الموسيقى طوال الليل حتى انفجر
المحيط المتاخم واكتسح المدينة
جلبة رعود خاطفة. الريح تعوي وتموج مبعثرة طلائع المطر التي لا تكاد تستقر على الأرض من شد ة العصف; وإذ تضيء البروق النافذة, يستيقظ الرجل من نومه كأنما ترفسه قدم الضوء ليدلف بهاء صحوه الخاص الذي طالما انتظره أمام جفاف سماء بخيلة شعثاء.
جلس الرجل الغريب على حافة السرير محدقا في السقف الذي تنيره البروق حيث يتدلى شبح المرأة الغائبة- غائبة حتى في حضورها- قام من مكانه على الحاف ة وتمشى قليلا محاولا إبعاد طيف الجسد الجميل, كي يستسلم لوهم مراقبة المشهد بكل جوارحه, وتذكر (كيركيغارد) حين رمى الخاتم في وجه خطيبته لأنها ستشغله عن المسيح والمطلق, وابتسم قائلا ربما كان هذا الفيلسوف اللاهوتي الوجودي عميقا أكثر من اللازم.. أخذ الجسد يحاصره بسطوة الأنثى وغيابها في مثل هذا الوقت الذي تزمجر فيه الرعود والرغبات. دار في جنبات الشق ة محدقا في الأشياء والجدران العارية التي أخذت تتمدد وتتسع مغادرة مواقعها نحو البعيد, حتى رأى نفسه في صحراء لا حدود لتخومها.
كان المطر يهزج والريح تعوي.. وكانت المرأة الراكضة بغياهب عريها فيما يشبه الصحراء. ركض وراءها يسبقه لهاثه والرغبة والبرق, وحين يقترب وتمتد يده للإمساك بها, يتعثر ويسقط على منحدرات الرمل الزلقة. ظل يركض من كثيب إلى آخر, بينما البدو ينظرون من فتحات خيامهم بعيون ملؤها الترقب والفضول- عيون البدو التي تشبه كاميرات مثبتة على مفاصل العمائر والمباني في المدينة الكبيرة- ظل يركض حتى انقطع ن ف سه وأخذه الدوار. حاول أن يستجير, أن يصرخ وسط صفير ذلك الفضاء الموحش لكن صوته تكسر في أحشائه كالزجاج الهش , وحين سقط للمرة الأخيرة على مخمل الرمل المتماوج, أحس بذلك الشوق المحتقن في أعماقه عبر سنين عمره ومحنه, أحس بروحه تلتقي وتذوب في جسد المكان. وبنصف إغماضة حد ق في النجم المنفرد في متاهة السماء, فرأى نفسه حين كان طفلا يتقل ب ويجري مع الماعز والكباش ذات القرون الكبيرة الحاد ة, على بساط الرمل وفي ظلاله وكهوفه كطائر أسكره مقدم الربيع; وقبل أن تبتلعه الموجة بهبوبها الجامح بزغت فيه تلك الإشراقة المعبرة عن سعادة الأبد القصوى..
كان المكان على حاله.
وثمة رغبة تطارد امرأة في صحراء
***
استيقظ في الساعة الثانية ليلا , جلس على حافة السرير وكأنما على حافة العالم, حائرا بما يفعل في هذه الساعة.. قر ر الذهاب إلى الحمام, عله سيعثر على فكرة ما, وهو في طريقه بتلك الخطوات المتثاقلة, حين فكر انه عاش في المكان نفسه منذ زمن بعيد, بعيد أكثر من اللازم. وان ثقل خطواته وخدر جوارحه على هذا النحو, لابد آت من كثافة الزمن الذي استشعره فجأة وهو يخطو في هذا الليل الموغل في ع د مه, نحو دورة المياه, كحيوان يشعر بثقل حمولته, لكنه ماض بها, وعلى حين غرة تبهضه فينوء بحمله. وكالحيوان تغيم أمامه المسافات والوجوه والطرق التي تطارده أشباحها, فيخيل إليه, ذلك التخيل الذي يفوق الواقع في حضوره الجارف, أنها عبرت حياته منذ قرون.
