عُمان دولة ذات بعد حضاري ضارب في القدم. وهي تشهد مثل سائر بلدان الجزيرة العربية نهضة من العمارة والتصنيع والتعليم والصحة وغيرها. وفي مثل هذه الحالات لابد ان يبدأ النهوض من الفنون والآداب. وكما يحدث في الجانب المادي من الحضارة، اذ يبدأ النهوض مما انتهت اليه البشرية، يحدث في الفنون والآداب. فعمان او غيرها، ليست في حاجة الى التجربة الحصرية التاريخية في الأدب. أي تأسيس تاريخ للرواية او القصة، ذلك حدث في مصر في بدايات القرن الماضي حينما انفتحت مصر على أوروبا واكتشف كتابها فن القصة والرواية والمسرح، الآن هذه الفنون وغيرها ليست في حاجة الى اكتشاف. هي موجودة حول الناس في كل مكان بفعل الميديا وثورة الاتصالات واتساع المعرفة.
اذن فالعمانيون لابد ان تكون بداياتهم مع الفنون من النقطة التي انتهت اليها الفنون والآداب. من هذه الزاوية قرأت ما توصلت اليه من أعمال روائية او قصصية. لكن قبل ذلك أحب أن أقف عند نوع آخر من السرد، الذي هو اقرب الى السيرة، أو السيرة ذاتها وفي هذا أقف عند عمل للشاعر سيف الرحبي وعمل للروائي محمد عيد العريمي.
١ – أرق الصحراء:
أرق الصحراء هو عنوان العمل الذي أحب أن أقف عنده لسيف الرحبي. وهو نوع من الكتابة فيه من فنون الكتابة القصصية، وهو ليس بقصص، والسيرة، وهو ليس سيرة شخصية إنما سيرة للمكان والزمان معجونان بروح الكاتب وسيرته في عبوره على الاشياء والوقت، والشعر من حيث كثافة الصور الشعرية في الجمل والعبارات، وقبل ذلك كله وبعده نظرات عميقة في الكون والحياة والناس والفنون والثقافات، انها غابة شديدة الكثافة ثرية الأشجار في تنوعها وغرائبها وحقائقها أيضا.
أرق الصحراء أشبه بالصحوة، صحوة الكائن الأزلي على عالم شديد الغرابة شديد الحضور متنوع في مباهجه وآلامه، والكائن هنا كائن فطري، شاعر، تندلق منه الكلمات مرسلة من المنطقة الغامضة التي تجعلها برزخية فتحب ان تعود اليها أكثر من مرة. كما يقول برنارد شو عن الكتاب المقدس وكما يقول هو عن مري ويك وبعض قراءاته. الكتاب مقسم الى خمسة أجزاء صغيرة، الجزء الاول يحمل عنوان «الغبار الأرضي وذلك القادم من كواكب أخرى» والجزء الثاني يحمل عنوان «كل هذا الموت، كل هذه الحياة، كل هذا الجاز» والجزء الثالث يحمل عنوان «بيروت» والرابع «القاهرة» والخامس «نصوص».
يبدأ الجزء الاول بسؤال في أي يوم نحن؟ الأربعاء، الخميس، الأحد؟ في أي ساعة وزمن وتاريخ؟ لا أكاد أتبين علامات الأزمنة، الغبار يلف المشهد بكامله.. الغبار الأرضي وذلك القادم من كواكب أخرى «الزمن يسيل سيلان الدماء الغزيرة في الطرقات والشوارع، في الأزقة والأودية، على الأرض العربية والعالم»… حتى يصل الى التساؤل الكاشف «في أي يوم نحن الآن وفي أي ساعة وتاريخ؟…».
