ينتهي الفنان اخيرا الى رؤية الأشياء بتواضع تام وخالص حتى لينسى نفسه
لاشك ان هذه التصورات الخيالية موضوعة ومنسقة بشكل جيد. لكن هل بذل مؤلفوها كل هذه الجهود للسيطرة على الناس واسرهم؟ لا أحد يشك بأصالة مايضيئه العقل، ففيه نتعرف على حقيقة ما…لكن الحياة الانسانية في تعقيداتها تظل هي الحياة الانسانية، لأن الحقائق كالأكاذيب تتركنا في حيرة واضطراب.
لاتكاد تلفظ هذا الاسم لأي ياباني متوسط الثقافة حتى يسرع، وباعتزاز شديد، الى القول انه يعرفه وقد قرأ له على الغالب مقاله المعروف »طريقة نظري الى الحياة«، الذي نقدمه متأخرين جدا للقارئ العربي. ولكم يستحق هذا الكاتب والناقد والمترجم والمثقف ان تنقل جميع كتبه الى العربية، لكن المرء لايقدر على نقل كل مايطالعه او يصادفه ولابد من اختيار الاقرب الى الاهتمام الشخصي.
ينتمي هِيديو كوباياشي، المتخصص بالادب والفكر الفرنسيين، الى جيل عاش بناء اليابان الحديثة في النصف الاول من القرن الماضي وعاش هزيمتها في الحرب الكونية الثانية، واخيرا نهضتها المذهلة المستمرة حتى اليوم. ولاشيء يلخص تاريخ اليابان في القرن العشرين ولحد الآن كما تلخصه أسطورة طائر الفينيق، او طائر الشمس، كما يُسمّى في بلادهم، الذي ينبعث من رماده اكثر جمالا وبهاء وقوة.ان كوباياشي من الجيل الذي برع في نقل الحداثة وفي يبننتها، او تجاوزها كما يحلو لبعض المثقفين اليابانيين ان يقول عن اليبننة. كان له، وعلى امتداد نصف قرن، نفوذ لايضاهى في الوسط الثقافي الياباني : ناقد ادبي بارع لجميع أنواع الفنون في اليابان من القديم الى الحديث، اذ يعي الشخصية اليابانية وحساسيتها وعيا ملموسا تعبر عنه عشرات الكتب ومئات المقالات، بما فيها مقال اليوم؛ ومترجم اندريه جيد وفاليري وبودلير وبرغسون وألان وغيرهم الكثير الى اللغة اليابانية ترجمة يشهد لها اليوم مئات الآلاف من القراء، كي لانقول الملايين فلا يصدق أحد مع ان الامر في اليابان عادي جدا لانعدام الامية منذ مطالع القرن العشرين، والتركيز المذهل على البناء الثقافي للمواطن الياباني.
محاضرة تشرين اول، اكتوبر، 1948
يقول نينوميا ماسايوكي، المتخصص بـ»هِيديو كوباياشي«، والذي نقل الى الفرنسية بعض اهم نصوصه وارائه، من بينها »كيف أنظر الى الحياة«، ان كوباياشي عندما ألقى هذه المحاضرة وبهذا العنوان سنة 1948 بمدينة أوساكا، كانت اليابان تشهد مرحلة تغيرات جذرية على صعد أساسية متعددة، ولاسيما في مجال الإصلاحات الدستورية المتتالية لتحديد موقع المواطن الياباني في النظام السياسي والاجتماعي، فجاء الدستورالجديد ليؤكد على سيادة الشعب وقيام نظام برلماني على اساس انتخابات مباشرة يشارك فيها جميع المواطنين ذكورا وإناثا بلا تمييز، وليقلص دور الامبراطور السياسي الى مجرد رمز للدولة؛ كما تؤكد المادة التاسعة منه بوضوح تام على توجه اليابان السلمي والاقلاع النهائي عن التسلح. الى ذلك كله، اعتبر السياسيون والعقائديون المسؤولون عن التورط في الحرب مجرمي حرب وقدموا الى محكمة طوكيو حيث اعدم منهم سبعة في تشرين الثاني، نوفمبر، سنة 1948.
في مثل هذه الظروف الاستثنائية، حيث باتت القيم الجوهرية موضع شك او إلغاء ونكران، كان الكتّاب يتساءلون، ويطرح كل منهم بطريقته السؤال الاساسي التالي : كيف نعيش، او كيف انجو لأعيش ؟. اجاب البعض بتثمين القوة الحيوية لدى من يريدون النجاة والعيش بأي ثمن كان، وتأكيد اولوية الامبراطور واهمية ثقافة المحاربين وجميع المبادئ التي ظلت تفرض حتى الايام الاخيرة من الحرب والتي سرعان ماسقطت… واجاب البعض بالانتحار كالروائي المعروف اوسامو دازاي وغيره ممن لم يقدروا على احتمال هذه التغيرات المفاجئة. اما اعمال الروائيين، الخارجين على القانون كما كانوا يعرفون، فقد استقبلت بحرارة وشغف من قبل اجيال تتلمس طريقا جديدة في خضم هذا العالم المتحول.
كان هيديو كوباياشي، في هذه الاثناء، يتابع انجاز مشاريعه النقدية وفق منطقه الداخلي الخاص من دون ان يجرفه التغير المفاجئ للظروف الخارجية، لأنه كان مقتنعا قناعة تامة ان الفن، اي فن، يُلخّص بكلمة واحدة هي: النظر، الرؤية، وان اهم مايفاجئ الفنان هو رؤية العالم كما هو، ورؤية العالم كما هو لايمكن ان تعني الا شيئا واحدا : ينتهي الفنان اخيرا الى رؤية الاشياء بتواضع تام وخالص حتى لينسى نفسه.
كانت هذه الفكرة قد تجلت لديه، في البداية، على شكل نقد سلبي لمن لايعرفون »رؤية« الواقع كما هو، وكان لايكف عن استنكار المواقف الايديولوجية المسبقة التي تحول بين مواطنيه وبين رؤية الواقع، ثم يوضح كيف نظر هو الى العالم بهذا التواضع الضروري لكل مقاربة أصيلة، وبالتالي كيف كشف العالم له، بتعدد الايام والاشياء، حقيقته الشعرية.
كانت اليابان تحاول وبصعوبة النهوض من بين أنقاض »حداثتها«،عندما عرض هيديو كوباياشي في هذه المحاضرة اهمية فعل الرؤية وضرورته، ليس بالنسبة الى الفنان وحسب بل بالنسبة لأي انسان. يسهب في عرض موقفه الجوهري من الفن والحياة مرتكزا على امثلة عديدة لدى من يعرفون رؤية العالم بشكل اصيل. كانت مداخلاته في السابق موجزة غالبا وغير حاسمة؛ لكن يبدو في هذه المحاضرة وكأنه، بشمولية حديثة وتعدد المجالات والميادين التي يتناولها بصبر وحبور، اراد المشاركة في الجهد الجماعي الكبير لإعادة البناء وعودة اليابان. تشكل هذه المحاضرة نتيجة ومآل سنوات من البحوث الجمالية والفلسفية والاخلاقية. والنص المنشور ليس، بالطبع، مجرد نقل الخطاب الشفهي الذي ألقي امام الجمهور؛ فالكاتب نفسه يشير مرات عديدة، وفي غير موضع، الى الفرق الطبيعي الفاصل بين الكتابة والكلام. ويتجلى في هذا النص اسلوب الكاتب البارع في الدمج بين رشاقة العرض الشفهي وبين المتانة المكتسبة بفعل الكتابة.
يتوجه هيديو كوباياشي الى قارئ مثالي، غير انه يحاول الاحتفاظ بميزات التماس الحيوي الذي ينشأ خلال المحاضرة، ومن هنا الدوزنة البارعة بين النبرة اللطيفة كما لو انه امام الجمهور، وبين ميزات اسلوب »عار« (حيادي) كما لو انه يفكر في العزلة لوحده.
1. طريقة نظري الى الحياة
عندما طلب إلي، في المرة الاخيرة، ان احاضر هنا، كان العنوان هو نفسه اليوم : طريقة نظري الى الحياة. لم أكن، وبسبب مرض مفاجئ، قادرا على الالتزام، الامر الذي اربك اصحاب الدعوة ايما ارباك. لكن احسست من جهتي ان مكابدة الالم، وبشكل اناني، اسهل عليّ من القاء محاضرة. اما هذه المرة، وللاسف الشديد، لم أصب بأي مرض مفاجئ، وها أنا امامكم بقلب يملؤه الغم.
لا أحب اعطاء المحاضرات، مع انني اعطيت ولحد الان عددا لابأس به. لكن والحق يقال لم اعط واحدة بملء ارادتي؛ اعطيتها جميعا لاحترام بعض الواجبات الاجتماعية والشخصية.(1)
ولهذا سبب بسيط جدا : لا أعتقد ان لها قيمة حقيقية بالفعل، وقناعتي ان هذه الصيغة من الخطابات العامة امام الناس لاتتيح ابدا التعبير عما اريد قوله بدقة. وهذا رأي لايخص ولايلزم احدا غيري : فهو نتاج رؤيتي للحياة. ولن يخطر للسياسيين ابدا أنهم، وفي النهاية، عاجزون عن ايصال افكارهم من خلال الخطب الرنانة العظيمة. لنأخذ هتلر(2) على سبيل المثال، هذا المهووس بالخطب؛ يقول في غير موضع مامعناه تقريبا :»اذا تطور، يوما ما، فن الكلام بما يكفي، فان ذلك اليوم سيكون ضربة قاسية جدا لهذا التعبير العادي جدا الذي يدعى الكتابة«. لكل رايه وافكاره، ولكل مهنته، ولاتعليق لدي على الموضوع. مهنتي هي الكتابة، اودعتها ولا ازال افراحي واتراحي جميعا، والتزمت بها ولا ازال التزاما عميقا. ومن يلتزم بعمق سوف يرى التجلي التدريجي لما يدعى بأسرار المهنة. وهذا امتياز حكر على الاختصاصيين. اقول»سر«(3) ولكن الامر لايتعلق باسرار لانريد كشفها للناس، بل هي اسرار لانستطيع كشفها؛ إنها شيء ما غير قابل للتوصيل، ويمكن ان يظل من طبيعة يستحيل تقريبا تصورها حتى بالنسبة الى الشخص ذاته. على أية حال، من خلال التقنيات المادية المحسوسة فقط والضرورية لمهنتي تحديدا، اعي بالحواس طريقتي في العيش، بمقدار ما اعي طريقتي في الاحساس والتفكير. هذا الوعي هو الذي يدعى »حب المهنة«.
لدينا في اللغة اليابانية مصطلح : تِن_ شوكو (نداء رباني: تِن/ السماء، شوكو/ مهنة = مهنة تحددها السماء). اذا فسرنا كلمة»تِن« (سماء) على انها مفهوم غايته استدعاء كامل الحب المتنامي الذي نكنه لمهنتنا طواعية، فإنها كلمة حق، دقيقة ورائعة. يروج اليوم ان عبارة »مهنة تحددها السماء« هي فكرة مبتذلة وبلا جاذبية، وذلك لكثرة الذين تخلوا تماما عن رؤية مهنتهم هدفا ينبغي السعي اليه واثبات انفسهم ككائنات بشرية. لقد استسلموا بسبب الصعوبات الكبيرة التي نواجهها في الوقت الحاضر_ لأسباب متعددة _ كصعوبة ايجاد مهنة نودعها وبلا اسف الافراح والاتراح جميعا. إنها تغيرات يرثى لها حقا.
إذا، هناك مواضيع كثيرة اود الكتابة عنها، لكن لايوجد بينها ما اريد الكلام عنه طواعية ومن دون اكراه. اذا كان الكلام يكفي لمعالجة موضوع ما، فسوف استخدم الكلام ببساطه دون البحث عن صيغ اخرى للتعبير. لكن هناك افكار لايمكن التعبير عنها بالكلام وتحتاج الى تشبيك خاص للكلمات يدعى »الكتابة«. فاذا كانت لدي رؤية خاصة للحياة، فلا بد انها ستظهر في كتابتي؛ ولا أستطيع تناولها وعرضها مكتفيا بالكلام فقط. ولذلك سأحدثكم اليوم، ليس عن »طريقة نظري الى الحياة«، بل عن التعبير الذي يستخدمه كل منا، اعني تعبير »جينسيئي- كان« بلفظ النون مدغمة بشيء مفترض بعدها. م.ع (حرفيا: النظر الى الحياة).
غالبا مانلجأ الى هذا التعبير كما لو كان شيئا بدهيا مسلما به. لكن ماذا يعني في العمق ؟
فكلمة جينسيئي (الحياة) وكلمة كانْ (النظر، الرؤية، التأمل) موجودتان في اللغة اليابانية منذ تاريخ طويل، غير انهما، كما يبدو لي، لم تجمعا بهذه الصيغة الا منذ فترة ليست بعيدة. واعتقد ان تعبير »النظر الى الحياة«، اصبح عملة متداولة – كبقية التعابير الاخرى ذات الطبيعة نفسها – منذ بدأنا طرح الاسئلة على انفسنا انطلاقا من وجهات نظر جديدة، او من بعض الافكار الجديدة حول الحياة، والتي اثارها دخول الفكر الغربي الحديث الى بلادنا. ومع ذلك، ارى انه لايوجد في اللغات الاجنبية تعبير معادل تماما lebensanschauung لهذا التعبير. يقال ان استخدامه انتشر مذ ترجمنا به كلمة تعني »الحياة«، غير ان كلمة LEBEN الالمانية لصاحبها رودولف أوخين (4). مؤكد انها بعيدة كما يبدو لي عن لفظة »كان« (النظر)؛ لأن في هذه الاخيرة Anschauung فرقا بسيطا خاصا جدا لايستطيع ادراكه سوى اليابانيين فقط (5).
لاشك ان الفكر البوذي اعطى لهذا التعبير، ولا يزال، اهمية استثنائية. وبما انني لست متخصصا بالامر، فسأبقى في إطار من هو غير متخصص؛ وبما انه ليس لدي ايضا سوى بعض المعارف الجزئية المكتسبة مصادفة من خلال مطالعاتي الاتفاقية المتنوعة، فان الافكار التي سأقدمها لايمكن ان تكون الا اعتباطية، واعتذر حول هذه النقطة منذ الآن (6).
تعني لفظة »كان« (رؤية، نظر)، لكن لا فائدة من الرؤية او النظر مالم نميز المحيط بنا ونحدده، سيارات، ترامويات، قطط، كلاب واشياء اخرى. ينبغي لجنة الأرض الطاهرة ان تصبح قابلة للرؤية بأعيننا المجردة. تعرض سوترا »موريوجو- كيوو«/ الحياة اللايمكن بدؤها/ (7)، ثلاث عشرة طريقة للتأمل. إنّ جنة الأرض الطاهرة، وفق الشروحات المعطاة في هذه السوترا، ليست مكانا نتخيله بشكل ضبابي غير جلي، بل هي متجلية امامنا حضورا واقعيا ملموسا. هناك، وفقا للنص، بعض الاجراءات الواجب احترامها من اجل التأمل جيدا :
اذا ما تمرنت على التأمل متبعا المراحل بالشكل الصحيح، فإنك سوف تصل الى رؤية جنة الأرض الطاهرة. نبدأ، اولا، بتأمل الصورة الذهنية للشمس، او الصورة الذهنية للماء. عندما تفكر بالشمس جدا جدا، فإن صورتها ستظل في قلبك حتى بعد غروبها.
وعندما تفكر بالماء الطاهر النقي كالكريستال بشكل مركز جدا، فإن ماء بحيرة الكنوز الموجودة في الجنة النقي سينعكس في قلبك؛ وسوف ترى واضحة كل حبة من الرمال الملونة المشعة في اعماق الماء؛ وستفرش ازهار اللوتس البديعة جلالتها في البحيرة؛ وسوف يمكنك ان تحصي منها ستة مليارات زهرة. انظر الى كل ورقة من اوراقها، وسوف ترى فيها 84 الف عرق حيث ينبجس 84 الف نور.
وتتابع السوترا هكذا الى ان تنهي بـ :
تخيل انك جالس فوق زهرة لوتس؛ وتخيل ان هذه النبتة تنغلق عليك وتنفتح من جديد؛ عندها لابد ان ترى صور بوذا وصور بودهيساتافا في كل مكان من الفراغ.
انها لسوترا جميلة جدا حتى من الناحية الادبية. ويقال ان بوذا كان يعظ هكذا بصيغة بسيطة بغية انقاذ امراة يأكلها اليأس. ويبدو ان شاكا- موني نفسه عندما وصل الى حالة الـ»الساتوري« (الاشراق) تحت شجرة (بودهي)، لم يصل من خلال ممارسة بسيطة بساطة الممارسة التي تنقلها هذه الحكاية، بل وصل، او تنوّر كما يُروى، من خلال تأمل فلسفي أكثر، يعني من خلال الزن- كان. لكن اعتقد ان كلمة »كان« تحمل الدلالة نفسها في هاتين الحالتين. اما بالنسبة لكلمة »زن«، فهي تعني (التفكير) او (التامل). إذا، يشير تعبير »الزن – كان« الى فعل الرؤية بالعين المجردة لما نفكر به. وبالتالي فان مايسمى في البوذية »كانْ – بوو« (مناهج الرؤية = فيباسيانا)، ليس مجرد نظرية للمعرفة. ينبغي وبمعرفة عميقة للانسان، ان يتطابق التفكير مع الرؤية، رأى مع فكّر. وللوصول الى هذا المستوى المعرفي الذي يدمج الجسد والنفس، يلزمنا منهج يدمج النفس والجسد. واعتقد ان هذا المنهج مشار اليه بالتفصيل في ال. كانْ- بوو (8).