في منتصف الطريق نحو دورة المياه, أحس بالإرهاق ورغبة التراجع من حيث أتى, وكأنما عليه أن يجتاز صحراء شاسعة وأليمة. توق ف أمام الستائر الزرقاء اللاصقة بزجاجها من غير حركة. كانت الريح قد هدأت , والسماء صحو . فكر أن الطبيعة أفرغت حمولة عنفها في أحشائه. وأن الستائر التي اختارها زرقاء على هذا الشكل لتذكر ه بالبحر. فالمدينة لا بحر فيها, هو الذي اعتاد الهرب من حصارات الروح واختناقها نحو البحر كتميمة وملاذ0 ما أحوج سكان الصحراء إلى ملاذ- وفي الواقع كانت المياه بكاف ة أشكالها ومنابعها وطقوسها تخفف من نوباته العصبي ة, وكانت الصابئة من الفرق القديمة التي تعشق المياه والأنهار حتى التوحد والتقديس..
فكان يقضي ساعات في أعماق ذلك السديم المائي, طفولة البدء, الذي يتقدم البحر مواكبه الأزلية, حين لم يكن هناك خلق خارج المياه وعوالمها, حين لم يكن هناك بشر على الأرض..
كانت المياه المائجة بأعياد أسلافنا, الغابرين.
***
كان الصباح قد استق ر على جبهة العالم, عالم المدينة الذي يعيشه هذه اللحظة, وهو مازال على السرير, يحاول القيام وعمل ما ينبغي عمله في طقس الصباح الذي راقب طلوعه المتكاسل وهو يتمدد ويتثاءب على ظهر المدينة وأشلائها المبعثرة في الجهات كأنما بفعل صاعقة قصفتها قبل قليل. راقب ظهور الصباح حين تفقسه العتمة , ممنيا نفسه بمتعة تأمل هذا المشهد العريق.
مشهد ميلاد ((الأضداد)) من أعماق بعضها مشكلة عالم الحركة والحياة, لتستمر عجلة الوجود في طحنها واشتغالها البالغ الشراسة والغموض! حاول إبعاد مثل هذه الهواجس التي تعك ر صفو المزاج. فالنهار ما زال في أوله, والاكتفاء بمتعة التأمل الجمالي الخالص من الشوائب مثلما كان في الماضي.
ها هو الضباب ينتشر ويعبر الشرفة, غامرا المكان بشفافيته ورقته . الأصوات ما زالت في مخادعها محفوفة بالأحلام, وهو على شرفته يرى عناصر الطبيعة تعبر في مسارها المتغير كما كانت دائما, لكنه لا يستطيع الإحساس بأي تفاعل أو متعة.. هكذا مسمرا خشبيا – نوع من عطالة في الإحساس- يمسك بوضوح ذلك الصدع الذي أصاب أعماقه.
قال, ربما بفعل تقادم الأيام والضجر. أو أصابته شظية من لهب الصاعقة التي تخيلها تقصف المدينة من غير هوادة. راوده بعض حنين إلى أصدقاء عاش معهم هنا في هذه المدينة. سيذهب إليهم في المقاهي التي يجلسون فيها دائما, يلعبون الطاولة ويدخنون السجائر والشيشة والنميمة. ربما سيتغير المزاج, ويقضي نهارا مرحا كالعادة, سنرمي الكلام الثقافي والنكات والهرج إلى أقصى أفقه العبثي الأسود. والهواجس التي تثقل الجسد بشكل لا مبرر له, سنحولها إلى فكاهة وخفة, سنحررها من ثقلها وجهامتها ولو لبعض الوقت.
فالحياة, كما هو شائع, لحظة تعاش, وكم من تلك اللحظات التي عشناها مع الأحياء والموتى على السواء.
شقت هذه الخواطر طريقها إلى منطقة التنفيذ في رأسه. دفعته بسرعة إلى حلاقة ذقنه وارتداء ملابسه. شرب قهوته وهم بالخروج; وقبل أن يتجاوز عتبة الدار, اعتراه ذلك الدوار البسيط الذي يعاوده, فرجع, مفكرا بإرجاء اللقاء إلى يوم آخر.
***
كيف قذفت به الصدفة إلى هذا المكان الذي يعج بالبشر والأشباح? مناسبة عيد أو مولد على ما يبدو, هو الذي يهرب من المناسبات الإجتماعية, أيا كان نوعها, إنها تزيد من كآبته وعزلته. ما الذي أتى به, أبسبب مجاملة عائلية, أثمة أسباب أخرى?
رآه يحد ق بين الجموع بعيون زائغة مفعمة بالتذكر والغياب, حائرا مرتبكا أكثر وحشة من رجل يقاد إلى المقصلة. كانت الجموع تتدافع للتهنئة والعناق. لاحظ بوضوح أن هذه المحب ة وهذا التضامن يصب في دهليز الكذب والنفاق, وليس في القلوب إلا الضغينة والبغضاء.. هذه العناصر وحدها التي تتكاثر وتنمو كشجرة خبيثة عملاقة, وليس تمثل ماضي التضامن الإنساني في حبكته المنقرضة, إلا غطاء لمآرب أخرى, وتمثيلا أكثر سماجة وثقلا .
