي كان أشهر المراكز الثقافية والإسلامية في الوطن العربي؛ إذ إن أغلب العلماء وطلبة العلم تخرجوا منه، ونالوا إجازات كبار شيوخه، أما الحجاز- بأشهر مدنه، كمكة والمدينة وجدة والينبوع- فكان مقصد الحجاج والطلبة من كل ناحية، وكذلك سجلت أعداد كبيرة من الرحلات والهجرات من الجزائر نحو دمشق الشام، التي كانت كذلك حاضرة علم عامرة، يتمتع أهلها بكرم الضيافة، وحسن المعاملة، أما رحلات العصر الحديث، فقد اقترنت بوجهات جديدة مشرقية سجّل أحداث السفر إليها عدد من الرحالين الجزائريين، ومن هذه الوجهات: الكويت، والبحرين(2)، وسلطنة عمان.
ويقدّم الصحفي الرحالة محمد ناصر(3) نموذجا نادرا في الأدب الجزائري؛ حيث اعتنت رحلته بتسجيل أحداث سفره إلى مسقط عاصمة عُمان(4)، بهدف حضور ندوة ثقافية خصصت لإلقاء الضوء على شخصية الصحابي مازن بن غضوبة رضي الله عنه، وبدعوة من وزارة التربية التعليم، فاشتملت الرحلة المدونة حلقتين معنونتين بـ«الصحابي الجليل مازن بن غضوبة رضي الله عنه في ندوة ثقافية»، و«جسور للمحبة والتعاون»، مندرجتين تحت عنوان عام هو: «أوراق ثقافية من عمان»، إضافة إلى عناوين أخرى شملتها الحلقة الثانية، وهي: «إحياء التراث الفكري والعلمي»، و«كنوز ومخطوطات»، و«معالم حضارية رائدة».
ومن هذه العناوين، نستخلص أن محمد ناصر لم يكتف بسرد أعمال الندوة ومحاضراتها، بل آثر أن يسجّل مختلف انطباعاته، ومشاهداته أثناء زيارته مسجد الصحابي مازن بن غضوبة ببلدة سمائل، ومدينة الرستاق، وحصن الحزم، وغيرها من الأماكن التي وصفها الرحالة، وأظهر محاسنها، دون أن ينسى مدح أهل عُمان، والثناء على خصالهم، وإنجازاتهم الثقافية والدينية، لخدمة الإسلام والأمة الإسلامية.
1. أحداث الرحلة:
كان انطلاق محمد ناصر من الجزائر نحو مطار مسقط (السيب سابقا) في مسقط يوم السبت السابع والعشرين من شهر أكتوبر عام تسعين وتسعمائة بعد الألف، ولم يحدد لنا الكاتب مراحل السفر الأولى، بل شرع في التقديم لرحلته بالرجوع إلى ماضي الكتابة، وقبل ثلاث سنوات بالضبط، متى قرّرت وزارة التربية والتعليم والشباب بالسلطنة تنظيم ندوة ثقافية كل سنة تخصص لموضوع بارز، يشارك فيه الباحثون من كل مكان، ويصل إلى سنة التأليف فيقول: «أما ندوة هذه السنة فقد خصصت لدراسة حياة وأدب الصحابي الجليل مازن بن غضوبة السعدي الذي يعد في نظر المؤرخين أول من أدخل الإسلام إلى عمان أسلم على يد الرسول الكريم والتقى به مرارا في المدينة ومكة وقد تحدثت المصادر القديمة عن فضله وأخلاقه العالية، وقد شرفتنا وزارة التربية أنا وزميلي الأستاذ محمد بوحجام من جامعة باتنة بدعوة كريمة للمشاركة في هذه الندوة ببحثين حول حياة هذا الصحابي الجليل، وكانت فرصة لنا للالتقاء بالمشائخ والعلماء والأدباء هناك، وزيارة المعالم الأثرية للحضارة الإسلامية في تلك الربوع العريقة، والحق لقد كانت الحفاوة بالغة، والعناية بالمشاركين في الندوة فائقة والجو العلمي رائعا، تنظيما ورعاية، وإقبالا مشجعا من طرف المسؤولين أو من طلاب الجامعة والمعاهد الإسلامية.»(5)
