إن مواجهة الخطاب الشعري للتسعينيات في اليمن لا تحتاج إلى تحديد مدخل بعينه, ذلك أن تعدد المداخل كائن في بنيته, ومن ثم فان كل خطاب يفرض على ملتقيه أن يلجه من مدخله الشعري الذي يتيح له التجول في مسالكه ودهاليزه.
وهو ما يؤكد تعدد المداخل بالنسبة للشعرية عموما, وشعرية التسعينيين خصوصا, فهناك الخطاب الذي يقترح مدخله من الأفق العرفاني, وهناك الذي يقترح المدخل الايديولوجي, وهناك المدخل الفلسفي والاسطوري واللوني والرمزي والاسقاطي, إلى غير ذلك من المداخل التي تكاثرت مع شعرية الحداثة ومغامراتها المتجددة.
لكن المؤكد ان مجموعة المداخل تعتمد (اللغة) بوصفها الاداة والهدف على صعيد واحد, أي أن مجموعة المداخل لابد ان تكون من منتجات اللغة, وإهمال اللغة, اهمال للمدخل, ثم اهمال للشعرية ذاتها, والانحدار إلى النثرية.
ومن الواضح أننا مع الشعرية نكون في مواجهة مدخلين, الاول: المدخل المركزي في اللغة, والآخر: المداخل الفرعية التي أنتجتها هذه اللغة, وهنا يتلاشى مفهوم التلقي السلبي المريح الذي يتكئ على (المعاني الأول) التي تأتي من الشرح والتفسير, وهما أمران لصيقان بالنثرية أكثر من الشعرية.
ومن الواجب أن نتنبه إلى أن مواجهة خطاب التسعينيات الشعري يحتاج إلى نوع من المغامرة النقدية التي تتجاوز التقاليد المحفوظة, وتعتمد التقاليد التي يطرحها الخطاب ذاته للكشف عن خصوصيته النصية من ناحية, ودور هذه التقاليد في إنتاج المعنى من ناحية أخرى, وفي هذا السياق من التلقي لا تصبح المواجهة محصورة في مجرد الرصد والكشف, وانما تتحول إلى حوار بين التقاليد المحفوظة, وتقاليد النص الجديد, لتحديد آفاق الموافقة والمخالفة, وخطوط المغامرة الابداعية كما وكيفا.
معنى هذا كله: أن مواجهة شعرية التسعينيات في الوطن العربي عموما, وفي اليمن خصوصا, تحتاج إلى تخلي المتلقي النموذجي عن بعض محفوظاته الاجرائية التي أدت مهمتها بكفاءة في مراحل سابقة, لكنها لم تعد قادرة على التعامل الصحيح مع شعرية الحداثة الممتلئة بالمغامرات التجريبية والتجاوزات الإبداعية التي نقلت الشعرية نهائيا من منطقة (الغيرية) إلى منطقتها الأثيرة, منطقة (الذاتية).
إن هذه الدراسة تسعى إلى قراءة – محدودة- لشعرية التسعينيات في اليمن, خلال قراءتها لشعرية التسعينيات في الوطن العربي, وفي هذه القراءة يمكن اقتناص مجموعة من الاجراءات التكوينية, أملا في ان تكون هناك دراسة أخرى أكثر شمولية, وربما تصل درجة الاستغراق.
ان هذه القراءة – تقع – أوليا- على ان التسعينيين قد تابعوا السبعينيين مرورا على الثمانينيين, حيث آثروا الغوص في الأعماق, ولم يعد يستهوهم السباحة على السطوح الراكدة, وهذا الغوص قد لازمه اهدار المرجعية- في كافة مستوياتها- لحساب الشعرية, ومن ثم سعوا إلى استحضار مراجع بديلة, لكنها مؤقتة, لأنها تقع تحت طائلة التجاوز المستمرة, ذلك ان التجريب قد يستقر لحظة, لكنه لا يعرف التوقف, لأن التوقف ركود ثم ابتذال, وهو ما تنفر منه شعرية الحداثة على وجه العموم.
