عندما أنجبت (حفصة) ولداً صحيحاً سليماً تذكرت أن تفي بنذرها القديم الذي بسطته بحرقة وهوان عند آخر قبر من قبور الأجنة التي حدث أن طمرت نفسها في جدار الرحم ، وانغرست وعششت ومدت أصابع إسفنجية منمنمة ، تؤرجح الأغشية وتدغدغ الأوعية ، مهيجة أولى بوادر الغثيان الصباحي عند حفصة ، ثم سرعان ما رفضت الاحتواء المظلم في الحجرة الدنيوية الأولى ، مستعجلة هطولها على النور المتدفق في الخارج .
تتمرد الأجنة في رحم حفصة ، تمزق الجدار ، تدفع بساقها الحبل السري، تنفصل عن جسدها ، ترتطم برأس الشيطان ، ثم تسقط ميتة.
(غانم )
يكبر ملتصقاً في حجر حفصة ، يتقدم خفيفاً في الدهليز الشاسع للنور ، تسقط سرَّته المنفوخة في وعاء الاستحمام الصباحي ، تلتقط حفصة السرَّة بنشوة وفخر ، ينتشر الدمع من عينيها على قماط الطفل ، تفكر بتمعن وخوف ، تتساءل : أين تدفن السرَّة المسرّبة للسرد الغيبي لغانم ؟
أحلاماً وأمنيات معلقة في جزيء لحمي ذي رائحة حارة منبعثة من فصيلة ترابية ، تراب أحمر هائج سقط تواً في الوعاء المائي ، تراب وماء نسيجان ملتحمان في جذع شجرة ، أيكة خضراء وارفة بالظل والضوء المرتل عبر الصباحات المشرقة بالبخت السعيد .
فإلى أين تمشي حفصة لتدفن السرَّة ؟
تمشي النساء عادة بسرر الأطفال المتساقطة من الجسد نحو أتربة المساجد .
لكن حفصة مشت بسرية تامة إلى الندود الرملية على البحر ، ألقت سلاماً على زرقة الماء في الخور ، بابتسامة الروح ائتمنت الخور على السر ، ثم راحت تطمر سرّة الطفل بعيداً عن أعين منابر المساجد التي شهدت طمر أسرار الأطفال تحت جسد الجدران وحول أعناق البئر منذ قرون.
تغمس حفصة جسدها في البحر، تتطهر، ترجع إلى وليدها وعلى صدرها تعويذة ، لتجلس محصّنة في عدة الأربعين يوماً .
غانم يكبر وبطنه مشدود إلى حضن الأرض ، يزحف إلى قدمي حفصة ، يلتصق بطرف ثوبها ، لتهبط عليه رائحة التكوين المشيمي ، يرفع رأسه إلى أعلى ويناغي بمشقة وألم.
تنتبه حفصة إلى الرأس الضخم الذي يهبط على رأس غانم ، ومائلاً باتجاه الصدر.
تذعر حين تتذكر نميمة النسوة اللاتي شبهن طفلها غانم بجسد النَّد على رأس الخور.
ترفع الطفل إلى صدرها ، تتلو على رأسه سورة الناس فيتضخم قلبه ويصرخ عند آخر آية (من الجِنَّة والناس ).
تهرول حفصة نحو طاسة أسماء الله الحسنى ، تسكب الماء المرقي في الطاسة الفضية ثم ترشه على وجه غانم ، و تدمغ الماء في نبتة (الخشخاش) ، تسكبه في ريق الطفل ، فينام إلى المساء في سبات التخدير ، تنجرف هي مع كوكبة النسوة إلى حطب الجبال.
غانم يكبر رأسه وينتفخ بطنه ، يمد ذراعين وساقين قصيرتين مع انفلاجات رؤؤس الأصابع ، يمشي في الزقاق ملتصقاً بجسد الجدار، وحين يهتف الصبية خلفه كالوعول ، يتصايحون ويتقافزون على الندود الرملية (القزم غانم .. الدب غانم ).