وبعد هذه الافتتاحية، انتقل المؤلف إلى ذكر تفاصيل الندوة، ومحاضراتها، التي انطلقت أعمالها يوم الأحد التالي ليوم وصوله إلى مسقط، وتمّت أعمالها يوم الأربعاء من الأسبوع ذاته، وكان تتالي الأحداث في برنامج الندوة يقوم على تعيين يوم، ووقت المحاضرة، واسم المحاضر وموضوع تدخله، ثم المعقبين على التدخل في الأخير، وكانت الجلسة الثانية: «للبحث الذي قدّمه محمد ناصر من جامعة الجزائر بعنوان «مازن بن غضوبة (رضي الله عنه) ومكانته الأدبية. عقّب عليه الدكتور سعيد الأعظمي رئيس تحرير مجلة البعث الإسلامي بالهند، والدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة»(6)، ويظهر في النص التأطير الماضي للأحداث، المختزلة في حالة قصوى، تجعل من نمط الكتابة هنا يختلف عن نمط الرحلات، ويتماثل مع نمط التقارير الصحفية الموجزة، وقد عبّر عنها ذاك العنوان العام أوراق ثقافية من عمان، تعود ربما أساسا إلى ميل الكاتب إلى الطابع الصحفي.
2. أبرز لقاءات الرحالة في عمان:
ذكر محمد ناصر الشخصيات التي نظمت الندوة، كالمفتي العام لسلطنة عُمان الشيخ أحمد بن محمد الخليلي، الذي أضفى بشخصه وطبعه على أعمال الندوة: «جدية وثراء، وحوارا علميا هادئا»(7)، كما أشرف على الندوة وزير التجارة والصناعة، ووزير التربية والتعليم والشباب بالسلطنة، وعدّد الرحالة الأساتذة المشاركين بمحاضراتهم في إثراء جانب حياة الصحابي مازن بن غضوبة رضي الله عنه، دون وصفهم منهم: مدير الشؤون الإسلامية بوزارة العدل، والشيخ مبارك بن عبد الله الراشدي، والدكتور اليقظان بن طالب الهنائي من عمان، والدكتور سعيد الأعظمي من الهند، والدكتور أحمد شلبي من مصر، والدكتور فرحات بن علي الجعبيري من تونس.
كما سجل محمد ناصر، في الحلقة الثانية والأخيرة من رحلته، حدث لقائه بالطلبة، والأساتذة الجزائريين، والتونسيين المقيمين هناك، واغتنامه فرصة وجوده بمسقط لإجراء محادثتين صُحفيتين، وتسجيلهما، وكانتا مع السفير الجزائري: «الذي يعجز القلم عن وصف الحفاوة والرعاية التي استقبلنا بها، منذ دخولنا مطار (السيب) بمسقط إلى لحظة وداعنا له، والحق إن المرء ليشعر بهذا الاهتمام البالغ الذي يوليه لإخوانه الطلبة الذين يدرسون ببعض المعاهد الإسلامية هناك»(8)، وأشار إلى شيخين عمانيين جليلين جمعته معهما لقاءات أخوية في الرستاق، وهما: الشيخ الخليلي، والشيخ سعيد بن حمد الحارثي، وهذا الأخير، عُرف بظرفه وأدبه، وبرحلاته الكثيرة في بلدان العالم.(9)
3. الحياة الثقافية والاجتماعية في عُمان:
