لماذا يعكف الغرب على دراسة الميراث المنسي من الثقافة العربية والإسلامية اليوم بالذات؟
في نهاية شهر ابريل 2004 دعيت من قبل قسم دراسات الشرق الأوسط الى الملتقى الذي يقيمه القسم كختام للسنة الأكاديمية. كان من ضمن المحاضرين الدكتور أمين نخلة، وهو أمريكي من أصل عربي يعمل كمستشار لشؤون الشرق الأوسط بالحكومة الأمريكية. كان واضحا ان الحكومة الأمريكية تحاول جاهدة أن تمول البحوث العلمية حول الثقافة الإسلامية وحول الشارع العربي الإسلامي لمعرفة الأسباب الخفية وراء "صمته تجاه ممارسات العنف والإرهاب التي تمارس بحق الشعب الأمريكي" كما ذكر المحاضر. وبعد عدد من الأسئلة التي وجهت الى المحاضر. طرحت الباحثة سؤالا أعقبه الصمت والحرج من قبل الحضور والمحاضر. السؤال يبدو شديد البساطة بالنسبة لأي أكاديمي ولكنه يفضح ازدواجية المثقف وجبنه أمام مواجهة دوره العلمي والتنويري بصرف النظر عن انتماءاته الوطنية والعرقية وميوله السسياسية أو مصالحه الشخصية. مالذي تريده الحكومة الأمريكية من تمويل البحوث لتوجيه الأكاديميين لدراسة المجتمعات المهمشة من قبل السياسة الأمريكية والغربية لعقود زمنية عديدة؟؟ هل الهدف هو الالتفات أخيرا الى ضرورة الاعتراف بوجود "الآخر" و إعادة الاعتبار إليه بعد أن تم انكاره وتجاهله وتجاوز الدور الحضاري الذي لعبه على الساحة الفكرية لقرون كان فيها وسيطا شريفا بين الحضارات البشرية وبين المجتمعات والثقافات والمدنيات المختلفة؟؟ أم هي مناورة جديدة للمزيد من الدراسات والبحوث لدراسة نفسية الآخر بهدف تحييده وتهميشه حتى لا يكون له أي صوت أو فاعلية في الثقافة المعاصرة تماما كما حدث في أوائل القرن الماضي الأمر الذي أنتج الصراع والتأزم الأمني العالمي الذي يعيشه العالم اليوم؟؟
حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي هزت العالم الغربي وأذهلت رجل الشارع بنفس القدر الذي أذهلت فيه المفكر الأكاديمي والسياسي المحنك رغم شراستها وتعقيدها لم تفلح في تنبيه و إيقاظ القيادة الأمريكية الى فداحة السياسة التجاهلية التي انتهجها العالم الغربي تجاه الشعوب المهزومة في أعقاب الحربين العالميتين. الحادثة العنيفة التي لها أبعاد وإيحاءات شديدة التعقيد قد لخصت من قبل رئيس الحكومة الأمريكية السيد جورج بوش جونير (الثاني أو الأصغر) بأنها "كراهية العرب والمسلمين للشعب الأمريكي ناتجة عن غيرته من الحرية والرفاهية والديمقراطية التي يتمتع بها شعبنا" مرة أخرى يعيد الرئيس بوش الى رؤوسنا قضية من أهم القضايا البشرية التي شغلت المفكر في كل العصور بصرف النظر عن الظروف التي أنتجت هذا المفكر. ضرب برجي مركز التجارة العالمية بواسطة طائرات مختطفة من قبل أفراد ينتمون الى أحزاب دينية تصنف بأنها مراجع للتخلف الفكري والحضاري هو بحد ذاته ضربة موجهة الى هذا النمط من التفكير الذي ينكر الآخر رفضا باتا مسرفا في إلقائه خارج الحسابات. مقولة الرئيس الأمريكي ليست إلا مقاوحة لاقتياد الرأي العام الأمريكي في نفس الوجهة الاستعمارية التي انتهجتها الامبراطورية الانجليزية لأكثر من قرنين" استخدام المفكرين والخبراء العرب لخدمة أغراض سياسية، اقتصادية وعسكرية تدعم سياسة غير متوازنة على المستوى العالمي قد أثبتت خطورتها المميتة من خلال الحادثة المذكورة. لقد استخدمت قوى "التخلف" نفس المنطق العسكري العنيف وضربت رموز "الحضارة" و "المدنية" بنفس العقلية التكنولوجية المعقدة البعيدة عن المنطق السوي والحكمة المنادية بضرورة التصالح بين الشعوب والثقافات البشرية إن كان هناك أمل في إنقاذ البشرية من الدمارالبيئي والعسكري.
نحن لم نلتق بابن لادن ولا بأفراد القيادة التي يتزعمها ولا نتفق معهم على مبدأ العنف الذي يكون ضحيته أبرياء ليست لهم أي علاقة مباشرة بالاضطهاد الذي يعانيه الشعب الفلسطيني أو الشعوب العربية والإسلامية المقموعة من قبل حكامها المتعاطفين أو المدعومين من الحكومة الأمريكية. ولكن لابد من الإعتراف بأن ابن لادن ما هو إلا ابن غير شرعي للحكومة الأمريكية التي تبنته لخدمة مصالحها في الحقبة الماضية. هذا الإبن غير الشرعي للحكومة الأمريكية وجد شرعيته في جذوره الإسلامية وانقلب على النظام الذي تبناه لسبب لا يخفى على الخبراء الأمريكيين. تثير الصحف الأمريكية اليسارية بين آن وآخر حقيقة ان عائلة ابن لادن وعائلة بوش ترتبطان بوثائق وأعمال تجارية. كذلك تلمح هذه الصحف بأن هناك شواهد موثقة بان أفرادا من القاعدة كان لهم أكثر من لقاء سري سواء في واشنطن أو خارج أمريكا وذلك قبل الحادثة المذكورة مما يثير الشك بأن توجه الرئيس بوش يعكس توجها أزليا لحزب اليمين الأمريكي وهو دعم الإمبراطورية الاستعمارية الجديدة.