منذ ان دخل بلادنا مذهب الزن قادما من الصين، ونحن غالبا ما نشير الى الزن- كانْ بصيغته المختصرة : الزن. لكن يبدو انه كان، في البوذية اليابانية القديمة، يسمى
اختصارا : كانْ أو »شِي- كان« (ساماتاها- فيباسيانا/التامل بسكينة وهدوء). يقال ان كلمة »شِي« (ساماتاها) ليست بذات قيمة كبرى. فهي تعني الرغبة بوضع حد نهائي لاضطراب الروح من اجل ممارسة مثلى لل. كان؛ بعبارة اخرى تهيئة القلب الذي يستعد للرؤية. هل اعطيكم مثالا بسيطا جدا لتوضيح ماتعنيه لفظة»شِي« تقريبا ؟ الزاهد الذي يرغب مثلا بالتفرغ التام كي تمارس الروح ال.هوكيه- كيوو/ لوتس الايمان الصادق (9) / ينعزل في الجبال هاجرا حياة المدينة خوف ان تأخذه الافكار الفاسدة.
مضى وقت طويل على دخول طريقة »شِي- كان«الى اليابان، وربما منذ عصر تينْبيو(10). ولابد ان الذين ذهبوا الى معبد توشودايجي قد شاهدوا صورة مؤسسه الكاهن غانجين (جيان- زهين) الذي جاءنا بهذه الطريقة من الصين على مايقال. ويعتبر تمثاله تحفة فنية لامثيل لها، انه افضل نجاح في اليابان لا بل افضل تمثال في العالم : جالس، مغمض العينين والابتسامة على وجهه. والواقع ان هذا الكاهن كان كفيفا لايرى. وبطلب من بعض الكهنة العلماء اليابانيين قرر ان يقدم البوذية ويعرف بها خير تعريف في بلادنا.
لكنه عندما اراد عبور اليم، فشل لخمس مرات متتاليات بسبب العواصف والكوارث الاخرى. واخيرا استغرقت رحلته 12 عاما ليصل من يانغ- زهو في الصين الى ساتسوما باليابان. في تلك الاثناء، كان قد توفي الكهنة اليابانيون الذين وجهوا الدعوة اليه ومعهم التلميذ الصيني الذي كان سوف يرافقه. وغانجين نفسه كان قد فقد بصره اثناء المرض فيما كان قاربه يتجه على غير هدى نحو الجنوب. يعبر عن كل هذا خير تعبير تمثاله الذي يُعتبر اليوم كنزا من الكنوز الوطنية اليابانية. ويرى الجميع تقريبا ان كتابه حول ال.شِي- كانْ (ماكا- شِي- كانْ / رسالة عظمى في ساماتاها- فيباسيانا)(11) الذي حمله من الصين، رسالة شبه ميتة اليوم. لكن التمثال حي. ألا يمكن للشعور الذي ينتابنا ونحن امام هذا البورتريه، ان يدلّ على اننا ادركنا بعمق شيئا جوهريا من ال. شِي- كانْ ؟ لان الاعمال الفنية الرائعة تحرك فينا ماهو غير عادي وتترك انطباعا استثنائيا.
هناك صورة اخرى لكاهن آخر احبها جدا؛ لكنها ليست تمثالا هذه المرة، بل رسما؛ ويمكن اعتبارها هي الاخرى واحدة من نجاحات اليابان في هذا الميدان. يتعلق الامر بصورة الكاهن ميويه (12) الموجودة في متحف كوزان- جي. ولابد ان الكثير منكم قد شاهدها. في غابة من الصنوبر تملأ اللوحة يجلس هذا السيد الكاهن مثل قط صغير على مفرق شجرة تنسجم وإياه بروعة مذهلة، وهو في وضعية تأمل. المسبحة والمبخرة معلقتان على غصن بهدوء ووداعة؛ ومن حوله تلعب السناجب وتطير العصافير في كل اتجاه. انها لوحة تجسد اقصى الهدوء والجمال، ويبدو لي ان قوة روحية خارقة تكمن في اعماقها. ليس هذا العمل من افعال الخيال، لأن الكاهن ميويه كان، كما تقول سيرته، يعيش فعلا هكذا. كذلك نجد فيها الجبل الذي يقع وراء كوزان- جي، حيث كان قد وجد مكانا نظيفا يظل فيه جالسا ليل نهار يمارس الزازن (التأمل جلوسا): على مفرق شجرة، او داخل فجوة في جذعها، او فوق صخرة… يقول في سيرته الذاتيه : »لا يوجد حجر ولو بحجم قدم لم اجلس فوقه«. كان يدعى من قبيل الطرافة »كاهن بلا أذن«. ولأنه في هذا الرسم لايظهر منه الا ثلاثة ارباع فقط لانستطيع رؤية ذلك، لكنه من الجانب الآخر بلا اذن فعلا. تقول الحكاية انه عندما اقترب من سن العشرين، قرر إماتة جسده بطريقة عنيفة بغية ممارسة الحياة الدينية بأقصى الاسترخاء املا في بلوغ الحكمة الحقيقية. فكّر بداية ان يقتلع عينيه، لكن من دون عينين لن يستطيع قراءة الكتابات المقدسة؛ عندها فكر باقتلاع الانف، لكن اذا سقطت قطرات مياه وبلا حاجز فسوف تلوث الكتب المقدسة، ولذا جدع واحدة من اذنيه منتهيا الى ان الفوهة ستكفي للقيام بوظيفة الاذن. كان لهذا الكاهن مزاج حاد جدا، وكانت له في الوقت عينه سذاجة الاطفال وبراءتهم. تشهد على ذلك حكاية معروفة ينقلها كينيكو في كتابه »مذكرات اوقات التسلية«(13). يحكى انه كان يلعب لعبة »إتشي – أوتشي« وهو يلتقط الحصى. لم نعد نعرف بالضبط ماهي هذه اللعبة، لكن اعتقد انها لعبة اطفال ربما تشبه لعبة »حجر القدم« [نقف على قدم واحدة وندفع بالاخرى حجرا مسطحا داخل مربعات، م.ع]. وعندما سئل عن اسباب هذا التصرف، اجاب بانه يريد التخلص من بعض النصوص المقدسة الصعبة اللاتكف عن ملاحقته. كانت لديه منذ الشباب رغبة شديدة في الحج والذهاب حتى الهند اقتداء بخطى شاكا- موني؛ وعند بلوغه سن الرشد قرر تنفيذ هذه الرغبة. وضع مخطط الرحلة بعد ان طالع العديد من السير الذاتية القديمة. ويقال ان هذا المخطط لايزال موجودا في متحف كوزان- جي : ولكي يضعه، حَسَبَ بدقة المسافة الفاصلة بين تشانغ- آن وبين راجاغرها: 8333 فرسخا وربع. سبعة فراسخ في اليوم، ونصل في يوم كذا…واذا مشى خمسة فراسخ في اليوم يصل يوم كذا، شهر كذا في السنة الخامسة على بدء الرحيل وحوالي وقت الظهر. كل شيء مدون في دفتر الرحلة الصغير. استعد بالفعل وجهز حوائجه.
لكن الرؤيا التي اوحى له بها في الحلم اله كاسوغا الكبير، جعلته يعزف عن الموضوع في اللحظة الاخيرة (14). وسوف اقول لحسن الحظ؛ والا ربما كان افترسه وحش ما
في الطريق. ولتخفيف الكآبة التي اصابته بسبب إلغاء السفر، اخذ يمارس الزازن في جزيرة بكيشو، والتي تدعى تاكا- شيما [جزيرة النسور].(15) وبهذه المناسبة، كان يلتقط الحجارة من على شاطئ البحر معتقدا ان مياه الهند لابد انها وصلت الى هذا الشاطئ، وبالتالي فان هذه الحجارة يمكن اعتبارها اثرا تذكاريا من الاماكن المقدسة.
وكان طوال حياته يحب الحجارة ويحمل بعضها على الدوام. وعندما اقترب الموت كتب قصيدة وداع الى حجر من حجارته :
اذا كنت لاتستطيع التعلق بأحد
بعد موتي،
فَطرْ بسرعة
عائدا الى بلادك،
آه ! ياحجري ال.من جزيرة النسور.
من المؤكد ان الحجر كان يريد العودة بسرعة الى جزيرته، لكن من اين له ان يطير !
وهو لايزال مقيما حتى اليوم في متحف كوزان- جي. ليست عبثا هذه الحكاية الغريبة.
سوف ندرك، وبقليل من التفكير، ان حالة هذا الحجر هي حالة الناس جميعا. فهم يرغبون باشياء كثيرة تتجاوز حدودهم، لكي يظلوا في النهاية مجرد كائنات بشرية لا أكثر.
للشعراء المحترفين ان يشكوا من سطحية هذه القصيدة، لكن اذا لم نأخذ شخصية المؤلف بعين الاعتبار، فلا معنى لأية دراسة. وبالمناسبة كتب هذا الكاهن قصائد بريئة حقا وساذجة؛ استشهد بواحدة منها :
مثل فطيرة
مرشوشة بالسكر
يلمع القمر
بين الغيوم البيضاء،
حافةُ الجبل.
كانت كتابة قصيدة موجهة الى حجر او حصاة، عملا بسيطاوعاديا بالنسبة الى هذا الكاهن ينجزه حال النهوض من السرير. وهذا لاشيء ايضا : فقد كتب رسالة والمرسل اليه هو جزيرة. انها جزيرة كاروما- جيما الواقعة هي الاخرى، اذا لم اخطئ، في منطقة »كي«، حيث كرس »ميويه« نفسه حينا من الوقت لممارسة دينية ذات صرامة خاصة.
ويشير في الرسالة بوضوح الى المرسل اليه »الى السيدة الجزيرة«.
»اعذريني لصمتي الطويل، وارجو ان تكوني بخير. ها هو موسم ازهار الكرز يطل، وبحب لاينضب افكر بالازهار التي تمتعت بها عندك. سيعتبرني الناس ممسوسا اذا ما ارسلت رسالة الى اشجار الكرز التي لاتستخدم الكلام..
وهنا يستخدم هذا الكاهن الولي تعبيرا ممتعا: »ولأنني مجبر على مسايرة الراي العام (رأي الذين فقدوا العقل) احتفظت بسرية هذا الحب«. »فقدان العقل« هنا يعني »عدم معرفة منطق الاشياء«. يريد القول انه اذعن لناس هذا العالم الذين لن يستطيعوا فهمه، وبالتالي يرفض التعبير عن عواطفه الحقيقية؛ غير انه لايقدر على الصمود :
»هي التي احبها حبا جنونيا، هي الصديقة الحقيقية، وعدم احترام مشاعر صديقة وصديقة قريبة منكم احتراما حقيقيا، هو انعدام طيبة قلب ولاسيما قلب انسان يدعي تكريس نفسه من اجل خلاص الكائنات جميعا. بناء عليه، لك تحياتي بأسرع ما يمكن. وفي انتظار الرسالة القادمة، ارجو ان تغمريني برعايتك الطيبة«.
دهش التلميذ وساله الى من يجب ان يسلم الرسالة؛ فأجابه المعلم : »لا تقلق، ماعليك الا ان تضعها في أي مكان من الجزيرة«. عندما تشاهدون بورتريه هذا الكاهن الولي ميويه متذكرين سيرته كما اتيت عليها منذ قليل، وتشاهدون صورة واضحة لجمال انسان عرف حقا كيف يتواصل مع الطبيعة، فسوف تفهمون ماهية الـ»كان« بأفضل من أي كلام.
ومن بين اعظم اسلاف ميويه، يمكن الاستشهاد بالمدقق الكهنوتي إشين (17). يبدو ان الفكر البوذي قد أخذ، في اواسط عصر هييان، يؤثر بشكل جدي في طرق التعبير عن الحياة اليابانية من فنون وآداب. ويعتبر إشين المفكرالبارز الذي يمثل تلك المرحلة.
فلمعرفة الثقافة اليابانية انذاك، لابد وبأي شكل من قراءة عمله العظيم »الجوهري من اجل الانبعاث في الارض الطاهرة«. كتاب لابد منه ولايمكن الاستغناء عنه، ولا أستطيع شخصيا ألا أقراه، واقراه باستمرار على اية حال. لكن وبما انني لست قويا في هذا المجال، لا استطيع القراءة باحياء الكثير من المفردات الميتة التي تملأ الكتاب. غير ان وصف مشاهد جنة الغرب او الجحيم، يتكون من استشهادات مأخوذة من نصوص قديمة، لكنها منسقة بشكل ذكي (الحاصل انه مكتوب بطريقة بارعة)، وينتهي الى إعطاء انطباع استثنائي عن حيوية استثنائية. القوة، او بالاحرى العنف الذي يمارس من خلالهما المؤلف طريقة »الرؤية« (كان- بو) يتجليان عفويا اثناء القراءة. اضافة الى ذلك، ترك لوحة بديعة من وحي بوذي؛ والمقصود طبعا العمل الفني المدهش الموجود في جبل كويا: نزول أميتابها محاطا بخمس وعشرين بودهيساتفا، جالسا فوق غيوم وهاجة، تتبعه موسيقيات يعزفن ويرقصن… ينزل من السموات لاستقبال الموتى الراغبين بالانبعاث في الارض الطاهرة بكامل السعادة والحبور. اعتقد ان هذا العمل هو الاكثر نجاحا لما يسمى ب»نزول أميتابها« : نجد فلسفته معروضة وبادق التفاصيل في كتاب »الجوهري من اجل الانبعاث في الارض الطاهرة«. لاشك ان هذا المشهد يمثل وبصدق الصور التي تجلت حقيقة في قلب إشين. ولا نزال ندير، حتى اليوم، راس الميت باتجاه الشمال.
كان الناس في ذلك العصر ينامون ساعاتهم الاخيرة بوضعية الرأس شمالا من اجل الاستعداد للموت بشكل جيد. وبإدارة الوجوه نحو الغرب حيث يوجد تمثال لـ»أميتابها، كان الموتى يستعدون لرؤية الارض الطاهرة، ممسكين بطرف الخيطان ذات الالوان الخمسة، اما الطرف الآخر للخيطان فهو مربوط الى يد أميتابها اليسرى. ولهذا الطقس قيمة اخرى تختلف عن إبر الزيت المخلوط بالكافور التي نعطيها للمرضى في حالة الغيبوبة. وبما انه اخذنا نرسم وبشكل دائم مشهد نزول أميتابها، صارت اللوحة تحل محل التمثال، يعني الرسم محل النحت. يقال ان الكاهن إشين هو وراء هذا النوع من الرسم.
لكن ربما ذلك مجرد اسطورة. وفي الواقع، يبدو ان وراء هذا العمل الفني احد معلمي ال.إبوشي (حرفيا: استاذ في رسوم تماثيل بوذا)، ولابد ان هذا المعلم كان موهوبا بطريقة استثنائية، لكن النسيان اكل اسمه ولانعرف اليوم من هو.وتعني لفظة إبوشي ايضا ان الرسام ذو طبيعة كهنوتية، وهذا لايعني انه مجرد كاهن بارع في الرسم ويمارسه كهواية متقنة. كان الانخراط في السلك الديني آنذاك شرطا مهما جدا للنجاح كرسام. وبالعكس، كانت موهبة الرسم شرطا، تقريبا لابد منه، لدخول السلك الديني والتحول الى كاهن،لاسيما في المذاهب الباطنية. واذا كانت لديكم الرغبة في معرفة الواقع الحقيقي لكهنة ذلك العصر، فان اسئلة كثيرة سوف تطرح. اريد ان اشير هنا الى ان وجود رسومات رائعة لنزول أميتابها، كالرسم الذي تحدثت عنه للتو، يرينا بشكل واضح التساوق المبدئي بين الكاهن والرسام، بعبارة اخرى بين ال.كانْ- بوو (منهج »الرؤية«) وبين فن الرسم. مما لاشك فيه ان الرؤية بالنسبة للرسام هي حياته نفسها. عندما ينظر، يندفع في بحثه الى اصغر التفاصيل، والى اقصى العمق، متجاوزا ومن بعيد حدود الخيال العادي، ليصل في النهاية الى التحقق من ان قوة الرؤية تتطابق مباشرة مع قوة النظرية وقوة الفكر. اشرت سابقا الى ان هذا الجانب من التحقق يتكشف في طبيعة ال.كانْ- بوو.
وكون الفنان يدرك ان هذا لايعني شيئا خارج فعل الرسم، فان كلمة »كان« (الرؤية) تاخذ معنى جديدا. ان أدراك الجميل ووعيه، او التحقق منه، بالنسبة الى الفنان يعني مباشرة »خلق الجمال«. ويمكن ان يقال الشيء نفسه بصدد ال.كانْ- بوو. فذكر اسم بوذا (نين- بوتسو) يرتبط مباشرة بتجلي بوذا. لايكفي امتلاك فكرة عن بوذا، بل ينبغي ان نعيش عمقيا تلك الفكرة. بعبارة اخرى، ينبغي الكشف عن بوذا، اي خلقه من خلال النشاطات اليومية المحسوسة ومن خلال التجربة الذاتية. اعتقد اننا بهذا المعنى نستطيع تفسير وفهم لفظة »كان«.