ومن البديهي ان هجر المرجعية, وخاصة المرجعية المعجمية, ليس خصيصة للحداثيين ومنهم التسعينيون, وانما هي خصيصة ملازمة للشعرية في تاريخها الممتد عبر القرون, فالمقصود- إذن – ان هذه الخصيصة قد استفاضت في المرحلة الاخيرة من الحداثة حتى شملت النص في جملته.
فعندما يقول الشاعر احمد ضيف في قصيدته (أقنعة):
قمر تحطم في البعيد
سئم الفصول الأربعة
والعابرون كأنهم
خيل وريح مسرعة
سأقول للوطن الذي يبكي ويختصر اللغة
لا نستطيع لقاءهم
كل الشوارع مغلقة
هذا زمان الصامتين
زمان كل الأقنعة(1)
نلحظ في هذه الدفقة الشعرية ان مجموعة الدوال لا تكاد تحتفظ بمرجعيتها على نحو من الانحاء, فليس هناك مردود محدد لهذا (القمر) الذي تحطم, وليس هناك (سأم) بالمفهوم المعجمي, كما انه لا يوجد (عابرون), ولا (لغة مختصرة).
ولا حضور (للشوارع المغلقة), وكذلك الامر في (زمن الصمت والأقنعة), فكل هذه الدوال نفرت من مرجعيتها المعجمية في قليل او كثير, واستحدثت مرجعية طارئة تحتاج إلى طاقة تأويلية احتمالية, فهل (القمر البعيد) اختار مرجعيته في (الأمل الغائب), أم (الوطن المتعب), أم هو حال (للواقع العربي الراهن)? وكذلك الأمر في كم الدوال التي وظفها النص, ووضعها تحت طائلة (التأجيل).
واللافت ان شعرية الحداثة لم تكتف بهجر المراجع الافرادية , بل قرنت ذلك بهجر المراجع التركيبية, وذلك بخلخلة النسق وبعثرة مكوناته, بهدف اجهاد المتلقي في الوصول إلى الناتج, ودفعه إلى تجاوز السطوح, والغوص في الأعماق, ويبدو أن الشعراء- في ذلك- قد استحضروا مقولة الخليل بن احمد: (الشعراء أمراء الكلام).
وليس المقصود بخلخلة النسق, وبعثرة المكونات, ارتكاب (الخطأ النحوي), فشعراء الحداثة ينفرون من هذا الخطأ, بل انهم ينفرون من مقولة (الضرورة الشعرية) وانما مقصودهم: العمل على قطع العلائق بين التراكيب والاسطر, وتغييب وسائل الربط والارتباط, ومبرر الشعرية- في ذلك- ان ما تستهدف قوله, لا تقوم به الصياغة المألوفة, فحركة الذهن الداخلية تكاد تصطدم بحركة الصياغة الخارجية, ومن ثم تأتي الفجوات الصياغية والدلالية التي أطلقنا عليها (خلخلة النسق وبعثرة مكوناته).
تقول الشاعرة هدى أبلان في (نبوءة):
انتميت لعينيها ذات صباح…
كان الرصيف حنونا…
والاغنيات مراقة….
وفي القلب طلقة هذا المساء القريب…
سددها الرب لامرأة موغلة في الحموضة(2)
في هذا الاجتزاء , نلاحظ استقلال كل سطر بنفسه, فلا علاقة واضحة بين انتماء الذات لعين موضوعها, وحنان الرصيف, ثم هذان السطران لا علاقة لهما بالاغنيات المراقة, او بالطلقة التي استقرت في قلب امرأة حامضة.
وبرغم هذا الخلل النسقي الذي تجلى في بنية السطح, فان بنية العمق تكاد تعقد علاقة محكمة بين الاسطر, ذلك ان انتماء الذات لعيني موضوعها, هو الذي اتاح لها الانتقال من دائرة الرؤية, بكل بعدها المادي, إلى دائرة (المشاهدة) بكل بعدها العرفاني, فاطلعت على الوقائع في مادتها الاولى عندما رآها الرائي الاول خلال المخيلة التي تتقبل (حنان الرصيف) و(اراقة الاغنيات) التي سكنت (القلب) حالة ايغاله في الحموضة.
