هنا ترجمة لمقدمة كتاب المحاورات مع ترجمة فصلين من الكتاب:
تقديم آني إيرنو
منذ ست سنوات، وأنا وفريدريك إيف جانيت Frederic-Yves Jeannet ، الذي يقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، نتبادل المراسلات، الوفية والمتباعدة، في آن. في كتابه «سيكلون» (إعصار)، الذي صدر سنة 1997، تعرفتُ على الالتزام المطلق لكاتب في بحث موضوعُهُ، الجرح الحي دائما، يظهر ويختفي دونما انقطاع، كلّ جمالِ كتابةٍ تأخذ وتخلط بين نفس الموضوعات والأمكنة والمَشاهِد، في سمفونية باذخة ومُمزَّقَة. عملاهُ اللاحقان، عمل الخير (شاريتي)، وحديثا، «الضوء الطبيعي»، يُبرزان مواصلة هذا المشروع المتفرد، من دون مُساوَمة.
سألني فريدريك-إيف جانيت في السنة الماضي، أثناء قدومه إلى فرنسا، إن كنتُ أقْبَلُ أن يكون لنا لقاءٌ حول قضايا الكتابة وحول كُتُبي، باستخدام البريد الإلكتروني، مثلا. سيكونُ في الأمر كثير من الحرية من مدة محددة ولا غائية مضبوطة.
إن غياب الإكراهات وغياب اليقين من النهاية ومن الشكل المكتوب في النهاية عن هذا التبادل، أغواني. وأكثر من كل هذا كُنتُ أعرفُ أن فرديريك-إيف جانيت Frederic-Yves Jeannet ، بسبب طريقته في عيش الكتابة، سيكون مُحقِّقا مُنخَرِطاً في العمل، بشكل عميق. ولم يكن ثمة شيء، حتى في اختلافاتنا في وسائل مشاريع كلّ واحدٍ منّا، لم يبدُ لي مثل حظّ ونوع من الضمان. وأنا لا أحسنّي، في آن واحد، أكثر حرية وأكثر دقة في توضيح مساري، في المسافة وتباعُد وجهات النظر.
أثناء سنة تقريبا ومن دون انتظامٍ خاصّ، أرْسَلَ إليّ فرديريك-إيف جانيت Frederic-Yves Jeannet، عن طريق البريد الإلكتروني مجموعة من الأسئلة والتأملات. وكان من النادر بالنسبة لي أن أردّ، على الفور. وبين صيغة سؤالٍ مَا وما نعتقد كتابَتَهُ يمتد فضاءٌ مُقلِقٌ، بل ومُهدِّدٌ. أثناء لقاء شفوي، حتى وإن تمّ بصيغة بطيئة، نُجهِدُ أنفسَنا على تجاهُلِهِ وعبوره بشيء من السهولة والسرعة، يتعلق الأمر بمسألة تعوّد. أما هنا فأستطيع أخذ الوقت الكافي كي أُدجّن هذا الفضاء وأُخرِجَ، من الفراغ، ما أُفكِّرُ فيه وأبحثُ عنه وأُحِسُّ به حين أكتبُ- أو أحاول أن أكتب- ولكنه يظل غائبا حين لا أكتبُ. وكنتُ كلّما يأتيني الانطباعُ بالتقاط شيء مُؤكَّد، قليلا، أندفع في كتابة جوابي، مباشرة، على الحاسوب، من دون إشارات وبأقل ما يمكن من التصحيحات، حسب قاعدة العمل التي فرضتُها على نفسي.