زبدة القول ان أمريكا تضغط على المؤسسات العلمية خلال الأزمة المالية التي تمر بها هذه المؤسسات والناتجة عن اقتطاع جزء كبير من ميزانياتها، وذلك لإجبارها على توجيه البحث العلمي لخدمة الأغراض السياسية، الأمر الذي ترفضه بعض المؤسسات العلمية والجامعات المرموقة في أمريكا. التوجه لدراسة الإسلام والمجتمع العربي والإسلامي لن يكون قط بهدف التعرف الى "الآخر" وإعادة الإعتبار إليه كجزء أساسي من تكوين البشرية بمختلف طبقاتها الإجتماعية والثقافية والفكرية. على الأقل نستطيع الجزم بأن هذا لن يتحقق أبدا خلال سياسة بوش الذي رشح نفسه للرئاسة للفترة القادمة. وربما لن يتحقق هذا التوازن الحضاري المرهون بالأمن العالمي تحت سياسة الخليفة الجديد سواء كان منتميا الى الحكم الجمهوري أو الديمقراطي. فتاريخ السياسة الأمريكية يشير إلى أن الحزبين ليسا الا وجهان لعملة واحدة.
التساؤل المطروح هنا ليس تساؤلا سياسيا بقدر ماهو مسؤولية فكرية وحضارية. هل يجرؤ الأكاديميون الأمريكيون والخبراء الأمريكيون العرب على تنبيه الحكومة الأمريكية للخطر الفادح الذي ترتكبه الحكومات الغربية التي تعمل على إعادة المقولات والسياسات الإستعمارية التوسيعية القديمة التي أنتجت الصراع الفكري، الديني والاجتماعي الذي يعايشه العالم اليوم والذي من نتيجته الطبيعية حدوث التطرف الديني الذي أنتج العنف؟؟
بالرغم من الهدف السلبي وراء البحوث العلمية التي تبحث في الميراث الفكري الإسلامي، هناك إيجابيات أيضا لا يمكن انكارها. أهم هذه الإيجابيات هي إعادة الذاكرة الى المجتمع الإسلامي والمجتمع العربي حول أعلام وفلاسفة الفكرالإسلامي الذين نبذتهم شعوبهم لأسباب ومصالح سياسية وفردية دون توجيه أي اعتبار الى الرسالة الفكرية العميقة التي تنطوي عليها بحوثهم ومؤلفاتهم. ومن هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الحلاج وابن عربي. في هذه العجالة سوف أتعرض لابن عربي وذلك لميراثه المعقد الذي حير علماء الشرق والغرب والذي يعكف أساتذة الجامعات الأمريكية على دراسته وفك طلاسمه. لقد ادعى ابن عربي ان مقولاته هي شروح وتفسير للرسالات السماوية وانه قد استقاها عن طريق وحي وقد أقسم بأنه قد التقى بالرسول محمد (ص) وان الرسول قد منحه موافقته لتبليغ هذه الشروحات. هذا الرأي أثار حفيظة الكثيرين من المفكرين الإسلاميين وحتى المتصوفة في عصره وحتى أساتذته من المتصوفين الذين انصرف عنهم ابن عربي وخالفهم في توجهاته الفلسفية. لم يسع ابن عربي كغيره من المفكرين والقضاة في عصره الى منصب حكومي أو الى حظوة سلطوية بالرغم من تعاطف بعض الحكام معه. لقد تفرغ لرسالته الفلسفية وخص مجموعة صغيرة من تابعيه بما تنطوي عليه هذه الأفكار من جواهر نفيسة شبيهة بالطلاسم العسير استيعابها. رسالة ابن عربي ببساطة شديدة هي ان العلوم الباطنية لا تتنافر ولا تتضاد مع العلوم الظاهرية. وان وحدة الكون لا تتعارض مع الوحدة الإلهية بل إنها تؤكدها. إن تعاليم ابن عربي كما يقول الباحثون الغربيون تسبب الدوار لتعقيدها الشديد وصعوبة متابعتها بواسطة اسلوب التفكير العادي الذي اعتدناه. ان مقولات ابن عربي تفجر اسلوب التفكير النمطي وتأخذ القارئ الى طبقات كونية غير عادية. رسالة ابن عربي تعترف بأن العقل البشري غير قادر على إستيعاب فكرة الألوهية المعقدة وأن استيعاب هذه الفكرة تدعو إلى الكثير من المجاهدة والتأمل المتواصل الذي يفرض الانقطاع التام عن ممارسة الأنماط الحياتية الروتينية التي تخلق الصراع في ذات الإنسان نفسها عند كل موقف سواء كان بسيطا أم معقدا. الصراع مع "الآخر" ماهو الا امتداد للصراع مع الذات. وما تقدم مما شرحناه حول أزمة الحكومة الأمريكية اليوم ينطوي تحت قضية "الذات والآخر" والتي سنتعرض لها في مقالات ومواضع أخرى. حسبنا الآن أن نشير الى ضرورية فهم الفيلسوف الإسلامي محي الدين بن عربي الذي أصبح اليوم محط أنظار المفكرين العالميين. حسبنا في هذه العجالة أن نشير الى ضرورة تجاوز التعصبات الدينية التي أوقعت الفكر العربي والإسلامي في الركود والتخلف عن مسيرة الفكر البشري التنويري بهدف مصالح سياسية فردية مستترة هدفها الظاهري الإصلاح الديني وباطنها يفضح نفس المشكلة الأزلية "الآخر". القاء حق الآخر في التفكير الحر هو ضد منطق الإسلام. لقد نسى علماء الإسلام أو تناسو على مدى قرون بأن الإسلام كان ثورة على التقليد الفكري للآباء والأجداد. بدأ الإسلام كثورة فكرية تساوي بين الأجناس والطبقات البشرية ولذلك ما زال يحقق نجاحات منقطعة النظير في جميع أنحاء العالم. إلقاء "الآخر" وتهميشه بحجة ان "الآخر" غير قادر على التفكير او ليس له حق التفكير هو نفس المنطق الاستعماري القديم والحديث وانه نفس المنطق الذي حاربه الإسلام في بداية ظهوره.