ان قطع العلائق على السطح قد أوغل بالدفقة شعريا, لأنه أدخلها دائرة الشعر الحق الذي لا يعرف الحسم الدلالي, وإنما دلالته رهن بلحظة التلقي من ناحية, وكينونة المتلقي من ناحية أخرى.
ذكرنا ان تجربة التسعينيين تمثل تواصلا مع شعرية السبعينيين, وهذه وتلك وما بينهما ليس من همهم الابداعي الانحياز للصدق الكلاسيكي, او الذاتية الرومانسية, أو نقد الواقع في الواقعية, ذلك ان العالم أصبح تجربتهم الدائمة التي يعيشونها دائما دون قيود زمانية او مكانية, فرؤية العالم هي تجربة الشاعر المفتوحة لاستقبال الواقع والوقائع في حسيتها او روحانيتها, في جملتها وتفصيلها, في سطوحها وأعماقها, ثم إدخالها البناء الصياغي بمواصفاته (الشعرية), وهنا لا تكون اللغة وسيلة لمحاكاة الواقع, وانما هي وسيلة انتاجه.
يقول: أحمد ضيف في (قلق):
مثل نجم بعيد
موغل في الألق
سكنتنا الأساطير حتى الأرق
كم من الوقت نحتاج
كي نتحدى البعيد ونخرج من لحظات القلق.(3)
تصطحبنا الشعرية إلى حالة مطلقة من قيود الزمان والمكان, مبتعدة قدر استطاعتها عن محاكاة ما يطوله ادراكها, ووجهت طاقتها إلى انتاج واقع بديل وفق شروط (الاسطورة) التي تتعالى على قوانين الوجود ذاته, مغيبة الزمن المطلق, لاحقة بالزمن النسبي الذي يقع دائما تحت طائلة السؤال الفاقد للإجابة: (كم من الوقت نحتاج?).
ان انتاج الواقع الاسطوري نشط المخيلة لتغيب الحقائق المطلقة, ومعها تغيب بعض أركان الصياغة لتمارس بغيابها فاعلية تفوق حضورها, فالسطر الأول يستبعد (المشبه) ويستبقي (المشبه به والأداة), وبرغم ذلك فان حركة المعنى قد تفجرت من هذا الاستبعاد, حيث صعد إلى آفاق سماوية مفتوحة , ثم هبطت إلى مساحات أرضية مسكونة بالأسطورة, وبين الصعود والهبوط.
تتشهى الذات الخروج من هذه الدائرة المتنافرة للوصول إلى منطقة يمكن أن تعطيها قدرا من الاستقرار. وما كان للذات أن تصل إلى هذا الخط الدلالي إلا بوعيها الحداثي الذي يؤثر مناطق الحياد التي تؤهله لإدراك المفارقة وسيطرتها على العالم. ذلك ان منطقة الحياد هي التي تتيح للذات رؤية جانبي المفارقة على صعيد واحد.
من كل ذلك ندرك ان فعل الحداثة وثيق الصلة بفعل التجريب, وبخاصة في مراحله المتأخرة التي لاحقت التسعينيين, فقد مرت الشعرية العربية بمتتالية من التحولات التطورية منذ فجر البارودي معاصرتها في أخريات القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا, وهي تحولات تتشابك مع الواقع الاجتماعي والثقافي, ومع وقائع الذات المبدعة ورغبتها اللازمة في التجاوز الذي قد يصل درجة (القفز) غير الآمن أحيانا.
ومن المؤكد ان الشعرية العربية, هي شعرية التراكم, لا الانقطاع, فكل تحول يحاور ما قبله- رفضا أو قبولا- ثم يضيف اليه, او يستدرك عليه, أي ان كل مرحلة تمثل مخاضا لما يليها, كما أنها تمثل (تخارجا) مما سبقها, مما يكسب الحداثة طابعا جدليا فيه الأخذ والعطاء.