بعد ذلك تبدأ روزنامة الايام، الأحد ثم الثلاثاء، ثم الثلاثاء، ثم الثلاثاء، ثم ليلة الأربعاء، ثم الخميس ثم الاحد.. وهكذا دون ترتيب الا قفزات الروح، ونمضي مع سيف من أوروبا الى عُمان وتفاصيل التفاصيل من الحياة والمكان والكتاب والكتابة والأهل والأصدقاء والقراءة والجاز والاعلام ومشاهدة الافلام والغناء والموسيقى والمسرح. انها تنقلات الكاتب الجسدية والروحية، التي تجعلنا نحب هذا العالم رغم الفوضى، وتجلى لنا إمكانية البقاء والجمال تحت الغبار، ففي أحد الصباحات يقول «صباح مليء بنباح الكلاب المجاورة الذي يحاول تمزيق الفراغ الذي لا يقهر. هل ثمة من يستطيع تمزيقه أم هو على الاغلب من يفترس الجميع؟ وفي احدى الليالي يقول «أحاول النوم مبكرا من غير أن أشاهد التلفزيون الذي يهيمن بسطوة مطلقة على المدينة، ممتدا الى الصحاري والارياف البعيدة القاحلة لتكون ضحيته المثالية. وفي احدى الاماسي يقول «رتل غربان على قمة جبل صغير تبين انها تلتهم جثة نسر» وفي مرة يقول «عام 1990 دفعت بي صروف الايام الى «لاهاي». كان شتاء والموتيلات على البحر تكون خاوية حيث يشتد البرد والعواصف.
… هكذا سكنت أحد الموتيلات مع عجوز مرفقة وحيدة الا من كلبها الضخم المخيف الذي سيصبح أليفا ومؤنسا مع الايام».
وهكذا تمضي رحلة الكاتب، الشاعر، المهوشة المضطربة بنائيا، لتصنع بناء من نوع خاص، أساسه الحرية وترك الحبل على الغارب للروح تبدي تجلياتها، ومع تجلياتها البصرية عشرات التجليات الفكرية في التراث والشعر والحضارة العربية والدين والصراع العربي الاسرائيلي والعربي العربي بحيث يبدو الأمر كنافذة فتحت في يوم ريح وتتدحرج بينها اسماء عشرات الكتاب والفنانين من اصدقاء الكاتب واصدقائنا واصدقاء الحقيقة والعذاب في عالمنا العربي بدءا من محمود درويش حتى حسين العبري من أحدث أجيال الكتابة العربية في عُمان. على هذا النحو يمضي الجزء الثاني أيضا، يقول عن حسين العبري الذي سنتحدث عن روايته فيما بعد «حسين يتحدث عن كندا التي رجع منها حديثا، وبصفته طبيبا نفسيا وروائيا يحلل الأشياء والعالم من أفق المعرفة النفسية أردت أن اقترح عليه تحليل سيكولوجية الجبال ومحاولة استقصاء كهوفها ومخابئها المفعمة بالأسرار والمهابة الروحية وبما يمكن أن نطلق عليه علم نفس الأزل. علم جمال القسوة. خاصة اذا عرفنا ان حسين ولد في «الحمراء» على سفح أعتى مركز جبلي في العالم.
يخصص سيف الجزء الخامس لنصوص تحمل عناوين مقدم الربيع، عيد الاسلاف، شرفة الضباب، الغريب، غراب الحنين، والنصوص كتابة فرضت نفسها من الربع قرن الاخير تخلصا من مأزق التصنيف الى أجناس أدبية وتقسيم الاجناس الى انواع، هي نصوص متأبية على التصنيف، يكتبها ويبدع فيها أمين صالح من البحرين وعيسى مخلوف من لبنان وسيف الرحبي وغيرهم كثير لكن ليس بهذا التركيز، أو ليس بهذا الاستمرار، وان كان سيف أيضا مقلا فيها، على ضوء معرفتي أنا، إلا انها في هذا الكتاب جديرة بالتأمل باعتبارها نوعا راقيا من السرد. انه سرد ينزل عليك ولا يصعد من المألوف. سرد يمكن أن ينتهي في أي لحظة لكنه لا ينتهي الا عند آخر جملة للنص، يمسك بك ويدهشك وتستطيع أن تقول في راحة ان هنا كتابة مفتوحة على أفق لا ينتهي وتفتح أو قادرة على ان تفتح أفق الوجدان عن الكتاب القادمين لذلك فثمة وشيجة بين سيف الرحبي وكتاب عُمان الشباب، ليس فقط لكونه رئيس تحرير مجلة نزوى، أول مجلة أدبية في عُمان وواحدة من أهم المجلات العربية، ولكن أيضا لكونه الشاعر الذي يقف على فصل النثر ويفتح أبوابه لقرائه. ان نصوصه تفتح شهوة القارئ على الحكاية وعلى القصة رغم انها نصوص وليست قصصا.
٢ – مذاق الصبر / حز القيد..