كتاب ابن عربي في التراث الاسلامي المتأخر: صنع المخيلة الجدلية في العصور الوسطى للدكتور ألكسندر كنيش 1999 هو أحد المؤلفات التي أعتزم ترجمتها للجهد المكثف المبذول في انتاجه. لقد أمضى المؤلف حوالي سبع سنوات في إعداد بحثه حول ابن عربي وسافر الى عدد من دول المشرق والمغرب العربي والأوروبي جريا وراء مصادره المتنوعة والتي تشمل المؤلفات الفارسية، والتركية والأردية، والتتارية، والأزبكية، والماليزية وبعض اللغات الأخرى التي يتكلم بها العالم الإسلامي. يرى المؤلف بأن المؤلفات العربية حول إبن عربي موجودة في المؤلفات غير العربية ومعظمها دفاعات عن الفيلسوف أو أعظم الأساتذة كما كان يلقب من قبل معجبيه، وهي مكتوبة من قبل كتاب فرس، هندوسيين، أناضوليين وترك من آسيا الوسطى. وثانيا معظم كتابات العلوم الدينية وموضوعات الفكر الشائكة حول ابن عربي ومدرسته مكتوبة بالعربية لغة الصفوة من أساتذة القرآن. معظم النقاشات حول ابن عربي في المصادر الإسلامية غير العربية تشتمل على تعليقات موسعة أو مجرد نشر لأفكار ابن عربي ولا تعد مساهمات فكرية في القضايا الفكرية الشائكة التي يطرحها ابن عربي. كان هدف الكاتب رصد الكتابات التي تناقش فكر ابن عربي منذ بدايتها حتى الآن. ولكن في منتصف البحث أدرك المؤلف صعوبة تحقيق ذلك لأن كل قرن يضيف مئات المؤلفات حول فكر ابن عربي ولا يمكن متابعتها في كتاب واحد. والأعقد أن معظم الكتابات التي تم انجازها في العصور المتأخرة لا زالت غير منشورة وسوف تمر سنوات عديدة قبل نشرها وتصنيفها. لذلك يركز المؤلف على الكتابات المميزة التي تسهم في الخلاف الفكري الذي يطرحه ابن عربي.
ينبه المؤلف الى ضرورة فهم المؤثرات السياسية التي تبلورت في عصور معينة حول ابن عربي وخاصة دور بعض السلاطين العثمانيين في نشر أفكار ابن عربي وتبنيه كرجل الدين الأول للحكم العثماني. تواصل النقاش الفكري حول ابن عربي خلال حكم المماليك وحدث منع رسمي لتداول كتب ابن عربي لاعتباره متطرفا من قبل أستاذ وعالم عثماني يدعى كمال باشا زاد (940 هجري، 1534 ميلادي). كذلك يذكر الدكتور الكسندر كينيش بأن السلطان سليم الأول قد صرف منحة للعالم الإسلامي بمكة الشيخ أبو الفتح محمد ابن مظفر المعروف بالشيخ مكي، لتأليف اعتذار رسمي لأعظم الأساتذة وتبع هذا التقليد العديد من العلماء العثمانيين منتجين كما كبيرا من الكتابات الأدبية المؤيدة لابن عربي.
في القرن الرابع عشر الهجري وخلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلادي تم طرح أشكالية ابن عربي من جديد بسبب التطورات السياسية والعقائدية. لم تسلم الدول الإسلامية المختلفة كالمغرب العربي وإيران والهند ودول آسيا الوسطى من هذه الظاهرة. ففي الهند احتدم الخلاف بشكل عنيف بين مؤيدي وحدة الكون وهم موالون لابن عربي والجانب الآخر الذي يؤيد وحدة الاشهاد المخالفين لابن عربي. القضية الفكرية المذكورة بدأت من علاء الدولة سمناني (736 هجرى، 1336 ميلادي) وتم فيما بعد بلورتها بواسطة المصلح الإسلامي أحمد سيرهندي (1034 هجرية 1624 ميلادي). لماذا كان ابن عربي مهما لمجتمعات في غاية التنوع وفي حقبات تاريخية مختلفة إذا؟؟ كتاب الدكتور ألكسندر كينيش هي محاولة لطرح إجابة على هذا السؤال.
قيام الباحثة بعرض هذا الموضوع ناتج عن إيمان عميق بأهمية المراجعة الفكرية للتراث للاستيعاب الحاضر وللتنقيب عن أسبابه في الماضي السحيق. هل التخلف عن دورنا الثقافي والحضاري اليوم يعود الى شعور دفين بالهزيمة الفكرية التي تعرض لها عدد لا يستهان به من المفكرين العرب والإسلاميين على مدى قرون؟؟ هل الهزيمة الفكرية هي التي جرفت المفكر العربي والمفكر المسلم الى التخبط في مسارات بعيدة عن الهواجس الحقيقية التي تشغله ليأسه من هذه الأمة ومن قدرتها على حماية مفكريها وتأمين العيش الشريف لهم بعيدا عن سطو الحكم وبعيدا عن التملق والمجاملة التي تهدف الى إتقاء شر "الآخر". إذا كانت أسباب تخلفنا عن المشاركة في صنع الخطاب الحضاري اليوم ليست من اختصاص الحكام أو المفكرين أو علماء الدين أو الكتاب فجدير بنا أن نغلق صحفنا وأن نلغي أقلامنا وأن نغلق مدارسنا ثم بلا فخر أن نحفر قبورنا بأيدينا، إذ عار على المثقف أو المفكر النزيه أن يرضى بعيشة الكلاب حيث يتناول ما يتساقط من موائد الغرب ويعيد اجترار كل ثقافته وخطاباته الفكرية والعقائدية. هذا ليس للتقليل من أهمية الغرب لنهضتنا الفكرية و لا التقليل من ضرورة احتساب " الآخر" في صنع النهضة البشرية. اننا بحاجة الى الآخر لنحيا ولنواصل التقدم الحضاري بصرف النظر عمن يكون هذا "الآخر": أهو الجنس الآخر الذي أسقطته المجتمعات العربية والمجتمعات الإسلامية من حسابها؟؟ أم أن "الآخر" هو جارنا الأول أو السابع أم هو عدونا؟؟ ان "الآخر" هو القوة الأساسية والفاعلة لتفجير طاقاتنا سواء شئنا أم أبينا. أن فهم رسالة ابن عربي الظاهرية والباطنية سواء في الفتوحات المكية أو في فصوص الحكمة هي مجمل هذا المعنى. إنها دعوة للتأمل في "الذات" وفي "الآخر" باعتبار الآخر مكملا وضروريا للذات. قد يكون الآخر هو "الله" سبحانه وتعالى كما تنص عليه ظاهر الأديان أو الكون بأشمله بما فيه الذات وفكرة الألوهية كما تقود اليه أفكار ومقولات وشعر ابن عربي. هذه الرسالة حول ضرورة فهم ابن عربي موجهة الى القارئ العربي وغير العربي. انها رسالة موجهة الى الإنسان الحر في أي مكان من العالم بصرف النظر عن جنسه، جنسيته، انتمائه العرقي، السياسي أو الديني بأمل الخروج من الكهف السحيق الذي يسقط فيه الإنسان اليوم.. بهدف استيعاب "الآخر" كضرورة مكملة لفهم الذات و كضرورة للاستمرارية الحضارية على هذا الكوكب.