وفي هذا السياق يرى بعض التسعينيين ان الكتابة السابقة عليهم قد غشاها نوع من الصمت, لأن الوقائع الطارئة قد تجاوزتهم, وهي وقائع تمردت على دائرة (المباحات), وقاربت (المحرمات), والدائرة الاخيرة كان لها غواية زائدة عند التسعينيين, وهو ما زحم خطابهم بكم وافر من التصادم والتوتر, تصادم من الافكار السائدة, والأذواق المستقرة, وربما ارتفع هذا التصادم إلى دائرة (المعتقد), أي ان المحرمات لم يعد لها قدرة الاسكات, والبنى الفوقية لم تعد سدا غير قابل للاختراق الفني, وكل ذلك أتاح للشاعر أمين أبوحيدر أن يقول في (تعوذ):
أعوذ بربي
من الشعر إن كان ريشا,
هباء
توجهه الجن شرقا وغربا
ومن كل حرباء
تلبس لونا
لكل زمان وكل مكان
وتبسم كذبا
ومن وطن لا يقدس فنا
ولا يتواضع للشعر حبا(4)
لقد جاء المدخل الشعري للنص- وهو العنوان- متكئا على استدعاء السلطة العليا المقدسة في (التعوذ), ثم امتد الاستدعاء إلى السطر الاول, للاحتماء بهذه السلطة من الواقع الحضوري بوقائعه الثقافية المغلوطة في (الشعر) الذي تحرك في دوائر النفاق والكذب, استحضرت الدفقة هذه السلطة في اشارة غير خافية إلى محاربة الفن استنادا عليها.
لقد تبدت مجموعة الدلائل اللغوية في – الدفقة- موغلة في الاسقاط من ناحية, والرمز من ناحية أخرى, وذلك راجع إلى تماسها مع السلطة المقدسة ومحاولة إنزالها إلى الواقع الأرضي, ومواجهة وقائعه المرفوضة التي اعتمدت- بالمغالطة- حججها المستمدة من هذه السلطة, وشكلت منها حاجزا وهميا لإعاقة تحولات الواقع ماديا وروحيا.
لقد جاءت شعرية التسعينيين- عموما- فعلا ورد فعل على صعيد واحد, لكن رد الفعل كان لغويا خالصا, ولا نعني باللغوية هنا قانونها الموروث الذي أكسبها قداسة ليست لها في الأصل, وانما نعني باللغوية كينونتها الإبداعية الآنية التي تعطي لنفسها الحق الشرعي في اختراق الجاهز والمعلب, وهذا الاختراق كان مدعوما بفاعلية تصادم الرؤية الحداثية مع المنطق الخارجي العام, ومن ثم تعمدت اللغوية مفارقته في كثير او قليل, وان جاءت المفارقة- أحيانا- في صورة الارتداد إلى الداخل, والانكفاء على النفس, وفي أحيان أخرى تجلت المفارقة في عملية تدمير وتخريب, سعيا لتكوين منطق جديد له مسالكه الموافقة للداخل النفسي والذهني بكل عفويتهما ونزقهما وتمردهما, ومن ثم سيطرت المفارقة في خطاب التسعينيين, وتعددت أبنيتها الثنائية بين (الخيبة والامل) و(العجز والصمود) و(الإقدام والاحجام) و(الصعود والهبوط) , ثم تسربت إلى هذا الخطاب خطوط هروبية حينا, وخطوط اشراقية حينا آخر متلمسة مسلكا استثنائيا ربما ساعدها على تضميد بعض جروحها, واستنقاذها من هوة الاستلاب الذي يحاصرها خارجيا وداخليا, وبخاصة بعد أن دخلت الذاكرة العربية أخطر مراحلها على الاطلاق, مرحلة تفريغها الكلي والجزئي تمهيدا لتسكينها منطقة العولمة, واخضاعها لهيمنتها الضاربة.