يقول الدكتور ضياء خضير في تقديمه للكتاب «هذا كتاب فريد في بابه، يحتل او ينبغي أن يحتل مكانة متميزة بين الاعمال الأدبية الخليجية والعربية المشابهة، واذا كنا غير قادرين على تحديد نوع الكتاب «مذاق الصبر» فلأنه بطبيعته ينأى عن التصنيف، اذ يكتفي المؤلف بتقديم مادة خام ولا يعنى بالشكل وطريقة الكتابة على الاسس النوعية الشائعة، فليس لأنه يجهل أو يتجاهل مثل هذه الأسس، وانما لأن الرغبة الضاغطة في الكتابة عن التجربة ومحاولة الكشف عن ملابساتها ضمن الوضع البشري الاستثنائي الذي عاشه صاحبها هي التي تسبق ما عداها، وتجعل من الممكن أن يحرز النص هذا القدر الطيب من النجاح والتأثير، ويحقق جماليته الخاصة بصرف النظر عن شكل الكتابة والنوع الذي تنتمي اليه.
هذا الكلام كله يعني باختصار ان الكتاب يقع ما بين السيرة والرواية والمقالة، وهو ما سيقوله الناقد فيما بعد، والحقيقة ان جانب السيرة هو الضاغط الاكبر، فالكاتب محمد عيد العريمي الذي تعرض لحادث اصابه بشلل رباعي يذكرنا بالكاتب المصري المتوفي صبحي الجيار صاحب سيرة «ربع قرن من القيود». وانا هنا لست في معرض المقارنة بين السيرتين، ولكن في معرض الأسى على الكتاب الذين يتساوون أحيانا حتى في مرض عضال مثل الشلل، ما يهمني هنا هو السرد واسلوبه، ورغم ان الكاتب يعتذر للقارئ عما اعترى النص من قصور لأنه لم يكن معنيا بشكل الكتابة قدر عنايته بمضمونها.
والحقيقة ان السرد هنا بسيط ينم عن دراية باللغة، قريب الصلة من الرومانسية، وكيف لا يكون كذلك، إلا ان الكاتب المعني بالمضمون لا يمشي وراء الحزن، ولا يجعل نفسه محور انهيار العالم، ويستطيع كثيرا ان يختزل المعاني في جمل سهلة مثل «لم يختلف اليوم الثاني للحادثة عن الذي سبق، ولم يكن افضل حالا عن ما تلاه من أيام».
ويقدم الينا في سلاسة رحلته منذ الحادثة حتى السفر للعلاج بالخارج ومسيرة العلاج والمرضى الذين قابلهم والجو المحيط وحياته بين اليأس والرجاء، وتتفجر كثيرا جمل تحمل طاقة فنية لأنها بنت تجربة كبيرة مثل «وأنا جليس الكرسي المتحرك الذي غدا، أحببته أم كرهته، جزءا من جسدي»، على ان الجميل في هذا الكتاب هو التصالح مع الحالة، واللغة العذبة السهلة، انه شكل آخر من السرد، لا يطمع ولا يطمح ان يكون حالة أدبية، وكل نجاحه هو في الروح الانسانية التي تتدفق رغم قسوة الحالة وفداحة الخسارة الجسدية لصاحب السيرة، محمد عيد العريمي هنا ينتصر للارادة الانسانية دون مبالغات، ينتصر لها أيضا بسلاسة السرد، على ان هذا السرد سيتطور كثيرا حين يكتب محمد عيد العريمي روايته الاولى «حز القيد». هنا ستتسع مساحة المغامرة والصور الشعرية والاخيلة خاصة ان الرواية عن السجن، وليست عن سجن محدد، لكن سجن متخيل، سجن في بلد تسمى «قحطين» ولعل ذلك من قحطان، فهي اذن بلد عربي، أي بلد عربي. الرواية رغم انها عمل متخيل، إلا انها ابنة معرفة واسعة بأحوالنا العربية، هذه السجون المفتوحة بتهم غير حقيقية للمناضلين وللناس العاديين على السواء، فبطل الرواية راح ضحية معرفته بشخص دعاه الى مشاهدة فيلم سينمائي معه، ومن السينما تم القبض عليه، فالذي دعاه حسب أقوال أجهزة الامن يشكل مع غيره تنظيما سريا مناهضا للنظام. أغامر فأقول ان هذه الرواية أيضا قريبة من السيرة، ولكنها سيرة جماعة