وعلى طول هذا الحوار، لم يكن همّي إلاّ الصدق والتركيز، وإن كان ظَهَرَ لي أن التركيز كان أكثرَ صعوبة من الصدق. وليس من السهل تفسير أو تبرير ممارسة كتابةٍ ابتدأت منذ ثلاثين سنة، من دون توحيدها ومن دون حصرها في بعض المبادئ. وكذلك من دون السماح بظهور تناقضاتها التي لا يمكن تجنبها. وتقديم التفاصيل المحسوسة حول ما يمكن أن يُنتَزَع، في صفاء الزمن، من الوعي. إن ما يُجمِّع جُمَلَ كتبي، ويختار كلماتِها، هو رغبتي، ولا يمكنني أن أُعَلِّمها لآخرين ما دام أنها تنفلت منّي، أنا أيضا. ولكن يبدو أن بمستطاعي الإشارة إلى الهدف التي تتوخاه نصوصي ومنح «أسبابـ»ــي للكتابة. وإذا كانت هذه الأسباب تتعلق بالمتخيل فهذا لا يحرمها من كونها تلعبُ، بشكل حقيقي، على الشكل ذاتِهِ للكتابة. آمُلُ فقط أن أكون قد نجحت في التعبير عن بعض الحقائق الفردية والمؤقتة –بالتأكيد يمكن أن يُصحِّحَها آخَرُون- حول ما يَشْغَلُ حياتي كثيرا.
لقد جُلتُ، بفضول ومتعة، وبشكّ، أحيانا، الطرق التي فتحها، حسب الظروف، بعناد ومهارة، فريديريك-إيفجانيت Frederic-Yves Jeannet . فَهلْ ذهبتُ، مع ذلك، إلى مكان آخَر، كما عبّرتُ عن أمنيتي في ذلك، في بداية اللقاء؟ لا. وحدَهُ الهبُوطُ – مع الحب، ربّما- من دون حاجز النار (واقٍ) في واقع ينتمي إلى الحياة وإلى العالَم، كي نقتلع منه كلماتٍ ستؤدي إلى كِتَابٍ، يمتلك هذه السلطة. هنا، كتبتُ حول الكتابة، العالَم لم يكن موجودا. يوجد شيءٌ لا حقيقيٌّ في حكاية تجربة كتابةٍ من الصعب، في نهاية الأمر، البرهنةُ عليها. ربما تكشفُ عن نفسها بطريقة مختلفة. مثلا، هذه الصورة التي لا تمَّحِي عن تذكارٍ طَفح على السطح، مرة أخرى:
حدث الأمر، تحديدا، في ليلبون Lillebonne، بُعيْد الحرب. كنتُ في الرابعة والنصف من عمري. وحضرتُ لأول في عرض مسرحيّ، مع والديّ. حدث الأمر في الهواء الطلق، ربما في المعسكر الأمريكي. أُحضِرت عُلبة كبيرة إلى مكان العرض. ووضعت فيها امرأة وأغلقت العلبة بإحكام. وطفق رجال يثقبون العلبة من كل جهة بواسطة رِماح طويلة. دام الأمر فترة لا متناهية. زمن الفزع في الطفولة لا نهاية له. وفي نهاية الأمر تخرج المرأة من العلبة، سالمةً.
آني إيرنو
مثل كائن مستقل
* بالنسبة لحقيقة فعل الكتابة: تشتغلين عبر الإزالة والحشو، إضافة وحذف فقرات وجمل. هل يمكنك تقديم مجموعة من الأفكار عن الحشو والحذف، إن كانت على الأقل تتم بطريقة متشابهة وتستجيب لضرورة لا تتغير بالنسبة لجميع نصوصك؟ ماذا تحذفين؟ ماذا تضيفين، وكيف؟ تبدين على طرفي نقيض من استعمال «القصاصات»…
مخطوطاتي تشبه مرقعا – أكثر فأكثر- كل ورقة تتضمن فقرات، مليئة بالإضافات، فوق الكلمات، بين السطور وعلى الهامش، بأقلام بجميع الألوان، بقلم رصاص أسود في بعض الأحيان. مكان هذه الفقرات ليس ثابتا، لذا وجود إحالات إلى صفحات. إلى الورقة عشرة مثلا يمكن أن تضاف ورقة عشرة مكرر وثلاث ورباع ( لم أذهب بعد أبعد من هذا). وحديثا جدا بدأت أستعمل المثبتات، لكني أتوجس من جانبها سريع الزوال، لأني أود الاحتفاظ بكل شيء : ما لا يعجبني اليوم قد يروقني غدا.