رآه بين الجموع يحدق في الأرض الصخرية بنظرة يتطاير منها شرر غضب ومقت, لتسقط مستسلمة على رؤوس الجبال المحيطة. يحاول أن يستجدي ومضة جمال غارب حين عبرته لمسة حانية من وجه أمه, فأحس بشيء من الطمأنينة التي لم تلبث أن تعيده إلى سيرة حيرته الأولى.
فهذا المكان الذي تتزاحم فيه الحشود, ما علاقته بأمه وطفولته وحقول أعماقه النائية, ما علاقته بالنهارات التي يخرج فيها الأطفال من المدارس ليدخلوا في شجاراتهم المعهودة, مفعمين بغبطة اكتشاف الرجولة, ما علاقته بصباحات الغجر والقطا في فضاء يقطر الأبد من تخومه اللامحدودة, بفجر صياح الديكة والمؤذنين العميان على المنائر المهدمة, لعبة السكاكين والخناجر, والحكايات التي يسردها رواة المساء عن مغامرات واقعية ومتخيلة?
رآه يمشي وسط الجموع بخطوات لا عزاء لها, تشبه مشية مشي عين وسط صفير الجبال الذي يكثف من جلال الموت ووحشة طقوسه كأنما في جنازة جيش بأكمله, وقع في مجزرة ماكرة.
***
ما لهذا الغراب لا يكف عن النعيق والنواح ليل نهار? أليس من سلالة الغربان والغداف التي تنام بطبيعتها على جذوع وغدران النخيل والأشجار. وهناك في العالي تبني أعشاشها وتبيض وتفرخ. والتي هي من أكثر السلالات ق دما في تاريخ الأرض السحيق. إذ استثنينا (الصقر) الصقر الفرعوني الذي هو, حسب معتقداتهم, المتقدم السابق على الخلق أجمع. هل و لد في العصور الجوراسية حين كانت الديناصورات والزواحف تتربع سدة الكون والمكان? أم قبلها وبعدها, وحينئذ نحد س أن الكائنات تتخل ق من الخيال الفرعوني الخصب أكثر من الوقائع. وهل ثمة فرق بين الاثنين?
التاريخ البشري والحيواني حتى ما بعد الأسطوري والخرافي, يبقى مجر د مقاربات واحتمالات, وليست هناك حقائق نهائي ة بالضرورة. حتى ما يحدث اليوم يخضع للتزوير والبتر والتشويه, فما بالك بالتاريخ البعيد. لكن ذلك التاريخ الذي شط في نأيه بخرافته وظل واقعه القليل, أكثر صدقا وعذوبة وأكثر طزاجة , حين نقرأه من تاريخ أحداث الأمس واليوم. هل هو الحنين مرة أخرى الى ما توارى واندثر, أم أن عصرنا الراهن بكل اكتشافاته الأكثر فنتازية وإثارة على السطح, أصبح في جوهره مفلسا وجافا ويبابا لا يستطيع تحريك الروح والمخيلة? عصر الضخامة والتراكم الكمي والإعلان, الذي تشحب فيه الأرواح والأفئدة وتغرق في مستنقعه المتعالم البليد.
الغراب مازال منتشيا بنعيقه الذي لا ينقطع. غراب الشؤم المتداول في الحياة والأشعار, غراب (آلان بو) غراب الربع الخالي والمدن الحضاري ة الكبيرة. فهو موجود على خارطة العالم المتناقضة جمعاء, مثله مثل ذلك النوع من العصافير الذي نشاهده في كل مكان. إنه المتكيف الأكبر مع كل البيئات مهما تباينت بينها المسافات والفروق.
لقد حفلت الذاكرة والأدب بالقنوط والتشاؤم من حضور الغراب ونعيقه. وأنا في هذه اللحظة لا أرى ذلك صحيحا . فصوته لا يزعجني على الإطلاق. ولا أبالغ في القول, أنني معه على ألفة ورضا. فهو ينتشلني من هواجس تفترس أعماقي, إنه لا يوقدها ولا يذكيها, كما جرت عادة فهمه. إنه أكثر كرما ورقة . كرم يصل حد البهجة والأنس.