اعتنى محمد ناصر خلال وجوده في مسقط، بزيارة المعالم الحضارية والثقافية، التي يتمتع برؤيتها، وخدماتها سكان المدينة، وقد أخبر ناصر بمسعى سلطنة عمان النهضوي في مجال الثقافة، أُسس له منذ السبعينات، يهدف إلى إحياء التراث وفهمه، وتحديث الفكر بما يصلح من أوجه للمعاصرة، ولذلك عملت وزارة التراث (القومي) والثقافة بجهود كبيرة لإحياء التراث وجمعه، والحفاظ على مخزون المخطوطات، بالتنقية، والترميم، والتجليد، والزخرفة، وكذلك بنشر الكثير منها، وتحقيقها، وقد وصلت الوزارة حتى سنة زيارة الرحالة إلى البلاد إلى تحصيل أربعة آلاف مخطوط، وتحقق ذلك بمساعدة العمانيين المالكين للمخطوطات، وجلب الدولة العديد منها من دول أخرى، هذا إضافة إلى مخطوطات ما تزال عند أصحابها تشرف وزارة التراث الثقافة على صيانتها، وأفادنا ناصر بتميّز العمانيين بالكتابة في العلوم الفقهية، وعنايتهم بمن يؤلف كتبا حولها: «..عُرف العمانيون بتأليف المطولات الفقهية نظما ونثرا، يكفي أن نذكر مثلا أن (قاموس الشريعة) يبلغ سبعين جزءا، وقد تفضلت الوزارة بطبع العديد من مؤلفات الشيخ أطفيش محمد بن يوسف الجزائري»(10)
ولاحظ محمد ناصر وجود المكتبات، ووفرتها في أغلب المؤسسات العامة، كالمعاهد، والمساجد، والأندية،.. تحتوي على أحدث الوسائل التي يحتاج إليها القارئ، إضافة إلى وجود مكتبات خاصة في كل بلدة، تقدم للباحثين كنوزا من المخطوطات التراثية، وتسهل لكل راغب في المعرفة تصفح المخطوطات، وتوفر له كل الوسائل للنسخ والتصوير، وذكر الرحالة منها مكتبة السالمي في منطقة اسمها «بدية»، ومكتبة السيد محمد البوسعيدي، وهي من أغنى المكتبات بالمخطوطات، وأضخمها في عمان.(11)
ومن الأخبار الاجتماعية التي قدّمها الرحالة عن شعب عمان، تمسك الناس هناك بتعاليم الدين الإسلامي، باد ذلك في سلوكهم، وأخلاقهم، إذ عرفوا بالكرم، والتواضع، والمحافظة على الأصالة في اللباس والأكل، وكذلك في هندسة المباني، التي ظلت على الطابع العمراني العماني الأصيل، رغم ضخامتها، وتطور مرافقها(12)، وقد عبّر الكاتب عن كل ذلك قائلا: «.. فالعمانيون يتمسكون بالقيم الإسلامية ويحافظون على الأصالة في كل مظاهرها الحضارية..لا سيما في العلاقات الاجتماعية مثل الكرم الحاتمي الفياض، فإن ما يؤذي العماني الأصيل أن يدعوك إلى قهوة أو غذاء أو عشاء وترد طلبه، ومن الأخلاق العربية الأصيلة التي يتحلى بها العمانيون هذا التواضع الجم.. حتى أنهم ليخجلونك أحيانا بتواضعهم ذاك.. على أن الدعوة إلى القهوة والغذاء ليس معناها الأكل والشرب والتطيب بالبخور ثم الانصراف إنها عادة عربية أصيلة وجلسة شرقية مريحة.. وقد استمتعنا والحق، بجلسات مفيدة مع الشيخ الخليلي تحت ظلال النخيل بالرستاق..»(13)، يبيّن النص انطباعات الرحالة الذاتية بشكل واضح، من خلال الاستحسان، واختيار ألفاظ تقويمية ذاتية (الكرم الحاتمي الفياض، الأصيل، التواضع الجم، جلسات مفيدة)، وانطباعات نبعت عن مشاهدة، واستمتاع بجلساته مع العمانيين، التي لاحظ بفضلها الكرم، والتواضع فيهم.