من هو ابن عربي؟؟
قلة هم رواد الفكر الاسلامي الذين تمتعوا بالشهرة التي حظي بها محي الدين بن علي العربي أو ابن عربي كما هو معروف في المشرق الاسلامي.
هكذا يبدأ استاذ التاريخ الاسلامي و رئيس قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة ميتشيجان بالولايات المتحدة الأمريكية والذي أمضى حوالي سبع سنوات عاكفا على تتبع آثار ابن عربي في المشرق والمغرب العربي خلال مراحل تاريخية مختلفة مر بها الفكر العربي والاسلامي. يستهل دكتور كنيش كتابه بسرد أحجية ابن عربي (538- و560 هجرية، 1240 – 1265م) الذي أثار زوبعة بين علماء وفلاسفة المشرق والمغرب، لم تهدأ لا في حياته ولا حتى بعد مضي قرون على وفاته.
بالرغم من أن هناك عشرات المؤلفات الأكاديمية ومئات من الموضوعات التي تولت شرح فكر ابن عربي، لا يزال ميراث ابن عربي يمثل أحجية تحير قراءه المسلمين وغير المسلمين. لا يزال ابن عربي يمثل تحديا فكريا للباحثين و خصوصيته الشديدة تتمثل في هالة الغموض والخلاف الذي يغلف اسمه خلال ما يزيد على السبعة قرون الأمر الذي جعله ذا جاذبية ليس للأكاديميين فقط ولكن أيضا من غير المتخصصين ومن بينهم جمهور واسع من مسلمي الدول الاسلامية ومن العالم الغربي.
نبذة عن حياة ابن عربي وأعماله:
محمد بن علي بن محمد ابن العربي كما كان يطلق على نفسه في كتاباته، أو محي الدين ابن عربي كما كان معروفا لدى مسلمي الشرق. ولد في عام 560 هجرية، 1165 ميلادية في مدينة مارسيا بالأندلس. في طفولته تعرضت دولة المرابطين التي حكمت المغرب والأندلس لما يزيد عن قرنين الى انقلاب بواسطة قوة بربرية جديدة هي المهدية. في خضم مرحلة التحول في السلطة كان والد ابن عربي الذي ينتمي الى أسرة عريقة نافذة، كان يملك منصبا حكوميا مهما في قضاء مارسيا تحت رئاسة والي يدعى ماردانيش. في ظل الحكومة الجديدة. بعد موت هذا الوالي انتقل والد ابن عربي وعائلته الى اشبيليا (اشبيلية) حيث تم تعيينه في الخدمة الحكومية بواسطة الوالي المهدي. تحت حكم المهديين تمتعت اشبيليا بنجاح غير مسبوق واصبحت بديلا عن قرطبة العاصمة القديمة التي كانت مركزا رئيسيا للثقافة والتعليم الاسلامي بالأندلس.
تمكن ابن عربي في يفاعته من الاستفادة من هذا الازدهار الثقافي الى حد بعيد، فقد تمت له دراسة العلوم الاسلامية التقليدية تحت رعاية أفضل علماء الأندلس في تلك الحقبة، وسريعا ما حقق نجاحا كبيرا في كل حقول الفكر خصوصا في العلوم الأدبية.
لم تتوفر معلومات كافية عن حياة ابن عربي غير العلمية والتي كان يشير اليها في المرحلة المتقدمة من مسيرته الفكرية بأنها غير ذات أهمية أو تأثير في الاتجاه التصوفي الذي أعقبها. هناك إشارات تذكر انه قد عمل كسكرتير لحاكم اشبيليا ولكن ليس هناك تفاصيل محددة عن المراحل الأولى لحياته والتي ظلت في حيز الغموض. هناك بعض التلميحات على لسان ابن عربي بأنه قد عاش حياة مرفهة كأي شاب يافع وثري ينتمي الى أسرة لها محتدها النبيل. هذا التلميح الخفي يشير الى حفلات البذخ واللهو والسمر والسهرات المخمورة التي يحياها رفقاؤه.
لقد حدث التحول الى الطريق الصوفي عند ابن عربي في فترة لاحقة بشكل مفاجىء وغير متوقع وبطريقة غير عادية، اذ ان ابن عربي قد بدأ يشعر بأنه تحت وطأة وحي يقوده الى نبذ حياته غير الربانية ويدعوه للتفرغ الى ما قد خلق له: وهو خدمة الرب. افترق ابن عربي عن أهل طبقته وبدأ حضور اجتماعات النساك والغوغاء المنبوذين من قبل علماء المسلمين وحاشية الحاكم لتصنيفهم كتنابلة جهلة او كمتسولين محتالين.