كان سقوط النظام الارستقراطي لآل فوجي- وارا، بسبب الحروب المتتابعة بين آل ميناتو وآل التايرا، وراء الظروف الحياتية الصعبة جدا بالنسبة الى عموم الناس. في هذه الظروف تماما بدأت، كما نعلم، حركة الإصلاح الديني على يد هونين (18) وشين- ران (19) وآخرين. اقتنعوا انه يستحيل ومن غير المعقول، بالنسبة الى انسان عادي ولد في مرحلة انحطاط شديد »للشريعة«، الوصول الى رؤية بوذا حقيقة بالاعتماد على قواه الذاتية فقط. وقد عبروا عن ذلك بالقول : »اذا رأيت بأم عينيك صورة بوذا، فينبغي ان تعلم ان المارا (20)، الارواح الشريرة، تخدعك«. لقد رفض هؤلاء الاصلاحيون، ليس فقط اتجاها جماليا لدى بعض المذاهب البوذية السابقة، بل ومنهج ال.»كان« نفسه القائم على قوانا الذاتية. بعبارة اخرى، رفضوا بشكل قاطع أي تجل للأنا، حتى تلك الصيغة الجميلة القائمة على رؤية الذات في صورة بوذا : كانوا يعتبرونها خطوة على طريق المارا. لاشك ان فكر هؤلاء العباقرة، الذين استطاعوا برؤاهم الثاقبة إدراك ملامح عصرهم الاساسية، قد اصبغ على الدين، المحكوم بشكلانية جامدة، حيوية جديدة. لكن ينبغي الاعتراف ان هذا النوع من الحكمة الدينية، المتصلبة والنقية، لايسهل ابدا ظهور وازدهار الفنون. فهو يتعارض منذ البداية مع الحكمة القائمة على تجربة الجميل. والواقع ان هذه الصيغة الجديدة للدين انتشرت بسرعة قصوى (لحد ان فكر المؤسسين الحقيقي نسي تماما)، لكنها لم تقدم وحتى اليوم اعمالا ذات قيمة في مجال الفنون الجميلة. مما لاشك فيه ان تطور الظواهر الثقافية معقد جدا : فمذاهب الزن التي جاءت من الصين حديثا هي التي سوف تستعيد تقاليد ال.كانْ- بوو (منهج »الرؤية«).
والزن، كما تعلمون، يقوم اساسا على مراقبة الذات مراقبة قصوى كما تقول العبارة التالية : »افهم نفسك مباشرة دون وسيط وسوف تكتشف طبيعتك : انت نفسك بوذا«.
يؤكد كهنة الزن على »ترّهة الالفاظ والكلمات«، فوريو- مونجي، (21). لكن هذه العبارة لاتعني إلغاء التعبير عن الذات، بل تشير في الغالب الى وعي حاد جدا بمدى صعوبة الكلام؛ كما تشير ايضا الى رغبة في التعبير تعبيرا استثنائي الشروط والى الامل بولادة لغة حقيقية الى حدود اللاوصف. منحت حركة الزن هذه عافية جديدة ل.الزن- كانْ الذي كان يمارسه شاكا- موني نفسه تحت شجرة بودهي، والذي تشكل بأشكال عقائدية صارمة جداً فيما بعد. وعندما اثبت هذا التيار نفسه واستقر بعد مرحلة التوتر الشديد في البداية، تجلت بعض الاشكال الفنية كنتيجة طبيعية لهذه الروح الجديدة.
والشكل الامثل الذي يعبر عن ذلك هي الرسوم المائية في عصر موروماتشي الذي يحتل مكانة هامة في تاريخ الفن ببلدنا كما نعلم جميعا. كان اصحاب هذا النوع من الرسم يتحدرون جميعا من اصل كهنوتي ويدعون »غاسوو« (الكهنة – الرسامون).
والشيء المدهش، اذ نفكر به اليوم خاصة، هو انهم كانوا يعجبون اعجابا شديدا باعمال جاءت من الصين وقدمت على شكل كتب من الصور. كانوا يتمتعون بها وكأنها كنزهم الوحيد. إن أحدا لم يذهب الى الصين تقريبا، إن أحدا لم يشاهد نماذجها هناك. وحده سيشّو (22) عرف الصين واقعيا، وبالكاد بقي فيها سنة. اعتقد انه لم تكن هناك أبدا بحوث جاهزة في الرسم ويمكن وضع اليد عليها. كان هؤلاء الرسامون اليابانيون، وكل على طريقته، يتمتعون بكتبهم المصورة ويقلدونها للوصول في النهاية الى انتاج الاعمال الرائعة التي نعرفها. إنه لشيء مدهش حقا ولانجد له مثيلا في اي بلد ولا في اي عصر.
إن أحدا من رسامي الطبيعة لم ينجز ضربات قوية مماثلة؛ والامر لايتعلق بمقارنة اعمالهم مع اعمال سابقيهم من الاجانب لاقرار من هو الافضل. المهم هو انه ماكان لشيء ان يتحقق، لو لم تكن لدى هؤلاء الرسامين قناعة بان هذه المشاهد تشكل جزءا من عالمهم الشخصي وليس بالضرورة من العالم الخارجي. لقد تدبروا، الى جانب بحوثهم حول الرسم، طريقة رؤية موجودة في ممارسة الزن. أن نرى هنا او هناك مناظر طبيعية يمكن للريشة ان تعيد انتاجها، فهذا لايعني شيئا. ان »تأمل الطبيعة« يعني »امساك الهكذية« (من هكذا. م)، وال. هكذية (تاتاهاتا) تعني »الوجود كما هو«. والواقع ان هذا الوجود يغمرنا بوده الكبير لحد اننا نشعر به يطفو فوق جلودنا ودمه يسري مباشرة في عروقنا. ليست لهذه القناعة اية علاقة بالذهاب لرؤية هذا الجبل او ذاك، لتأمل هذا النهر او ذاك، ولابد من جهد مكثف داخل نظام الروح لاستيعاب هذه الظاهرة. عندما نذهب الى الصين فسوف نرى بالتاكيد مناظر صينية، واذا بقينا في اليابان فلن نشاهد سوى المناظر اليابانية. لكن البحث عن النماذج بعيد جدا عن اللقاء مع الطبيعة، اي مع الموجود كما هو موجود. هكذا ترينا أفضل الرسومات المائية في عصر موروماتشي، وبجلاء، ما يمكن ان تعبر عنه يقظة الانسان الاولية أمام الطبيعة بمعزل عن الظروف الخارجية.
مما لاشك فيه ان ال. كانْ- بوو (منهج »الرؤية«) قد اثر وبعمق في عالم الادب : وخير مثال يجسد ذلك الشاعر سايغيوو. ينقل كيكاي، كاتب السيرة الذاتية للولي الكاهن المذكور اعلاه ميويه، ان سايغيو قال يوما لهذا الاخير مامعناه وبهذه العبارات تقريبا :
أنظم القصائد ولكن تصوري للشعر مختلف تماما عن الفن الشعري السائد عموما. القمر والوردة، الوقواق والثلج… وكل ماله مظهر محسوس هو عندي وهم، وهو البداهة نفسها من جهة اخرى. وبالتالي عندما اكتب قصيدة عن الوردة لاافكر بالوردة، وكذلك عندما اكتب عن القمر لااعتقد حقا بوجوده الواقعي. »أدون على شبكة قلبي التي هي نوع من الفراغ بعض الاحساسات العابرة والممتعة، لكنها لاتترك اثرا«، وكان يقول :
أنا لاانظم القصائد وإنما اتلو كلام الحقيقة (مانترا)، الكلام السري؛ ومن خلال قصائدي أفهم »الشريعة«. هكذا هي مايسمى بقصائدي وليست شيئا اخر: في ظروف فجائية ووحي مصادف سقطت هكذا من يدي.
تلكم هي اقوال سايغيو كما نقلها كيكاي اثناء وجوده الى جواره. جميع الذين يتكلمون على الفكر البوذي، يذكرون فكرة خواء الاشياء : كل شيء فارغ.
صحيح ان »رؤية الفراغ« معروضة جيدا في سوترا »اتقان الحكمة«، وهي أقدم سوترا وعليها تأسس مذهب »المركبة الكبرى«. لكن القول بالكلام ان الفكر البوذي يتضمن فكرة الخواء، هو فعل لاطائل منه كالحديث عن فكرة الغفران في المسيحية. ولاشيء حقيقي ينتج من كلام مماثل. إن ال. كانْ (الرؤية)، كما لمسنا في عدة امثلة، يشكل فعلا جوهريا بالنسبة الى البوذي، فهو يعني تجربة معيوشة وخاصة به دون غيره. وهذا يقابل فعل الصلاة لدى المسيحي. يتعلق الامر برؤية خواء الاشياء، كما يتعلق بالصلاة للفوز بغفران الرب. لامعنى للتدليل برهانيا على هذه المفاهيم بالابتعاد عن التجربة المعيوشة لمن يرى او يصلي. وهنا تكمن الصعوبة الحقيقية لمعالجة هذه المشكلة بدقة. يمكننا استشفاف فكرة لاديمومة الاشياء وخوائها في اعمال سايغيو الشعرية. كما يمكننا ايجاد هذه الافكار وبلا صعوبة في اية قصيدة آنذاك. كان الكثير من الشعراء يعرفون ان كل شيء فارغ؛ لكن عندما كان لابد من رؤية الفراغ حقا، كان بينهم الجيد والضعيف.
ان درجة تركيز الرؤية تتجلى في التحقق تجليا لايمكن معه الاكتفاء بمرور عابر. ولكي نثبت لأنفسنا اولا، وللآخرين الى أي حد نحن على هذا الطريق، لابد ان نخلق فراغنا الخاص بشكل ملموس. آنذاك لابد من تناول المسألة بطريقة مختلفة تماما عن تناول المسائل الخاضعة للتفكير بشكل عام. وفي هذا السياق، يبدو لي ان جملة هانيا- كيوو »الفراغ الحقيقي هو امتلاء يجلب النشوة«، تكشف لنا عن البرهان. ينبغي، كما يقول سايغيو، ان ندون على شبكة قلبنا التي هي فراغ احساسات مختلفة وعابرة.
يبدو لي ان فكرة »لاديمومة كل شيء« (23) قد اسيئ فهمها، ليس من قبل معاصرينا الذين شرحوها خطأً وحسب، بل من قبل القدامى ايضا. ونستطيع معاينة سوء الفهم هذا في هذه الجملة المأخوذة من »أقوال الهَيكيين« : »المتعجرف لايدوم، انه كحلم في ليلة ربيعية« (24). يكمن الخطأ في إعطاء فكرة »اللاديمومة« صفة المبدأ الذي يرى أن »كل مايزدهر« ينتهي الى سقوط. وتروى الطرفة التالية عن أوتا- دوكان (25) الذي كان يتعجرف بصدد اي شيء، فانزعج والده من هذا السلوك وكتب ذات يوم الجملة السابقة »المتعجرف لايدوم….« على ورقة، لكن الابن استل ريشته وأضاف : »حتى من لايتعجرفون ابدا لن يدوموا زمنا طويلا هم أيضا«.
تعني هذه الحكاية ان مبدأ السببية ينسحب على أحداث الطبيعة، كما ينسحب على أدنى التغيرات التي يفرضها علينا القدر طوال ساعات حياتنا. لكن هذا المبدأ يتجاهل الانسان تماما. »اللادائم« يعني ايضا »انه بلا قلب«. يصعب على قلب الانسان قبول مبدأ يلغي القلب بهذه الحتمية الشرسة. قد يكون هنا مغزى الحكاية. إن ضعف القلب يدفعنا، وبشكل غير واع، الى تفسير هذا المبدأ اللاانساني بطريقة انسانية. ولهذا حاولنا ونحاول تفسير الاوضاع الحالية باستدعاء افعال حياة سابقة، او باستدعاء فكرة القدر. من المؤكد ان العلوم الحديثة لاتقبل تفسيرا غامضا مماثلا. فمبدأ السببية يسيطرعلينا بشكل مطلق وغير انساني أبدا. وهذا يعني اننا أشحنا الطرف تماما عما لانستطيع مجابهته. بعبارة اخرى، نقلنا، وبلا اي إجراء آخر، منظومة السببية المجردة الى مجال يختلف جذريا عن عالم البشر السائد. ولذا هل نستطيع القول ان لدينا قلبا اقوى من السابق، أو ألا ينبغي الاعتراف بان ضعف قلبنا يتجلى في ذلك ؟ على أية حال نجد هنا فصلا واضحا بين عالم الطبيعة وبين عالم القيم البشرية. ومما لاشك فيه ان الحضارة الحديثة انجزت تقدما هائلا بفضل هذا الفصل؛ لكن الصحيح ايضا هو ان هذه الظروف باتت عذابا حقيقيا بالنسبة الينا. ويستطيع الادب والفلسفة، بكل مراراتهما، ان يكونا شهادة ناصعة على ذلك.
يحكى ان شاكا- موني ادرك، وبفضل الإشراق، معنى رابطة السببية وهو تحت شجرة بودهي. ولاشك ان المتخصصين بالفكر البوذي يتناقشون طويلا حول هذا الموضوع؛ لكن يمكن القول بجرأة وبساطة وبلا كد إن الرابطة السببية تعني قانون العلة والمعلول.
ان ماشعر به شاكا- موني بعيد من الانفعال العاطفي الذي تثيره فكرة تفاهة الحياة البشرية.
جميع الاعمال الانسانية وجميع الاحاسيس البشرية من فرح وغضب وحزن ولذة، وجميع المحاكمات الاستدلالية الخاصة التي يقيمها الكائن البشري حول ماهو آني وعابر، او ما هو غير ذلك، تقود بكاملها الى الرابطة اللاإنسانية بين العلة والمعلول والتي تفرض الاعتراف بان وجود هذا العنصر يؤدي الى وجود عنصر آخر، او ان اختفاء هذا العنصر يسبب لامحالة اختفاء الاخر. الذات المفكرة نفسها، والتي تعتبر قانون العلة والمعلول حقيقة، ليست سوى لحظة في ارتباط المعلولات بالعلل. ولاجوهر لكائن في ذاته (26).
كل شيء فارغ. الحياة الانسانية نفسها ليست سوى حلم ليلة ربيعية. وقانون العلة والمعلول الذي يشكل نسيج هذا الحلم ليس هو الاخر سوى حلم ايضا. انطلاقا من هذه الزاوية الحادة، كيف استطاع شاكا- موني تأمين حريته في الحركة ؟ ينهض من خلال الفعل الذي جعله يرى الخواء، مستوعيا هذا الفراغ عبر تجربته الذاتية الخاصة.
لابد ان حكمة شاكا- موني الفلسفية هي وليدة روح النفي مثل جميع الحكم الفلسفية الاخرى. وربما نستطيع القول ان ال.هانيّا- كيوو (الفراغ الحقيقي هو امتلاء يجلب النشوة) رؤية عامة عن الموضوع. ويبدو ان عبارة »خواء جميع الاشياء« لم تكن كافية : فمؤلف هذه السوترا يكثر من الالفاظ التفضيلية مثل خواء الخواآت، الخواء الاعظم، او الخواء الاقصى، او أخوى الأخوى…الخ. وفي النهاية يصرح ان الفراغ يمكن ان يستحيل الى امتلاء. لذا يمكن اعتبار هذه السوترا رؤية عامة لحكمة شاكا- موني الفلسفية، لكن لانستطيع التأكيد على انها تمثل شخصيته كلها.
الاثبات يستدعي النفي، والنفي يستدعي بدوره إثباتا اخر… هذه الحركة اللامتناهية للذهن هي القاعدة الابدية لكل فكر فلسفي. لكن الذهن سوف ينتهي بهذه الطريقة الى الانغلاق داخل منظومة الاكتفاء الذاتي كدودة قز تحيط نفسها بخيط طويل. لقد عرف تاريخ البوذية نشوء اشكال فلسفية او تيولوجية هي الاخرى منظومات موضوعة بدقة وترتكز على الـ – هانيّا- كيوو. ليست لدي معرفة عميقة على هذا الصعيد، لكن اعتقد ان هذه المنظومات كانت، ولابد، ترتدي طابعا يميل بوضوح الى توحيدية- حلولية نظرية تنغلق على ذاتها ككائن بشري. ويبدو لي ان شاكا- موني اتخذ لنفسه الطريق المعاكس تماما لهذا النوع من الرؤى الفلسفية. نقرأ في كتاب آغونكيو (أغاما) : »… طرح أحدهم على شاكا- موني فيضا من الاسئلة الميتافيزيقية من نوع : هل العالم دائم او غير دائم ؟ فقال لسائله الملحاح : لن أجيب على هذا النوع من الاسئلة؛ إنك كمن جرح بسهم مسموم ويطرح على طبيبه اسئلة حول جوهر السهم السموم. وأيا كان الجواب فلن تكون له علاقة بالالم ولابالموت، سأدلك كيف تنزع السهم المسموم فقط«(27).