كل هذا يتوافق مع طريقتي في الكتابة عندما أكون منغمسة في المشروع، منغمسة في بنائه: التقدم ببطء من جهة، ومن جهة أخرى إضافات بلا توقف، إقحام أشياء تحضرني عندما أكتب، أو في أي وقت، في حياة كل يوم. القليل من الحذف. لكني أحذف كثيرا في المرحلة النهائية، عندما أكتب النص على الحاسوب (هذا منذ سبع سنوات، من قبل كنت أستعمل الآلة الكاتبة، التي تحد بالضرورة من عدد التصحيح والتراجع). غالبا، عندما يكون النص مطبوعا، وأعود للمخطوط، أتساءل لماذا أزلت هذا الشيء أو ذاك، لا أستطيع تفسير ذلك. أشك إن كان النقد الجيني يستطيع فعل ذلك، لأني في هذا العمل الأخير حول النص، أستجيب لنوع من الحاجة، يكون فيها الكتاب متصورا في كليته، مثل كائن مستقل، أشكل معه وحدة كاملة. حاجة تختفي عندما يتم الانتهاء من الكتاب وطبعه. لذا عدم فهمي لحذف بعض الأشياء.
* الملاحظات عن الكتابة، عملية الذاكرة، عن النهج، استرجاع الذكريات، الموجودة بكثرة في كتبك ما بعد الرومانسية، هل هي لاحقة، استعادية، أو مصاحبة لتحرير النسخة الأولى التي تحتفظين بها أحيانا لفترات طويلة قبل أن تقومي بإنهائها ونشرها؟
الملاحظات التي توجد في كتبي منذ (المكان) تحضرني وأنا أكتب، هي ليست لصيقة بالنص، الذي ترتبط معه برباط قوي، وليس مع نص آخر. (الحدث)، هو سرد عملية إجهاض وسرد كتابة عملية إجهاض، مع مشاكل الذاكرة، سرد الدلائل. لم أكن أستطيع أن أقدم كل هذا عن لحظة أخرى من حياتي، أود أن أقول عن لحظة أخرى غير تلك التي كنت أكتب خلالها هذا الكتاب. هنا أيضا يتعلق الأمر بالحقيقة، بـ «دليل» : هذا ما أنا بصدد تجربته، هذا ما يعبرني. أن أقوله في « الوقت الحقيقي» ، في اللحظة التي أحسه بها. هذا ما حدث في بداية (العار)، حيث أحلل ما حدث لي بعد أن كتبت لأول مرة الحادثة المؤلمة لسنتي الثانية عشرة. هذا جزء من الكتابة كاستكشاف، رغم أنه ليس بالضرورة أكثر شيء يهم القراء. في (الاعترافات) يعدد روسو تفاصيل غرفة الدراسة عند بوسي التي يتذكرها، بارومتر، طباعة، جدول تقويم، ذبابة تحط على كفه. يضيف، «أعرف جيدا أن القارئ ليس في حاجة كبيرة لمعرفة كل هذا ؛ لكني أحتاج، أنا، لأن أقوله.» أنا أيضا أحتاج أن أقول الأشياء التي تحدث وأنا أكتب، الأشياء التي لا يحتاجها القارئ بالضرورة.
كتابة الحياة وعيش الكتابة
* في مواجهة الخلط بين الحياة والعمل الذي يقوم به بعض القراء، ورغم غياب التخييل في كتبك الحالية على ما يبدو (يوجد تحويل رغم ذلك : الأحرف الأولى، التفاصيل الطبوغرافية)، هل ستكررين مع بروست عندما يقول : الذي كتب هو( أنا ) آخر؟ ( أنا) تكتب وتعيش في وقت آخر، فضاء آخر غير فضاء الحياة اليومية؟ ( أنا) ستفلت من الحكم، « كما – كتبت في (الاحتلال) – لو كنت سأكون غائبة عند ظهور النص… كما لو كنت سأموت، ألا يوجد قضاة».