يضع الطفل غانم عينيه في أرض الزقاق ، يهبط إلى حوش البيت المشرع في وجه الشماتة ، تتداخل أصوات انحدار الحجارة على الجبال في صدره ، الحجارة التي تتقزّم أكثر تحت وقع ضرب الديناميت في الجبال ، ويتقزم معها غانم في العمق العميق من دخان الجسد الغائب.
غانم يكبر ، مع الصبية الذين استؤصلت منهم القطعة اللحمية للجزء السفلي الذكوري ، وقذفت في البحر أو إلى أفواه الدجاج على الساحل، ألبسته حفصة دشداشة بيضاء وطوت جرحه بإزار هندي ، ضُربت الدفوف وغرد المزمار وذبحت الخراف ورزف الرجال وطبخت النسوة اللحوم ، واحتدم الجدال على القدور بين فقراء الجبال عند تقسيم حصة الطعام .
وحين التفتت حفصة ، لم يكن لغانم من أثر.
كان الصبي يجلس مع الكلاب الضالة في وحدته مغلفاً بالسواد ، صاعداً على أشلاء أمواته إلى الأعالي ، حيث الند الرملي المكتنز بأسرار السرد القادم نحوه.
تلال المقابر الفارعة على المد اللولبي الرملي المعانق للبحر، الأرض العارية ، الفراغ المتناهي من الوحشة العذبة .
غانم يستمد مقوماته من الأرض ، تسكنه الدهشة : ( ما أقرب هذه الأرض العذراء المتخمة بالعدم إلى النفس البشرية التي تهوى العزلة ! العزلة هي الأنس وإن كانت في مقبرة ، المقبرة هي الحرية ) .
تركض حفصة باتجاه غانم ، وتعترض أفكاره بزمجرة الأم .
غانم يطوي صفحة العزلة ويتنفس جواً خانقاً من الكآبة ( أمي أحقيقة أن على أحد هذه الندود دفن أشقائي الذين لم تكتمل رؤوسهم ؟)
تصمت حفصة.
يلح غانم : (لماذا دفنت أسراري معكِ قرب الموتى ؟)
تناثر في نسيم البحر شحوب حفصة ، تسربت إليها رائحة الأجنة الميتة من تحت الند الرملي الذي تقف عليه: ( لم أشأ أن أقذف بك في باطن المساجد بعيداً عني ، المساجد لا تؤوي الأجنة الميتة ولا تستودع ما تساقط عن أجساد النساء من أسرار ، المساجد يا ولدي للأحياء الذين يصلون الله بحبل الصلاة ، أما الأجساد فوصالها حبل سري أبدي ، الجسد يفتش عن رائحة الدم في وعاء الأرض ).
***
غانم يكبر … يتقدم إلى الأمام ، وينطلق فوق كل الحدود الممنوعة والمسيّجة بحبل سري وراء الأقنعة والألغاز .
من خلف غانم يضرب الإعصار الأرض
ينبجس البحر
ينفتح الخور .
تنحسر النّدود عن بلدة كبرى قلبت كبد التاريخ وتعرت بالضوء الأصفر كالشمس العمودية الثاقبة.
الأجساد الصغيرة الواهية تتطاير للبعيد.
يتشبث الرجال بما نقبه الإعصار في الأرض من إرث عظيم يدعى( جلفار) .
غانم يلتصق بجذع نخلة سامقة تضرب جذورها في رحم الأرض .
تستغيثه أمه بأن يلقي إليها سعفة نخيل أو حبلاً تنجد فيه جسدها الهزيل المتطاير عن الندود الرملية.
يحملق غانم في وجه أمه المتقاذف في الريح بعيداً ، يلوِّح لها مودعاً بوقار أبله ، ويعتذر بصوت خافض بلا اكتراث 🙁 آسف أمي ، غير أنها ليست غلطتي كما تدرين ، كل شيء محكوم عليه بأن يتوارى بعيداً ، وسيأتي دوري أنا أيضاً كالأجنة التي فضّت حبلك السري عنها وسقطت تحت هذه الندود ).
أمه باتت خلفه وجلفار صارت أمامه ..
ويبدأ السرد …
يموت الماضي على يديّ غانم بعدما تنهض من تحت الندود الرملية على خاصرة خور معيريض جرات من الذهب من بين رفات التاريخ .