هذا هو الذي يسمى لا جواب تاتهاغاتا (شاكا- موني) (نيوراي- نو- فوكي)(28). إذا، تتوضح استحالة تأسيس ميتافيزيقيا. لكن وبغض النظر عن خاتمتها السلبية، يبدو ان في هذا الموقف مجموعة من التعاليم الاساسية مثل : »لايمكن إقامة منظومة ميتافيزيقية للفراغ، لكن تجربة الفراغ المعاشة ممكنة«، أو مثل »الفراغ لايتوضح بالكلام، لكن يمكن ان يكشف بالافعال«، أو مثل »معرفة الشيء حقا هي ممارسته«… لم ينته شاكا- موني الى إيجاد الفراغ بصفته فكرة فلسفية عبر التاملات الفلسفية. بالعكس تماما، يبدو لي ان الفراغ لم يكن بالنسبة اليه حتى فكرة فلسفية؛ ومن الافضل القول إنه رأى بروحه النقدية الصلبة تفتت الانسان، والرؤية هي الخطوة الاولى في الممارسة. عندما كان شاكا- موني مأخوذا بفكرة لاديمومة الاشياء جميعا، كان هيراقليطس مهجوسا بفكرة (كل شيء ينهار). لكن لانستطيع اعتبار شاكا- موني مثاليا، او panta rhei هيراقليطس ماديا. فهذا النوع من التمييز الشكلي حال طويلا بين مثقفي اليوم وبين التفكير بحرية، وكلما امعنا النظر في هذا الاتجاه شعرنا بالخوف أكثر. والواقع ان الاثنين اندفعا طواعية الى عمق الاشياء، والى ماوراء الدين والاخلاق في عصرهما. وبهذا مثل هيراقليطس. hoskteino المعنى، كان شاكا- موني هو الآخر (إنسانا ملتبسا لكنه لم يتحول الى »انسان ذكي يبكي« مثل هذا الأخير. يبدو لي ان فراغ شاكا- موني شبيه بنار هيراقليطس. ومن المؤكد ان الاول اخذ بالاستبطان والثاني بمراقبة الطبيعة.
على اية حال، اعتقد انهما بعد ان شككا بكل اساس للكائن البشري، ادركا جيدا »قانون لاوجود الذات« (موغا- نو- هوو) الذي لا تأثير للبشر عليه، ولاأهمية لتسمية هذه الحالة بالفراغ او بالنار. وطالما وصلا الى هذه الفكرة، فهذا يعني انهما ادركاها تماما.
هيراقليطس شاهد النار وهو ينظر الى اطفال يلعبون على شاطئ البحر، كذلك شاكا- موني رأى الفراغ وهو يتأمل ازهار الشالا. كان الامر بالنسبة اليهما ادراكا حسيا خالصا، لكن الفراغ انتقل الى ايدي المفسرين البوذيين والنار الى ايدي الرواقيين لتولد هكذا فكرة فلسفية قابلة لتفسيرات وتاويلات متعددة. ان اكتشاف قانون لا وجود الذات لم يُطمئن شاكا- موني ابدا. كان يشاهد النار وهي تحرق الناس بفظاعة. والحل الوحيد الممكن (بالنسبة للكائن البشري) هو القبول بالحرق طواعية، وماعدا ذلك ليس سوى الوهم.
اليس هذا ما أدركه وقبله؟ الن ينهض طائر الفينيق من رماده مجددا كي يطير؟ والنار اللاإنسانية، ألن تتحول الى نار رحمة لتتابع حريقها في قلب كل إنسان ؟ من يدري ؟
اعتقد ان هذا هو ماكان يعنيه ساكيا- موني ب. كو- غان (رؤية الفراغ) pratitya-smutpada .
ساقول بشيء من التخيل والجرأة، إن الرابطة السببية هي تقريبا مثل قانون العلة والمعلول. لكن من المحتمل ان لهذه الكلمة معنى آخر مختلف تماما عن معنى قانون العلة والمعلول المطبق في العلوم الحديثة. كان شاكا- موني يعتقد ان العالم (اي المادة والروح) هو نتاج روابط من التبعية المتبادلة القائمة بين المجاميع الخمسة: المحسوس/ المادة؛ الاحساسات؛ الادراكات؛ الانشطة النفسانية؛ الافكار.
ان التعالقات بين هذه المجاميع تتسم بعدم الاستمرار. لا شيء جوهريا ولا شيء ثابتا على الاطلاق. والتفكير بهذه الطريقة هو جزء من التغيرات المستمرة. الفكرة التي ادركها شاكا- موني بعد استبطان مركز هي اكثر جذرية من المادة الحالية، وقد بلغ هذه المعرفة الحدسية من خلال التحامه الوجودي الكامل بالموضوع. ماكان له ان يفهم العالم فهما مريحا لو اتبع طريقة الإجراءات الاستدلالية. وللرابطة السببية ان تكون ك.»قانون لاوجود الذات« اكثر من كونها كمبدأ العلة والمعلول. تبقى الذات اساسا دائما لكل مايدعى حقيقة؛ ومن الظروف البشرية المختلفة تولد كذلك بالمقدار نفسه حقائق مختلفة. تلكم هي فكرة شاكا- موني الجوهرية. حتى الحقيقة الاقل انسانية، أي قانون السببية، يرتبط وجودها الفعلي بالإدراك الذي ليس الا شرطا واحدا من الشروط البشرية. لاشك ان هذا القانون حقيقة، لكنه ليس تاتهاتا (الطريقة الواقعية لوجود الاشياء). ولابد ان يكون حقيقة، لكنه ليس واقعا. ليس المهم تحديد الواقع بمقياس حقيقة ما، بل المهم هو تنقية تجربة الواقع المعاش كماهي. لايقوم الامر على تصيير مانرى مجردا من خلال المحاكمة والاستدلال، بل يقوم على تنقية رؤيتنا تنقية يتطابق فيها رأى مع فكّر. لاأزعم ان شاكا- موني كان رساما، لكن الخواء الذي أدركه شبيه بالجميل الذي يقدمه الرسام. اريد القول ان لاعلاقة لهذا الخواء بما يشكله تعميم بعض مظاهرالواقع. فهو وبرفضه القطعي لكل مقاربة بشرية من اجل إدراك الواقع، قد لامس مباشرة، كما يبدو لي، الواقع الاخصب الماوراء اي فعل واي استدلال. لقد اثبت من خلال تجربته الذاتية لا ديمومة الاشياء جميعا.
وكان يسمي هذه اللاديمومة بـ»الالم الساكن في كل شيء«، أي هي والألم شيء واحد، هما الشيء نفسه. ان الادراك وإطلاق حكم القيمة في آن معا يشكلان فعلا واحدا هو الفعل نفسه. عمليا، يتم اختزال هاتين الخطوتين الى فعل واحد لاغير لدى الحمقى الذين لا يكفون عن الخطأ دائما. اما النبهاء، ولتفادي الخطأ، فانهم يلجأون الى وضعهما في نسقين مختلفين :
نسق الطبيعة ونسق القيم؛ ثم عندما يرون تلازما بين هذين النسقين المتغايرين يشعرون بالسعادة، وفي الحالة المعاكسة يشعرون بالالم. لا أدري كيف استطاع شاكا- موني الوصول الى هذه الحالة العليا حيث يتحد الفعلان بفعل واحد دون خطأ ؟ ولا أدري ماهي التمارين التي فرضها على نفسه للإمساك بفكرة الألم الكوني هكذا تماما وكأنه يشعر به هو نفسه في جسده بالذات؟. نعم لا أدري. ولكن في النهاية، لو لم يصل الى هذا الدمج، والى هذه الوحدة، لما كان باستطاعة المعرفة (معرفة العالم) ان تحقق له نصرا، ولما كان للنوراني ان يستولي عليه. لابد ان الشعور بالنصر قد تحول عنده الى رحمة. واعتقد ان »رؤية الفراغ« (كو- غان) التي عاشها كانت شعورا من هذه الطبيعة.
لاشك ان التجارب الدينية التي يعيشها كائن استثنائي مثل شاكا- موني هي تجارب استثنائية أيضا. لكن الرؤية التي يعيشها القلب (شين- غان) في البوذية، بشكل عام، ترتدي طابعا أكثر جمالية بكثير من الصلاة المسيحية وما فيها. إنه الفرق المؤكد بين ديانة نشأت في احضان طبيعة خلابة وبين ديانة تحدرت من الصحراء. كان شاكا- موني يعيش حياته الدينية في غابة بديعة الجمال وهو يشرب الحليب رافضا خلائق التقشف، في حين كان المسيح الجائع يدعو على شجرة التين باليباس قائلا : »فلا يأكلنّ أحد من ثمارك بعد والى الأبد!«؛ وقد مات مصلوبا مع اللصوص، في حين ان الفيلة والثعابين بكت لموت شاكا- موني كما تقول الاسطورة. أية مفارقة !!. على اية حال، لم تحارب البوذية ولاتحارب، على خلاف المسيحية، الجمال الذي يستحسنه الوثنيون. ويمكن تفسير هذا الموقف، بمعزل عن طبيعة الاشراق الذي عرفه شاكا- موني، من خلال تجربة البوذيين العميقة: ال. كانْ- بوو (منهج الرؤية) وطابعه الجمالي. وينسحب هذا المنهج على جميع الفنون اليابانية من الرسم الى كتابة القصائد. يقول باشو:…. هناك مبدأ واحد يحكم سلوك الجميع، وهو نفسه دائما سواء تعلق الامر بقصيدة الواكا لدى سايغيو أو بقصيدة الرنغا لدى سوجي أو بالرسم لدى سيشّو أو بفن الشاي لدى ريكيو(29).
ويمكن لتعبير فوغا (التمحيص، التنقية) الذي كان يقيس به فنه، اي فن الهايكو، أن يتطابق مع الكُونْ- غان (رؤية الفراغ). وقد رأينا ماقاله سايغيو : »على شبكة قلبي التي هي فراغ أدوِّن أحاسيس في غاية العذوبة«. نستطيع القول بلا تردد ان باشو يعبر عن الاحساس نفسه عندما يشير الى أنه يقيم في الفراغ من أجل بلوغ الواقع. إن الافكار جميعا كالنقود، تتسخ وتتلف وهي تنتقل من يد الى اخرى، والفكر البوذي لايشذ عن هذه القاعدة. تشاؤمية، عدمية…الخ، ليست هذه الالفاظ التي أضيفت الى البوذية سوى غبار تكدس فوق بعضه بعضا. »هناك مبدأ واحد يكم سلوك الجميع«؛ يبدو لي ان عبارة باشو هذه تعني ان المعلمين الكبار أمسكوا شيئا ما بايديهم لم يتحول بعد الى عملة متداولة بهذه الصيغة أو تلك من الصيغ »التسموية« (عدمية، تشاؤمية. م) أو من الصيغ الايديولوجية، شيئا ما يمكن وصفه بمنبع الفكر بالذات.
وهانحن، إذن، في هذا الشيء. يبدو انني أدور حول كلمة »كان« (الرؤية) ولاأستطيع استخراج شيء دقيق منها. لكن، وفي العمق، ليس بمقدوري حل آخر، لأنها تتضمن شيئا ما لا يشرح. بالمقابل تلعب، وبلا أدنى خطأ، دورا صريحا في جميع أعمال معلمينا الكبار، معلمي الفن، وهذا ما نلمسه واقعا في أعمالهم دون أي مجال للشك. وإذا مارسنا الاستدلال على صيغة من صيغ الفكر البوذي المتجلية في قصائد سايغيو، فإن لفظة »كان« (الرؤية) ستموت أثناء الاستدلال. لكن إذا أحسسنا بشيء ما يتحرك في الصدر أثناء قراءة إحدى قصائده ولتكن مثلا :
كانت الأزهار في الحلم
تتطاير مبعثرة
في رياح الربيع،
ولما صحوت
كان قلبي لا يزال في اضطراب،
فهذا دليل على ان كُونْ- غان (رؤية الفراغ) الشاعر تعيش فينا أيضا. هذه القصيدة هي الصورة نفسها، صورة براعم الازهار التي تسقط من السماء الخاوية، من غير تشاؤم إزاء الانسان او إزاء العالم. والحزن المعبر عنه هنا مفعم بالحياة. ومادمنا نشعر ان هذه القصيدة جميلة، فإن تعاليم كوسوكوزيه-شيكي (أي من الخواء تولد الاشياء)(30) تفرض نفسها على كل منا من خلال التجربة الجمالية. أقول تفرض نفسها مادمنا نشعر بجمالية العمل، أما إذا بقينا غرباء عنه لانحسه ولانتذوقه، فإننا سنظل خارج الحقيقة وبعيدين منها. نهاية مدهشة، لكن الامور هكذا. وكما قلت لكم أعلاه، ليست »رؤية الفراغ« منهجا لمعالجة الحقيقة، بل هي سلوك علينا اتباعه لادراك ال. تاتهاتا (الطريقة الواقعية
لوجود الاشياء). يتعلق الامر بتمرين قوامه السعي الى التساوق والتعاطف العميق والكلي مع الواقع نفسه، وذلك بعد التخلي عن كل محاولة غايتها تحديده بصيغ وأشكال متعددة.
إنه، كما يرى باشو، سلوك اندغم تدريجيا في أعمال بعض فنانينا الكبار. الدرب التي يشقها الفنان بأصالة تصل الى الفنان بالذات، يقول باشو، مرورا بجميع الفنانين الكبار.
وأضيف انها تمتد الى اليوم. هذا الموقف التأملي او الجمالي الذي صاغه الفكر البوذي إزاء الطبيعة والحياة، متجذر في اعماقنا وبأكثر مانتصور. وأتحقق من وجوده مرارا، وفي لحظات غير متوقعة، عندما اتمالك نفسي فجأة وسط حياة تسودها الفوضى والاضطراب، كما أشعر بالعزلة وانا بين حشود مائجة. في تلك اللحظات، ينتابني إحساس بالتقاط رسالة آتية من ماض بعيد. وأعتقد ان جميع اليابانيين الذين يعيشون بشكل صادق يعرفون هذه اللحظات، لأن الانسان لا يستطيع العيش بالانعزال عن شروطه كليا.
لكن لماذا ينبغي ان نعود الى تقاليدنا بطريقة غريبة جدا عندما نريد ان نعيش؟. هذه هي المشكلة الاساسية اليوم. لاشك ان هذه الدراما لاتفرض نفسها الا على الشعب الياباني.
المثقفون الذين ينخدعون بالثقافة الحديثة ويشيحون باعينهم عن هذه الدراما، ليسوا سوى بهاليل يظنون انفسهم عقلانيين، إذ لاوجود لثقافة من دون تقاليد.
ان كلمة بونكا(ثقافة) هي، من ناحية اخرى، اللامعنى. كانت تعني في البداية: »تغيير«،بغاية الاشارة culture الشعب دون اللجوء الى العنف«؛ وقد اختيرت لترجمة لفظة »الى« مجموع المظاهر الثقافية لحضارة ما«. لكن هذا المعنى الجديد لكلمة بونكا لايملك أية قوة إيحائية تأتيه من جذوره. إذن، يبدو واضحا اننا نستخدم عشوائيا هذا التعبير الذي »بمعناه الاكثر شيوعا تعني: العمل في الارض culture لاجذور له عندنا« لجعلها تنتج نباتا. ولابد ان الغربيين يعرفون تماما هذا المعنى الاولي، ولا يمكن ان يخطئوا في دلالتها الاساسية، على الرغم من تعدد وتشابك مفاهيم هذه الكلمة. فهي تعني الاهتمام والعناية بالاشجار كي تعطي ثمارا جميلة، وتعني تطوير وتقوية ميول وخصائص«. وإذا cultivate كل شجرة مثمرة لتتمكن من اظهار كامل طاقتها. هذا هو معنى كلمة »ماأخذنا الطبيعة كمادة يجب تعديلها وتطويرها دون النظر الى خصائص وميزات كل. والتقنية يمكن ان تكون »technique«، إنه التقنية culture عنصر، فذلك ليس»عالمية، وهي كذلك الان؛ لكن الثقافة العالمية ليست سوى وهم وبلا معنى. غالبا مايطرح علي السؤال حول مشكلة تحديد عدد حروف الكانجي »اي الحروف الصينية التي لانهاية لعددها مما يشكل عبئا كبيرا على الطلاب. م.ع« المخصصة للإستخدام العام، أو حول النظام الجديد لترقيم حروف ال. كانا »اي الحروف اليابانية المشتقة من الصينية م ع« الذي اعلن عنه مؤخرا وزير التربية(31)، لكن وطالما لااملك سببا واضحا للمعارضة، لاابدي اي استياء او استهجان. ولاشيء يبرر اعتراضي على الجهود المبذولة لتخفيف الاعباء، مهما كان هذا التخفيف قليلا، الملقاة على كاهل الطلبة بسبب صعوبة اللغة اليابانية . لكن اشعر ان وراء هذا النوع من التيارات العقلانية ذهن مسطح. وأرى فيه بالضبط الالتباس المذكور اعلاه بين الثقافة والتقنية. لاشك ان موظفي التربية الوطنية قد لجأوا، ولتعديل اللغة اليابانية ، الى الطريقة التي نصلح بها اي محرك. وربما كان يمكن ان نقرأ على وجوههم : إن تبسيط اللغة اليابانية سوف يبسط تاريخ اليابان. والكتاب الذين يسلكون مسلك الخرفان، توقفوا عن كونهم كتابا ليصبحوا مهندسين. مشهد مضطرب ومحزن لبلد مهزوم. لكن سوف نستعيد هدوءنا ذات يوم. وللتاريخ حقيقته.