يقول أمين ابوحيدر في قصيدته: (من أرض نخلة هرول الشعراء):
من أرض نخلة هرول الشعراء
والشعراء قامات النجيل
وقامتي كل النخيل
(ترومنت)) كل النخيل
عداي يا أبتاه
والرمل المدهن بالسراب
وبشرة البيداء- يا أبتاه- مثل يد (الكليم) (5)
واضح ان السطر الرابع من الدفقة يستحضر عملية تفريغ الذاكرة العربية التي أشرنا اليها, صحيح ان النص سعى إلى استثناء منتجه من هذه العملية, لكن ماذا يجدي ذلك في مواجهة جحافل السراب من ناحية, وطوفان الجدب من ناحية أخرى?
وخاصة أن الذات المنتجة لا تمثل إلا خطا نحيلا في نسيج معقد من (المحيط إلى الخليج), لكنه نسيج من خيوط العنكبوت.
ويبدو أن التسعينيين – بتأثير الحداثة- قد مالوا إلى تحجيم علاقتهم بالمعنى, ومن ثم سلطوا عليه عناصر الشك والتأجيل, وهو ما قاد شعريتهم إلى مناطق العتمة, لكنها عتمة شبيهة بمصباح الفلاسفة الذي لا يضيء لنفسه, وانما يضيء للآخرين, ولعل هذا كان وراء افتقاد خطابهم للاشارات التوضيحية التي يهتدي بها المتلقي في هذه العتمة الفنية.
واللافت ان التسعينيين في اليمن لم يوغلوا كثيرا في هذه المنطقة, وذلك راجع إلى عناية بعضهم بالجوانب التوصيلية, دون أن يكون في هذه العناية اهمال للطاقة التخيلية التي اعتمدها المبدع لحظة الانتاج, ولابد أن يعتمدها المتلقي لحظة الاستقبال.
وان كنت أرى أن تحجيم المعنى, او تعتيمه, كان لحساب الشعرية الصحيحة, لانه وجه العناية من طرفي الابداع (المبدع والمتلقي) إلى اللغة, مصداقا لمقولة الجاحظ: (المعاني مطروحة في الطريق, يعرفها العربي والعجمي, والحضري والبدوي, وانما الشعر صياغة وضرب من التصوير) لكن هذه اللغة استحالت عند الحداثيين إلى إشارة تغني عن العبارة, مصداقا لقول النفري: (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة), فالوضوح التسعيني في اليمن, وهو (الوضوح الخبيئ) واعتقد ان أجيال الشعراء في اليمن كانوا أبناء أوفياء لأبيهم في الحداثة المعتدلة الشاعر اليمني الكبير (عبدالعزيز المقالح).
تقول هدى ابلان في (ثنائية):
عندما تضج بالشبه الواقف بينك وبين سنبلة..
تبدأ
دورة الانحناء..
لك حينها لذة التقوس أكثر..
لك الدخول..
كالجرح الموغل في جسد تنتابه اشتهاءات البقاء..
كالرفيق الذي لم تمر في دمائه رغبة المقايضة…
من يأخذ الوجوه…
ويمنح اليد مومسا تعادل القبيلة….(6)
ان شعرية الدفقة تحاصر الدلالة في أضيق مساحة صياغية متاحة, وكل همها مواجهة (الاشياء بالذوات), حيث تسعى الذوات لاكتساب خواص الأشياء, على عكس المألوف الذي يعلو بالذوات على الأشياء, وداخل هذا الاقتصاد الدلالي تتشيأ الذات نفسها ويصبح تشيؤها متعة طارئة لها, لأنه يسمح لها بدخول فردوس الجسد, حيث تتأتى المقايضة غير المتكافئة بين وقائع الحاضر المتجذرة في (القبيلة), و(المومس) التي تسكن هامش هذه الوقائع, وهو هامش مرفوض بداية ونهاية.
