الشعر العراقي وخارطته المترامية الاطراف هو منجم كبير لرفد الشعرية العربية بالعديد من الشعراء ، ولعل أغلب الثورات الشعرية في التجديد والتطور اللغوي كان العراقيون من يفجرها في محاولة لتغيير الذائقة عند المتلقي وبروز مدارس شعرية من شأنها عكس التطورات الإيجابية على مستوى الشعر داخل الوطن العربي ككل . العراق بلد الشعر ومهده الاول حين كُتبت فيه أول قصيدة في التاريخ عبر ملحمة جلجامش ملك اور، ثم توالت عصور وحقب كثيرة تطور فيها الشعر وتطور أسلوبه حتى وقت قريب لتنقلب الذائقة الشعرية من خلال ثورة الشعر العربي الحديث وتؤسس لمبادئ جديدة وكتابة مغايرة وأسلوب مختلف بعيدا عن القصيدة الكلاسيكية التي ختم الجواهري الكبير كتابتها قبل سنوات.
هذه المقدمة البسيطة ندخل من خلالها الى عوالم شاعر عراقي أخلص للشعر أيما اخلاص طوال مسيرته الشعرية التي تخللتها الكثير من المآسي والآلام والنضال والهروب والخوف والقمع والهجرة وكتابة الشعر. انه الشاعر عواد ناصر الذي غادر العراق في أواخر سبعينات القرن الماضي بعد سلسلة طويلة عريضة من القمع الذي تعرض له على يد السلطات الحاكمة آنذاك، لمجرد انه كان يحلم احلاما تجعل من الانسان ان يعيش بسلام، احلاما مشروعة وبسيطة لشاعر همه الاوحد الارتقاء بالجمال والحب والاخلاص، لكن الظروف السياسية وتقلباتها كانت تسير عكس الاتجاه حتى أضطر الشاعر لمغادرة وطنه مرغما ! اقام في سوريا وبيروت لسنوات وعمل في الصحافة الثقافية وكتب الكثير من القصائد الجميلة التي أهلته لان يكون اسما لامعا في سماء الشعر العربي وليس العراقي حسب.
عواد ناصر لا يخاف احدا، لكن أكثر ما يخيفه هو كتابة الشعر ونشره، وهو المتمكن من أدواته الشعرية واللغوية، لكنه يعتقد أن الشعر مسؤولية كبيرة وخطيرة جدا ! وهو كذلك، فالشعر مسؤولية مهمة تقع على عاتق الشاعر في انصاف الفقراء والمظلومين في الارض واظهار الجانب الجمالي المشع للانسان بعيدا عن الحقد والقبح في هذه الارض، الشعر كائن خفيّ لا يفهمه ولا يعرف معناه سوى الشاعر وحده، الشعر علو وسمو على كل الاشياء دون مسميات، وعادة ما يكون الشاعر هو المنتصر دائما رغم ما يتعرض له من اذى وموت فلم يبق سوى صوت الشاعر وشعره. عواد ناصر شاعر عرف الحياة وخبرها بقساوتها ومراراتها وصعوباتها ومآسيها وآلامها ولوعاتها ودمارها وغربته الطويلة عن الوطن الأم إلا انه ظل يحمل في قلبه الحب والاخلاص لوطنه ولاهله وناسه ولتلك الارض التي انجبته.
ان الاخلاص للشعر هو في الواقع من سمات الشاعر الحقيقي، الشاعر الذي اختار الطريق الصعب المملوء بالاشواك والطرق الموحلة، لكن في قرارة نفسه هو من يمتلك مفاتيح السعادة لوحده، كان من الممكن ان يكون عواد ناصر مهندسا او معلما اوعاملا أو اية مهنة أخرى ويحيا حياته كسائر البشر إلا ان القدر اختار له طريق الشعر وما أصعبه ! في هذا الحوار المطول نسبيا يبوح ناصر باشياء كثيرة عن الشعر واجياله ومدارسه القديمة والحديثة وتطوراته المستمرة، كذلك يتحدث عن الخطاب النقدي العربي الذي يشوبه التراجع المستمر في ظل المحاباة في نقد النصوص الادبية، اما الوطن وآلامه فقد تحدث عنهما بكل صراحة لا ينقصها الحب ولا تنقصها الطروحات والمعالجات للازمات المتلاحقة التي يرزح تحتها الوطن العراق منذ عقود وما زال، تحدث عن المشهد الثقافي العربي برمته سواء بنجاحاته او انتكاساته. وعن الحداثة ومتطلبات العصر الحديث التي تؤسس لأوطان جديدة وحياة أخرى بعيدا عن الدكتاتوريين والانظمة الشمولية.
ولد الشاعر عواد ناصر في محافظة ميسان جنوب العراق عام 1950، وفي السنة الثالثة من عمره انتقل مع أبويه الى العاصمة بغداد ليواصل دراسته ويتخرج من معهد إعداد المعلمين، وفي بداية العقد السبعيني نشر قصائده الاولى في الصحافة الثقافية في بغداد وعمل في بيروت ودمشق، كاتباً ومحرراً، ثم في العديد من الصفحات الثقافية في كبريات الصحف العربية التي تصدر في لندن وما زال حيث يقيم منذ عام 1992 داخل العاصمة البريطانية. وعن تجربتة الشعرية والمحور الادبي العربي والعراقي وكذلك المنفى الذي قضى فيه نصف عمره كان معه هذا الحوار…
* من خلال قراءة التاريخ يصح القول أن تطورات الأمم تعكس تطوراتها الفكرية والفنية وترقى بذائقتها في الفنون والآداب الى مستويات غاية في الجمال والرقة، وخلال التطور الانساني عبر حضارات اليونان وبلاد الرافدين ومصر والصين وحضارة أوروبا الحديثة، كانت المعادلة صحيحة والسؤال هنا : هل الامة العربية الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين في نهوض شامل أم تراجع شامل، وإذا كانت الحالة سلبية فكيف تفسرون الدعوات المستمرة للحداثة والتجريب في قصيدة النثر والرواية أو ما وراء الرواية ؟
– السؤال صعب ومركب ومعقد.. أشكرك.. التعقيد ينشأ من خلال الانقطاعات الحضارية للشعوب التي ذكرتها. مصر، مثلاً، لا علاقة لها اليوم، بالحضارة الفرعونية، وكذلك اليونان وبلاد الرافدين، وسواها، فإذا سألت مصرياً، اليوم، عن أجداده الفراعنة لن يعرف إيزيس، أو كليوبوترا (ربما سيعرفها من أغنية محمد عبدالوهاب فقط) وإذا سألت عراقياً من الأهوار عن أجداده السومريين سيضحك منك. بالمقابل: سار التطور العلمي والفني في أوروبا بلا انقطاعات منذ عصر النهضة وصولاً إلى فصل الدين عن الدولة مروراً بالمنجزات الكبرى للعلم والتكنولوجيا لدى شعوب راكمت منتوجاتها العلمية والفنية والأدبية، في سياق معرفي يقوم على سؤال الفلسفة أولاً، ثم على أسئلة جوهرية بشأن الوجود والكون والحياة.وجوهر ذلك كله هو الحرية، وما تنتظمه من حقوق مكفولة بما فيها حق البحث والكلام والحلم، وهي حقوق غائبة في عالمنا العربي. أمتنا العربية، برأيي، لم تشتغل على منجزها الأساس لتنتقل به إلى مفاهيم معاصرة على وفق سياقات الحاضر باتجاه المستقبل. ولأنني شاعر ولست باحثاً أو ناقداً، فالمدخل إلى العصر (الجاهلي)، مثلاُ، يكشف لنا أن الحضارة الجاهلية كانت أكثر انفتاحاً على إعمال العقل والخيال.