وبالرغم من سخرية صحبه السابقين واتخاذه موضوعا للتندر والتفكه لم يهجر ابن عربي اخوته الجدد في الله. كان تمسكه و اخلاصه وتفانيه لتحوله الجديد مشهودا له طيلة حياته. وبسير ابن عربي على نهج أصدقائه من جماعة الصوفية الباطنية، انغمس ابن عربي في حلقات الدروشة والتصوف الروحي التي كانت تسبق مراحل طريق المتصوفة. كان يشاهد في حالة مستمرة من الابتهال والتضرع لله. أصبح يداوم على السهر والصوم والنذور والعزلة و الاستغراق في التأمل في نفس الوقت لهذه الممارسات الصوفية العملية. سعى ابن عربي الى دراسة الميراث الصوفي الأدبي التقليدي الذي جدد على أيدي أساتذة الصوفية الباطنية في اشبيلية. و بشهادة ابن عربي (التي كانت تخدم المصلحة الفردية وغالبا ما تخضع للتناقض خاصة في التسلسل الزمني) كان ابن عربي يذكر بانه سريعا ما استوعب كل ما يستطيع استيعابه من صوفية اشبيلية وبدأ يتجاوز شبه الجزيرة الأيبيرية في بحثه عن طريق أكثر تقدما في التوجه الروحاني. طريقة بحثه المستمر عن المعرفة الباطنية قادته الى المغرب العربي حيث تمكن من الاستفادة من العديد من ممثلي الصوفية المغاربة المتقدمين الذين كانوا يسعون الى طريقة الصوفية التي أسس من قبل الشييخ الصوفي أبو مدين (594 هجرية، 1197ميلادية) الذي كان معروفا في الشمال الافريقي. وبعد ذلك، كما يقول ابن عربي نفسه انه استطاع ان يتجاوز أساتذته المغاربة في درجة التحصيل الروحاني وفي التمكن من التقاليد الصوفية. وبالرغم من صغر سنه استطاع الوصول الى درجة غير مسبوقة من الاستاذية الصوفية التي جعلت له مكانة شيخ صوفي متمكن محاط بحاشية مبجلة من المريدين والتابعين.
في سن الخامسة والثلاثين ترك ابن عربي الأندلس الى مكة لأداء الحج ولم يعد بعدها أبدا الى موطنه الأصلي الذي كان يتضعضع تحت وطأة الغزاة المسيحيين. واصل ابن عربي رحلته في المشرق وتلقى مزيدا من العلم على ايدي أشهر أساتذة الدين في عصره. لقد قضى سنوات عديدة في الحجاز ومنها زار فلسطين، وسوريا والعراق والأناضول. وأينما اتجه في تجواله كانت تصحبه جماعة من المريدين المخلصين والتي من ضمنها كان أشهر المروجين لتعاليمه. وبالإضافة الى دراسة الحديث – الذي كان شاغلا رافقه حتى المراحل الأخيرة من حياته – صار ابن عربي يدرس تعاليمه الخاصة لصوفية الحجاز والبقيع و قنا وسيوة وبغداد ودمشق. وبفضل علومه الباطنية والظاهرية المتميزة استطاع ان يجتذب الكثير من المؤيدين والتابعين الذين كان من بينهم بعض المسلمين النافذين في الحكم والسياسة والذين أغدقوا عليه وعلى مريديه بترف.
في سوريا تمتع ابن عربي برعاية أمراء الأيوبيين الذين خصوه بمنح مالية وعقارية. وفي الأناضول أيضا كون ابن عربي صداقات مع السلاجقة المحليين وحواشيهم، والذين كان من بينهم والد تلميذه السابق صدر الدين قناوي (673 هجرية، 1274 ميلادية). كان للعد الذي قضاه في المملكة السلجوقية أثره العميق على الحياة الفكرية لمسلمي الأناضول (رم) والذي أصبح مركزا مهما لتوصيل ونشر أفكاره الباطنية. وهناك أيضا كتب ابن عربي الكثير من أعماله الصوفية وقام بتدريب عدد من مريديه وتلاميذه. وفي نفس الوقت كان مستشارا ومرجعا لحاكم رم في القضايا الدينية والسياسية و ألف رسالة تتضمن نصائح عملية.
وبخلاف معاصريه الذين كانو يشغفون بالعطايا الحاكمية، كان ابن عربي ملتزما بصرامة بمبادئ الصوفية التى تنادي بنبذ السلطات الدنيوية حتى وان قبل أحيانا بالرعاية السلطانية فانه لم يسع لاقتناص فرصة او لتولي أي منصب حكومي لخدمة أي حاكم. ومن عام 620 هجرية، 1226 ميلادية حتى موته في 630 هجرية، 1240 ميلادية عاش ابن عربي في دمشق حيث تمتع بحماية الأيوبيين من العامة، و كان له أصدقاء من بين أصحاب النفوذ الديني في حكومة دمشق الذين كانوا يعدون أنفسهم بفخر من بين مريدي ابن عربي. وبفضل هذه العلاقات الوطيدة استطاع ابن عربي أن يبث تعاليمه الباطنية بحرية بالرغم من احتجاج بعض العلماء الاسلاميين في بعض الأحيان كما في حالة عز الدين ابن عبدالسلام. لقد ظلت حلقاته الدينية بشكل عام مقتصرة على حلقة ضيقة من تابعيه ومؤيديه المقربين الذين كانوا وحدهم القادرين على استيعاب خطابه الشديد التعقيد. بعد موته فقط حصلت تعاليمه الباطنية على جمهور أوسع من القراء.
لقد أحس بعض شيوخ وعلماء الدين المحافظين بالفضيحة في مواجهة تعاليم ابن عربي الجريئة وسارعوا بدمغها بالهرطقة وهذه النزاعات الفكرية هي موضوع الكتاب الذي نطرحه أمام المفكر العربي والعالمي في هذه العجالة.