وأفاض الرحالة الحديث عن مدينة الرستاق، ومكانتها العلمية، والفكرية، فذكر شخصيات قديمة اشتهرت فيها بمؤلفاتها، وعلمها، قال عنها: «وقد احتلت ولاية الرستاق في السابق المركز الأول من الناحية الفكرية إذ كانت مركزا ثقافيا يجمع الكثير من العلماء والأدباء ومقرا للسلطة والامامة.. وتعرف بمشاهيرها من الأئمة والعلماء، مثل الإمام سيف بن سلطان بن سيف الملقب (بقيد الأرض) وقاضي القضاة راشد بن سيف اللمكي ت(1915م)..»(14)
4. المعالم الحضارية في عمان:
قدّم محمد ناصر لقرّاء رحلته صورة عن المكان، ومعالمه الحضارية، فنجد وصفه لمسقط، التي ذكر أنها تمتاز بموقعها الساحلي الخلاب، وهي ذات مسجدين ملفتين للنظر، لضخامتهما، وهندستهما الرائقة، وكذا انسجام النقوش وروعتها بهما، وعجب محمد ناصر لوجود مرافق أساسية بمساجد مسقط تؤمن للزوار المطالعة، والاستراحة، والإطعام، وايضا ولاية سمائل، التي تضم مسجد الصحابي مازن بن غضوبة رضي الله عنه، ويحظى جبلها باحتضان قبره، على السفح، بموضع يدعى (الدقدقين).
وكانت مشاهدته لمدينة الرستاق، مثار تذكر لفضاء مشابه، له سابق معرفة به، يقول: «أما الرستاق المدينة فقد ذكرتني في جمالها الطبيعي الأخاذ بمدينة غرداية بواحة نخلها المنعطفة مع الوادي بين الجبال المحيطة بها من كل جانب.. بل إن الداخل إليها من جهة مسقط أشبه ما يكون بداخل إلى غرداية من منعطفات (بوهرارة).. وقد لاحظت هذا التشابه حتى في الحشيش الذي هو من نوع (النجم) الموجود بكثرة في غابات وادي ميزاب والذي يشتكي منه الفلاحون عندنا كما يشتكي منه الفلاحون هناك لأنه من الطفيليات المقلقة للأشجار والخضروات وتكثر بواحتها الأفلاج، فإن بالولاية حوالي مائتي فلج تسقي النخل والأشجار قِبل السفرجل، والمانجو، والباباي»(15)، قدّم الكاتب في جمال تصوير، كليشيهات مكانية ثلاثة موازية، ومقارنة، تنتمي لفضاء الذات، الذي ثبّته دلاليا لفظ (عندنا)، فكانت لقطة البداية عرض منظر واحات مدينة غرداية (بالجنوب الجزائري)، بين جبال محيطة، وواد متخلل لها، وهو منظر يوحي بتعدد الألوان، والأصوات الطبيعية، يحرك خيال القارئ، ليضفي على الصورة المزيد من العناصر المكانية المكملة، كمنظر السماء، وألوان عامة تغشى اللوحة لتعبر عن الوقت، وقد يكملها بعناصر أخرى تشغل الفضاء، كالطيور، وقليل من الناس، أو الفلاحين، أما المنظر الثاني، فهو يعكس صورة لمدخل مدينة غرداية جهة بوهرارة، وقد آثر الكاتب في هذا التصوير الاقتصاد التعبيري، مكتفيا بذكر الشبه بين مدخلي المدينتين: الرستاق، وغرداية، فكان فضاء متروكا للقارئ، ليكمل رسم المنظر مجهول الملامح، إلا بالنسبة لمن سبقت له زيارة غرداية، ومشاهدة المدخل المعبر عنه، والمنظر الثالث، هو صورة مقربة أكثر من الصورتين السابقتين، ارتبط بتحديد نوع من النبات الطفيلي الموجود في غابات وادي ميزاب (بغرداية)، والذي يعرف بالنجم، وهي لوحة يسيطر عليها اللون الأخضر، مع ألوان أخرى مكملة، واختار الكاتب تدعيم الصور الذاتية التي قدّمها بشاهد شعري يتغنى بجمال المدينة للشاعر العماني محمد بن شيخان السالمي، يقول فيه:
«وما الرستاق إلا عرش ملـك
عليــــه يستــوي المسعــود قهــرا
دعته لنفسها الرستاق كفـؤا