يصيح الماضي في وجه البشر الذين تساقطوا مع غانم على الذهب وتبعثروا على الندود في جشع : ( هنا جلفار .. اتركوا الحقيقة تسجلها الأرض ، الحقيقة الأزلية للأموات ، اتركوا الأرض للسرد القادم ).
ويكبر غانم ، غانم الذي كان يصعقه أطفال القرية بالقزم الدب ، راح اليوم ينزلق في خندق الأرض ويغترف الذهب الذي ذابت فيه أعضاء بشرية (أظافر أطفال / أضراس لبنية / حوض امرأة مكسور / أذرع وسيقان طويلة تكالبت في عناق منسجم ، يفككها غانم ليقيسها على جسده ويفكر باستعارتها ليكتمل العنصر البشري الناقص فيه، لكنه يعدل عن الفكرة منزلقاً للأسفل ، يحفر عميقاً أكثر وأكثر حيث القتامة الرابضة على جسد الذهب.
يكبر غانم في ملح البحر ، يسرق ذراعاً أسطورية من جسد الخور الشائخ على الموت ، يطوق الأرض بحبل سري من الصكوك ، يرش الفجاجة على الساحل ، يبعثر فوضى الأبنية ويفتح الأمواج للغرباء ، الشقراوات ينثرن زوبعة العري الفظة في قلوب الصِّبية ، فيتراجع الصبية على استحياء إلى البيوت ذات الملامح المحرمة ، تجرهم الفطرة الناصعة ، ليقدحوا بشعار غانم القزم خلف ظهورهم ويستجيبوا لفكرة الصوم عن النظر.
يكبر غانم برائحة السر ملتصقاً بزقاق القرية .
القزم يمد ذراعيه وساقيه بين أزقة جلفار ، يسند شفتيه إلى جدار بيتي ، يشم صيامي ،
ويقحمني في السرد القادم ..
القزم غانم الذي كان شاهد حب للندود الرملية على الساحل وشاهد انبثاق جلفار من تحت الأرض ، يقحمني الآن في سرده.
يطالب كل تعويض عن ذرة تراب أجلستُ فيه بيتي على خلايا حبل أمه السري المطمور مع أجنتها الميتة.
يقول إن هذه الأرض تحتي هي سرّه وأسراره وسرده وفاتحة سيادته القادمة.
وعليَّ التنازل عن كل ذلك بانحناء مبجل .
يراوغ ويتشدق بالمقبرة العارمة التي تناسلت فيها الكنوز بالجماجم تحت أرضي .
الأرض تطلبه ، وتريده هو دون غيره لبسط ملكية الجذور والتاريخ .
كان بوسعي أن أدعس هذا القزم وأردم قصة المقبرة في صدره برفضي المطلق للتنازل عن وجودي الذي شيدته على كفَّة سخية من ذراع الندود القديمة.
إلا أني اكتفيت كأنثى وحيدة لا ذراع لها و? سقف ولا باب بأن أنحني إلى وجهه المحملق بشراهة في جدارن بيتي ، وأبصق ..
أبصق..
أبصق..
إلى أن يغرق وجه القزم في الأرض وينحدر مع بيتي الذي ينزلق مع الزمن في الطين ، ويهبط تدريجياً عن سطح الأرض ، تاركاً جسد الإسفلت يخنق الحبل السري لحفصة والأجنة المتساقطة ورائحة السرَّة البعيدة عن المساجد، والتي أقحمت سيرة جلفار في سرد مبهم جائع نحو الحقيقة .
أين الحقيقة ؟
لا أدري
و? يدري غانم
و? حفصة تدري
لكني أعرف أن ثمة مقبرة كبرى تغط أسفل بيتي ، وتحديداً أسفل رأسي .
وتحت سريري ينام قبر أحدهم …
قبر غانم؟
قبر حفصة ؟
قبر الحبل السري والأجنّة ؟
قبري ؟
قبري؟
هل قلتُ قبري ؟
لؤلؤة المنصوري \
\ قاصة وروائية من الامارات