لقد ساعد تحول العبارة إلى اشارة, إلى استبعاد أطراف صياغية مركزية, فبنية التشبيه في مفتتح الدفقة تستغني عن المشبه, أو لنقل: إنها تضعه في دائرة المجهول, وكل الاشارات التوضيحية إليه لا تتجاوز (الضمائر), وهي دوال ناقصة الدلالة لغياب مرجعها.
ويظل حضور الطرف المستبعد محصورا في الاشارات المبهمة خلال (كاف الخطاب) التي تعيش زمن الانتظار للدخول, لكن: إلى أين? ومتى?, وما حدود المسموح به بعد الدخول?
لقد امتدت العتمة إلى السطر السادس الذي حول النص كله إلى سؤال فاقد للاجابة, (من يأخذ)? (ومن يمنح)? والى أي الطرفين تنحاز القيمة? هل إلى المأخوذ, أم إلى الممنوح?
وفي تجليات الحداثة لم يوجه الحداثيون عموما, والتسعينيون خصوصا, طاقتهم الادراكية إلى المألوف الذي يقع تحت طائلة النثرية, ومن ثم اخترقت هذه الطاقة (الواقع واللا واقع), و(المكان واللا مكان) و(الزمان واللازمان), و(المعلوم والمجهول) و(الممكن والمحال), وكلها دوائر تستعصي على التلقي الساذج, بل تحتاج إلى متلق يمتلك طاقة إدراكية موازية, وإذا افتقد هذه الطاقة , عجز عن موازاة حركة الإبداع, ولم يستطع فتح المغاليق, ولم يتمكن من استحضار المسكوت عنه , ولم يجد أمامه من سبيل للتلقي, الا التعامل مع السطح المباشر, فيرد وقائع الإبداع إلى وقائع العالم المألوفة التي لا يعرف سواها, والتي لو تأملها لربما قادته إلى عكس مدركه الاول تماما.
تقول هدى أبلان في (ترتيب):
قررت أرتب امرأة أخرى…
تخرج من جوف الليل…..
منهكة الأحلام…
مكسرة الضوء…
تحمل القمر الخافت بين الجنبات..
جنينا في اليوم الأول..
من شهر الخفقة..
من عام البوح..(7)
تتحرك الشعرية هنا متحررة من القيود الوجودية المألوفة, حيث يتسلط فعل (الخروج) على غير ما يحتمله دلاليا (جوف الليل), و(القمر) يحل فيما لا يصلح له مكانيا (بين الجنبات), والزمن يتمرد على نسقه المألوف, خلال بنية الاضافة التنافرية (شهر الخفقة) و(عام البوح).
أي أن الدفقة أعطت نفسها حرية إنتاج المعنى دون قيود وجودية مألوفة, فانطلق إلى خارج دوائر المكان والممكن, موغلا في (المجهول الإبداعي) الذي يؤثر مراجعه الخاصة على مراجع المعجم او العرف.
ان شعرية التسعينيات- بوصفها مرحلة في الحداثة- قد اصطحبت اللغوية وتعالت بها على قانونها التعبيري عندما وظفتها في انتاج ظواهر ليست من مهمتها الأصلية, وهي ظواهر مجلوبة من فنون مجاورة كالقصة والمسرحية, بل ان الشعرية جعلت من السرد تقنية مركزية تساعدها في الارتداد إلى اصلها الشفاهي, حيث كان (الحكي) أداة الابداع البدائي في إنتاج خطابه.
واللافت ان استعانة الشعرية بهذه التقنية يكاد يتنافى- ظاهريا- مع كثير من الظواهر التي رصدناها في المحاور السابقة, لأن من طبيعة السرد تفادي الفجوات والنتوءات الصياغية والدلالية, وهما أمران ملازمان للشعرية, معنى هذا أن الشعر مطالب بالتنازل عن بعض مقتنياته, والسرد مطالب- أيضا- بمثل هذا التنازل, ليمكن التقاؤهما في منطقة وسطى تجمع بين (سرد الشعرية) أو (شعرية السرد).