إن المعلقات السبع أو التسع، أو مهما كان عددها، أعمال فنية عظيمة اكتنزت تجربة عصرها روحياً وعقلياً وخيالياً (باستثناء معلقة عمرو بن كلثوم) وفي سياقها أمية بن أبي الصلت الذي سبق النبي بادعاء النبوة لا بسبب ديني او تجاري أو آيديولوجي، بل بسبب ما كان يتعاطاه خيالياَ مع الأشباح والملائكة وسكنة الكهوف.
بعد كل هذا الموجز أعود لأقول: إن أمتنا، اليوم، في تراجع مريع، بل ليس ثمة نقطة ما في تراجعها لتتراجع نحوها، ولا آتي بجديد، إنما أقترح عليك أن ترى مجهودات العلم وثورة المعلومات والتقدم الطبي والعمراني والفني والأدبي في العالم (حتى في الشرق طبعاً) لتبلغ نقطة الصفر التي عليها عالمنا العربي، العالم الاستهلاكي، الطفيلي، السكوني، الثابت، بينما العالم متحول .ليست، ثمة دعوات للحداثة والتجريب في قصيدة النثر والرواية وما وراءها. من دعا إلى هذا ؟ الأمر باختصار لا يعدو تأثراً بترجمات مبتسرة وتنطعاً نقدياً وانقياداً خارجياً خلف الموضة الأدبية. من قرأ من شعراء قصيدة النثر الشبان في أصولها التأسيسية: لوتريامون ورامبو وبودلير (مثلاً). إنها تنويع على تنويع، مع الأسف، بعد رواج مجلة (شعر) اللبنانية التي كان أفضل شعرائها محمد الماغوط. وهنا أود أن أطرح أنا السؤال: هل لك أن تذكرني بشاعر عربي مهم، مؤثر وليس نجماً متداولاً، غير صلاح عبدالصبور وبعده، بسنوات، محمود درويش الذي قال: «كن عراقياً لتصبح شاعراً».. أعني أن الحداثة الشعرية العربية بدأت عراقية ولكنها لم تنته كذلك. لماذا؟ لأن الإبداع والتجديد يحتاجان مكاناً وزماناً إبداعيين، حيث الفن لا ينطلق من العتمة أنما من الضوء، ونحن نعيش في بحر الظلمات، مع الأسف.
* هل تعني أن الحداثة حاجة ملحة ووجه آخر من وجوه متغيرات الأمة؟ أم هي ترف فكري شكلي لا علاقة له بما يحدث في النسيج العربي من تمزقات هائلة على مستوى حريات الانسان وأنظمة الحكم الدكتاتورية الشاملة وضياع المواهب وأندثارها؟
– سؤالك يتضمن شيء من الإجابة. الحداثة ليست حاجة ملحة. إنها واقع ماثل على صعيد العالم. لكن الأمة (حسب تعبيرك) خارج الحداثة. الحداثة كما أفهمها هي انتقال الحياة من حال قديمة، ساكنة، إلى حال حديثة، متفاعلة، متطورة.. يعني الانتماء إلى العصر بكل مكوناته العلمية والفنية والاجتماعية، بل حتى على صعيد العلاقات العاطفية بين البشر.. الأزياء أيضا تغيرت حداثوياً. الحداثة، كما فهمت من سؤالك، لا تتعلق بالفن والشعر، حسب، إنما هي نتاج تراكم كمي يؤدي إلى تغير نوعي على مستويات متعددة تشكل حياة أمة من الأمم، ولا أرى أن أمتنا سوى مستهلكة لمنجزات الحداثة وليست مساهمة بأدنى المقاييس في هذه الحداثة. أمتنا خارج الحداثة إلا في مستوى الاستهلاك = من يملك المال حداثوي ومن لا يملكه يقيم في الفقر والجوع والانقطاع عن المعرفة. مرة أخرى أكرر: الأمة العربية طفيلي حداثوي: يستهلك منتجات الحداثة ولا ينتجها على مستوى صناعة إبرة خياطة..
* الاغتراب الذي يتمثل في المنفى، كان قاب قوسين أو ادنى منك نهاية السبعينات، غادرت العراق نتيجة للعصف السياسي والانكسار الثقافي والاجتماعي ولانك كنت معترضا على ما يدور داخل العراق آنذاك وخاصة سلوك السلطة، قررت اللحاق بعربة الاغتراب او المنفى، ما هي العلاقة بين الاغتراب والمنجز الادبي، وهل كان الاغتراب مفهوما تجريبيا او عرفانيا أو كخط فلسفي، وهل تحول الاغتراب او ما يماثله من منفى الى سلم مهترئ بعد التحول الدراماتيكي في العراق عام 2003 ؟
– هناك فرق بين الاغتراب والمنفى، فلسفياً ومكانياً، الاغتراب يتنوع حتى سيكولوجياً (اغتراب العامل عن الآلة – كارل ماركس) اغتراب الانسان في وطنه عندما يفترق الفكر والوطن، وقد تساهم الأحلام المفرطة في الانشقاق عن المكان. المنفى موقف قد يبدو اختياريا، بينما هو اضطراري.
كتبت مرة: الوطن ستر والمنفى فضيحة.
المنفى، في معنى من المعاني، حرية اصطناعية. لأن المكان لا يحرر الإنسان قدر ما تحرره أفكاره وإدراكه لضرورات وجوده.. حريته الداخلية.
كانت الهجمة الفاشية على اليسار والديمقراطيين والمستقلين على غاية الشراسة، فقررت، مثل مئات الشخصيات الثقافية والفنية والسياسية، مغادرة العراق والالتحاق بالثورة الفلسطينية عام 1979 ببيروت، ابان الحرب الأهلية اللبنانية. كانت تجربة فريدة للحرية، إذ كان هناك منفيون عرب من كل البلدان العربية تقريباً.