في دمشق، كتب ابن عربي أعجوبته الفنية والفكرية "فصوص الحكمة" والتي تعد شديدة الذكاء بالرغم من صعوبتها الشديدة واسلوبها العصي الممتنع حول النبوة والمجالات الميتافيزيقية الغامضة وطبيعة الإيمان الديني. في هذه الأطروحة المقارنة تعرض ابن عربي لعديد من القضايا الدينية الإسلامية الحساسة وطرح وجهات نظره الميتافيزقية التي تظهر ميلانا قويا الى الشمولية. ولجعل الأمر أكثر سوءا، كان اسلوب طرحه يناقض ويعرض بكثيرين من أصحاب الفكر التقليدي من قرائه مما جعله يواجه أقسى الانتقادات.
وبجانب الفصوص، حرر ابن عربي الفصل الاخير من انتاجه الموسوم بعنوان "الفتوحات المكية" وهو كتاب متعدد الفصول قد بدأه خلال اقامته بمكة وتابع مراجعته حتى آخر مراحل حياته. كان هذا الكتاب يضم ملامح المذكرات أو اليوميات الروحانية الى جانب كونه موسوعة للعلوم الاسلامية التقليدية من منظور باطني. بهذين العملين العملاقين اللذين ختما حياة ثرية بالنجاح أسلم ابن عربي روحه بسلام في عام 638 هجرية، 1240 ميلادية محاطا بمريديه وأقاربه. ويعد ضريحه اليوم في ضاحية من ضواحي دمشق مزارا يجذب العديدين من المعجبين بعبقريته الوافدين من أبعد الجهات.
ابن عربي يعد بحق من بين أهم الكتاب المسلمين الأكثر انتاجا. ميراثه الفكري يحتوي على ما يقدر بثلاثمائة الى أربعمائة عمل. ويتراوح حجم العمل الواحد مابين صفحتين للمواضيع القصيرة الى مجلدات ضخمة كما في حالة العمل غير المكتمل حول التعليقات القرآنية والفتوحات. المواضيع التي طرحها ابن عربي في كتاباته شديدة التنوع. اضافة الى ذلك فإن تناول ابن عربي للموضوعات الاسلامية التقليدية كان تناولا فريدا حيث انه يطرح تلك المواضيع من زاوية شديدة الخصوصية والغرابة نابعة من منظوره الشخصي العميق حول رؤيته الخاصة حول الله وحول العالم. وللطرافة فان طرح ابن عربي يبدو كما لو انه غير مهتم بالموضوع كموضوع بقدر ما هو مهتم بدلالة هذا الموضوع أو علاقته بنسق القيم الأخلاقية والدينية والبصائر الكونية التي يريد أن يشرحها أو يزيل عنها الغموض.
وفي نفس الوقت، فان ابن عربي لم يقدم حسابات دقيقة لا تقبل الجدل حول تعاليمه. بالعكس كان خطابه مصاغا بشكل مقصود الى طمس جوهره. وبمحاذاة هذه الاستراتيجية الخطابية، حرص ابن عربي على رعاية مفرداته وأفكاره المفضلة في معاجم ومخيلة المدارس الإسلامية التقليدية وخاصة في علم الكلام وعلم الفقه. بالإضافة الى ذلك فانه قد احتجب وراء ستارة من المصطلحات والمفردات المستخدمة في الشعر العربي، في النقد الأدبي، في الميثالوجيا (علم الاساطير) وفي العلوم الغامضة (كالتنجيم والسحر).
في محاولة لتوصيل وجهة نظره الباطنية المراوغة وخبراته الفالتة للقراء يلجأ ابن عربي الى الرمزية حيث يثير المخيلة برموز توقظ صورا مصاحبة لها عوضا عن عرض قضايا محددة ثابتة. وبالرغم من انه يلجأ أحيانا الى القياس المنطقي، كان يعد هذا الاسلوب عاجزا عن توصيل أفكاره ذات الديناميكية(الحركة) المتدفقة التي تسبب الدوار والتي تميز أو تشخص رؤيته للواقع. وللتعويض عن عدم كفاءة القوانين المنطقية للتعبير عن مداخلات ابن عربي المتناقضة، جعل ابن عربي خطاباته مشحونة بالاستعارات والكنايات التي تدفع للذهول والتي تتحدى أي تفسير عقلاني. لذا فانه امر لا يدعو للعجب اذا كانت أعماله تصدم قراءه كمجموعة متجانسة من الثيمات. المقالات والمواضيع المتفاعلة والمتقاطعة في عدة درجات خطابية متوازية تتنوع ما بين الشعر والميثالوجيا والقوانين التشريعية والتأملات الدينية. وهذه هي نواة الملامح الرئيسية لمنهاج ابن عربي الإنشائي أو العرضي والذي في نفس الوقت مسؤولا عن الصعوبات التي يواجهها المرء في شرح أو تلخيص أفكاره.
الدراسات الحديثة لأعماله تشكك في التعميمات التي تصور ابن عربي كمفكر شديد التمسك بالباطنية بحيث أغفل تماما الجوانب الظاهرية للديانة الاسلامية. ومؤيدو هذا الرأي يرون أن الأكاديميين الغربيين غير عابئين بالجوانب الجلية (العلوم الظاهرة لأعمال ابن عربي وتحديدا انشغاله غير الخفي بالحديث والفقه ودقائق التفاصيل للطقوس الاسلامية. في رفض هذا الرأي الأحادي حول هذا المفكر العظيم، أشار الأكاديميون المراجعون لأعماله بأن الكثير من مواضيع ونظريات ابن عربي الباطنية هي تقليدية جدا في الواقع. بالتالي، كما تفيد هذه المقولة، النواحي الأكثر تقليدية من ميراث ابن عربي الفكري قد تم التقليل من شأنها من قبل كل من تابع ابن عربي ومعارضيه الذين كانوا يميلون الى التركيز على الجوانب الأكثر جدلا من أعماله.