ابتعدنا عن الموضوع الاساسي جيدا، فلنعد إليه. يبدو لي أن الشاعرسانيتومو أصبح موضع اعتبار وتقدير أكثر من سايغيو، وذلك منذ إعلان ماسا- أوكاشيكي بيانه حول أهمية وقيمة ديوان الشعر القديم المعروف باسم مان- يو- شو (32). والواقع ان روحا واحدة هي التي تغذي هذين الشاعرين. وما اثار انتباه ماسا- أوكاشيكي هو احترام الواقع ومراعاته مراعاة كبيرة تتجلى في قصائد الديوان المذكور. وكان بهذا الصدد يحب تعبير شاسِيئي »رسم الطبيعة الحية، التقاط الجاري، الاخذ الفوري لليَقِظ«. وإذا توقفنا عند نص لسايتو- موكيئتشي عنوانه »رأيي في قصيدة التانكا بصفتها شاسيئي« فسنجد ان شيكي يفهم بطريقة دقيقة، لكن حدسية، دلالة هذا التعبير. وكان يستخدمه دون البحث عن (الرسم وفق الطبيعة)، بل يعنيsketch تعريفه صراحة. إن تعبير شاسيئي لايعني »نقل الحياة الواقعية«، »توصيل الإلهي«. وإذا رجعنا بالتدريج الى تقاليد هذه الكلمة، فسوف نصل في النهاية الى فن الرسم في عصر سونغ، اي الى عبارة كان- بوو داخل الزن. ولهذا السبب لم يتردد سايتو في استخدام تعبير جيسّو- كانّيو (النفاذ الى الواقع عبر التامل)(33) لتوضيح ماتعنيه كلمة شاسيئي. وأغلب الظن ان تعبير (النفاذ الى الواقع عبر التامل) القليل التداول، ينتمي الى القاموس البوذي. ولو تعلق الامر بالشاعر كوكائي فلربما آثر تعبير: »مبادرة الاشياء بالنظر« (34). كان يقول أثناء حديثه عن الشعر :
»بتركيز ذهني كامل، بادرِ الشيء وفاجئه بالنظر، بادره، فاجئه بقلبك، وفتشه حتى الاعماق«. ولا بد ان لتعبير سايتو- موكيئتشي الدلالة نفسها. والامر يتعلق هنا بذهنية التي أوجدها الفكر العلمي المولود في realismمختلفة تماما عن ذهنية النزعة الواقعية الغرب الحديث. يتعلق الامر، في نهاية المطاف، بشكل من اشكال ال. كانْ (الرؤية):
»نفاذ القلب الى داخل الشيء«، »مبادرة الشيء بالقلب«… هذه التعابير وغيرها تكشف عن البحوث التي أُجريت للوصول الى معرفة الواقع معرفة حقيقية معاشة. النزعة المراقبة، الملاحظة، لكن ليس في اللغة observation تقوم على ال. realismالواقعية اليابانية مايقابل تماما هذه الكلمة الاخيرة، ولانعدام البديل الافضل نترجمها بتعبير كانْ- ساتسُ الذي كان يُستخدم، على مايبدو لي، في النصوص البوذية بمعنى تعبير كانْ- بوو تعني في الاصل observe نفسه، أو كانْ- غيو (منهج »الرؤية«) . غير ان كلمة الدقيقة للطبيعة، كأساس للعلوم الحديثة، observation اتباع القواعد«. والمراقبة ترتكز على مراقبة الطبيعة لفحص القوانين التي تتبعها وتخضع لها. ان طريق النجاح بالنسبة الى عشاق اتباع القاعدة، يختلف تماما عن الطريق الذي يسلكه من يرفضون أية قاعدة ويحاولون النفاذ الى الواقع المجرد عن طريق ال.كانْ (الرؤية). ومنذ وصول من الغرب إلينا والجميع يستخدمها كما هي بلفظها اللاتيني دون ترجمة: realism كلمة فنتكلم هكذا على الرياليزم في ديوان مان- يوشو، أو الرياليزم عند سايكاكو أو ما شابه.
لكن عندما نستخدم كلمة غير مألوفة كثيرا، نضطر الى إعطائها معنى اعتباطيا وحسب التي observation التفسير الشخصي. لقد أسقطنا من كلمة رياليزم روح المراقبة لا تناسب طريقة تفكيرنا. فهل نحن نعني ذلك أم لا؟. على أية حال، يبدو لي ان هذا الموقف لابد منه بالنسبة لنا نحن اليابانيين.
يشير توكودا- شوسيئي (35) الى انه فهم أخيرا، وفي نهاية حياته، روعة الرياليزم.
مرة اخرى يتعلق الامر هنا ايضا برياليزم تقوم على أساس ال.كانْ (الرؤية) وليس على. واليوم يتعرض توكودا الى نقد حاد جدا فيما يتعلقobservation اساس المراقبة ب.»القص الذاتي« كما مارسه في بعض اعماله. والحق كل الحق مع الذين نقدوه.
فهناك كثيرون يفكرون تبعا لتيارات العصر السائدة، وهناك قلة تميز من بين الاشياء القديمة مايصمد امام الاتجاهات الجديدة رغم النقد السلبي. والواقع، يندر اولئك الذين يتساءلون حول مايدوم بهذا الشكل: أليس بقعة صامدة او شيئا حيا. ومن المهم طرح هذا السؤال البسيط جدا. انها النقطة الاولى التي يجب على النقاد إثارتها. لا أحد يعارض تقدم الانسان، لكن »التقدمي« يعزف منذ البداية لحنا خاطئا؛ او ربما ينبغي القول انه وليس على بيانو technique يعزف على بيانو مختلف تماما : يعزف على بيانو التقنية. إن ثقافة اي بلد هي كالكائن الحي، الاشياء القديمة والاشياء الجديدة، culture الثقافة مايتغير ومالايتغير، تعيش كلها مترابطة فيما بينها كالجسد والروح لدى الانسان. ولاتُعدّل الثقافة او تُغيَّر كشيء جامد غير حي، فهي تتطور وتنمو كاي شخص. ولو كان لثقافة اي بلد قدرة التعرف على نفسها، كالكائن البشري، لأكدت ان كل ماضيها يكمن في اصغر جزء من الحساسية الجديدة. يكمن خطأ التقدميين في رغبتهم بالتعامل مع الثقافة وكأنها سلسلة متتابعة الحلقات وفق مبدأ السببية؛ وهي رغبة تفتقر الى الطاقة الحدسية الضرورية لفهم الثقافة بمنظار شمولي وبصفتها جسدا عضويا.
٢. ما أعتقده
كتب أَلان في إحدى مقالاته تعليقا على سيرة ذاتية لتولستوي وضعها مؤرخ كبير، وحدث ان قرأت هذا التعليق منذ فترة ليست قصيرة، لكن لا أزال اتذكره جيدا. يقول مامعناه تقريبا: ان جميع الوقائع المروية في هذه السيرة هي وقائع صحيحة بلا جدال. لكن لماذا تصدر رائحة مصطنعة من مجموعها ككل ؟ ولأي سبب نجد تولستوي تائها على حافة. لماذا لم تستطع هذه الوقائع، التي من Styx؟ نعم كان ألان يقول حقا ال Styx ال.
المفترض ان تكون حقيقية، ان تتوسل غير ظل واهن ؟ كانت حياة تولستوي طويلة وعاشها في جو من العنف. عاش في البداية متفرغا بالكامل لاهتماماته، ثم كرس كلّ شيء لعائلته وجمهوره ، وفي النهاية للإنجيل. هذه الورود، هذه الثمار وهذه المحاصيل هي جميعا، وبلا استثناء، غذاؤنا الذي لاينتهي ابدا. غير ان تولستوي استهلكها جميعا، فرأى الورود تذبل والثمار تسقط. عاش مخلفا وراءه نصبة أميال الطريق. إذن مامعنى عشر سنوات من ذكريات ؟. لاوجود لهذا. تختبئ هذه السنوات العشر في ثنايا حاضركم، فكرة وجدت في السابق ولم تعد تذكر اليوم… ما معنى ذلك ؟ معناه ان الزمن لايكشف عن قدميه أبدا. والمؤرخون يبحثون بطريقة مدهشة : يعيدون بدء الزمن، يريدون العودة في الزمن. يصعدون من »القيامة« الى »آنا كارنينا« ، ويرون سلفا »سوناته الى كروتزير« في كتاب »القوقازيون«. نجد لدى هؤلاء المؤرخين تداعيات افكار لم تخطر إطلاقا على ذهن الكاتب. لقد عاش تولستوي، كما نعيش جميعا، كل يوم من حياته للمرة الاخيرة متطلعا الى المستقبل. لماذا لايسعى المؤرخون الى العيش مع ناس الماضي كما نعيش نحن أنفسنا حياتنا الخاصة ؟ هذا هو تعليق ألان، وانا معه في مايقول. إنه على حق. فمع تقدم الدراسات التاريخية وبالاستغراق في إعادة بناء الزمن الماضي، غالبا ماننسى الزمن نفسه. عندما نؤخذ بذكريات الطفولة السعيدة، تنبعث فينا الآمال، آمال الطفولة آنذاك، ونبدأ العيش بالتطلع الى مستقبل طفولتنا. يقال ان المسنين يعيشون على ذكرياتهم. هكذا عندما ينخرطون في ماضيهم، يغامرون بكل مستقبلهم، المستقبل المولود من الماضي(36). هذه واحدة من روائع الزمن.لا أزعم اننا لا نعدل ماضينا أبدا؛ نعدله عندما نعيد بناءه. لكن هذا إبداع فطري يُنجز بدقة ومن غير علمنا. واذا تجرأت على الكلام مرة أخرى مثل سايغيو، فسأقول : على شبكة قلبي الشبيهة جدا بالزمن يرتسم بعض إحساسات الماضي العابرة الممتعة. ليس هناك أي مبرر يمنع المؤرخين، الذين يحاولون استذكار شخصيات الماضي، من استخدام هذه اللعبة الخفية الموجودة في اعماق حركة القلب والتي هي فعل التذكر. لكن اليوم، وحيث يتحكم النقد بكل شيء، يسفسف الناس حتى ذكرياتهم الخاصة، لانهم يستخدمون ذهنا استدلاليا جدا. فهم لايستطيعون ان يتذكروا بشكل حقيقي اننا خسرنا الحرب؛ وعوض ان يتذكروا الامر، يأخذون بنقد ماضيهم أو يحاولون التخلص منه مرة واحدة والى الابد. بالطبع، هذا الشيء لاعلاقة له بعملية التذكر. فهم بنقدهم لماضيهم وادعاء تصفيته يتصرفون وكأنه كان يمكن ان يكون مختلفا، كما يحدث لدى بعض المؤرخين الذين يتسلون بالماضي الذي لا يمكن استبداله. لكن الأنا التي عاشت زمن الحرب هي نفسها الأنا التي تعيش اليوم زمن السلم. هناك حياة متصلة لانستطيع ان نعيشها مرة ثانية. أينبغي النظر الى جهلنا السابق بصفته وهما، وها نحن استيقظنا الآن وفهمنا الواقع ؟ أينبغي القول في النهاية، وبعد انكشاف الحقيقة،إن خطأنا الماضي كان بلا معنى ؟ فكرة تافهة. وهذه الفكرة هي وراء التقدموية الطائشة. انها نتيجة الافتقار الى معنى جواني لابد منه لفهم الدلالة الحقيقة لحياتنا : مانعيشه كل يوم، نعيشه للمرة الاخيرة وبشكل لايستعاد.
صاغ مِياموتو- موساشي(37) في كتابه المعروف »الطريق التي ينبغي اتباعها وحيدا« القاعدة التالية : »عدم الشعور بأي ندم«. لاشك ان كيكوئتشي(38) كان يثمن جدا هذه الفكرة، وكان غالبا مايكتبها عندما يطلب منه توقيعا. لكنه كان يكتب دائما: »لا أندم على شيء إطلاقا«. أما بالنسبة لي، فإن كلام موساشي يعني : لا ينبغي الندم او الاسف على مافعلناه أبدا.على أية حال، توجد هنا مفارقة واضحة. فهل كان موساشي يدعي أنه، وبخلاف الناس العاديين، لم يندم في حياته على أي فعل اتاه بكل حكمة ونزاهة ؟ من المؤكد ان هذا تفسير سطحي وبسيط. اذا اعدنا صياغة هذا الكلام بمفردات حديثة، فان موساشي أراد القول ان كل نقد ذاتي، وكل محاولة لإنهاء الماضي ما هما الا خداعا وغشا.
فبهذه الطريقة لا نصل ابدا الى معرفة الذات حقيقة. بالعكس، سيقود هذا الاجراء الخادع الى خداعكم أنتم بالذات. تريدون الندم على مافعلتم أمس ؟ وليكن، اندموا ! لكن ستندمون على ماتفعلونه اليوم. ومن نقد ذاتي الى آخر يستدعي آخر أيضاً، تقضون الحياة في نقدكم للذات دون ان تستطيعوا الاكتفاء بمن ينقد. لا، لا، هناك طريق أخرى لمعرفة الذات(39).
اعقدوا العزم على ألاتغشوا أنفسكم بعد اليوم من خلال هذه الوسيلة العبثية التي تدعى الندم.
هذه هي القناعة التي يعبر عنها موساشي. بكلمات أخرى، يطالبنا بالحفاظ على الاحساس بالزمن المتأتي من حياتنا اللابديل لها، والذي يؤكده واقع اننا عشنا ولانزال نعيش. وفي هذا يكمن جوهر الفعل. هناك مثل يقول: لانستطيع الندم سلفا. لكن، وعلى أية، لاينفع الندم شيئا سواء كان سلفا أو فيما بعد. وإذا كنا لانعرف المعنى الحقيقي للفعل، فإن »التأمل المسبق« أو »التفكير بعد فوات الآوان« عبث كاحتضان الظل. هذه هي الرسالة التي أراد هذا المعلم ان يتركها لنا. كل فعل يختلف بالتاكيد عن الافعال الاخرى، لكن الحياة التي نجيشها في كل فعل هي نفسها دائما. الادراك الحقيقي لهذه الصيغة من الحياة الفريدة والدائمة في التوتر الذي تخلقه الافعال…. أعتقد ان هذه الفكرة المتناقضة ظاهريا لدى موساشي تكشف طريقته في الوصول الى معرفة ذاته. والمُعبرعنه في النهاية هنا، هو ال. كانْ- بو (منهج »الرؤية«) الخاص بموساشي، لكنه ليس نظرية في المعرفة.
(وفي؟) والنظر(كينْ؟ كان موساشي يميز بين عملين للبصر: الرؤية/التأمل) كان الكتابات التي وضعها من اجل هوسو كاوا- تاداتوشي (40)، نجد مقطعا خاصا بوضعية العينين: أثناء المسايفة، ينبغي ان تكون العينان في وضعية »الرؤية/التامل« عوض النظر. فالنظر بالنسبة اليه،هو طريقة وصول عين الانسان بالشكل العادي الى الشيء. لكن يوجد نوع آخر من البصر قوامه الفهم الحدسي لكلية الخصم؛ يعني الرؤية »بشمول وهدوء دون تحريك العينين«. وبهذا الشكل »تمكن رؤية العدو، حتى أثناء تربصه عن قرب، كما لو انه لايزال بعيدا جدا«. »الادراك يتابع العينين، لكن القلب يظل ثابتا وبمعزل عن حركتهما«. العين العادية تحاول النظر، لكن القلب غير مضطر لهذه المحاولة. وهذا لايعني ان لا عيون له: يقال ببساطة عين القلب.لكن الوعي بالنظر يشوش النظر نفسه. ولهذا كان موساشي ينصح بتنمية قوة الرؤية بدل القدرة على النظر.
كثيرا مانتناول هذه الايام مفهوم التاريخ حسب هذه النظرة أو تلك، أو نتناول رؤية للتاريخ وفق هذه الايديولوجيا او تلك. لكن بقليل من الجرأة أستطيع القول، على طريقة موساشي، ان الامر يتعلق هنا بفن النظر لابفن الرؤية. وغالبا ماتستخدم هذه التعابير بشكل عام للإشارة الى نقد التاريخ او تفسيره انطلاقا من بعض وجهات النظر المسبقة. غير ان لفظة »كان«، كما قلت اعلاه مرارا وبحكم طبيعتها، ترفض رفضا قاطعا كل محاولة لمراقبة الاشياء انطلاقا من وضعية مرسومة سلفا. لانها تقوم اساسا على التناغم مع الواقع كما هو مستنكرة ترسيمه وفق مقولات جاهزة. والمؤرخون الحقيقيون لايقفون عند حدود معاينة الشروط المادية للتاريخ، بل يستدعون التاريخ الى مبارزة كما لو ان الامر يتعلق بشخص حي. إن المؤرخ الذي ينقده ألان، وتحدثت عنه سابقا، سينقده موساشي بشدة لأنه يجهل وضعية العينين. هذا المؤرخ الذي لم يستطع ان يرى الا تولستوي التائه، المتسكع قرب،ليست له »العينان اللتان تتأملان العدو البعيد جدا، كما لو انه قريب جدا«. تبدوstyx احداث الماضي في عيون مؤرخين مماثلين أحداثا مضت ولاشيء أكثر. هؤلاء المؤرخون يشبهون تماما من لايراقب أثناء المبارزة سوى بعض حركات الخصم الجانبية. غالبا ما نحترم المؤرخ لقدرته الفائقة على تنظيم الكثير من الوثائق التاريخية واستخدامها بمهارة وذكاء. لكن الاهمية كل الاهمية تكمن في وضعية العينين. هل يرى خصمه حقيقة أمام عينيه : أي التاريخ الحي كشخص ؟ وقتذاك، على كل وثيقة يستخدمها ان تصدح جيدا كضربة البيانو، وعلى كل لحن عُزف في الماضي الاستمرار في الرنين وإثارة الاصداء المختلفة لدى الانسان المعاصر، ثم على أذنيّ المؤرخ ان تعرفا الاصغاء جيدا إليه. ليس المؤرخون الكبار ماهرين في استخدام الوثائق وحسب، بل هم معلمون كبار أيضا في فن التذكر تحديدا. ولابد للبحوث التي تهتم بمعرفة الذات واكتشافها، أن تنسحب على فن معرفة التاريخ.