سأحاول، ربما ليس تفسير، ولكن عرض هذه المفارقة. من جهة، الحاجة الملحة التي أحسها، مثل ليريس، إلى « قرن ثور»، إلى الخطر في ممارسة الكتابة. هذا الخطر الذي ذكرت سابقا ضمنيا نوعيته الخيالية لكن الذي « يوجهني» حقا، أجده وأنا أقول « أنا» في كتبي، « أنا» تحيل صراحة إلى شخصي، رافضة كل تخييل. كان من الصعب، من « الخطير» – ولفترة طويلة تخيلت ذلك مستحيلا- ذكر فعل جنون والدي عندما كان عمري اثنتي عشرة سنة، لكني، فعلت ذلك يوما. هذا يدل على أن الأمر يتعلق بي «أنا» فعلا. بنفس الطريقة، وأنا أقرأ مذكراتي، مثلا الجزء الذي نشر تحت عنوان (الضياع)، أعرف أن الأمر يتعلق بالمرأة التي كنت خلال تلك السنوات، والتي وفقا لبعض الجوانب مازلت هي بلا شك. لكن، من جهة أخرى، أحس الكتابة مثل استحالة، مثل استحالة ما هو منتم للمعيشي، وللـ «أنا»، إلى شيء يوجد خارج شخصي تماما. شيء لا مادي ومن هنا متملك، ومفهوم، بأقوى معنى لـ «الإمساك» من طرف الآخرين. هذا ما ظهر لي عندما كتبت (الاحتلال): كنت أحس، وكنت أعرف، أنه في اللحظة التي أكتب فيها، لم تكن غيرتي هي التي توجد في النص، لكن الغيرة، تعني شيئا غير مادي، شيئا محسوسا ومقروء يستطيع الآخرون تملكه. لكن هذا التحول لا يتم من تلقاء نفسه، هو نتاج الكتابة، طريقة الكتابة، ليس كمرآة للأنا بل كبحث عن حقيقة خارج الأنا. و – ربما كانت طريقة لتخطي المفارقة – هذه الحقيقة أهم من شخصي، من الهم التابع لشخصي، مما سيقال بشأني، تستحق، وتفرض أن أتحمل المخاطر. ربما كنت أظنها لا تتأتى إلا مقابل الخطر…
* قلتِ لي إنه من الصعب تقديم تقرير عن فعل الحياة الحاضرة في إعداد نص ما ( يمكن أن نصل إلى حد قول: تفاعل بين اليومي والكتابة، لأن هذه الأخيرة تغير أيضا الحياة في المقابل). تذكرين رايموند كارفر، الذي « يشرح في اللقاءات – المفيدة جدا إذا !- كيف أن لعب أطفاله في شقة صغيرة كان يمنعه من الكتابة، وأن اختيار القصة القصيرة يستجيب لعدم توفر إمكانية التركيز لفترة طويلة على نص طويل»، وتضيفين: « لاحظوا أني لم أتحدث كثيرا، عن تداخل اليومي والكتابة، عن صراعهما، العنيف في بعض فترات حياتي !» ربما كانت هذه الوضعية ملازمة لظروف الفنان المعاصر، لـ«الحكم عليه» ( الذي يعتبر أيضا فرصة ) بمجابهة الوظيفة والفن والحياة اليومية في آن واحد؟ ماذا ستكون العناصر والظروف المادية التي خضع لها تبني الشكل المختصر للقيام بإنجازاتك؟
لقد أثارني ما قاله كارفر – الذي تعجبني أعماله كثيرا- لأسباب عديدة. في البداية، الطريقة البسيطة التي تحدث بها عن حياته المادية، لتحديد أهميتها الحاسمة في كتابته، باختيار النص المختصر، القصة. ربما ليس العنصر الوحيد المحدد، لكن على الأقل هو لا يقوم بإخفائه. في فرنسا، نفضل في الغالب تفادي هذا الموضوع بعناية. من جهة أخرى، يذكر – الشيء النادر لدى كاتب رجل- صراخ ولعب أطفاله، الذين عليه أيضا الاهتمام بهم، والذين يعيقونه عن التركيز. هذا يرجع بي إلى مرحلة من مراحل حياتي، بين الخامسة والعشرين والأربعين، عندما كان من الصعب علي مواصلة الكتابة المتواصلة، كانت حياتي هي الحياة التي تعيشها العديد من