واصلت عملي في الصحافة الفلسطينية ونشرت الكثير من نصوصي في الصحافة اللبنانية ووجد المكان الجديد أثره الواضح على تهذيب عراقيتي الخشنة ولغتي الشعرية حتى، وطبعت هناك أول مجموعة شعرية بعنوان (من أجل الفرح أعلن كآبتي) التي لم توزع بشكل طبيعي بسبب التباسات النشر وسوء التوزيع حيث توترات الحرب الأهلية واضطراب الحياة العامة هناك.
أتاح لي منفاي، عموماً، مجاراة فضاءات ثقافية واجتماعية متنوعة وجديدة، واكتشفت مكتبات لبنانية ممتازة حصلت منها على خيرة الأعمال الأدبية، العربية والمترجمة إلى العربية، وكانت صالات السينما اللبنانية تعرض أحدث الأشرطة السينمائية، مما أغنى ثقافتي وأمدني بجدوى التنوع الثقافي واختلاف مصادر الفن.
لنقفز قليلاً – سيرة طويلة ومعقدة – لنصل إلى لندن، عاصمة منفاي الأخيرة، ومنها تجحفلت جيوش صاحبة الجلالة لتحتل بغداد.
كنت أتابع الحرب، دقيقة بدقيقة، حتى ملت مني زوجتي وابنتاي.. وبما إنني لا أملك أي وسيلة لوقف الحرب أو تغيير مسارها، كان سقوط نظام صدام حسين الوجه الآخر للحرب بعد أن عجز الجميع، داخل العراق وخارجه عن إحداث التغيير المطلوب.
لم أتوقع أن مثل هذا التغيير سيكون في صالحي، وصالح من يشبهونني، لأن من يقف وراء الحرب لا يلقم أسلحته بحمامات السلام التي ستطير في سماء بغدادية زرقاء.. وهكذا انا، هذه المرة أيضاً خارج حساب العائدين إلى السلطة الجديدة ومستشاري الأمريكان من العراقيين، وهذا أمر طبيعي، عندما بقي سلم المنفى قائما، ولم يهترئ، كما قلت أنت، لأن ستراتيج المثقف المستقل لا يتغير بتكتيكات السياسي.
وما جرى ويجري في العراق بعد الاحتلال حول مقولتي السابقة لتصبح: المنفى ستر والوطن فضيحة.
* كيف تنظر الى الحركة الشعرية في العراق والعالم العربي بوصفها حركة ادبية وفنية متنوعة في الاشكال والمضامين والحركات الايقاعية والموسيقية والوزنية، من خلال متابعتك للمشهد، خاصة كنت تشرف على صفحات ثقافية يومية لصحف عربية مهمة حيث تقيم في لندن؟
– الحركة الثقافية في كل بلد هي سوق. لكن ثمة باعة يغشون مشتريهم وآخرون يصدقونهم فلا يقدمون لهم بضاعة مغشوشة.
ولأن الثقافة سوق فالذهب نادر وغال في كل زمان ومكان.
أمران عبثا بالحركة الثقافية هما السياسة والجهل.
ما زال كثيرون لا يفرقون بين شخصية الشاعر ومواقفه الآيديولوجية ونصه، بينما حسمها أحد أجدادنا القدماء منذ مئات السنين وهو عبد القادر الجرجاني بقوله: الإيمان لا يرفع قصيدة والكفر لا يخفض القصيدة.
الحركة الثقافية عموماً، والشعر منها، لم تتحرر من سطوة السياسة التي تتلبسها عبر أكثر من طريق: الارتباط بالنظام السياسي الحاكم طلباً للحماية أو الوجاهة أو الغنيمة، أو من طريق الآيديولوجيا التي يركبها بعض الشعراء، لا كلهم، معتقدين بأن القضية النبيلة كافية لجعل النص إبداعياً، في حين هناك أعمال خالدة، عبر العالم، كتبها قساوسة أو يمينيون (الساعة الخامسة والعشرون) رواية الروماني كوستنتان جورجيو وأعمال الأمريكي البريطاني ت. س. إليوت، (مثلاً).
عدم الاستقرار السياسي يولد اللااستقرار على جميع الجبهات. الانقلابات العسكرية والحروب والقمع في العراق، مثلاً آخر، ضربت الحراك الثقافي والإبداعي في القلب، لنرى إلى تلك الانقطاعات الخطيرة والانبتارات المؤلمة في جميع مشاريعنا الإبداعية التي لم تكتمل، لأنها لم تنمُ نمواً طبيعياً في أجواء سياسية اقتصادية أخلاقية طبيعية.
من خلال متابعتي للشعر العربي، والعراقي منه، لا أستطيع أن أقول فيه رأياً متوازناً لأنه مشهد غير متوازن، بل إنه متذبذب حتى في تجربة الشاعر الواحد.
لكن ثمة تجارب رائعة لشعراء نادرين.. ندرة الذهب لأننا في سوق تعرض الأصيل والمغشوش.
الجهل مرض يفتك بثقافتنا ليحولها إلى تنويعات على أصول مهمة، حتى أن بعض الكتاب والشعراء يكتبون أكثر مما يقرأون!
كثيراً ما سألت نفسي: لماذا تكتب، أو تنشر كتابك، لجمهور يعاني أغلبه الأمية؟
وفي البلدان العربية فقط يدفع الشاعر مالاً ليطبع مجوعته الشعرية!
في الغرب قد يحول كتاب واحد كاتبه من متسول إلى مليونير.
طبعاً، ثمة شعراء لا يزيدون على أصابع اليد نجحوا في الانتشار وحققوا جماهيرية عظيمة، لكن هذا يقع في باب (لكل قاعدة شواذ).
يفوق عدد الشعراء العرب عدد نقادهم بنسبة مهولة… من يقيّم إذن، ومن يميّز لنا الذهب من التراب؟
الكلام متشعب، ويدعوا للألم عندما نأتي على ذكر دور الصفحات الثقافية والمنافع المتبادلة بين الإعلام والفن، ولعبة الإخوانيات والارتياحات الشخصية والانقسامات السياسية والطائفية (اليوم).
* من خلال جوابك السابق حول المشهد الشعري العراقي والعربي يبدو لي انك منزعج من حركة النقد الادبي داخل الوطن العربي والتي هي في تراجع مستمر ولم تستطع السيطرة على المشهد الادبي ومواكبة تطوراته ! ترى أين يكمن الخلل في هذا التراجع النقدي الذي هو المكمل والموجه للنص الادبي ذات القيمة الابداعية العالية؟
– الكل يريدون أن يصبحوا شعراء!! ولا أدري لماذا؟ لكن إشارتي العابرة حول النقاد لا تعني أنني منزعج أبداً، إنها توصيف لظاهرة حقيقية.. لأن الشعر (كما يعتقد الكثيرون) أسهل من النقد! وأنا أرى أن الناقد يحتاج معرفة كبيرة وقراءة واسعة وأن يتوفر إلى أدوات نقدية ملزمة، عدا الذائقة الشخصية والإحساس بجمالية الكلمة والقدرة على التأويل والغور تحت سطح النص، وهذه عناصر ضرورية لأي ناقد، وبتعبير آخر: كلاهما صعب في ميدان اشتغاله، لكن اتساع ظاهرة كتابة الشعر لا ينم بالضرورة عن اتساع فسحة الجمال.