وبامتحان دقيق لكتابات ابن عربي الظاهرية، نستطيع ان نتبين ان معالجته لبعض القضايا التقليدية كالجانب التأملي من علوم الدين والفقه يخدع او يناقض موالاته لأكثر أفكاره الباطنية خصوصيا وحميمية. وعلى كل لا يمكن للمرء الا أن يتفق مع المراجعين الدارسين بأن حقيقة ابن عربي كما هي في علومه الظاهرية لم تلق بعد الاهتمام اللائق بها. ولأهداف ونوايا مختلفة الحقيقة المجردة تشير الى ان تلاميذ هذا الأستاذ الشيخ الكبير سواء في الشرق أو في الغرب ما زالوا يعكفون على دراسة أفكاره الباطنية المغرية كما وردت في فصوص الحكمة، وذلك على حساب المواضيع الأكثر تقليدية في مسيرته الفكرية.
انه من غير المدهش للقارئ المسلم أو الغربي ان يظل الغموض يكتنف ابن عربي أولا وبشكل أساسي كتابه فصوص الحكمة الشديد التعقيد والغموض والذي يشمل الخلاصة الفكرية والوجدانية لمبادئ ومقولات ابن عربي وخطابه الديني والفلسفي. وعلى الرغم من ان كتاب الفتوحات المكية قد ضم تفاصيل أكثر وصار ينظر اليه كتلخيص لحكمة ابن عربي، فان هذا الكتاب مغرق في الاستطالة، مليئ بالمصطلحات، غير منظم أو غير متبع لمنهجية محددة ومليء بالتكرار بحيث لا يجذب سوى القارئ الشديد الولع بالبحث والتنقيب. بخلاف هذين الكتابين فان هناك احتمالا بأن القارئ المسلم فد يتمكن من الإحاطة بشعر ابن عربي المراوغ الذي لا يفصح عن الجوهر الحقيقي المعقد لمدرسة ابن عربي ومبادئه الفكرية. وكثيرا ما تستخدم بعض المقتطفات المجزأة من ديوان شعر ابن عربي والتي توشي بالأسى كدليل على خروجه المتطرف عن "الاسلام الحقيقي".
وبالنسبة لكتابات ابن عربي الأخرى فانها ليست معروفة الا من قبل مجموعة ضيقة جدا من المتخصصين. بعض هذه الكتابات ليست سوى مواضيع انشاء و مسودات غير مصقولة تم صقلها فيما بعد لدمجها في كتابه الموسوم "الفتوحات"
لقد انطوى اقتفاء مسيرة ابن عربي منذ الحقبة الأندلسية على تنبؤات موسعة وخفية حول ظهور المسيح المهدي كوحي الهي من "بيت النبوة" هذه التنبؤات تعكس انشغاله بالموروثات المسيحية والتي اشترك ابن عربي في الاهتمام بها مع أساتذة الصوفية المغاربيين والأندلسيين حيث قام بتطوير أفكارهم في كتاباته الأخيرة.
وبشكل مختصر، لا بد من الاشارة الى أن انتاج ابن عربي الضخم وشعره قد تم تجاهلهما بسبب الخلاف الذي أثاره كتابه الفصوص. انه لا يثير دهشتنا ردود الفعل المثيرة للجدل الفكري حول ميراث ابن عربي الفكري، ذلك ان كتاباته الاخرى تم تجاهلها بحيث انه نادرا ما يتم ذكرها. ماهو اذا جوهرالقضية المطروحة في الفصوص. السؤال غير بريء بالمرة كما يبدو في الظاهر. فحقيقة ان نص كتاب الفصوص يراوغ بعناد أي محاولة للتلخيص بحيث ان بعض المفكرين شككوا في كون ابن عربي يحمل قضية فلسفية يمكن فهمها بأي شكل من الأشكال. وباعتراف أحد الباحثين الغربيين فان ابن عربي "يزاوج بين الاساليب المتناقضة بحيث يجمع بين الاساليب التقليدية للمفكرين الإسلاميين الأوائل والتي تركز على التعاليم الروحية والتأملات، بين أساليب التفكير العلمي والفلسفي وبين التوسع المستزيد الذي تنتهجه الكتب السماوية والتعاليم النبوية بطريقة لم يتم تكرارها في الواقع مطلقا اوحتى تقديمها بشكل مقبول من خلال أي كاتب اسلامي لاحق". ففي الفصوص يفاجئ ابن عربي قارئه بخطاب يشد وثاق القضايا الدينية والقضايا الميتافيزيقية بطريقة مستميتة كما تنعكس في الميثالوجيا الشعرية المليئة بالمصطلحات الخارجة عن الخبرة العادية.
في كتاب الفصوص ينمي ابن عربي تجربته الشخصية المكثفة حول الله والكون من خلال استخدام خطاب مسترسل ينطلق من مصطلحات الكتب السماوية الى علوم التأملات الدينية والفقهية الى الشعر الرومانسي. وللمزيد من التناقض المدهش فان هذه السلسلة الخطابية ترينا نوافذ لا يمكن استبدالها أو التعويض عنها بسهولة: أن هذا الإسلوب الخطابي يعطي الوانا للرؤى والتجارب التي يغامر ابن عربي في محاولة ايصالها مما يجعل من العسير جدا التمكن من الفصل المرتب بين المحتوى وبين الشكل (أو الهيكل الذي يختاره الكاتب لتقديم فكرته). وحقيقة ان القارئ المتمكن قد يستطيع وضع يده على بعض الملامح المكررة التي قد يمتلئ بها خطاب ابن عربي السردي. مع ذلك فانه من المستحيل على القارئ التأكد من ان الموتيفات المكررة تحتفظ بنفس المعنى أو تؤدي نفس الغرض عندما تتم اعادة استخدامها في النص. بالعكس، ان القارئ يكتشف ان استخدام المفردات الجديدة ماهو الا مجرد قشور كلامية يعمل على صياغتها وتحويل معناها الحقيقي للتوغل في شرح الموتيفات القديمة نفسها. وبالطريقة ذاتها يحتار القارئ أمام الصياغات الجديدة فيما اذا كانت صياغات نهائية أم هي مجرد هياكل لتقديم أطروحات مستمرة في التجدد والتشكل.