هذا الوعي العدواني تجاه الغراب, ربما هو الذي جعله حذرا تجاه البشر, رغم ظاهر ألفته, تظل نواياهم وكوابيسهم, تطارده في نومه. وكم مرة حلم برصاصة تخترق أحشاءه, أو بالوقوع في فخاخ الحقد اللامرئية. وهو في حذره هذا يشبه اللقلق والصفرد وإن كانا أكثر حدة وذعرا بكثير. والاثنان يشبهان العقاب في حدة سمعه حسب قول الشاعر (أسمع من فرخ العقاب الأسحم).
لقد نسي البشر فضائل كثيرة للغراب, في مقدمتها وأكثرها شهرة, تلقينهم الدرس المفعم بالسر والذكاء, في مواراة جثث موتاهم, كي تأخذ راحة , تليق بغائب أبدي. وألا تكون لقمة جاهزة للضواري والوحوش.
بالأمس رأيت غرابين, قد حطا على حنفي ة ماء مرتفعة عن الأرض, وعلى مقربة من البحر, أخذا يتبادلان قطرات الماء عبر منقاريهما, بحنان بالغ حد الجمال الآسر, لعلهما ذكرا وأنثى; حطا على الضفة الأخرى من الكائن المحاصر بأهوال البراكين والحروب.
***
مشاهد بحرية
يتلاطم الموج ويزبد
فلا أستطيع كتابة حرف
أمام هذا المد الهائج في رأسي.
***
يترنح الصيادون في الشباك
التي بعثرها البحر , كما يترنح الشاعر
في أصقاع هواجسه وأشباحه,
بحثا عن درة الخيال اليتيمة.
***
جاء الرجال البحري ون..
من بين الضباب البحري انبلجوا
وعلى وجوههم علامات الليالي الموحشة
والنجوم التي غارت
ولا من دليل.
لم يحملوا طوال حياتهم
أحلام غزو ولا أسلاب.
أو مأوا بتحية عابرة
ورحلوا
***
كانوا هناك يغنون
صيادون ونوارس وعقبان بحر
دلافين مضيئة وأسماك قرش
جنيات يطلقن (تعاويب) شجية ,
كن في الماضي ينحدرن مع الرعاة
على الجبال.
كانوا هناك يغنون
ألحانهم تحيي رميم صيادين
في شواطئ مهجورة.
***
طائر وحيد – أنثى البجع على الأغلب –
وهي تستريح من عناء سفر طويل ,
على سفوح الموج, تتلو سورة
الجمال على الأفق المتلألئ بالغمام,
لتستأنف الرحلة من جديد.
***
مشهد القمر في طلعته الأولى
على أديم البحر
ميلاد مجرة تضيء بحنينها
ضفاف سماء مجهولة.
زفرة العاشق الأولى
فرح الفلاح بنماء غر سه
وسط الجفاف.
القمر الولهان في طلعته الأولى,
في أحضانه, تغتسل العناصر
والأبعاد من ضجر أيامها الرتيبة.
***
حافية على الرمل
تجرين أحصنة لا مرئية
من خطامها نحو حقول البحر
البعيدة.
***
جميلة في الضوء الخفيف
وفي الظلمة
في الصحو والسكر
وفي بهو البحر الفسيح
وجميلة بخطواتك الناعسة
نحو السرير.
***
البحر حالة هياجه
يقذف كنوزه الخفية
أسراره التي لا تنتهي
فيلسوفا لحظة انخطاف وجنون
ثور السماء الجامح;
أما لحظة الجزر فيشبه رجلا
على فراش المرض, لكنه يحلم
أو امرأة في دورتها الشهرية.
***
امرأة تستلقي على ظهرها
بين الجبل والبحر
على شاطئ البستان المشمس
بشرتها التي تسمر تدريجيا
تتعهدها بالعناية والمراهم
حتى تصل إلى النصج الاستوائي .
بشرتها التي تربيها
كما تربي رغبتها العارمة
نحو العشيق
***
على سرير صباحه الثقيل
يصغي إلى سيمفوني ة الموسيقار الأصم
التي ظل ت تصدح طوال الليل
حتى انفجر المحيط المتاخم
واكتسح المدينة.
***
تذكر أسلافه الرحل
جاءت الموجة المرتجفة بالغضب,
فجرفته إلى أقاصي العالم.
***
عاودته إغماءة المغيب
وطلعة القمر الأولي
حتى كاد يسقط على حاف ة الموج
مفعما بظلالها السرمدية.