تراجع النقد جزء أساس من تراجع منظومة القيم الثقافية/ المعرفية في المجتمع. المجتمعات المتخلفة لا تسمح بظهور نقاد مهمين. الحركة النقدية وليدة حراك معرفي واجتماعي سليم يقوم على حرية التعبير والتخلص من العقد المرضية والتقدم الصناعي والاقتصادي، أي أن النقد، مثله مثل أي إبداع آخر، يحتاج إلى أرض خصبة وهواء نقي وحياة اجتماعية تتيح له التنفس الطبيعي ككائن حي والاسترخاء الكافي للتأمل للقراءة والكتابة والإنتاج. كيف يولد الإبداع في بلد مكمم الأفواه لعقود طويلة ومحكوم بالحروب والقمع ومصادرة الحريات والأمية والفقر والجوع والمرض، كما هو حال شعوبنا العربية.
* الشعرُ طاقة وعناصر تلك الطاقة قد دارت حول مدارات متباينة ومتناسبة ومتوازية ومتوازنة بل جرت معها نبوءات وايحاءات مكنت موضوعة الجذب بالنسبة الى التجربة الشعرية من أن تكون تجريبية في الشعر، حيث التجريب منفذ ذاتي لفن الشعر. هل بُنيت هذه الموضوعة في تجربتك الشعرية خاصة منذ مطلع السبعينيات، حيث قصيدة النثر والشعر الحر والتفعيلة ذات الوقت ؟
– الشاعر الجيد كائن تجريبي على مدار الساعة. إذا اتفقنا على أن الشاعر يواصل كتابة الشعر ليكتب قصيدة مختلفة عما سبقتها، فإنه يفجر طاقة التجريب لديه وصولاً إلى نص مختلف. من ناحيتي لم أدخل حلبة سباق مع آخرين، إنما كنت أواصل تحدياً ذاتياً لأكون أحسن مني، حسب، حيال الوقوف عند كل قصيدة جديدة، لأن كل قصيدة جديدة هي تجربة جديدة من حيث البنية والفكرة والأداء اللغوي.
لابد أن تدخل في تجربتي مكونات خارجية، منذ أمرئ القيس حتى يومنا هذا، ومنذ بداياتي في أوائل سبعينات القرن الماضي، تمثلت جميع عصور الشعر العربي وتوقفت عند نماذج تجديدية فيه، حسب رؤيتي النقدية الشخصية، وقرأت أغلب تجارب الشعر وأشكاله في قصيدة التفعيلة والنثر (والمشترك فيها بين النثر والشعر) ولم أفضل شكلاً شعرياً على آخر إلا بما يمدني بحساسية شعرية تنفذ إلى وعيي ولاوعيي، في الوقت نفسه، لتكون ضمن ذخري الخفي، في مكان ما من أرشيفي الروحي.
طاقة قصيدتي تستمد حركتها وفعلها من جميع التجارب الشعرية التي تسنى لي الإطلاع عليها، ولا أتردد في القول: إنني ابن الشعر الإنساني كله، من جميع الأجيال والمدارس والتجارب، بمن في ذلك أبناء جيلي نفسه والأجيال التي تلت أيضاَ.
* قرأت كتابك المختارات الشعرية والذي صدر عام 2011 تحت عنوان (أحاديث المارة) وفي مقدمته كتبت تقول: ( لم تخف شيئا في حياتك إلا اثنين، كتابة الشعر ونشره) حيث انتظرت لأكثر من عقدين ونيف من الزمان ولم تطبع كتابا حتى جاء (احاديث المارة) الذي أستمتعت شخصيا في قراءته حيث طقوس الشعراء والنساء والامكنة والحنين الى الماضي وبلغة شعرية رائعة وانت تنتقل في القصيدة وتنوع في التفعيلة والنثر بحرفة عالية، هل ان الشاعر فيك الذي عاش الخوف والحياة القاسية منذ طفولته ظل على خوفه حتى في طباعة شعره؟
– أنا سعيد لأن مختاراتي أعجبتك. الأمر لا يتعلق بمخاوف الطفولة، رغم أنها قد تكون سجية لأننا أبناء ثقافة الخوف. خوفي هنا نقدي. كتابة الشعر أمر على غاية الصعوبة، بل القسوة، وجدّنا الفرزدق قال قبلي: (كتابة بيت واحد من الشعر أشق عليّ من قلع الضرس) وتعرف ما يعني قلع الضرس في تلك الفترة، أي بلا مخدر.
عندما تحدثنا عن التباس النقد والنص، قبل قليل، واضطراب المشهد النقدي، سيضطرب لدي شعوري إزاء ما أكتب. أنا شاعر لا يثق بنصه. عندما يثق الشاعر بنصه سيكف عن القلق وإذا كف عن القلق توقف. القلق هو الحاضنة الضرورية للشعر. من هنا ينبثق خوفي.
خوفي يطلق سؤالي الشخصي لنفسي: ما الذي ستقوله للعالم؟ ما جديدك بعد أن لم يترك الأولون للآخرين شيئاً؟ من يقرؤك في عالم عربي لا يقرأ؟ شاعر من الدرجة الثانية، نظّام، لا أكثر مثل نزار قباني يقرأه الملايين. شاعر حليف الأنظمة. صديق أحمد حسن البكر وجماعته. خوفي نشأ من حرصي على صيانة نفسي مما يدنس نفسي. هو خوف على مصير الكتاب الذي أمضيت أكثر من عقدين في كتابته. وأنا شاعر غشيم في تسويق نفسي وليست لي علاقات وثيقة بوسائل الإعلام، ولا علاقات شخصية بالنقاد والشعراء المتداولين على الساحة. أصدقائي، على الأقل، يعرفون مدى مشاكستي وسخريتي. يعرفون راديكالية قصيدتي. أنا سعيد بهم طبعاً ، وهذا يكفيني، لكن نشر قصيدة، أو ديوان، أو مختارات شعرية يعني أن تقف عارياً أما الجميع وهي حالة، لا بد تدعو إلى الخوف.. إنه خوف ذو طابعٍ نقدي يا صديقي.