النساء الشابات اللواتي ينعمن بكل مظاهر الحرية والسعادة: العمل في الخارج ( التدريس)، الاهتمام بالأطفال (اثنين)، شراء لوازم البيت وتحضير الوجبات. عندما لا نعرف متى سنحصل على ساعتين أو ثلاث ساعات من الهدوء للكتابة، إذا حصل هذا، يمكن أن نتعرض في أية لحظة للإزعاج، لا يمكن أن نغوص حقا في عالم آخر. أو مقابل صراع دائم مع النفس كي لا نستسلم. بالإضافة إلى كوني مأخوذة في ترتيب عائلى ومهني من جهة ومن جهة أخرى معرضة للصعوبات المرتبطة بالكتابة، لم أكن قادرة على تحديد ما إذا كان تنوع المهام هو الذي يشتتني، أو أن ما ينقصني هو الوقت أو القوة والقدرة على الكتابة. في بعض الأحيان كنت أتساءل عما إذا كنت أفسد حياة من حولي، زوجي وأبنائي. لم أكن أتساءل عما إذا لم يكونوا هم من يفسد حياتي. .. مرتين، في تلك الحقبة، غادرت بيتي لمدة شهر، انعزلت تماما، من أجل أن أكتب. كنت حريصة على ذلك، وكنت أحس بالذنب رغم ذلك، إحساس بالذنب عرفته من قبل، لكن بدرجة أقل، عندما كنت أحضر امتحانات التعليم، وأطفالي صغار. باختصار، لم أكن أفلت تماما من تخيل ما له الأولوية بالنسبة للنساء، الإحساس بلا شرعية تعاطي نشاط لا يخص عائلتي ( في حين أن النجاح في أحد الامتحانات، كان له عائد مادي على العائلة).
بعد ذلك، وأنا مطلقة، وأعيش وحدي مع ولدين أصبحا مستقلين شيئا فشيئا، لم يكن أمامي من عقبة سوى التعليم عن بعد، الذي ولجته في نهاية السبعينات. سلسلة الدروس التي كان علي تحضيرها والأوراق التي علي تصحيحها كانت تتطلب الكثير من الوقت، لكني كنت قادرة على اختيار ساعات العمل، والأيام، ترف حقيقي…
أن تكون المعوقات المختلفة قد أثرت في مدة كتابة نصوصي، ووتيرة نشرها، أنا متأكدة منه. في حين يرتبط إيجازها، بدءا بـ (المكان)– الذي تزامن وقت كتابته مع نهاية حياتي الزوجية وبالتالي وقت أكثر -، بإعادة تفكير حول الكتابة، بتغيير فيها، سبق أن تحدثت عنه. كتابة موجزة، بطيئة أنا فيها إلى أبعد حد. لكن، من إحدى النواحي، إعادة التفكير تلك، تلك الكتابة وذلك الإيجاز هم نتاج ظروف مادية، نتاج الحرية الكبيرة التي أصبحت أنعم بها.
لا أستطيع أن أقرر إن كانت ضرورة وجود نشاط ذي عائد مادي، مما يعني وقت ليس فقط لا يحسب على الكتابة الفعلية لكن أيضا على الهاجس الذي تسببه، نعمة أو نقمة. الاختيار هنا : العيش من الكتب ( القليلة في البداية)، إعالة من الدولة ( عن طريق الحصول على مساعدات، منح) أو بفضل زوج، أو عشيق، أو امرأة، يكسبون ما يكفي لاثنين – أو وجود وظيفة. يبدو لي أن الحل الأخير يمنح فرصة أكبر لضمان استقلالية الكتابة والاستقلالية الأكبر بالنسبة للحقل الأدبي. لكن السؤال لا يكمن هنا فقط، على ما أظن. هو أيضا في العلاقة التي نقيمها مع الكتابة، مع المال والكتابة، في نوعية الإشباع الذي ننتظره من الكتابة، ومن القراء. أدركت بسرعة أني لا أستطيع الكتابة إلا في وجود حرية تامة، ألا ينتظر مني أحد شيئا في تاريخ ما أو من نوع ما. لذا بحفاظي على وظيفتي في التدريس بالتزاماتها، لكن أيضا بالأمان المادي الذي توفره، استطعت متابعة الكتابة، تفضيل الاستكشاف مع عدم اليقين الذي يعنيه.