وكانـت في حمى الماضين بكرا»(16)
ورجع بنا محمد ناصر إلى الوراء، ليسرد علينا أخباراً تاريخية عن حصن الحزم: «الذي بناه الإمام سيف بن سلطان اليعربي سنة (1708م) ويعتبر من أروع بدائع الفن المعماري الإسلامي العماني، فقد أنفق فيه الإمام مبالغ طائلة ويمتاز بعدم وجود أية أخشاب بسقوفه في عقود مستديرة ثابتة على أسطوانات عليها نقوش بالجص والحجر، ولا يقل عرض الجدار الواحد فيه عن ثلاثة أمتار، وله عدة أبواب فخمة، وبه ممرات سرية عرض كل منها وارتفاعها متران تمر بجنبات الحصن الأربعة وتخرج بعد ذلك إلى المدينة كما توجد بداخل الحصن مدافع قديمة برتغالية وإسبانية كانت تستخدم لضرب العدو من مسافات بعيدة وتوجد به غرف لتدريس القرآن والدين، ويخترق الحصن فلج ذو مياه نابعة تتدفق مياهه حتى الآن لتسقي من في الحصن وتروي أشجار النخيل المحيطة به»(17) استخدم في هذا المقطع أسلوب السرد الوصفي، الذي تفتتح عباراته الوصفية، بأفعال مختلفة دالة عل فعل التأسيس والبناء، والتزيين، والتحديد للأجزاء المكونة،.. ويقدم الكاتب رأيه في الحصن، بأسلوب التفضيل (أروع بدائع الفن المعماري)، الذي لا يعهد في الوصف التاريخي المحض، وإنما يدخل في الوصف الأدبي، ويعد هذا من خصائص الوصف في فن الرحلة.
5. ما وراء كتابة الرحلة:
جاءت رحلة محمد ناصر إلى عمان بلغة مباشرة، وصريحة، تدعو مواطنيه إلى أخذ العبرة، والاقتداء بإخوانهم العمانيين، ووضع استراتيجيات فعالة لتنمية قطاع التعليم في الجزائر، وهذا عندما قدّم انطباعاته الشخصية عن الندوة الثقافية، التي أقيمت في عمان للتعريف بالصحابي مازن بن غضوبة رضي الله عنه، إذ لاحظ إحكام التنظيم، والتسيير لأعمال الندوة، ومحاضراتها، وأعجب بالمبادرة التي قامت بها اللجنة المشرفة، من طبع المحاضرات، وتقديمها للحاضرين سلفا، حتى يتمكنوا من المتابعة الجيدة، والرد، والتعقيب عليها، وما زاد إعجابه، هو تكليف أحد المحاضرين: «بإعداد كتاب الندوة حول العلم الذي سيكون محور الندوة يراعي فيه صاحبه الدقة والشمول ليكون معتمدا بعد التصحيح والإضافات والطبع مرجعا هاما للمناهج والمقررات الدراسية في الثانويات والجامعات.. وحبذا لو يعمل بهذا التنظيم الجيد الجاد في ملتقياتنا الفكرية التي طالما بقيت توصيات على الورق أو بحوث في المجلات والكتب لا يستفيد منها الطلاب في حياتهم العلمية»(18) وبهذا قدّم الرحالة اقتراحا لمسؤولي الوطن، والعاملين في التربية، بتفعيل نتائج الندوات الثقافية والعلمية، عن طريق طبع بحوثها في كتب مستقلة، ممنهجة، ومبسطة للباحثين، وللعاملين على تهيئة برامج التعليم، ومقرراته، بعدما عرض انطباعه الإيجابي لهذا المجهود المقام في ندوة عمان، التي حضرها محمد ناصر.(19)
أما حديث الرحالة عن التطور الثقافي الكبير الذي استطاعت عمان تحقيقه منذ سنة 1970، والجهود الجبارة، التي بذلت من أجل إحياء التراث، والمحافظة على أصالة الثقافة، والفكر، وحماية كنوز المخطوطات التي تتوفر عليها البلاد، وانبهاره بالمكتبات الضخمة، الخاصة، التي زارها، لمن الخطابات غير الصريحة الموجهة إلى مواطنيه للاعتناء بتراثهم، وتحديث مكتباتهم الخاصة، أو تسهيل وصول الباحثين إليها.