* إذاً، الخوف من النقد الذي جعلك تخاف الكتابة والنشر! لكن بالمقابل انت شاعر من الدرجة الاولى، تجربتك الشعرية تجربة رصينة وكبيرة حسب المعطيات التي امامي، خاصة حين يتحدث شاعر كبير عنك مثل سعدي يوسف او مثل جواد الحطاب وآخرين، وانا اؤمن بنظرة الشاعر اكثر من الناقد، ومرة سمعت البياتي الذي كان يقول ان نزار قباني شاعر بسيط بلغته يناجي المراهقات! اعتقد ان لغتك الشعرية تتفوق بكثير على لغة نزاربالرغم من شهرته الواسعة، السؤال هنا ألا تعتقد ان سبب الشهرة وبخاصة لجيل الرواد التي اكتسبوها وهم بأعمار شابة، نتيجة لانتماءاتهم السياسية في ذلك الوقت؟ ام كانوا يستحقونها فعلا؟
– كلا، ليس خوفاً من النقد، بل الخوف من نفسي، أنا الناقد الأول لنصي. أشعر أثناء كتابة القصيدة كأنني أسير على حبل مشدود وتحتي حقل من الألغام. تفزعني عشرات الأسئلة وأنا أكتب قصيدتي : هل هو شعر، حقاً ؟ هل ما أثبته على الورقة هو الشعر أم ما محوته؟ ما جديدك في هذا العنوان.. في هذا المستهل.. في هذه الصورة.. في هذا الهذيان؟
لا أتفق مع رأي البياتي بنزار قباني لأنه عداوة شعراء، لأن نزار شق طريقاً في أرض الشعر لم يسبقه إليها شاعر، لكنه صار نظاماً يكرر نفسه، وتحولت مغامرته الشعرية الأولى إلى موضوعات وأساليب مكررة. شخصياً أحببت نزار في مراهقتي مثل أي مراهق عربي آخر، لكنني غيرت رأيي فيما بعد، خصوصاً بعد أن اطلعت على تجارب شعر العالم.
أشكرك لأنك تعدّني بأنني شاعر من الدرجة الأولى، وشكرا لك ثانية لأنك وجدت في «لغتي تتفوق بكثير على لغة نزار» رغم أنني لا أحب مقارنتي بأي شاعر آخر.. لكل شاعر مراجعه وتجربته ولغته ورؤيته.
فهمت مما قصدته أنت بـ «شعر الرواد» بأنهم رواد ما يسمى بالشعر الحر، لأنني أعتبر امرئ القيس شاعراً رائداً للشعر العربي كله، وكذلك الجواهري.
أما رواد الشعر الحر فقد نقلوا شعرنا من مستوى إلى آخر، لكن لكل منهم إسهاماته المختلفة.. السياب مشروع ريادي لم يكتمل بسبب انقلاباته السياسية ومن ثم رحيله المبكر، والبياتي شاعر مهم في بعض قصائده، لا كلها، وإذا راجعت تجربة الشعر العربي المعاصرة، ما بعد البياتي، لن تجد من استلهمه وسار على خطاه، أما الشهرة فأسبابها كثيرة، وهي قضية مثيرة للجدل والدجل معاً. لكن الأحزاب والسياسة قد يسهمان في ترويج شاعر ولكن لفترة محددة، لكنها لا تصنع شاعراً. البيئة الثقافية والسياسية، في مرحلة ما، أو ما نسميه بـ (الظروف الموضوعية) تساعد أيضاً لكن عندما تلتقي تلك الظروف مع الشرط الذاتي للشاعر.
* في ( أحاديث المارة ) مختاراتك الشعرية تحتشد بوجوه الغربة والمكان، شعراء، أصدقاء، نساء،وأحيانا ترسم لوحة فنية داخل القصيدة وأنت تتحدث عن الآخر،لاحظت ذلك في قصيدتك عن سعدي يوسف او حسب الشيخ جعفر وفي قصائد أخرى تتحدث عن الاعتكاف على الغربة ومن جهة ثانية تأنس للوحشة، وكأنك تتأمل تفاصيل الحياة اليومية وتتعامل معها بدقة، كيف تحدثنا عن «أحاديث المارة» تلك المختارات وهي آخر ما أصدرت؟
– قررت نشر قصائدي على شكل مختارات، منها ما هو منشور وبعضها غير منشور في كتاب في محاولة مني لتوثيق نفسي شعرياً. بعد تردد دام لأكثر من عشرين عاماً أفلحت اخيراً في نشر تلك المختارات (أحاديث المارة) والعنوان متجزأ للصوفي العرفاني محيي الدين بن عربي عندما قال معرفاً الشعر: «الشعر تكثيف لأحاديث المارة» وهو تعريف صاحبني سنينا طوالاً لأنه يتلاءم مع فهمي الخاص للقصيدة اليومية.. أو قصيدة الحياة اليومية.
ولأنني في المنفى منذ خمسة وثلاثين عاماً فلا بد من أن تكون الغربة، المكان، الشعراء، الأصدقاء، النساء، ثيمات أوراقي الشعرية، وكل مفردة من تلك المفردات تحتاج حديثاً منفصلاً نظرا لالتباساتها وقسوتها ودلالاتها لدي.
لا أعرف كيف أتحدث عن (أحاديث المارة) الأمر أتركه للقارئ.
لا سبب للقصيدة ولا مبرر. إنها تنبثق من اللامكان مثل شرارة البرق التي لا نتوقع مكانها وزمانها، حتى تفاصيل الحياة اليومية لا يمكن رصدها كما في كتابة اليوميات أو عدسة السينما. ثمة في الحياة اليومية «أحداث» تكاد لا ترى بالعين المجردة، ولا العين العادية، ثمة مشهد يومي سرعان ما يتحول إلى هلام أو مثل تلك الغيوم البيضاء التي تتخذ أشكالا نرسمها نحن ثم سرعان ما تتبدد، لكن الشاعر، الشاعر وحده، هو من يلم شتات الصورة قبل أن تتبدد ليضعها على الورقة.
أو هو من «يمسك بتلابيبها» قبل أن تهرب. لكن ثمة الكثير من ما يفلت ويتبدد في زحمة السماء والأرض.
أنا شاعر مقل. نعم، لكن من قال بجودة الشاعر المكثر؟
ثمة معلمون في الشعر لم يتركوا سوى مجموعة شعرية واحدة أو مجموعتين، بل لدينا في تاريخ الشعر العربي شعراء الواحدة، وشعراء البيت الوحيد.
أؤمن، بشدة، بأن بيتاً واحداً من الشعر يبرر شاعراً. فلو تركت بعدي بيتاً واحداً من الشعر في ذاكرة قارئ واحد فقط لكفاني هذا.
عشت نصف سنوات منفاي في مدن الرصاص والظلام والصمت: الحرب الأهلية ببيروت وكردستان مقاتلاً مع الأنصار الشيوعيين، ونصف الحرية في سوريا. وخلال تلك السنوات كتبت الكثير من الشعر الذي لا يعرفه القارئ العراقي بسبب الحصار والمنع ومصادرة الكتب الممنوعة. وحتى أقل من عقد السنوات الذي عشته في بغداد السبعينات أمضيت نصفه جندياً إجبارياً في الجيش معرضاً للإعدام في أية لحظة بسبب انتمائي السياسي، في ذلك الوقت.