***
حركت العاصفة الرملية
ضجر الشواطئ
أهدتها حطام سفن
وأحشاء سلطعون
أحلام بحارة غرقوا
وآخرين نأت بهم المياه
نحو الأعماق
***
الموجة في وثبتها نحو الشاطئ
تلثم شفاه حبيب لا يرى
تغرس فرجها بشوق وحنين
تروي حكاية شهرزاد
المفتوحة على مدارات
تتوالد باستمرار
***
أصل إلى مشارف النوم
بعد منطقة الأرق بقليل
أرى ديكة تتسلق الأكمات
البحرية لتسقع فوق سلالم من سديم
صداها يطبق الأرجاء
بإنداء الليل وأحلامه المعشبة.
***
سلاما على (الصفرد) يا جاري العزيز
شقيق الأرواح والأكمات
على صوتك أصحو
وعلى صوتك ينام البحر
في مساء القرية الكئيب
أتأمل أسرابك المذعورة
مندفعة نحو الشعاب
الشعاب الأكثر عزلة بين الجبال
يا نبوءة الظلام
نهارك تقضيه في الصداح والتحديق
نحو أفق الزرقة الشاسع
رغم بشرتك الداكنة
على أرض ما أفظعها على الروح
أسمع نداءك المتدفق
كنبع في صحراء أحلامك
وأرى اناثك
تهرع نحو مياه الصوت
لتكون لباسك
في هذا الفراغ الكاسر.
***
على جاري عادته
عبر الأزمان
بين مده وانحسار أمواجه
أرى الأرامل والقتلى
يهرعون نحو الشواطئ والهضاب
عويل هم يلجم الأفق
ليصل كواكب لم تصلها المعرفة
الكواكب تبكي من أجلهم
والبشر ينجزون المذبحة
إنهم إخوتي وأصدقائي.
إنها الحرب في الطرف الأعمق
من جسدي المتطاير
بين أحذية الجند.
***
جاء القوم, هاربين من مصائرهم
نحو البحر
حين وصلوا
لم ينتظروا كثيرا
لم يطلقوا آهة الوصول.
كانت الأساطيل
ترعى قطعانها في عرض البحر
كانت الرؤوس تتطاير كالشظايا
كان الدم القاني
يصبغ الزرقة ويفيض على الكون
***
طائرة تسبح
كسمكة في هباء السحاب
***
ينزل المساء على البحر
بعتاده الثقيل
حيث تحتدم السكينة والرغبات.
نورس يحلق على مقربة
وشراع يذوب في الغروب
مالك الحزين, في ركنه ينتظر الرحمة,
وثمة نازع للجنس أو الانتحار
***
هذه السحب المتر حلة
من بقعة إلى أخرى
لاشك تضمر صحوا
لا حد لانفجاراته الشمسية
***
لسان التمساح
مروحة البحر الجبلية
بألوانها البيضاء والداكنة
أراها كل يوم
وأنا أقطع الشاطئ جيئة وذهابا
ترمقني بريبة العارف أنني أفكر فيها:
حين كانت مزهرة بالمنائر والسفن
وموئلا للطيور القادمة والبروق
بقيت هكذا
شاهدة على انقلاب العصور..
***
البيوت التي هجرتها
طفلا
تعود إليها كهلا
تصغي في ردهاتها
الى نحيب الآباء والأمهات.
البيوت هي نفسها
بصخب أطفالها
بالعناكب والعظايا
تتسل ق جدرانها الطينية.
بأزيز حشرات الصيف
و منقلب الأودية
بين مجرات فنيت
وبقي ضوؤها مترحلا
في السراب
البيوت هي نفسها
والسواحل والقباب.
. . . أنت الوحيد الغائب الأبدي.
***
صحيانك قبل الفجر
وما زالت الظلمة
نهرا متدفقا بالأشباح
الظلمة القادمة من الأزل.
يقظة الأرق نافذة للقيامة
الناس نيام
والمتاهة تزداد اتساعا في الرأس
تنهمر وجوه وذكريات
حيوانات تنزل بمظلات من الأفق
وسحرة يطيرون بكسل في سماء الغرفة.
الوجوه أكثر حدة وإلحاحا
تحيطك من كل الجهات
بإيماءاتها الثكلى
وهذيانها المتكسر
الوجوه المغبرة
كأنما قادمة من كهف.
تبحث عن مخرج في لجة هذا الأرق
كمن يبحث عن قشة
في محيط مضطرب.
***
يا لهذا الصباح المبارك
العصافير تغني على شرفتي
وتنقر الحب من كف الطفلة
التي لم ألدها بعد
امرأتي تصنع القهوة في المطبخ
الطقس يحمل أصداء الربيع
النائي, حيث الفلاحات
يقطفن الزهور في هولندا.
البحر ساكن , على صفحته
تحلم الشعوب بالعدالة والسلام
سيف الرحبي