هدف ابن عربي من خلال اسلوبه الخطابي المراوغ هو "أخذ القارئ خارج العمل نفسه الى حيث الحياة والكون الذي يعمل بمثابرة على محاولة تفسيره. يحقق ابن عربي هدفه من الكتابة عن طريق كسر قيود العادة البشرية في التصور من خلال دفع الإنسان الى النظر الى الأمور نظرة كالدوسكوبية تري الامور في حالة تغير دائم لا يخضع للثبات كما هو في الواقع الكوني غير المدرك من قبل الانسان. هذا المنهج يطلق عليه من قبل المفكر الغربي الجدل الصوفي".
تعليق الباحثة
مؤلف الكتاب الدكتور الكسندر كينيش يعمل حاليا رئيس لقسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة ميتشيجان وقد أمضى سبع سنوات متفرغا لإتمام بحثه حول المفكر العربي الشيخ محي الدين ابن العربي الذي يعد مفصلا رئيسيا في تاريخ الثقافة والفكر العربي والإسلامي. حيث ان انقسام العالم الإسلامي بعد موته الى مؤيدين ومخالفن قد خلق جرحا غائرا لم تتجاوزه الحضارة الاسلامية الى اليوم. لقد كان تكفير ابن عربي من قبل غالبية علماء الإسلام نهاية لفتح باب الاجتهاد وبالتالي بداية تقهقر الحضارة العربية والإسلامية في المشرق المسلم بجناحيه المشرق والمغرب وبالذات في فقدان السبق الحضاري وانطفاء نجم العرب في الأندلس لصالح بداية عصر جديد للنهضة الأوروبية وحمل مشعل التنوير في الغرب المسيحي بعد أكثر من ثمانية قرون من الريادة العربية والإسلامية.
* تطرق المؤلف الى التاريخ الصوفي وأعلامه وذكر أعمال بعض الباحثين المسلمين والعرب وكذلك الباحثين الغربيين الذين تطرقوا الى مراجعة آثار ابن عربي ومن بينهم جودكيوكز الذي قدم ابن عربي في كتابه (محيط بلا شطآن) كمسلم متزمت.
* ذكر المؤلف أن دراسته تسير في خط مواز للدراسة المتميزة التي قام بها ماسينون حول الميراث الفكري للحلاج فيلسوف بغداد المشهور والذي تم اعدامه في عام903 هجرية، 229 ميلادية دون أن يتطرق الى ان ظاهرة الحلاج التي استؤصلت قد ظهرت بشكل أكثر قوة بعد حوالي ثلاثة قرون لتطرح نفس القضايا الملحة التي تعرض لها المفكرون والفلاسفة المسلمون وغير المسلمين. بالرغم من ان ابن عربي لم يعدم في حياته كما أعدم مثيله الحلاج، فقد تم فعلا اعدام انتاجه الفكري بعد موته وعلى فترات متعددة من تاريخ الأمة الإسلامية. ومالم نستعد تراث هذه الأمة الذي قدره الاخرون أكثر من أهله فسوف لن تنتهي أزمتنا الفكرية التي تدفعنا اليوم الى الدوران في فلك الاستعمار الفكري والاقتصادي الجديد. ان مسيرة تاريخنا العربي والإسلامي الحديث لتوشي بالحقيقة المرة التي لا تقبل الجدل، الا وهي خضوع الفكر في هذه الأمة لأصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية وبالتالي لن تتوقف النكبات عن التوالي للقضاء على هذه الأمة ما لم تحسن فهم ثقافتها الاسلامية التي أرست قواعدها الأولى على الفكر والتأمل الحر في الكون ودعت الإنسان الى نبذ التقاليد المحرضة على الركود الفكري والعماء من أجل المصالح الآنية والدنيوية.
* ذكر المؤلف نموذجا جليا للجاذبية التي يتمتع بها ابن عربي في العالم الغربي وهي جمعية قد تأسست في اكسفورد عام 1977 يطلق عليها جمعية محي الدين ابن عربي. هذه الجمعية تضم في عضويتها أعضاء أكاديميين وغير أكاديميين من خلفيات مختلفة. هذه الجمعية ملتزمة بشكل خاص بنشر ودراسة وترجمة ميراث ابن عربي العلمي. ولهذه الجمعية فروع في تركيا وأمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا. ومن انتاجات هذه الجمعية مجلد تذكاري يضم ثماني عشرة مساهمة بواسطة أساتذة مسلمين وغربيين و هذا المجلد اهداء لتخليد ذكرى ابن عربي. للجمعية اصدارية باسم جورنال جمعية محي الدين ابن عربي ورسالة إخبارية تصدر في أكسفورد أيضا.
* هناك بعض الصعوبات التي لم يشر اليها المؤلف وهي أن ترجمة أسماء الأماكن والأشخاص من العربية، الفارسية أو التركية الى الإنجليزية وبالعكس قد تخلق مشكلة للمترجم وللقارئ. مثلا في الكتاب الذي نقدمه هنا، يذكر المؤلف في مواقع مختلفة مصطلح الشرق والغرب. ويحدث أحيانا أن يتم الخلط بين المغرب العربي في شمال افريقيا كثقافة عربية اسلامية وبين الغرب كمصطلح حديث نسبيا يشير الى الثقافة الغربية المسيحية والعلمانية. فيذكر المؤلف علماء المسلمين في الغرب فيفهم القارئ وخاصة الغربي على ان المقصود هو الغرب المسيحي وليس بلاد المغرب العربي. هذه الحقيقة وجدتها عند أحد المترجمين الذي ذكر ان العرب قد أصابهم الذهول بعد اعلان فوزالأستاذ نجيب محفوظ بجائزة نوبل. في المصادر العربية كانت نفس العبارة باضافة نقطة الغين، وهي ان الجمهور الغربي الذي حضر الاحتفال قد أصابه الذهول لسماعهم باسم نجيب محفوظ لكونهم يجهلونه تماما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لنفس السبب المذكور يجدر ذكر بعض المصطلحات الآتية:
منظار زجاجي لرؤية أشكال زخرفية في حركة مستمرة: Kaleidoscop
الجدل الصوفي او المعرفة الجدلية الخارجة عن النطاق المتعارف عليه:
Mystical Dialectic
عرض وترجمة: هدى المطاوعة (اكاديمية من البحرين تقيم في اوهايو بأمريكا)