هكذا عاشت قصائدي في الخوف والحصار والدخان سنوات مديدة (من عام 1972 – 2011) لأبدأ من جديد، انطلاقاً من لندن أنشر (أحاديث المارة) على شكل مختارات، رغم أنني لم أضع قصائدي القديمة كاملة في هذه المختارات بل اخترت «عينات» بسيطة من أجل التوثيق حسب.
* أن بيتا واحداً من الشعر يبرر شاعراً كما تقول، وايضاً سمعت البياتي يقول نفس ما تقوله! ألهذا الحد يبدو الشعر معقدا وصعباً! إذاً، لماذا يتسابق الشعراء على الافتخار بكثرة دواوينهم الشعرية هذه الايام والكثير منها أصبح في طي النسيان ! كيف تفسر هذه الظاهرة المنتشرة في هذا الزمن تحديدا؟
– نعم، كتابة بيت واحد من الشعر مشقة وعذاب ومعصية. ثمة شعراء يكدسون كتبهم، والمضحك إنهم يدفعون أموالاً لنشر دواوينهم!!
لو عادت بي الحياة إلى صباي لما اخترت أن أكون شاعراً.
سأختار أي (وظيفة) أخرى من الوظائف التي تنتهي بانتهاء الدوام.. أو صاحب دكان يغلق دكانه مساء ويتفرغ لزوجته.
إنه لأمر مريع أن يعمل الشاعر لأربع وعشرين ساعة، سواء كان يكتب أو يحلم أو يفكر.
كثير من شعراء اليوم يعتقدون بأن عدد الدواوين التي ينشرونها دليل على الشاعرية.
محمود درويش قال: لو عادت بي الحياة لحذفت نصف شعري!
سعدي يوسف قال: لو بقي من شعري بضعة أبيات لكفتني!
سؤال: لماذا تخلد شعراء المعلقات بمعلقة واحدة لكل شاعر حتى يومنا؟
* أعتقد أن الشكل الفني المتكامل في شعر المعلقات هو الذي خلدها كل هذه القرون من الزمن. لكن ألا تعتقد أستاذ عواد أن المهمة الصعبة الملقاة على الشاعر، وخاصة حين يكتب شعراً رائعاً، يكون في غاية السعادة التي لا توصف وكأنه أمسك بالعالم برمته! كيف يكون شعورك حين تكتب القصيدة؟
– بدءاً، لا شكل متكامل في أي قصيدة. إذا اكتمل الشكل نقص الشعر. الشكل جزء من بحث متواصل وصولاً إلى اللااكتمال. ما خلد المعلقات هو الحرية. أعني أن حرية الشاعر أتاحت له التعبير جمالياً عن حياته اليومية واشتباكاتها مع الطبيعة والآلهة والرسوم والحب والهجران والغزل. يمكنك أن تقارن قصيدة أمرئ القيس مع قصيدتنا المحافظة في الألفية الثالثة.
بالعودة إلى سؤالك : مهمة الشاعر صعبة حقاً. بل تكون مستحيلة أحياناً. عندما يصبح الألم، مثلاً أكبر من اللغة، أو حيت تكون الأرض أثقل مني لأنقلها إلى مكان آمن. كيف لي أن أكتب قصيدة؟
نعم، قد أشعر بالسعادة وكأنني أمسكت العالم برمته، حسب قولك، لكنها سعادة سرعان ما تتلاشى إزاء أحزان أزلية تجلس في غرفة الانتظار لمعالجتها شعرياً.
شعور الشاعر بالسعادة يشبه شعور نيزك تحرر من مداره لكنه لا يعرف متى سيصطدم ليتحطم.
سعادات الشاعر، في حياته اليومية، صغيرة وبسيطة، مثل سعادات الأطفال، لكنه في لحظة الستراتيج القصوى غير سعيد بالمرة حتى لو كتب أعظم قصيدة في التاريخ.. لأن كتابة القصيدة لا تدخل في مقاييس العاطفة اليومية إنما في قياسات المستقبل البعيد للعالم.
قد تنتابني حالة رضا موقتة عندما أنجز قصيدة أحسبها… ماذا اقول: جميلة، موفقة، كفتني شر نفسي، نقلتني من حال إلى حال، ربما هذا أو سواه، على وفق مذاقي النقدي، لكن دعنا نشبه كتابة قصيدة جميلة، أو ناجحة (وفق مذاقي النقدي لنفسي) مثل نجاح تلميذ في الامتحان المدرسي. إنه نجاح مؤقت نحو المستقبل.. المستقبل الغامض.
كان الجواهري يعجب بقصيدته فور الانتهاء منها ويسب نفسه، على الطريقة العراقية، وهو يقصد المديح: «خرب عرضك شلون قصيدة»؟
لكن الجواهري لن يتوقف. إنه يواصل كتابة الشعر كما تلميذ يركض نحو مستقبله الغامض.. مستقبل القصيدة، بانتظار القصيدة المقبلة التي لن تكون هي الأخرى قصيدته النهائية.
تقول: «حين تكتب القصيدة» أفهم قولك على أنه «أثناء كتابة القصيدة» إذا لم أكن مخطئاً.
حين أكتب القصيدة أكون في حلٍّ عن أي انتماء للواقع اليومي. ولا أرى غير عالم غائم بلا ملامح سوى ما تتيحه القصيدة – وهي في لحظة تشكّل – من معالم تتعلق بمناخ القصيدة وحلمها وصورها وإيماءاتها، ولا شي خارج هذا المناخ.
أكتب وكأن العالم فارغ من حولي سوى عالم القصيدة نفسها. عالم يكاد يكون في حال إظلام تام.. عدا إضاءات الكلمات وهي تركض في حقل ألغام يمكن أن تقتلها في أي لحظة.
* جوابك أكثر من رائع. لننتقل الآن من الشعر وكتابته الى ترجمته، لديك العديد من الترجمات عن اللغة الانكليزية التي تتقنها، خاصة وأنت تعيش في لندن منبع تلك اللغة، هل تؤمن بأن الترجمة خيانة للنص كما اشيع في السابق ! أم أن الشاعر وحده من يتمكن من ترجمة الشعر من لغة الى أخرى لمعرفته الدقيقة به؟ كيف تفسر لنا ذلك؟
– بدءاً، أنا لست مترجماً محترفاً. ما ترجمته هو مقالات وحوارات مع كتاب وشعراء أجانب لنقل تجاربهم إلى القارئ العراقي والعربي. ولا يخرج عن الإسهامات الصحفية في عدد من الصحف لا أكثر، حتى أنني لا أفكر في نشرها بكتاب مستقل. ما أترجمه هو تمارين لغوية فقط لتطوير لغتي الإنجليزية، عدا ما توفره تلك المقالات والحوارات ومراجعات الكتب لي شخصياً من متعة ومعرفة.