يجب أن أقول أيضا أن لا شيء يثبطني أكثر من أن أحس أني عديمة الجدوى. أني لم أقم بأي شيء خلال يومي. بوجود وظيفة تتطلب مني القيام دوما بشيء ما، والتي تمنحني الإحساس بالمشاركة مباشرة وآنيا في العالم، من خلال تكوين الشباب فكريا، تتيح لي الإفلات من الإحساس البئيس بأني ضيعت وقتي من أجل ثلاثة أسطر، أو من أجل لاشيء، طيلة صبيحة كاملة، والإحساس بأني لاشيء لأني لم أفعل شيئا. أن أضطر إلى ترك ما أفعله لبعض الوقت يبدو لي شيئا مفيدا من ناحية البعد عن النص الذي أنا بصدد كتابته.
* «أكتب قصص حبي وأعيش كتبي»، نقرأ في (الضياع). هذا التفاوت الدائم وهذا التزامن المتناقض بين كتابة الحياة وعيش الكتابة هل هو ملازم للكتابة التي «لا تكذب» (التعبير لـهيلين سيكسوس)، للتناضح الذي يحل، لمن يكتب، بين الحياة «الحقيقية» وتلك التي لا يمكن إدراكها إلا عبر الكتابة؟
هذا التفاوت وهذا التزامن المتناقض – المصطلحات دقيقة للغاية – اللذان أحس بهما، وأنت كذلك، لا أستطيع أن أقول إن كانا بنفس القوة لدى كل من يكتب. حتى بالنسبة لي، توجد في الحياة اليومية لحظات لا تكون فيها الكتابة موجودة على شكل فكرة أو رغبة أو إحساس. حيث أكون في متاهات أخرى، قد تكون نقاشات – لكني لا أحب تلك التي يقال عنها أدبية – البحث عن أشجار الورد من أجل غرسها، أو حقيبة يد وطبعا كما فعلت إلى حدود السنوات الأخيرة، تحضير الدروس كتابة، تصحيح أوراق الفروض. لكني أظن أنه بشكل شامل فعل الكتابة يعطي للحياة شكلها. ينطبع لدي في بعض الأحيان إحساس أني أعيش على مستويين في آن واحد، مستوى الحياة ومستوى الكتابة.
في الجملة التي تذكرها « أكتب قصص حبي وأعيش كتبي» يتعلق الأمر، مرة أخرى، بهذا التقارب والتبادل، الذي يتم بصورة متواصلة، دون علم مني، في حياتي وفي كتبي، بين الحب، والجنس، والكتابة، والموت أيضا. بهذا الكفاح أيضا.
* كتبت أيضا في (الضياع)، سنة 1990، إن «احتمال الكتابة» في لحظة ما «يرعبك». غالبا ما ينتابني إحساس بالاشمئزاز، أمر رهيب لمن يخصص جزءا كبيرا من حياته لهذا النشاط. هذا المرور عبر التثبيط هل يتيح، بعد أن يتم تجاوزه، الوصول إلى مستوى آخر؟
احتمال الكتابة شيء أرعبني 1989-1990 لأني مهووسة تماما برجل، والكتابة بالمسافة التي تفرضها لا يمكن إلا أن تبدو صحراء، اقتلاعا فظيعا. الشغف حالة استمتاع تام وانغلاق في الحاضر. الكتابة ليست حالة، الكتابة نشاط. فقدان الذات الذي يوجد في الاثنين، ما أبحث عنه بلا شك، لا يؤدي إلى نفس النتيجة.
عند موت والدتي، أحسست أيضا ببغض تجاه الكتابة. ثم أصبحت الكتابة ملاذا، أحييها بشكل تاريخي، أنقذ نفسي وأنا أنقذها، نوعا ما.
لا أعرف الاشمئزاز من الكتابة، ولا حتى التثبيط، لكن شكوكا وغياب الرغبة في الاستمرار، ثم الاستحالة. لا أستطيع أن أقول إن كان ما أسميه عصاب البدايات – لأن التجميد يحصل دائما في البداية- يملك قيمة ما، إن كانت ضرورية… فهي فقط إشارة. إشارة إلى أن شيئا ما لم يتم التوصل إليه، وأنه من الأفضل الشروع في شيء آخر.
الورش الذي تحدثت عنها مليئة بأشياء غير تامة مؤقتا، بدايات أعمال مستقبلية.
ترجمة زينب المزديوي
باحثة ومترجمة من المغرب