العين الناقدة تراقب بإلحاح ولا تكف عن المراقبة، ونحن اليوم في عصر يشهد احتداما يائسا لتعزيز قدرة النظر. لا يمكننا تحديد معنى لفظة »كان« بالضبط، لكن لابد ان فيها شيئا مفارقا دقيقا خاصا يجيئها من التقاليد. ولا أحد تقريبا يعيره الانتباه عندما نجده في قولنا »رؤية التاريخ« (ريكشي- كان). يقال ان الالفاظ تتغير ألوانها حسب الازمان، لكن المشكلة ليست بهذه البساطة. يبدو لي أن روائيي هذه المرحلة بالذات لم يعد يعنيهم الاشتغال على ماهو قديم كهذا الشيء المفارق الدقيق داخل الكلمات، وآثروا ترك الموضوع للشعراء. فمعنى الكلمة بالنسبة للشاعر ليس سوى هذا الفارق الدقيق فيها، والذي هو شخصيتها او هويتها اذا جاز التعبير. الكلمة التي تعيش وتكون موجودة واقعيا، هي التي تعبر عن نفسها من خلال فوارقها الدقيقة داخل السياقات. والشعراء لايعرفون، من حيث المبدأ، لا الكلمات الفارغة ولا الكلمات الميتة. ثم اذا قبلنا بان تاريخ الكائن البشري، يتحدد قبل كل شيء بصفته تاريخا للكلام، فإنه لن يكون شيئا آخر سوى التاريخ الادبي بالمعنى الواسع للكلمة. ويظل القدامى احياء ما دمنا قادرين على التعاطف معهم. إن حياة أو موت كلمة، كأية وثيقة، يتعلقان فقط بعمق تعاطفنا الشعري، وبالقدرة الرؤيوية للشعراء الذين يعرفون ان يروا.
حركة العقل الذي يريد ان ينقد، هي دوما حركة سلبية. لا يقبل الاشياء كما هي ويسعى الى تفكيكها باستمرار. من البدهي الايكون هناك تقدم خارج هذا النوع من العمل. وعلى النقد ان يكون الملح الضروري للإبداع، لكنه عندما يتجاوز بعض الحدود فان الملح يصبح عديم الجدوى. نتيجة مدهشة، لكن الامور هكذا. كل نقد يستدعي اخر، وكل تفسير يستدعي آخر ايضا…. هكذا حتى يكون لدينا اكوام من النقد والتفسيرات التي تتكاثر بسرعة الفئران، ويضيع الناس داخلها فلا يعرفون الخروج، لا بل يجهلون انهم ضائعون، ويعتقدون انهم يعملون بجد واجتهاد. وتبدو نتائج هذا النوع من الانشطة في الصحافة أزهارا اوجدتها الثقافة الحالية؛ لكنها في الواقع ليست سوى نتاج عقول متسرعة لاتتحمل شيئا وتعاني اعماقها من سرعة كبيرة في الاستهلاك. تتظاهر جدياً بالعمل والانتاج، غير اني لاأرى في ذلك أكثر من عرض مؤلفات استهلاكية أعدت بفطنة واحتيال. وتسمون هذا نشاطا ثقافيا ؟ كلا… النشاط الثقافي هو بناء بيت بشكل متين، ولاشيء سوى بيت…. مصنوع من خشب او من فكر، لايهم… لكن وفي جميع الاحوال، نشاط يؤدي الى خلق صيغة واقعية مدموغة بدمغة الفكر الحقيقية. انه عمل يخلق شيئا خاصا، عمل يدوي.
ولا يمكن ان نكوّن فكرة صحيحة ودقيقة عن الثقافة إلا من خلال فعل الإبداع. غير ان هؤلاء القرود المأخوذين بالاشتغال على الثقافة لايتعبون من تقشير القفاليط المسماة »ثقافة«. في كل مكان تتكوم قشور القفاليط، وهانحن أسرى لقلق مضن وعقيم لانشعر به في هذا الميدان كما نشعر به في ميدان السياسة. يبدو لي انه قلق خبيث ومؤذ يتوارى في ثنايا الروح.
تتكون الثقافة من المبارزة بين الطبيعة والروح. والذين يعملون بأيديهم يلتصقون روحيا وعقليا بالمادة الواقعة تحت انظارهم. بشكل طبيعي، سيفهم الحرفيون الذين يجهلون كلمة »نقد«، ماذا يعني النقد اذا قيل لهم انه ليس سوى المقاومة التي نشعر بها حسيا عند اصطدام الروح بالاشياء. الضرر الناتج عن النقد هذه الايام يتجلى بصيغ مختلفة، لكن يبدو لي ان جوهر المشكلة يكمن في غياب المقاومة المحسوسة التي ينبغي الشعور بها عند مواجهتنا للاشياء. يتوهم نقاد اليوم انهم يهاجمون شيئا، لكنه بالنسبة إليهم غير موجود في الواقع. يزعمون انهم غير قادرين على الاكتفاء بقبول شيء ما، موضوع ما يُقدَّم اليهم، لكن هل استوعبوه حقا؟ وهل هذا واضح واكيد جدا؟ ألا يوجد ماهو أكثر تعقيدا ويكمن وراء سهولة ظاهرية؟ لا يفكرون بكل هذا. وبلا تردد يركبون عربة اسمها »النقد« لينطلقوا بسرعة قصوى. ثم لايعودون الى الوراء ابدا: لاوجود للذهاب والعودة في العالم الذي يغطس به هؤلاء النقاد. هذا أسوأ شيء بالنسبة اليهم. بدءا، لن يصادفوا سوى كلمات لاتبدي اية مقاومة. ومتى انتفت المقاومة، ينتفي اللقاء الحقيقي. هكذا يعيشون مع هذه الكلمات في عزلة لا يشعرون بها. لكن كيف يمكن للامر ان يكون غير ذلك ؟ لانشعر بالعزلة الا عندما نكتشف بوضوح متزايد وجود الآخرين الذين يتخذ مصيرهم خطا مختلفا عن خطنا، والذين لابد من الاصطدام بهم اذا أردنا العيش على طريقتنا الخاصة. لكن عندما يتعلق الامر بالكلمات فقط، فان جميع أنواع الغش واللعب مسموحة؛ فيصرح احدهم أن »النقاش المجرد لافائدة منه«، وسوف نناقش التعابير بصفتها أشياء واقعية. و يقال ان مثقفي اليوم ارتيابيون، لكن هذه طريقة خادعة في الكلام. أعتقد اننا لم نر في التاريخ مثقفين بسطاء وسطحيين كمثقفي اليوم. لايبذلون اي جهد لمعرفة ذواتهم عبر الصدام مع الاشياء. هنا تكمن أسباب التسطح المدهش فيمايخص الكلمات؛ تسطح يقترن، وللمفارقة، بمظهر ارتيابي إزاء الوقائع. ليس هناك اي تماس بين هؤلاء النقاد والاشياء؛ وعليه لايمكن للارتيابية ان تجد مكانا عندهم. لأن الارتيابية قوة حقيقية من قوى الروح يمتلكها جميع الذين يثمنون التجربة؛ إنها إرادة الا نصدق، وبسهولة، الكلمات الا بعد مرورها في مختبر التجربة. »الشك« هو، في الاساس، قوة من قوى الكائن البشري الطبيعية، وينبغي اعتبار الشكوكية او الارتيابية فضيلة من فضائل العقل(41). حتى الطفل يستخدم هذه القوة الحيوية عندما يريد فبركة بهلوانيات ذات فاعلية كبرى. ومن المدهش ان نلاحظ كيف يتجاوزها المثقفون عندما يتعلق الامر، مثلا، باعتناق ميتافيزيقيا ما او باعتناق مفهوم مادي للتاريخ. هناك روائيون معاصرون كبار عرضوا، وبازدراء، شخصيات روائية بصفتها مثلا لأعراض انحراف ذهني حقيقي : عدم القدرة على التصرف نتيجة للنزعة الارتيابية. لكن بما ان الكتاب الكبار لايفصحون عادة عن ازدرائهم بوضوح، فإن القارئ يشعر بالمتعة اثناء القراءة، دون الانتباه الى انه معني هو الاخر ايضا بهذا النقد الخفي.
يؤكد لنا التوجه السليم ان الناس العمليين، أناس الفعل، ارتيابيون دوما : لاتكف أذهانهم عن الارتطام بأشياء مجهولة. يحترسون باستمرار من الكلمات المعروفة. من صدقوا وآمنوا دفعة واحدة، يمكنهم الارتياب فيما بعد. لديهم نوع من الإجلال للحقيقة الحية : هناك دوما شيء ما يتجاوز قوانين الذهن في الاشياء الواقعية المعطاة حسيا، وهناك حتما في الافعال شيء ما أكثر خصوبة من النظريات. ولهذا يستطيع الناس العمليون، أناس الفعل، الشك بطريقة حادة في كل مايحدث لهم وينتابهم باستثناء قناعتهم الاخيرة. ومن العبث معارضة أصحاب النظريات بإطلاعهم على الاحداث الواقعية. سوف يزعمون وبلا قلق ان لكل نظرية استثناء. لا أفهم، يبدو لي انهم يفتقرون الى شيء ما أكثر حميمية.
اذا كنا نستطيع الجزم بصدد كل شيء، استنادا الى النظرية التي ندافع عنها، فلا بد ان نتساءل حول أصالة هذه النظرية. وهنا بالضبط يتدخل حس باطني حميم غير موجود لدى أصحاب النظريات. ماينقصهم هو مقاربة تحترم الواقع، هوذا جوهر المشكلة. فالواقع لايهب نفسه أبدا لمن لا يحترمه. وبهذا المعنى استطعت القول أعلاه : ليس من الواضح أن للمثقفين تماسا حقيقيا مع موضوع نقدهم.
بودي الاشارة مرة أخرى وبوضوح خاص الى موضوع العلم: العلم دراسة منظمة بدقة، ويقوم هذا العمل على الانتقال، بصبر واناة شديدين، ذهابا وإيابا بين الفرضيات والفحوص التجريبية. لا علاقة للعلم مع وجهة النظر »العلمية« هذه ، أو مع طريقة التفكير »العلمية« تلك، اقوال وعبارات لا تفارق أفواه مثقفي اليوم. مايسمونه علميا ليس الا كلمة. والحقيقة هناك اشكال متعددة من العلوم، وهناك طرق مختلفة للرؤية، وذلك حسب طبيعة الشيء وحسب مزاج المراقب. إن الذهن الذي لا يوضح موضوع تفكيره وطابعه الشخصي، لا يعرف سوى عرض أفكار عامة، »كوجهة النظر العلمية« مثلا.
ثم يتقوقع داخل تصورات خيالية ومنطقية للواقع مثل »الواقع البسيكولوجي« أو»الواقع التاريخي« الى آخر هذه المصطلحات، دون الاهتمام بعدم قدرته على الخروج منها.
لاشك ان هذه التصورات الخيالية موضوعة ومنسقة بشكل جيد. لكن هل بذل مؤلفوها كل هذه الجهود للسيطرة على الناس واسرهم؟ لا أحد يشك بأصالة مايضيئه العقل، ففيه نتعرف على حقيقة ما…لكن الحياة الانسانية في تعقيداتها تظل هي الحياة الانسانية، لأن الحقائق كالأكاذيب تتركنا في حيرة واضطراب. لا يستطيع مثقفو اليوم، وفي عالم أفرغته الحقائق المعروفة من الاشياء التي تظل غير معروفة، إلا متابعة استنتاجاتهم. يقال انهم يفكرون كثيرا، لكن الاستدلال ليس تفكيرا. والحركات التي تحدث داخل رؤوسهم تشبه حركة الاشياء وهي تسقط من الاعلى الى الاسفل. تظهر في سماء أذهانهم أفكار وتختفي مثل زخات المطر. كلا، ولاشيء آخر. يعتقدون انهم يعيشون حياة مليئة، لأنهم نقاد بالمهنة. غير ان هذا لاعلاقة له بالنقد الحقيقي. إن قوة النقد هي القدرة على التمييز والابانة. وتتأتى هذه القوة بالضبط من مرونة الذهن وتمدده بفعل صدمة قوية تحدثها الاشياء غير المعروفة.
غالبا مايقال إن المثقفين اليابانيين لا يهتمون بالسياسة الا نادرا، ولايمكن الاعتماد عليهم في هذا المجال. نعم، هذا صحيح. لكنه ليس الا نتيجة الظروف الخاصة جدا لتاريخ الحضارة اليابانية. وسوف تحل هذه المشكلة، عاجلا ام آجلا، بتحسين التنظيمات السياسية وتطوير الافكار العامة المتعلقة بالقضايا الاجتماعية. لكن يبدو لي ان للمشكلة جانبا آخر لا نريد الالتفات اليه : سياسة العلم الحديثة، بطبيعتها، تفرض هذه الصعوبة. يشير برغسون في احد كتبه الاخيرة الى ان المستقبل يمكن ان يشهد ولادة فنانين كبار، أو علماء كبار، لكنه لن يشهد بعد ولادة سياسيين كبار.لان السياسة الحالية، وشيئا فشيئا، لم تعد تتطلب رجلا استثنائيا، وسوف يتعزز هذا الاتجاه أكثر. والرجل العظيم لاوجود له من دون شخصية أو أصالة مؤكدة. وإذن، لابد من توافر وحدة عضوية تامة بين ماهو عليه وبين مايحققه.
غير أن القضايا السياسية حاليا تتسع لتشمل العالم بالكامل، ويزداد تعقيدها الى حد لايستطيع معه أي سياسي، مهما كان متخصصا، أن يحيط معرفة بجميع الأحداث التي ينبغي أن يعيرها اهتماما. فهو ولاشك مشغول جدا، وهو في جميع الأحوال مشغول جداً !
لكن عليه إنجاز عمله بشكل أو بآخر مستخدما جميع الملابسات والمصادفات. وفي مثل هذه الاحوال يعجز أعظم الرجال. والمشكلة، في الحقيقة، ليست هنا: بل في السياسة التي أصبحت عملا مخيفا. لعل تشرشل كان آخر هؤلاء العظماء. إن كتابه »مذكرات الحرب« يشهد على رجل خاض معركة صعبة ضد عدو غير إنساني، ضد تنظيم سياسي كان يتفجر كأنه قوة من قوى الطبيعة ومن دون أي مبدأ. لكن هل كانت ألمانيا عدوه الحقيقي ؟ وحده صاحب هذه المذكرات يعرف ذلك.
إحاطة معرفية كاملة بالمادة التي نعالجها، واكتشاف منهج ذاتي أصيل للعمل على هذه المادة، والوعي بالضرورة التي تحكم سيرورة وتطور العمل (وهذا مالايقدر على استيعابه العامة)، وأخيرا التحقق من الدمغة الشخصية في العمل المنجز، هذه هي الاشياء التي نستطيع لمسها لدى جميع الأساتذة المجربين، أيا كان ميدانهم. غير أن هذه الطريقة الانسانية والسلمية في العمل لم يعد لها مكان في النشاطات السياسية. ولابد من تنظيم ما للنجاح في هذا الميدان. لكن ينبغي الاعتراف أن التنظيم يعني المكننة. حتى الاحزاب السياسية المتعارضة إيديولوجيا تلتقي على صعيد هذا الميل : يريدون للعمل أن يكون أكثر فعالية باللجوء الى قوة ميكانيكية ما، أي إلى مجموعات منظمة. ولا أحد يستطيع قلب هذا التوجه. ثم من العبث تصور ذلك. لكن الذهن الشفاف والنفاذ يمثل قوة حقيقية عندما يشخص هذا الاتجاه في واقع السياسة الحالي. وإذا كان يمكن اعتبار مكننة السياسة صيغة من صيغ دفاعها الذاتي عن النفس، فإن تشخيص هذا الوضع والتحقق منه هو الآخر أيضا شكل من أشكال دفاع الإنسان عن ذاته. لا أحد يستطيع في المجتمع، وهو كائن حي يعيش، الادعاء بأنه غير سياسي. لكن يمكن، أو ينبغي أن تكون هناك روح معارضة للسياسة.
وفي مثل هذه الظروف، من الافضل للسياسة أن تخضع لتنظيم تام وأن تتحول بصدق الى تقنية فعالة. ولا داعي لتعليق أهمية كبرى على الايديولوجيات السياسية، فهي ليست فكرا تماما، كما أنها ليست مجرد مناورات ميكيافيلية أيضا. لعلها في المحصلة شيء غير قابل للتحديد. وما علينا الا اعتبارها كالزيت الضروري لتسيير التنظيمات السياسية. ثم بما أنه لابد من اختيار الزيت، فمن الافضل أن يكون تركيبه بسيطا. هكذا سوف يتحول رجال السياسة الى مهندسين يهتمون بإدارة حياة المجتمع المادية فقط. ثم ينبغي أن يعرفوا أن لاجدارة ولا اختصاص لهم، وليس من حقهم التدخل في المناطق العميقة للحياة الروحية.
وإذا توهم البعض أن الايديولوجيا السياسية قادرة على التماهي مع رؤية ما للعالم يؤمن بها الناس، فإن هذا الوهم المتعالي يؤدي حتما الى الطغيان والاستبداد.