لم أقرب ترجمة الشعر أبداً لأنني أخشى هذه المحاولة. ترجمة الشعر تشترط معرفة دقيقة بالنص الشعري وشاعره وتقتضي الكثير من البحث لأن القصيدة تتكون من طبقات لغوية أو ما يمكن تسميته (نص تحت النص) وكل ترجمة للشعر هي نص آخر مختلف مهما اجتهد المترجم، من هنا شاعت العبارة المعروفة (أيها المترجم.. أيها الخائن)، لكن للترجمة، عبر تاريخ الشعوب وحضاراتها فضل كبير في تبادل الثقافات وحوار الأفكار.
يفترض أن الشاعر أقدر من غيره على ترجمة الشعر بسبب حساسيته الخاصة، لكن ثمة مترجمين رائعين للشعر من غير الشعراء.
مهما قيل تبقى ترجمة الشعر كما قال الراحل شيركو بيكه س: (ترجمة القصيدة مثل قبلة من وراء الزجاج).
* لقد ظهر جيل جديد من الشعراء الشباب داخل العراق بعد سقوط النظام العراقي عام 2003، أكثر من عقد من الزمان وقصائدهم لا تخلو منها صحيفة عراقية في كل يوم، هل لك أن تقيّم لنا المشهد الشعري الجديد داخل العراق وأين ذاهب ؟
– أتابع، جزءاً من واجبي كشاعر، أغلب ما ينشر من شعر عراقي شاب، وما وصلني، أو وصلته، هو أن المشهد الشعري الجديد ضحية فوضى ثقافية شاملة، وهذا أمر طبيعي برأيي إذا ما نظرنا إلى المشهد الثقافي/ الاجتماعي في عموم البلاد الذي يؤثر، بالتأكيد، على طرق التعبير الفني والفكري، وثمة عدم سوية شعرية بين صعود وهبوط.
ثمة شبان عجولون لم يتدبروا أمر قصائدهم عبر جَلَد الشاعر المتبصر، الحريص على صيانة نصه من التعثر والانفراط. وثمة من لم يزل يكتب القصيدة العمودية على شيء من التحديث اللغوي، الخارجي، لا المفصلي.
لم أرَ الكثير من الوعود الشعرية بعد عام 2003 إلا بعض النصوص المتناثرة في تجارب لم تستقم بعد، ربما ستستقيم لاحقاً.
الشعراء الشبان اليوم يكتبون أكثر مما يقرأون، للأسف، وهذا يمثل نقصاً في العدة وكثرة في العدد.
* بمناسبة القراءة، أعتقد ان على الشاعر متابعة ما ينجز من ابداع على مستوى الشعر والنثر والرواية والفن، والقراءة عامل منشط لعقل الانسان، كيف تحدثنا عن قراءاتك للكتب في بداياتك الاولى وما الذي شد انتباهك اكثر، قبل والآن وهل ما زلت في نفس الحماس للقراءة ؟
– القراءة ليست متابعة ما ينجز.. إنها قراءة ما أنجز وما لم ينجز. والقراءة ليست عاملا منشطا للعقل، حسب، إنها إعادة انتاج العقل. الكتب هي الوجه الآخر للكتابة. الكتاب الأول الذي دسه بيدي صديق أكبر مني سناً كان بمثابة مفترق طرق مثل جيم المعري : جيم جنة.. جيم جحيم.
ولا أدري، حتى اللحظة ما هي الكتب التي أدخلتني الجنة وما هي التي شوتني في الجحيم.
الكتب سلسلة مترابطة من التحريض والتحدي والاكتشاف.. كل كتاب يمسك بتلابيب ما سبقه وما لحقه.. الكتب حلقة مفرغة من الدوران الأبدي للبحث عن كلمة ما في خلد أي قارئ.
العراقيون من بين أكثر الشعوب التي ابتليت بالكتب لأنها دليل ثبوتي على جنحة مخلة بالشرف، فالألمان الذين شهدوا محارق الكتب الممنوعة في الساحات العامة، لم يجربوا طريقة العراقيين في إحراق الكتب بالتنور أو ردمها في الآبار والحفر.
السلطة في ألمانيا النازية هي التي أحرقت الكتب علناً، بينما الناس، في العراق، هم الذين أحرقوا الكتب سراً.
أما كتبي فهي هدايا أصدقائي من كتاب ومبدعي العالم. قد لا تصدق بأنني أشعل المدفأة في كوخي البارد حتى لو لم أكن موجودا به لكي لا أترك أولئك الأصدقاء الذين يصطفون على رفوف مكتبتي يعانون البرد في شتاء لندن القاسي.
بصراحة، ليس لدي برنامج دائم للقراءة، لكنني أضع برنامجاً جزئياً، لأسبوع أو شهر، وقد أخرق برنامجي بسبب كتاب جديد، طارئ.
ليس بمقدوري أن أثبت لائحة للكتب التي قرأتها، أو المجلات، أو النصوص المتناثرة في الصحف، ومن ثم في المواقع الإلكترونية التي أتيحت لنا لاحقاً.
أنا مدين للكتب بأنني لم أزل على قيد الحياة حتى تلك الكتب التي خيبت أملي.
لا أكتمك سراً بأنني أقرأ أنواعاً من الكتب لا تخطر على بال البعض مثل: التاريخ الطبيعي والثقافي للثعلب وحيوانات أخرى، بعد أن شغفت، سنوات مديدة في شبابي، بقراءة كتب الفضاء الخارجي وخرائط السماء حتى عدلت عنها لأعرف خارطة الأرض.
الروايات تستهويني أكثر من دواوين الشعر. لكن الشعر عاصمتي، حيث أقيم، والروايات هي المدن التي أحلم بزيارتها.. وهكذا أروح وأجيء، وما بينهما كتب أخرى في الفلسفة والفكر وعلم الاجتماع والنقد وغيرها.
في لندن تمكنت من الحصول على كاتولوغات ثمينة في الفن التشكيلي العالمي وهو ما لم يتح لي في بغداد.
وفي لندن، أيضاً، التي هي مكتبة هائلة ومتنوعة، اغتنت مكتبتي بالكثير من الكتب، إضافة إلى الأدب: مثل كتب الحديقة والدراجات والطبخ وتعليم الرسم والسياحة وغيرها.
في الطريق إلى عملي في الجريدة يتيح مترو الأنفاق فرصة كبيرة لكي أنهي كتاباً من 300 صفحة خلال ثلاثة أيام، ذهابا وإياباً.
لم أسرق كتباً في بغداد لكنني سرقتها ببيروت خلال الحرب الأهلية بعد أن اكتشفت قبواً هائلاً لأمهات كتب العالم مترجمة إلى العربية. في لندن سرقة الكتب مستحيلة.
