في روايته «القلوب البيضاء» يكتب يوسف القعيد عن التقاء العاشقين في الجمعة الأخيرة من كل شهر عربي، أو بتعبير بطلة الرواية- إن جاز هذا التعبير- شهد «الجمعة اليتيمة»، وتحس أنها تمثل دور إنسانة أخرى، مع هذا الكهل المنتظم حد الرتابة، قليل الكلام، ويصف الكاتب رحلتها من قريتها في اتجاه الزقازيق، ومن ثم إلى أم الدنيا (القاهرة)، حيث تلقاه في مقهى محطة السكك الحديدية. الغريب أن يوسف لم يشر إلى اسم الرجل، ولم يحدده داخل المتن الحكائي.
و يغوص في أعماقه، فنعرف أنه لا يحب تغيير عاداته، وسيتضح من خلال بعض التلميحات أنه معقد نفسيا نتيجة عجزه الجنسي. الكاتب لم يشر إلى ذلك صراحة، لكن بالإيحاء فقط ، حين وصف ليلة الخميس، فقال لنفسه وهو يتطلع إلى نوافذ الجيران بأن لا عمل لهم غير الجنس هروبا من كآبة الواقع، ويتضاعف إحساسه بالوحدة والفراغ يوم الجمعة، ويقلق راحة جيرانه صباحا، بقدمه الصناعية.
تتضايق حين يناديها بـ»الآنسة شهد»، وهما في المقهى، تحس بأن كل الأعين تفترسها، وتفضل لو يناديها بـ (يا ابنتي).
ويقوم القعيد بتسليط الضوء على شهد، فنعرف أنها يتيمة الأب، تزوجت أمها بعد العدة رجلا آخر، فاضطرت أن تعيش مع خالتها، لتحميها من نظرات زوجها وخوفا- الأم- على نفسها أيضا، والعاشق الكهل العاجز هو من ساعدها في انتقالها للعمل كممرضة بشهادتها التعليمية، قريبا من بيت خالتها، وعرض عليها مساعدتها بمبلغ ضعف مرتبها الشهري، حفاظا عليها، مقابل ألا تتزوج وأن تبقى معه، نظير لقاء الجمعة اليتيمة، ووعدها بأنه سيوصي لها بكل ممتلكاته…
تتطرق الرواية إلى مشكلة العنوسة والبطالة، وشباب القرية الذين يفكرون في السفر إلى أي بلد عربي، حاملين جوازات سفرهم في أيديهم، وهي إيحاءات فنية إلى فقدان الانتماء إلى الوطن: الشباب الحالم بالهجرة، والكهل العاجز الذي يحس أن شهد هي وطنه، بعد أن اكتشف أن هذا الوطن الجاحد الذي حارب من أجله، تخلى عنه… مثلما خذل الكثيرين ممن « فقدوا كل شيء – حتى رجولتهم- دفاعا عنه «.
فانتهى معطوبا، بلا غنائم.. حارب العدو الذي في الواجهة، لكن الحرب عملة بوجهين، ومعركته مع عدو الداخل فادحة الخسائر…
لقد سبق ليوسف القعيد أن تطرق إلى هذه الحرب التي لم يختر أن يخوضها المواطن البسيط المغلوب على أمره – الشخصية الرئيسة في جل أعماله الروائية والقصصية-، فيبدو لمتتبعي تجربته السردية أنه مسكون بأدب الحرب، ولعل هذا يعزى إلى امتهانه للصحافة، «مقبرة الأدباء»، كما يقولون عنها، بعكس مجايليه…
فالكهل لم يعد يرغب في الذهاب إلى بلدة شهد وهي نفس بلدته، رغم كل الشوق إلى ملاعب طفولته بعد أن صار عاجزا. ويبدأ الملل يتسرب إلى قلب شهد، وتتوق إلى أن يمسك بها بين يديها، قائلة لنفسها: «الكلمات رقيقة وعذبة ولكن الفعل لا وجود له». وينهش دواخلها هذا السؤال: « أليس لهذا الرجل سرير؟»…
تتضارب عواطفها، ولا تعرف إن كانت مشدودة إليه بقلبها أم هي حاجتها إلى ذلك المبلغ المالي الذي يمنحه لها كل شهر، وتحرقها نظرات الآخرين إليها كامرأة، وتفكر لو تستطيع الجمع بينه وبين رجل آخر!! فكهلها لا يتحدث عن موضوع الزواج، والشيخوخة تدب إلى جسدها.
تحاول أن تعرف أين يسكن، وسبب الحادث، فتجد إجابات متضاربة عند الآخرين، وتحس أن الأسى استوطن قلبها مثله، تفكر في السفر إلى أي بلد عربي، لكنه يخبرها أنه لا يمكنها السفر إلا إذا كانت «متزو»، لم يستطع أن يكمل كلمة متزوجة.
وترصد الرواية بعض تفاصيل معاناتها كامرأة حرمت من حقها الطبيعي في الحياة، مثل حكايات الزميلات عن الغزل المكشوف، الرجل البلاستيكي، ومطاردة المراهقين لها، ونشيجها في سريرها، بعد أن نهر المراهق زميله وهو ينظر إلى وجهها قائلا: «ألا تستحيي؟ إنها مثل أمك»، وتغرق في الأحلام، مثل الكهل الذي يهرب من ذاته، ويتجه إلى المقهى مثل كل يوم…
هكذا تنتهي حياة العاشقين بلا نهاية سعيدة، كما عودتنا السينما.
هي رواية مسكونة بالبوح الشاعري والأحلام البريئة، وقد وظف يوسف القعيد ببراعة التبئير، التداعي الحر، والمونولوغ ليكتب عن العدو الداخلي، وليس بالضرورة أن يكون شخصا يرمز إلى الفساد الإداري، وإنما هو الفراغ، اليأس المستبد بالأرواح، ولعل هذا ما جعله لم يحدد اسم الكهل في الرواية، بل ويُعرف بأكثر من اسم عند معارفه القدامى، وهي إدانة فنية بليغة للعجز، القهر، الفراغ، الضياع واليأس لأجيال ما بعد الحرب، فالشوارع خالية في القاهرة، والناس في القرية يتخبطون في اللامبالاة وفقدان الرغبة في الحياة، وهو- الروائي- الوفي للفضاء الأول والأخير في كتاباته: القرية/ الرمز /الأصل/ الهوية/ الجذور، لكنه لم يكتب عنها بمثالية ساذجة، وإنما شرّح- وفي سائر كتاباته- أعماق شخوصه الانهزاميين والسلبيين، العاجزين عن الفعل أمام قسوة الواقع وإكراهاته… وكضريبة لحب يوسف القعيد للقرية، هذا النموذج المصغر للوطن، قاضى أهالي إحدى القرى الكاتب، لأنه أساء إليهم… في نظرهم!!
على سبيل الختم، يطوف بمخيلتي الآن مشهد بأحد الأفلام الأمريكية عن جنود أسرى، وقبل ترحيلهم، انحنى أحدهم، ودس حفنة من التراب في جيبه قبل ركوب السيارة.
ما أحوجنا إلى نصوص تعلمنا حب الوطن (الذي نحبه ولا نحبه، ولا تسألوني لماذ؟)، بدل تلك الأناشيد الساذجة التي كانوا يرغموننا على ترديدها، كل صباح…
هشام بنشاوي
كاتب من المغرب