والملحوظ انه مع السرد تتداعى تقنيات اضافية في (الصورة المرئية) و(المونتاج) و(السيناريو) و(اللقطة المكبرة والمصغرة), حتى اصبحنا نعيش زمن (القصيدة المرئية).
يقول خالد غيلان في ؛غابة الزعفران«:
الحروف تشير إلى الساعة الصفر
وعينان مغمضتان
على شاطئ من سبات عميق
العقارب تشير إلى حرف (ش)
ويأكلن كل النقاط
عند الغروب
في مطلع الفجر:
الوقت.. عكازه (سيف)
لا يستطيع الجلوس(8)
تشكل الدفقة شعريتها على التباعد والتقارب معا, وتقسم رؤيتها على مجموعة من الخطوط التشكيلية التي تبدو مبعثرة على مستوى السطح, لكنها متلاحمة على مستوى العمق, حيث يقدم السطر الأول قطاعا من اللوحة المرئية, متمثلا في الساعة التي امتلكت ابجدية التعبير, ويقدم الثاني قطاعا آخر ممثلا في صورة العينين المغمضتين, ثم يتحرك الثالث بعيدا إلى الشاطئ المستغرق في سباته العميق, ثم تتحرك الشعرية من فضائها المحدود إلى غير المحدود بين الغروب والشروق, وبينهما الوقت في حالة عجزه وتهالكه.
إن هذه الخطوط المتجاورة المتباعدة قد آلت إلى نسق عام تدخل فيه الذات غيبوبة حلمية للوصول إلى (لا زمن) (ساعة الصفر) حيث يتآكل العالم داخليا في انتظار النهاية الحتمية, حيث يكون الموت أداة للحياة.
لا شك أن هذه القراءة الموجزة لبعض مغامرات التسعينيين الشعرية في اليمن, قد رسخت عندي يقينا بتواصل الشعرية في عالمنا العربي, برغم الفواصل المصطنعة, وبرغم الحواجز الثقافية الزائفة, لكن هذا التواصل لا ينفي الخصوصية, لكنها خصوصية في إطار العموم, ويقين التواصل يدفعني إلى التحفظ على مقولة الشعر اليمني أو المصري أو السوري أو السوداني أو المغربي, وإنما هناك شعر عربي, وكل بلد يقدم لهذا الشعر اضافته التي تؤكد (ديوانيته) توثيقا لجملة التراث الثقافي (الشعر ديوان العرب) برغم المزاحمة التي يواجهها من الفنون الطارئة, ومن المستجدات التكنولوجيا, ومن العلوم الجديدة التي اغتصبت منه بعض وظائفه, ذلك ان الشعر هو المعبر الأصيل عن جوهر الانسان عموما, والانسان العربي خصوصا.
والمؤكد أن صنعاء (عاصمة الثقافة) الآن, تعمل على ترسيخ الذاكرة العربية واحاطتها بسور من الحماية عندما أقامت هذا العيد الشعري لمرحلة التسعينيات التي ما زالت تعيش حالة رفض, او تحفظ – على أقل الاحتمالات- من المراحل السابقة عليها.
الهوامش
1 – ديوان: ان بي رغبة للبكاء – احمد ضيف الله العواضي- منشورات اتحاد الادباء والكتاب العرب- عمُان سنة 1994: 25, 26.
2 – ديوان: نصف انحناءة- هدى أبلان- بدون بيانات: 27.
3 – ان بي رغبة للبكاء: 45.
4 – ديوان: بيننا برزخ من زجاج- أمين ابوحيدر- الهيئة العامة للكتاب- صنعاء سنة 1997:5.
) (ترومنت): أي صارت رومية
5 – بيننا برزخ من زجاج: 70, 71.
6 – ديوان : نصف انحناءة: 25.
7 – السابق: 19.
8 – ديوان: أول حرف آخر نبض- خالد غيلان العلوي- دار الفكر- دمشق سنة 1996: 79.