تذكرت صديقاً في بغداد السبعينات كان يقتني كتباً ممتازة لكنه لا يكتفي بمنعنا من لمسها (كان يرينا إياها عن بعد!) بل كان هو لا يلمسها أيضاَ مخافة تشويه أوراقها. كان يقتني ولا يقرأ.
تذكرت هنا ذلك الإنسان الجميل الذي عرفت اسمه الأول فقط (علي) ولن أنساه. هو أمين مكتبة المركز الثقافي السوفييتي، بغداد/ شارع أبو نواس، نهاية الستينات – بداية السبعينات. كان يبدي استغرابه علنا من مجموعة الكتب التي أستعيرها: الأرض الكوكب/ الدولة والثورة/ أنا كارنينا/ رأس المال/ الأم!
ولا أكتمك، أخيراً، إنني أصاب بوعكة نفسية، من درجات الكآبة، عندما أفكر بآلاف الكتب التي تصدر في عواصم العالم والتي لم يتسن لي الحصول عليها، بل حتى بعض الكتب التي قرأتها بعيون صباي سابقا وليس بعيون عقلي حالياً، وأفكر في إعادة قراءتها.
* يرتبط المثقف الغربي ارتباطاً وثيقاً مع الموسيقى والرسم، ولا يمكن أن يؤشر حضوره الشعري أو الروائي من دون أن تتبلور ذائقته الموسيقية لتنعكس على ما يكتبه في الكثير من الاحيان، الامر بالنسبة للمثقف العربي بشكل عام والشاعر بشكل خاص يبدو مختلفا، كيف تحدثنا عن ذائقتك الموسيقية والتشكيلية وأنت تعيش في مدينة الفنون لندن، وهل لها التأثير الفعلي في تطور حركة الشعر؟
– تتكون ذاكرة القصيدة من جميع المعارف المتاحة، والفنون عامة هي نتاج معارف مبدعيها، عبر حواسهم الست. من الطبيعي أن تدخل الموسيقى والتشكيل وغيرهما في لا وعي الشاعر، حتى الشاعر العربي قد يجد الموسيقى خارج شكلها المألوف، سمعياً، فالطبيعة تمتلئ بالموسيقى وكذلك التشكيل، لكن في البلدان المتقدمة، مثل بريطانيا يذهب الناس لحضور حفل موسيقى مثلما يذهبون إلى السينما، أي أن الموسيقى متاحة اجتماعيا. يصح الكلام عن المعارض التشكيلية أيضاً. الموسيقى والشعر والتشكيل فنون تقوم على الإيقاع والمنظور والفكرة، وكل فن من هذه الفنون يعلم الآخر ويأخذ منه ويعطيه. أعرف الكثير من الشعراء العراقيين والعرب يختزلون تجاربهم الإبداعية إلى كتابة الشعر فقط، وهذا نوع من الإخصاء المعرفي للذات.
من ناحيتي، لا أزعم بأنني متابع مثابر لحفلات الموسيقى والمعارض التشكيلية لكنني أحاول حضور هذه النشاطات الفنية حسب الوقت والمزاج والفرصة، خصوصاً الاستثائي منها والمهم. أما تأثير الموسيقى والتشكيل فهو كبير جداً على النص الشعري، حتى التجريدي منهما، بل أن الموسيقى تجريد محض، مثل الرياضيات. الرسم يدخل بعض القصائد من جهتين: الأولى هي شكلها الخارجي من حيث بناء اللغة وحكمتها وصعودها نحو أقصى الحالة الشعورية، والثانية هي تكوين الصورة الشعرية واقتصادياتها وضبط دلالاتها المقصودة كي لا تأتي مجانية.
الموسيقى عنصر أساس في القصيدة، حتى قصيدة النثر، ويفترض بالشاعر أن لا يترهل مقطعا على حساب آخر، وأن لا يزيد من جرعة الإيحاء في موضع وضعفها في موضع آخر.
لولا الحس الموسيقى لدى الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي لما توصل إلى ما توصل إليه من بحور الشعر، رغم أنها موجودة قبله، وحتى وقت قريب كان العروض مقياساً مهما لقياس صحيح الشعر من سقيمه. وأحد الشعراء المتصوفة رقص في سوق صفافير بغداد بعد أن غمرته النشوة الروحية إثر سماعه إيقاعات الصفارين.
* ما هي مشاريع الشاعر عواد ناصر المستقبلية على مستوى الكتابة والنشر ؟
– أعمل على وضع لمسات أخيرة على مجموعة شعرية بعنوان (بيت الحلزون) وما أن أنتهي منها حتى أعود الى كتاب لا أعرف تصنيفه إبداعياً ! ربما هو بين السيرة والرواية والشعر، بعنوان ( أسرار رجل بلا اسرار ) والعنوان أولي حتى الآن قد يتغير أو لا يتغير. الكتاب يغطي فترة طويلة من حياتي تبدأ منذ الطفولة، وتعبر حتى لندن إقامتي الحالية، وقد أتبعت في الكتابة أسلوب زمن خاص ! فهو يبدأ من لندن وبغداد وينتهي في المنتصف، لقاء غربتين وفيه الكثير من الايروتيكا المكشوفة، تحديا للثقافة السائدة ونزع الاقنعة عن حياتنا المسكوت عليها.. لكنها إيروتيكا متعددة المستويات، بما فيها الاغتصاب داخل السجن.
سيرة الشاعر عواد ناصر :
الإسم: عواد ناصر
مكان الولادة: محافظة ميسان (جنوب العراق 1950) .
بدأ بنشر قصائده ومقالاته في بغداد عام 1972.
وعمل في التدريس .
اضطرر لمغادرة العراق عام 1979 لأسباب سياسية.. وتحديداً سعيا وراء الحرية. حريته الشخصية على الأقل ، بسبب ظروف بوليسية غاية في القسوة قد تصل حد القتل .
كانت هجرة سياسية جماعية شملت مئات الأدباء والفنانين والكتاب والمفكرين في شتى صنوف الثقافة .
نشر أول ديوان شعري ببيروت عام 1982 بعنوان (من أجل الفرح أعلن كآبتي) ثم غادر إلى كردستان العراق للعمل في صفوف الحركة الوطنيةالعراقية المعارضة للنظام الدكتاتوري الحاكم أنذاك.
عاد إلى دمشق عام 1983 لينشر كتابه الثاني بعنوان (حدث ذات وطن) لكنه منع من التوزيع .
نشر ديوان شعر ثالثا بعنوان (هنا الوردة فلنرقص هنا ) في دار نشر عربية في بودابست ( هنغاريا ) .
كذلك نشر الكثير من القصائد والمقالات في الصحف العربية.
غادر دمشق إلى لندن عام 1992.
* عمل في صحف عربية وعراقية عديدة.
يعمل حاليا في صحيفة عراقية تصدر في بغداد ككاتب عمود أسبوعي ومقالات ثقافية .
حاوره : هادي الحسيني\
\ شاعر وكاتب من العراق يقيم في النرويج