من يعتقدون بصواب رأيهم في كل شيء، هم طرائد ثمينة يترصدها الطموح ورغبة السيطرة على الآخرين. منذ نهاية الحرب راجت عبارة »عميل في خدمة الشعب« للإشارة الى الموظفين. لكن ما دام رجال السياسة مصابين »بمرض الوصول الى مهنة وزير«، ومادامت عقول الناس مأخوذة بعبارة »مرتبة وزارية« التي تُضفي بشكل غامض وعادي جدا، فإن تسمية الموظف ب »عميل في خدمة الشعب« تفقد معناها ولاتفيد شيئا. إن التنظيم الذي يتم إعداده سريعا في مجال السياسة، سيرفع الغشاوة عن عيون الذين ما زالوا يؤمنون بهذا النوع من القيم الوهمية. لكن بالمقابل، يضاعف هذا التنظيم من الضرر الذي تسببه الثقة المفرطة ببعض الايديولوجيات المطلقة. وإذا كان وعي المثقفين السياسي يقاس بمستوى نشاطهم في الوضع الذي وصفته منذ قليل، فإننا نستطيع القول إنه وعي بائس. سوف ينتهي الغول الذي تمثله السلطة السياسية الى التهام الانسان، فيما نحن مأخوذون بالصياح إن الديمقراطية هي استيلاء الشعب على السلطة.
وربما تعلمون أن موسوليني كان يحدد فاشيته على أنها صيغة متقدمة للديمقراطية.
تلكم هي مظاهر المشكلة الحقيقية. وبهذا المعنى، ليس مثقفو اليوم بعيدين عن الاهتمام بالسياسة أبدا، إنهم وبالعكس يولونها اهتماما كاملا. ويبدو لي أن تسييس الذهن بلغ حدّ السخرية تقريبا. لا أحد يرغب بسياسة تافهة، لكن هل يستطيع الذهن المسيس أن يساهم جيدا في السياسة ؟ كثيرة هي الهيئات الرقابية التي تدور في الميكانيكية السياسية كالدوامة، لكن ماذا ستكون النتيجة؟ إن الغموض السياسي في عالم اليوم يطرح على الجميع مشكلة كبرى، لكن هذا لا يبرر إعطاء الاولوية للسياسة.
»الإنسان حيوان سياسي«، هذا ماكان يردده سابقا مفكر ثاقب الذهن.ولنفترض أن هذا المفكر ولد في هذا العصر،أما كان سينصحنا بالاحتراس من حيوانية السياسة؟ عندما أخوض في هذه الموضوعات حيث لايمكن الجزم بشيء، يؤخذ علي أنني لا أهتم بالسياسة. السياسيون يديرون الثقافة، ولا ينتجون إطلاقا في هذا المجال. لم ينتجوا أبدا في مجال العلوم ولا في مجال الفنون، ولم يصنعوا يأيديهم المجردة آلة عملية، وهم هنا من أجل استخدامها فقط.
لا يستطيعون أن يفهموا جلد المبدعين الطويل ولا بحوثهم الدقيقة. تظل السعادة والحزن اللذان يشعر بهما المبدعون أثناء العمل شيئين غريبين على السياسيين. لا أقول هذا ازدراء لهؤلاء، بل هو مجرد معاينة للحس العام. أعتقد ان على السياسيين الانطلاق من هنا لتسوية قضايا العالم. ولامبرر للتفكير بأن التقنية التي تدير قضايا العالم أعلى مرتبة من تلك التي تمارس زراعة اللفت. لكن يبدو لي أن المصنفين مأخوذون بشعور التفوق الذي لا أساس له. وأعتقد أن الشعور نفسه موجود لدى شرطي المرور.
منذ فترة شاهدت فيلما عن الالعاب الاولمبية في لندن(42)، ولشدما أسرني عدد المشاهد التي تعرض وجوه بعض اللاعبات أثناء المباراة. كنّ وإذ يشعرن بحضور الكاميرا يكشفن عن ابتسامة ساحرة، لكن سرعان ما تتحول وجوههن إلى وجوه قديسات، حالما يأخذن بالاستعداد لرمي ما على كواهلهن من أعباء. يظهر فوق وجوههن جمال غريب عندما ينتقلن إلى الفعل. وتختلف التعابير من شخص إلى آخر، لكن لم ألمس فوق أي وجه ما يدعى بملامح الروح القتالية. كانت الوجوه وجوه من ينفذون عملا لا يستطيعون إنجازه أبدا بشعور روح قتالية متدنية إلى هذا الحد. لا يواجهون خصما فهذا لا وجود له. وفوق الوجوه تصميم قاطع على الذهاب إلى أبعد ما يمكن، إلى عالم يتجلى فيه توتر شديد. في بداية الفيلم نقرأ العبارة التالية : نتبارز، لكن ليس من أجل الغلبة. وحدهم الرياضيون يستطيعون فهم دلالة هذا الشعار يبارزون العبء الذي عليهم رميه، يبارزون جسدهم وأفكار الكسل التي تربكهم… ويذهبون للتغلب على أنفسهم. لم يتعلموا ذلك من خلال الكلام، بل من خلال فنهم، أي من خلال هذا العمل اليدوي القائم على رمي ثقل معين متموضع فوق الكاهلين، عمل لا يمكن أن يكون مجرد ميكانيكية منظمة. وبالمقابل، تعرض الكاميرا ملامح المتفرجين التي تمثل مفارقة غريبة بالنسبة إلى ملامح الرياضيين. لم يكن في ملامحهم سوى تعابير القلق والخيبة، الانتظار أو الإثارة. عندما لا نشعر بوجود عبء فوق كاهلنا وعلينا رميه والتخلص منه، لابد من فبركة سحنة بشعة ! لم يكن المتفرجون سوى حيوانات لا أنا لها تستعيدها. يجلسون في مقاعدهم ويدعون التبارز، لكن لا يشدون أحدا إليهم. بودي أن أقول لهم : طالما لم تجدوا »عبأكم«، فإنكم على وشك العمل لغزو الآخرين واستباحتهم. وإذا مااندلعت حرب جديدة ذات يوم، فإنها لابد آتية من جانب المتفرجين؛ أما الرياضيون فلا وقت لديهم لإشعال الحروب.
هوامش
1- يستخدم هيديو- كوباياشي هنا، وعلى سبيل الطرافة، تعبيرين مليئين بالدلالات الأخلاقية : »الواجب الاجتماعي«، »شعور إنساني«. هكذا يستند إلى قيم فقدت اعتبارها بعد الحرب حيث كان يغلب التحرر الفردي والدمقرطة الاجتماعية. هل كان يريد تأكيد استمرار أخلاقياته ؟
والواقع أنه احترم طوال حياته مجموعة قيم متأصلة في التقاليد. ولايمكن لتغير نظام سياسي، مهما كان جذريا، أن يعدل بين ليلة وضحاها القاعدة الأخلاقية للإنسان.
ولنشر إلى أنه كان قد عبر في أول نص له، على حد علمنا، عن شعور الإمتنان تجاه والديه. راجع الإنشاء المدرسي (أويا- نو- أون) الذي كتبه وعمره سبع سنوات.
Kobayashi Hideo ,Tokyo,Editions Shincho-sha,Coll.((Shincho Nihon
-bungaku- arubamu ))1986,p,2.
2- يستشهد خلال المحاضرة بهتلر وموسوليني لنقدهما والسخرية منهما. لكن مجرد ذكرهما آنذاك كان يعني شيئا : لايريد كوباياشي أن يلفهما الصمت كتابو جديد ولاينبغي طمس الماضي بسهولة. هذا الموقف لايعني أبدا اتفاقه مع أفكارهما الديماغوجية، وهو حريص على إعلان اختلافه عن ميول عصره الذي كان يعتبره طائشا.
3- باليابانية »هِيمِتس«. سر الإبداع مفهوم غالٍ على قلب كوياباشي. نجد هذه العبارة عنده منذ كتابه : »مشكلة ساتو- هاروؤ« المنشور سنة ٦٢٩1؛ ويوسع الكاتب هذه الفكرة أكثر في »أدب ماسامونيه – هاكوتشو«، المنشور سنة ٥٦٩1 في صحيفة يوميوري. راجع،
K0bayash Hideo: Kanso/Impressions,Tokyo.Editions Shincho-sha,1979,p.93-100
4- رودولف أوخين (٦٤٨1- ٦٢٩1). نشر آبيه- يوشي- شيكييه (٣٨٨1- ٦٦٩1)
سنة ٢1٩1، ولدى منشورات إوانامي، ترجمته لِلعبارة الألمانية :
Die Lebensanchauungen der grossen Denker-
مارس فكر رودولف أوخين تأثيرا لاباس به Daishisoka no jinsei-kan تحت عنوان :
طوال مرحلة عصر تايشو، ولاسيما على جماعة »الحركة من أجل الثقافة« التي نشطت جيدا في العشرينيات من القرن الماضي.
غير أن مايطرحه كوباياشي هنا لايبدو مقنعا تماما. لأن تعبير جينسيئي- كانْ نجده مستخدما منذ بداية القرن العشرين في العديد من الأعمال الأدبية : »أزهار الحقول«، 1٠٩1، تاياما- كاتاي؛ »الثور والبطاطا«، 1٠٩1، كونيكيدا- دوبّو…..إلخ. وفيما بعد استخدمه الروائي المعروف ناتسوميه- سوسيكي أكثر من مرة في رواياته وقبل نشر الترجمة المذكورة أعلاه. فبطل رواية »الباب«، 1٠٩1، مثلا يبحث عن طريق في حياته المظلمة : يتأمل بضرورة أن يغيِّر تصوره للحياة (جينسيئي- كان)، ليس على الصعيد الثقافي وحسب، بل على صعيد القلب أيضا. ونتيجة لهذا التأمل الوجودي، سيمارس الروائي نفسه التأمل جالسا (زازِن) في أحد معابد كاماكورا. (راجع. الأعمال الكاملة، ناتسوميه- سوسيكي، طوكيو، منشورات إوانامي شوتين، 1929، جزء 4،ص.448). راجع أيضاً : »الخشخاش«، فصل 12؛ »سان شيرو«، فصل 4؛ »من بعد«، فصل 5؛ »الباب«، فصل 17؛ »بعد الأموات«، التقرير فصل 9؛ »الرجل الذي يذهب«، بعد العودة، فصل 14؛ »القلب«، أنا والأستاذ، فصل 15، 19؛ »الضوء والظل«، فصل91، 105، 170؛ وكذلك مقالته »أعمالي ورؤيتي للحياة«.
وتجدر الإشارة إلى أن آبيه- يوشي- شيكيه كان منذ 1970 أحد تلامذة سوسيكي. فهل كان تعبير جينسيئي- كانْ يدور في محيط هذا الروائي ؟
5- إلى أي مدى يمكن التدليل على تفرد اليابانيين ؟ فلفظة »كان« التي ترجمناها بِ :
»رأى/ تأمل / رؤية«، تتطابق كمفردة بوذية مع الكلمة السنسكريتية »فيباشايانا«؛ لا تعني الرؤية بالعين فقط، بل تعني »التبيّن أو التمييز« أيضا.
يستخدم كوباياشي في هذا النص، وبدقة، ثلاث صيغ فعلية مختلفة وذلك تبعا للموضوع »المرئي«. عندما يتعلق الأمر بأشياء عادية محيطة بنا، يستخدم فعل »رأى« البصري العادي، وعند الحديث عن امكانية »رؤية« صور »الأرض الطاهرة«، يستخدم الفعل نفسه في البداية. لكن عندما يتعلق الأمر بمستوى »الرؤيا« يختار فعل »رأى« القلبي.
[الإختلاف هو في شكل الحرف الصيني، لكن النطق هو نفسه. م.ع.] والإختلاف بين هاتين الصيغتين ليس واضحا ودقيقا باستمرار. الفعل الأول »رأى« البصري، يدل بشكل عام على الرؤية الفيزيقية الحسية، في حين أن الفعل الثاني يتضمن دورا قويا للبصيرة.
أما الصيغة الثالثة فهي »كانزورو«، وتظهر في جملة »رؤية الخواء، اعتبار كل شيء خاو« : هل يمكن الإستنتاج أن الأمر يتعلق هنا بفعل ذهني محض وليس فيزيقيا حسيا ؟
يرفض كوباياشي الفصل بين الذهني والفيزيقي، ويرى في هذا التعبير فعلا واحدا يجمع الجسد والروح.
6- على الرغم من هذا التواضع المتصنع قليلا، فإن كوباياشي يُظهر في هذه المحاضرة معرفته الحقيقية للفكر البوذي. والجدير بالذكر أنه لم يتناول البوذية بمثل هذا العمق أبدا.
ومع أنه يعترف بأهمية الإيمان، لكن قلما تحدث عن الأديان ولاسيما عن انتمائه الديني هو تحديدا.غير أنه وفي حوار ودي نشر سنة 1975، كشف وبصدق مدهش عن بعض جوانب ممارسته للدين. فأمه التي يكن لها حبا غير مشروط، كانت في البداية متدينة متحمسة لمذهب »تينري- كيو«. وهو مذهب ذو طابع شِينتَوي أسسه ناكاياما- ميكي سنة 1838، وكان عدد أتباعه سنة 1922 (حيث كان كوباياشي في العشرين) 133000 تابعا. وفي أول كتاب له، وهو شبه سيرة ذاتية، يشير كوباياشي إلى معالجة بعض الناشطين في المذهب لأمه المريضة. كما يشير فيما بعد، وبتعاطف واضح، إلى جو أعياد التابعين الذي شارك فيه أثناء الحرب.
لكن أمه التي تفاقم مرضها في السنوات الأخيرة، تركت هذا المذهب لتنضم إلى حركة جديدة تدعى »أُوهيكاري- ساما«. أنشأ هذا الدين الجديد أوكادا- موكيئتشي سنة 1930، على أساس الإيمان بالقوة الروحية الذاتية. وتبع الولد أمه ليشاركها إيمانها. ثم حصل على تعويذة هذا الدين، وكان يداعب أمه بها لتخفيف آلامها : »… ثم بعد وفاة أمي رميتها جانبا، إذ أضحت بلا فائدة كسيف طويل في زمن السلم… يعتبر المثقفون أن هذه الأشياء خرافية، وهمية، لكن تجربتي تؤكد أن رأيهم هذا بلا معنى« (الأعمال الكاملة رقم 1. ص. 319-321)
7- تُعتبر هذه السوترا واحدة من ثلاثة نصوص تشكل جوهر مذهب »الأرض الطاهرة«.
وتحتوي بخاصة على حكاية دهار- ماكارا الذي أصبح أميتهابا بقوة أمنياته ال.48. وتؤكد الأمنية الثامنة عشرة على أولوية ال. نينبوتسُ (طريقة عبادة بودا أميدا) كوسيلة مضمونة للذهاب إلى جنة الغرب والولادة هناك من جديد. وهذه الأمنية تشكل الفكرة المركزية لمذهب الأرض الطاهرة في اليابان والصين على السواء.
نجد الوصف المفصل لجنة الغرب وشرح الإجراءات ال.16 الواجب اتباعها لتأمل جوروكوكان الذي يشير إليه كوباياشي هنا في السوترا كان- موريوجو- كان. راجع الترجمة الفرنسية : ثلاث سوترات ورسالة في الأرض الطاهرة، ترجمة جان إيناد، جينف، منشورات أكاريوس، 1984، ص. 253- 280
8- اللاحقة »بو« في »كانْ- بو«، يمكن أن تعني دهارما و المناهج في الوقت نفسه. ويتعلق الأمر هنا بمناهج وطرق التأمل.
9- نص أساسي من نصوص »المركبة العظيمة«. تشكل هذه السوترا المعروفة في اليابان منذ عصر الأمير شوتوكو- تايشي (574- 622) القاعدة المذهبية التي اعتمدها سايئتشو (766- 822) في تأسيس المدرسة اليابانية المعروفة باسم تينداي. (راجع. جان نويل روبير. »مذاهب المدرسة اليابانية«، باريس، ميزونوف، لاروس، 1990، ص.453.
إن تمارين التنسك في الغابات والجبال، مورست باكرا جدا في تاريخ اليابان الروحي. لكن سايئتشو هو الذي أعطى لهذا الاتجاه دفعة جديدة وعززه بإنشاء معبد خاص في جبل هيئي، بعيداً من صخب العاصمة.
10- المرحلة المعتمدة، ولاسيما في تاريخ الفن، هي (710- 794)، وبدقة أكثر، تمتد من 729 إلى 748.
11- بالصينية موهيه شي- كان. نص أملاه الكاهن زِهي- يي (538- 597)، مؤسس المدرسة الصينية تنداي. »ماكا« أو »موهيه« تعني »عظيم«، »خارق«، »نهائي«؛ »شي- كان«، وهو مايحاول كوباياشي شرحه هنا، يتضمن عنصرين :»شِي« تعني »تهدئة الروح، إيقاف اضطراب الروح«، ومن هنا تعبير »إيقاف الروح على موضوع ما«؛ »كان« تعني في العمق »التبين، التبصر«، ويمكن ترجمتها ب. التأمل أو الرؤية وذلك تبعا لسياق النص. لكن هدف هذا العمل يكمن في التبين، التبصر، التمييز. ويشرح الكاهن زِهي- يي عشر مذاهب من ال.»كان« داخل هذه »الرسالة الكبرى في شي- كان«.
وفي عام 806 حصل سايئتشو على اذن رسمي في أن يجيز كاهنين اثنين في السنة لأجل مدرسة تنداي : الأول مسؤول عن دراسة سوترا شانا- غو (فايروكانا- سوترا)، والثاني مسؤول عن شي-كان- غو (ممارسة التأمل حسب تعاليم ماكا- شي- كان). ولذا فإن مايقوله كوباياشي هنا صحيح تماما.