الإحـــــالات:
1. قدّمت الكثير من الدراسات العربية مفاهيم، أو مقاربات لفن الرحلة، منها ما ركّز على القيمة العلمية للرحلة كدراسة حسين محمد فهيم: أدب الرحلات، سلسلة عالم المعرفة، 1989، وكتاب الرحلات لشوقي ضيف، دار المعارف، مصر، 1987،.. ومنها ما عالج جماليات الرحلة، واعتنى بمكوناتها الأدبية، كدراسة عبد الرحيم المودن، أدبية الرحلة، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط.1، 1996، ودراسة شعيب حليفي: الرحلة في الأدب العربي التجنيس.. آليات الكتابة.. خطاب المتخيل، دار رؤية، القاهرة، ط.1، 2006.
2. من الرحلات الجزائرية الحديثة نحو الكويت والبحرين رحلتا أحمد توفيق المدني السياسية، وهي المدونة في مذكراته: حياة كفاح(مذكرات)، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ج. 3، 1982، ص. 358. وكذلك رحلة أحمد منور «الكويت اليوم» التي كانت لحضور فعاليات مهرجان القرين السنوي، المنظم من قبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أنظر: جريدة القبس، الكويت، 3، 4 جوان 1996.
3. ولد محمد ناصر سنة 1938م في القرارة، ولاية غرداية، وفيها أخذ تعليمه حتى نهاية مرحلة الثانوي، تابع بعد ذلك دراسته في جامعة القاهرة، للحصول على شهادة الليسانس في الأدب العربي، فكان ذلك سنة 1966، رجع محمد ناصر إلى الجزائر، فبقي بها مشتغلا بالدراسة والتدريس، فحصل على شهادة الدكتوراه درجة ثالثة عام 1972، ودكتوراه دولة سنة 1983، وعمل أستاذا في معهد اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر، للكاتب في مجال التأليف، عدّة كتب، ودراسات في الأدب الجزائري الحديث، أهمها: «المقالة الصحفية الجزائرية، نشأتها، وتطورها، وأعلامها»، و«مفدي زكرياء شاعر النضال والثورة»، و«الشعر الجزائري الحديث اتجاهاته وخصائصه الفنية»، وله مشاركة في نظم الشعر، وطبع من ذلك ديوانين: «أغنيات النخيل»، و«البراعم الندية».
4. نشرت الرحلة في جريدة السلام، الجزائر، ع.18، 19، الثلاثاء 27، والأربعاء 28 نوفمبر 1990.
5. محمد ناصر، أوراق ثقافية من عمان، السلام، الجزائر، ع. 18، الثلاثاء 27 نوفمبر 1990.
6. المصدر نفسه.
7. المصدر نفسه.
8. المصدر نفسه، ع. 19، الأربعاء 28 نوفمبر 1990م.
9. المصدر نفسه.
10. المصدر نفسه.
11. المصدر نفسه.
12. المصدر نفسه.
13. المصدر نفسه.
14. المصدر نفسه.
15. المصدر نفسه.
16. المصدر نفسه.
17. المصدر نفسه.
18. محمد ناصر، أوراق ثقافية من عمان، السلام، ع. 18، الثلاثاء 27 نوفمبر 1990.
19. المصدر نفسه.
سميـــرة أنساعـــد
أكاديمية من الجزائر