فروغ فرخزاد (1935-1967) شاعرة وسينمائية وممثلة مسرحية إيرانية ولدت في طهران وتربّت في محيط أسرة مهتمة بالثقافة. تزوجت فروغ لكنّ زواجها لم يطل كثيراً إذ طلبت فروغ الطلاق بسبب رتابة الحياة التي أوقعت نفسها فيها، حيث كانت ترى أنّ عليها أن تعيش حرّة ولأجل الشعر فقط، وقد حُرمت بذلك من رؤية ابنها الوحيد كاميار. تعتبر أشعار فروغ حدثاً في الشعر النسائي الفارسي إذ تجاوزت كل الخطوط الحمر في المجتمع الإيراني ولاسيّما في ما يتعلق بأمور العاطفة والجنس. أطلقت العنان لمشاعرها الأنثوية الجامحة فجاءت أشعارها مفاجئة وصادمة، فلم تكن المرأة في ذلك الحين تجرؤ على الإفصاح عن مشاعرها الأنثوية وكان صوتها في الكتابة كصوت الرجل ومواضيعها كانت تتمركز حول شؤون متكلفة ومستهلكة. عاشت فروغ حياةً صعبة من المواجهة والحرمان والفقر، إذ استقلت بعد طلاقها عن منزل والدها وعاشت صراعاً نفسياً وعاطفياً مريراً وخاصةً في ما يتصل بعلاقتها مع القاص والسينمائي إبرهيم لستان. في العام 1962 نال فيلمها «البيت قاتم»، وهو فيلم تسجيلي عن دار للمجذومين في تبريز، جائزة أفضل فيلم في مهرجان أوبرهاوزن بألمانيا الغربية وقد سمى هذا المهرجان جائزته الكبيرة باسم فروغ فرخزاد في دورته التالية.
سافرت فروغ مراتٍ إلى أوروبا وأتقنت اللغة الألمانية. أنتجت منظمة الأونيسكو في العام 1965 فيلماً تسجيلياً عنها مدته نصف ساعة وفي العام نفسه أخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي فيلماً تسجيلياً عنها مدته ربع ساعة.
تدعو فروغ إلى رصد الصدق في أصفى أشكاله، وإلى إزالة الحدود بين الحياة والكتابة. ترى أنّ لا شيء يفصل بين شعرها وحياتها، وإن ضرورة الشعر في الحياة ليست مثل الطعام والشراب بل مثل التنفّس. تعتبر إلى جانب نيما يوشيج وأحمد شاملو وسهرابسپهري من أهم أعمدة الشعر الحديث في إيران، كما تعتبر أهم شاعرة على الإطلاق في تاريخ الشعر الإيراني.
توفيت فروغ عام 1967 في حادث سيارة لا يزال يلفّه الغموض حتى يومنا هذا. أعمالها الشعرية: «الأسيرة» (1952)، «الجدار» (1957)، «تمرد» (1959)، «ولادة أخرى» (1964)، و»لنؤمن ببداية فصل البرد» (نشر بعد وفاتها).
تلك الأيام
رحلت تلك الأيام
تلك الأيام الطيبة
تلك الأيام المعافاة المبهجة
تلك السماوات الموشاة بالبهرج،
تلك الأغصان الملأى بالكرز
تلك البيوت المتكئة على بعضها وسط عفة اللبلاب
تلك الأسطح بطائراتها الورقية المرحة
تلك الأزقة المنتشية بعبق الأكاسيا.
رحلت تلك الأيام
تلك الأيام التي كانت أغنياتي تفورُ فيها كفقاعاتٍ مترعة بالهواء
خلل أجفاني.
عيناي إذا ما وقعتا على شيء
كانتا تشربانه كالحليب الطازج.
بين بؤبؤي عينيّ
كأنَّ أرنب السعادة القلق كان يقبع
إذ كان يمضي للبحث مع الشمس العجوز كلّ صباح
نحو السهول المجهولة،
وفي الليل كان يغوصُ في غابات العتمة.
رحلت تلك الأيام
تلك الأيام الثلجية الصامتة
التي كنت على الدوام في الغرفة الدافئة
أتأمّلُ الخارجَ من وراء الزجاج.
ثلجي الطاهر كان يتساقط بهدوء مثل زغبٍ ناعمٍ
على السلّم الخشبيّ القديم،
على حبل الغسيل المرتخي
على شعر الصنوبرات الهرمة.
وكنتُ أفكّر بالغد،
آه
الغدُ حجمٌ أبيض أملسُ
كان يبدأ مع خشخشة عباءة الجدّة
وظهور ظلها المرتبك في إطار الباب
والذي كان يتدفق فجأة في الإحساس البارد للنور،
ومع شكل التحليق الحائر للحمامات عبر زجاج النافذة الملوّن.
الغد…
دفءُ الكرسيّ * كان يجلبُ النعاس
وأنا بجرأةٍ وعلى عجلٍ
وبعيداً عن عين أمّي
كنتُ أمحي الكتابات الخاطئة من دفتر واجباتي القديم.
عندما كان الثلج ينامُ
كنتُ أتجوّل بكآبةٍ في الحديقة
وأدفنُ عصافيري الميتة
قرب أصص أزهار الليلك اليابسة.
رحلت تلك الأيام
أيام النشوة والحيرة
أيام النوم واليقظة.