12- ميويه (1173- 1232)، كاهن مذهب كيغون. عارض التيارات البوذية الجديدة معارضة شديدة في عصر كاماكورا، ولاسيما تيار الكاهن هونين الذي كان يؤكد على أولوية ال. نينبوتسُ (راجع هامش 17). ويشهد كتابه »يوميات أحلامي« على طبيعة رجل متدين، يتسم بطهارة ونقاء نادرين. راجع. فريدريك جيرار : كاهن مذهب كيغون في عصر كاماكورا، ميويه (1173- 1232)، و »يوميات أحلامه«، المدرسة الفرنسية للشرق الأقصى، باريس،أدريان- ميزونوف، 1990، ص. 598.
13- راجع. تسُريه- زُريه – غوسا، »نيهون كوتين- بونكاكو تايكيئي«، طوكيو، إيوانامي- شوتين، 1965، ص. 212، عدد144.(أُورابيه- كينكوو : أوقات الفراغ، ترجمة وتعليق شارل غروسبوا و توميكو- يوشيدا، باريس، غاليمار، 1968 ص.123)
14- حول موضوع الحج إلى الهند وتخليه عنه بعد الرؤيا التي أوحى له بها إله كاسوغا الكبير، راجع. فريدريك جيرار، أعلاه. ص. 84.
15- تاكا- شيما، كاروما- شيما (حاليا كارومو- شيما)، جزيرتان موجودتان في خليج يوآسا. ولابد أن الكاهن ميويه قد تأمل بمتعة فائقة، تحت شمس الغروب، المنظر الرائع للبحر الداخلي المرصع بالجزر، وذلك أثناء اعتزاله في منطقة كِي من 1195 إلى 1205 راجع. فريدريك جيرار، أعلاه. ص.80-83.
16- سيطور كوباياشي، فيما بعد، هذه الفكرة حول المعنى الحقيقي للحب بالاستناد إلى كتاب أفلاطون »فيدر«. إن الحب (إيروس) المرتبط عمقيا ب»الجنون«، يتجاوز الإطار العادي للعقل، ويكشف عن حقائق لايدركها من لايتجرأ على الذهاب إلى ماوراء استدلاله البارد. راجع. كوباياشي هيديو : موتووري – نوريناكا هوكي، طوكيو، شينتشو- شا، 1982، ص. 7-8.
17- اسم شعبي ل. غين- شين (942- 1017)، كاهن مذهب تينداي. وفي كتابه الرئيسي : »الجوهري من أجل الولادة الجديدة في الأرض الطاهرة« (984- 985) يصف بدقة متناهية مشاهد »الجحيم« ومشاهد »جنة الغرب«، ويشير إلى أهمية التجسيد الذهني لشكل بودا- أميدا (نينبوتس). الخلاص تابع لقوة آخر، يعني لقوة أميدا، أكثر مماهو تابع للمجهود الذاتي. نستطيع معاينة التأثير الكبير لهذا الكتاب، وخلال قرون طويلة، في الرسم والأدب. إن الصورة التي يقدمها عن الجحيم تحديدا لا تزال حية لحد اليوم، واستشهد بها أحد ضحايا القنبلة النووية في هيروشيما ليوضح تجربته الشخصية المفزعة. راجع. ماسجله أُويه- كينزابرو نقلا عمن عاش التجربة، في »هيروشيما- نوتو« طوكيو، منشورات إوانامي- شوتين، سلسلة. »إونامي- شينشو«، عدد 563،1965، ص. 184- 185.
18- هونين (1133- 1212)، مؤسس مذهب الأرض الطاهرة في اليابان. عندما اطلع سنة 1175 على شرح السوترا »كان- موريوجوكيو«، أدرك أهمية تعزيم اسم بودا- أميدا. شدد هونين، وبعكس غين- شين الذي نادى بالتجسيد الذهني لصورة بودا، على تكرار عبارة العبادة المتعلقة بأميدا. فتكرار عبارة »نينبوتس«، يعني في نظره تمرينا عمليا ومتاحا للعامة التواقين إلى الخلاص. استطاعت هذه الفكرة القائمة على فعل بسيط، أن تجد صدى طيبا وسريعا لدى عدد كبير من التابعين الجدد. لكنها تعرضت بالمقابل لنقد حاد في أوساط المدارس البوذية القديمة الأكثر تشددا، ولا سيما من قبل الكاهن ميويه. حكم على هونين وهو في الخامسة والسبعين بالنفي ومعه سبعة من أوفى تلامذته، ومن بينهم شين- ران.
19- شين- ران (1173- 1262). انتسب إلى مذهب هونين وأصّله. ثم بدت له، في المرحلة النهائية للشريعة (مابُّو)، أن الجهود الذاتية (جيريكي) عبثية، لابل مضرة؛ فنادى بضرورة الاستسلام الكلي لقوة »الآخر« (تاريكي- هون غان). إن جملته الشهيرة :»الأخيار والأشرار سيذهبون إلى الجنة«، تعبر عن رغبته بجعل الخلاص ممكنا للجميع.
حتى تكرار اسم بودا- أميدا الدائم والمستمر لم يعد مطلوبا، كما هو الحال في مذهب هونين، ويكفي أن تنطق بعبارة التعبد هذه مرة واحدة، لكن بصدق وطهارة، لتفوز بالنجاة.
هجر شين- ران التبتل وراح يمارس الموعظة بين الناس العاديين. وأنشأ حركة ستأخذ فيما بعد اسم »مذهب الأرض الطاهرة الحقيقي« (جودو- شين شو).
20- هي الأرواح الشريرة التي تسبب الموت، وتحول دون الخلاص بالإغراءات المتعددة. ولابد أن شاكا- موني قد تصدى مرارا لتدخل ال.مارا قبل بلوغه حالة الكشف (جودو).
21- يعرض كوباياشي هنا ثلاثة، من أربعة، مبادئ تعبر عن جوهر فكر الزن : 1- عدم الثقة بالكلمات أو الاتكال عليها؛ 2- الإرسال والنقل بشكل آخر وخارج المذاهب جميعا؛ 3- الإشارة مباشرة إلى روح الإٍنسان؛ 4- شاهدْ طبيعتك الحقيقية وكن بوذا. نالت هذه العبارات، المنسوبة إلى مؤسس مذهب الزن، أهميتها الحقيقية في فكر الكاهن هوي- نينغ (638- 713). ومنذ عصر موروماتشي، يُستشهَدُ بها في اليابان بصفتها مصطلحات أساسية في روح الزن.
22- سيشو- تويو (1420- 1506). ولد لعائلة محاربين، وفي الثالثة عشرة انتسب إلى معبد زن (شوكو- جي)، المشهور بأنشطته الفنية. تعلم الرسم تحت إشراف شو- بون. وفي سنة ٧٦٤1 سافر إلى الصين والتقى بالرسام المشهور آنذاك لي- زاي. درس الرسم الصيني من خلال نسخ أهم أعمال فناني مدرسة سونغ، أمثال : لي- تانغ، ما- يوان، يو- غيان. ولدى عودته إلى اليابان سنة 1469، أنجز أعمالا قوية ومبنية بمتانة مثل »مشهد الخريف«، أو »هويكي يبتر ذراعه«، قبل أن يصل في سنواته الأخيرة إلى حرية في التعبير مدهشة، كما يشهد على ذلك عمله »مشهد الحبر الرائب«.
23- الظواهر جميعا لا تدوم، وكل شيء يتغير من لحظة إلى أخرى. هذه المعاينة المؤثرة، غالبا ماتفهم في بعدها الإنساني داخل اليابان. وقد وضعت هذه الفكرة في بداية كتاب »أقوال ال. هيكيين«، ثم أخذت لونا عاطفيا بالإشارة إلى طابع الأعمال البشرية الزائل.
24- ترجمة رينيه سييفير، أقوال ال. هيكيين، باريس، بوف، 1978، ص.31.
25- أودا- دوكان (1432- 1486). محارب معروف، كان في خدمة عائلة أوجي غاياتسُ- أويسوجي. شيد قصره سنة 1457 في إيدو (طوكيو اليوم). اهتم هذا المحارب البارع بالشعر الياباني أيضا؛ ومسابقة الشعر التي نظمها سنة 1474 في إيدو مشهورة جدا. وغالبا ماورد اسمه في الكتب المدرسية كمثال على المحارب المثقف.
26- sarvadharma anatmanah سارفادهارما- أناتماناها
27- حكاية ماجّهيما- نيكايا المشهورة. راجع.»حضور البوذية« بإشراف رينيه دو برفال، باريس، غاليمار، 1987، ص.110.
28- بدقة أكثر (نيوراي- نو- موكي). كما يشهد على ذلك مقطع (آغون- كيو)، حيث يرفض شاكا- موني الإجابة بنعم أو لا على الأسئلة النظرية المجردة.
29- نقرأ بعد الإستشهاد الذي يأتي به كوباياشي ما يلي: »ومن المهم على صعيد الفن (الهفهفة)، اتباع خطى الطبيعة الخلاقة وجعل الفصول الأربعة أصدقاء الدرب. لا يوجد في ما نراه شيء ليس وردة، ولا يوجد في ما نحسه شيء ليس قمرا. من لا يرى في الأشكال الوردة هو نسيب البرابرة. ومن لايشعر بالوردة في قلبه هو من نسب الحيوانات المتوحشة…«
30- تتكرر هذه العبارات في أمكنة متعددة، ولاسيما في »هانايا- شين- غيو«؛ وترافع عن علاقة التبعية المتبادلة والمباشرة بين الخواء وجميع الظواهر.
31- حول مشكلة الإصلاحات اللغوية منذ عصر ميجي، راجع.باسكال غريوليه :»تحديث اليابان وإصلاح كتابتها« باريس، بوف، 1985، ص.124.
32- يتعلق الأمر بمقالة عنوانها : »رسائل موجهة إلى الشعراء«، نشرها ماساأوكي- شيكي (1867- 1920) سنة 1898، على شكل رسائل مفتوحة ومتسلسلة، وعددها عشرة. يعبر شيكي بحماس عن تفضيله لديوان »مانيوشو« على »ديوان الشعر الياباني القديم والحديث«، وعلى »الديوان الجديد للشعر الياباني القديم والحديث«، وعلى مدارس
أخرى تستلهم هذين الديوانين. يشير منذ الرسالة الأولى إلى نوعية الشاعر سانيتومو الإستثنائية؛ وفي الرسالة الثامنة يشرح أفضل قصائده. طبعا، لم ينكر قيمة سايغيو تماما، ويأتي على إحدى قصائده مثمنا »موضوعيته«. بين شيكي وكوبايايشي تقارب وتباعد لهما دلالتهما فيما يخص تقييم هذين الشاعرين.
33- سايتو- موكيئتشي (1882- 1953)؛ طبيب وشاعر وباحث. نشر كتابه »رأيي في قصيدة التانكا بصفتها شاسيئي« سنة 1920 و 1921، وهو نفسه يذكر الكلمة بصفتها مطابقة للكلمة اليابانية »جيسّو«. ويريد كوباياشي أن Hineinschauen الألمانية يرى فيها تمايزا بوذيا، يعني الوضع الوقعي والحقيقي لجميع الكائنات ولجميع الظواهر.
كما أن أصل التعبير »كانيو« (النفاذ بالتأمل)، يشرحه موكيئتشي : باستلهام الكلمة الألمانية أوجد هذه الكلمة المركبة. راجع. كينداي- شي- إكارونشو، »نيهون- كينداي- بونكاكو- تايئكيئي« 59، طوكيو، كوداكاوا- شوتين، 1973، ص.249 و 459.
34- راجع. كوبو- دايشي كوكاي- زينشو، طوكيو، تشيكوما- شوبو، 1986، جزء 5، ص.389.
35- كوكاي (1871- 1943). روائي معروف يمثل »المدرسة الطبيعية« اليابانية و »الرواية الذاتية« خير تمثيل. فنوعية مراقبته النادرة للوقائع والأشياء، ودقة كتابته تضعانه فوق أي تصنيف أدبي. يذكر كوباياشي مرة واحدة اسم شوسيئي في بحثه المعروف »حول الرواية الذاتية« 1935، وذلك بصدد رواية »المتوحش«، ويعتبر أن هذا العمل يمثل مرحلة معينة من النضج على الصعيد التقني، لكن ليس على صعيد علاقته بالمجتمع. وذلك لأن الكتاب اليابانيين، كما يرى، لم يكونوا في وضع تاريخي يشبه الوضع الذي أنتج المدرسة الطبيعية في الغرب. وفي سنة 1993، نشر مقالا حول رواية »الشخص المقنع«، يرى فيه أن شعرية وجمالية هذه الرواية متأتيان من»حكمة« الكاتب، تلك الحكمة الخاصة بمن يمتازون برصانة الذهن والعيش بشكل راديكالي وبلا تنازلات.
36- يقول ألان : »الذاهبون للبحث عن الزمن المفقود لا يلتفتون إلى الماضي أبدا. وهذه حالة ضد الطبيعة، وشبه مستحيلة، إذ لايمكن أن نعيش القهقرى؛ لكن، وبالعكس، عندما نصل إلى مرحلة معينة من العمر، نستأنف الحياة بالفكر وفق التعاقب الحقيقي، وبالسير من الماضي إلى المستقبل دوما.« راجع:
Alain : propos1, paris ,Gallimard, Bibliotheque de la Pleiad,1969,p,498
37 مياموتو- موساشي (1584- 1645) مسايف اسطوري، انتصر في جميع مبارازاته، وترك حول فن القتال والمبارزة : »كتاب الدوائر الخمس«؛ كما أنه أبدع في الرسم والخط. ساكا غوتشي- آنغو (1906- 1955)، خصم كوباياشي اللدود، عرض سنة 1943 صورة حية جدا عن موساشي مشيرا إلى أهمية الإرتجال في فنه القتالي، وذلك في مجلة »بونكا- كوكاي«. ومن المحتمل أن كوباياشي قد طالع هذه المقالة. لفهم هذا المسايف الاسطوري في إطار تقاليد فن القتال، راجع :
La voie du karate- pour une theorie des arts martiaux japonais,paris.
Editions du Seuil,1993,p186 .
38- كيكوئتشي- كان (1888- 1948)، كاتب مسرحي وروائي شعبي. أنشأ سنة 1923 مجلة »بونكئي- شونجو« وأصبح ذا تأثير كبير في الأوساط الأدبية. كان هيديو كوباياشي يثمن جدا عقليته العملية وكرس له عدة مقالات مثيرة وغريبة. إن غموض عبارة موساشي متأتٍ من الإختلاف في قراءة أحرف الكانجي الأولى : قراءة تعني مانفعله بشكل عام، صيغة المبني للمجهول »واريه- كوتو«؛ وقراءة تعني ماأفعله أنا، قضاياي، وهي صيغة المبني للمعلوم »واغكا- كوتو«.
39- يتجلى هذا الرفض للندم السهل والسريع، بشكل واضح أثناء الطاولة المستديرة التي أقامها أعضاء مجلة »كينداي- بونكاكو« سنة 1946 : »كوميديا أدبية – حوار مع هيديو كوباياشي«. بصدد الحرية والضرورة، أو بدقة أكثر، بصدد الضرورة التاريخية التي انتهت إلى الحرب والحرية الفردية التي كان عليها أن تقاوم، أجاب كوباياشي بمزحة أصبحت معروفة جدا : »بصفتي جاهلا، لاأشجب موقفي من الحرب؛ وللأذكياء أن يمارسوا النقد الذاتي كما يريدون« (بونكيئي- دوكوهون، عدد خاص، »هيديو كوباياشي«، طوكيو، كاواديه- شوبو- شينشا،1983، ص. 59). آنذاك، لم تُفهم جيدا أهمية هذا الموقف الجذري، حيث كان المثقفون يستعجلون التملص من ماضيهم القريب.
لنتذكر أن »الآداب اليابانية الجديدة«، وهي مجلة الكتاب الديمقراطيين والتقدميين، قد جعلت من هيديو كوباياشي واحدا من »المسؤولين عن الحرب«.
40- هوسوكاوا- تاداتوشي (1586- 1641)، والي مقاطعة كوماموتو، معروف بثقافته العسكرية والأدبية. وبصفته خبيرا بارعا بفن السيف (مدرسة ياغيو- مونينوري)، وظّف مياموتو- موساشي عنده في سنواته الأخيرة.
41- اهتم كوباياشي منذ البداية بقضية الشك العميق، ونقد بحدة الروائي المعروف أكوتاغاوا- ريونوسوكيه معتبرا أن شكوكيته لم تبلغ بما فيه الكفاية حدا بعيدا. (الجمال والقدر عند أكوتاغاوا،1927، الأعمال الكاملة، جزء 2، ص.39)
42- الألعاب الأولمبية الأولى بعد الحرب سنة 1948، يعني عدة أشهر قبل محاضرة كوباياشي. وقد منع اليابانيون والألمان من المشاركة فيها. نشر كوباياشي مقالين آخرين حول اللاعبين المشاركين. كان يهتم بحركات وملامح الرياضيين الكبار من أجل أن يقرأ لغة موحدة للجسد والروح. (البث التلفزيوني للألعاب الأولمبية، 1964، الأعمال الكاملة، جزء 11، ص. 313-315).
تقديم وترجمة : محمد عُضيمة (شاعر ومترجم يقيم في اليابان)