في تلك الأيام كلّ ظلّ كان له سرٌّ،
كلّ علبةٍ مختومة كانت تخفي كنزاً،
كلّ ركنٍ من حجرة الصندوق في صمت الظهيرة
كان يبدو و كأنّه عالَم،
وكلّ من لم يكن يخافُ العتمة
كان في نظري بطلاً.
رحلت تلك الأيام
– أيّام العيد
وانتظار الشمس والأزهار.
– رعشات العطر وسط الجمع الصامت والخجول لأزهار النرجس البريّ
التي كانت تزور المدينة في أواخر صباحات الشتاء.
– أغاني الباعة الجوّالين في الشارع الطويل المبقّع بالأخضر.
كان السوقُ يسبحُ في الروائح الحائرة،
في الرائحة الحادّة للقهوة والسمك،
كان السوق ينبسط تحت الأقدام،
كان يتمدّد ويمتزج مع كلّ لحظات الطريق
ثمّ يستدير في قعر عيون الدمى.
كان السوقُ أمّاً تهرع نحو أحجامٍ ملوّنة سيّالةٍ
وتعود بعلب الهدايا
وبسلالٍ مليئة.
كان السوق مطراً ينهمر..وينهمر..
وينهمر..
رحلت تلك الأيام
أيّام الذهول أمام أسرار الجسد،
أيام التعارف الحذرة التي كانت بجَمال شرايينَ زرقاء.
يدٌ تحملُ وردةً
كانت تنادي من وراء الحائط يداً أخرى،
وعلى هذه اليد المرتبكة، المضطربة، الخائفة
لطخات الحبر الصغيرة،
كان الحبُّ يعرّفُ عن نفسه بتحيّة خجولة
في الظهيرات الحارّة الملوثة بالدخان..
كنّا ننادي حبّنا في غبار الحيّ،
كنّا نعرف لغة أزهار الهندباء البسيطة،
كنّا نأخذ قلوبنا إلى بستان المحبّة البريئة
ونعيرها للأشجار..
والكرةُ كانت تدور بين أيدينا محمّلةً برسائل القبلات،
وكان الحبُّ،
ذلك الإحساسَ المرتبك
الذي كان يحاصرنا فجأةً في عتمة الرّدهة ويجذبنا
وسط الأنفاس اللاهبة والنبضات والابتسامات السريّة..
رحلت تلك الأيام،
ومثلما تذبلُ نباتاتٌ و تَبلى في أشعة الشمس
ذبلت تلك الأيام
وضاعت تلك الأزقة المنتشية بضوع الأكاسيا
في ازدحام الشوارع الصاخبة التي لا عودة منها،
والفتاة التي كانت تلوّن خدّيها ببتلات إبرة الرّاعي،
آه
هي الآن امرأةٌ وحيدة
هي الآن امرأةٌ وحيدة.
*الكرسي: وسيلة تدفئة تقليدية في إيران.
صوتٌ في الليل
منتصف الليل
في قلب الرّدهة الصامتة
تردّد وقع خطوات..
مثل قلوب أزهار الربيع
امتلأ قلبي بندى اليقين المرتعش.
قلتُ لنفسي إنه هو،لقد عاد.
قفزت من الفراش وألقيت بلهفة نظرةً على نفسي
في المرآة الحائرة.
آهٍ،
ارتجفت شفتاي من الحبّ،
تكدَّر وجه المرآة من الآهة،
لعلّها كانت ترى طيفاً أمامها.
شعري مبعثرٌ وشفاهي جافة
كتفاي عاريتان في قميص النوم،
ولكن في عتمة الردهة الصامتة
كان العابر يسرع كلّ لحظة،
وفجأةً انحبست أنفاسي في صدري.
كأنّ روحُ النسيم شاهد من خلال النوافذ
حزني ووحدتي،
فسكبَ على خصلات شعري المبعثرة
عطر الأكاسيا اللاهب.
جزعةً هرعتُ نحو الباب،
وقع الخطوات في صدري
يشبه صدى الناي في أعماق السَّهل.
لكنَّ وقع الخطواتِ
في عتمة الردهة الصامتة
انحسر ومضى.
الرّيح
أطلقت غناءً حزيناً.
قصيدة السفر
كلّ ليلة
كان أحدٌ ما يُتحدّثُ إليّ خفيةً ويقول:
«أنتِ مرتبكةٌ جدّاً من رؤيته
في الصباح الباكر مع النجوم البيضاء
سيرحل، لا تدعيه».
رائحتكَ تجعلني أنسى العالم
و أتجاهل مكائد الأيام..
عيناك كانتا تنسكبان كغبار الذهب
فوق رموشي الرقيقة.
جسدي ملتهب من لمسات يديك
وخصلات شعري حرّةٌ في تنفّسك..
كنتُ أتفتّحُ من الحبِّ كزهرة وأقول:
«من وقع في الحبّ
لا يؤذي محبوبه،
ليذهب، فعيناي ستكونان في إثره
ليذهب، فحبّي سيحرسه».
آه، أنت لست هنا الآن،
الغروب يفرشُ الظلَّ على صدر الطريق
وإله الحزن القاتم
يدخل بهدوءٍ معبدَ عيني
ويكتبُ على كلّ جدار
آياتٍ كلّها سوداء ..سوداء..
ترجمها عن الفارسية: ماهر جمّو\
\ مترجم من سورية