رغم ان كاتبها فرد. وهكذا يظل الكاتب في منطقة المراوحة بين السيرة والرواية في عمليه، «مذاق الصبر» و«حز القيد»، والمهم هنا هو انه يساهم في فتح باب الكتابة في مناطق خطرة وصعبة، واذا كان ثقل السيرة في الكتاب الاول يجعل السرد بسيطا، فان الرواية في الكتاب الثاني تجعل السرد اكثر حركة واكثر تشظيا واكثر استجابة للغرائب فأشكال التعذيب النفسي والبدني في المعتقلات العربية تتفوق في الحقيقة على أي متخيل.. ونستطيع أن نقول على الإجمال ان محمد عيد العريمي، بعيدا عن مضمون عمليه، يحقق في السرد بساطة وحيوية، لكنه في الكتاب الثاني لا يبوح بأفكاره أو رؤاه الفكرية الا من خلال الصور المتتالية منذ لحظة الاعتقال، وهذا الذي يجعل الجانب الروائي في الكتاب الثاني هو الاكثر حضورا، لكن العريمي في الكتابين لا يحاول ان يحقق شكلا، هذه قد تكون ميزة للقارئ العادي، لكنها تقلل من اسهام المؤلف الفني، فالبحث عن شكل جديد او مغاير هو العلامة الفارقة بين كاتب وآخر، لكن يظل العريمي في الكتابين هادئ الصوت وهذه ميزة تحسب له رغم قسوة التجربتين، التجربة الاولى الواقعية والتجربة الثانية المتخيلة.
٣ – الطواف حيث الجمر:
هذه رواية نشرت عام 1999 لبدرية الشحية، فهي اسبق من رواية محمد عيد العريمي ومن رواية حسين العبري التي سنتناولها فيما بعد. وفي رواية بدرية الشحي، ومن اول صفحة نجد انفسنا مع لغة متوترة، مع سرد مفاجئ في حركته، لا يهدأ، يحمل شحنات من الغضب الانثوي والقهر الواقع على الانثى، بدون أفكار مسبقة، انما هي حالة الانثى الخام التي مضت حياتها محاصرة بالجهل وقهر الارادة في البيت والزواج ثم الانسحاق أمام الزوجة الاخرى التي انجذب إليها الزوج التقليدي الذي لا يرى في المرأة الا متاعا. الراوية، او الساردة، تبدأ بخطبة عالية النبرة «فليذهب جميعكم الى الجحيم. وهذه الشعيرات البيض وهذا العمر البائس، وليذهب سالم والعالم من بعده وحوله الى النار، لقد ضاع عمري عبثا، ضاع في سراب مملوء بالوعود الكاذبة أي حسرات بعد هذا تنفع، ما باليد حيلة» علو النبرة يلخص عمق القهر، ويلخص عدم القدرة، أي الانسحاق، لكنه يفتح الباب بعد ذلك للرد، الهادئ، للروح حين نبوح «صياح ديك أم قيس المبكر ينتزعني من كابوس ثقيل، جسدي يتفصد عرقا وارتعاشا» على ان السرد لا يهدأ دائما، لكنه لا يعود الى صوته الافتتاحي العالي الا قليلا.
يدخل بعد ذلك في دائرة التصوير،او التشخيص، «رسمت النار ظلا كبيرا لجسدي المتكوم بقربها، كان الظل يهتز ويغمق، يتحرك ويسكن» على انها دائما لا تنسى ان للزوج روحا متجاوزة للمكان، هو نفسه غير قادر على الاستقرار او الاستمرار، «اريد أن أرى الكون الأخضر يا زهرة، ماذا بعد الليل، يقولون بحرا، هل تعرفين البحر يا زهرة»، اسمها زهرة اذن، تذكرنا على الفور بحكاية زهرة لحنان الشيخ، هناك قهر وهنا قهر، كانما اسم زهرة صار علامة على الانثى المقهورة، لكن هذا ليس موضوعي، موضوعي هو السرد، والسرد هنا على طول الرواية يمشي في مستويين، مستوى الحكي، «الغرفة كانت ضيقة وبها رائحة لا كريهة ولا حلوة، الأرض مغطاة بحصيرة قش، عتيقة لكنها نظيفة» انها طرق الحكي التقليدية لكن مع قوة وايجاز وتصوير دقيق ودون أن ادري تناولت بعينيّ تحركات الخادم المرتبكة من الممر المحاذي لنافذتي، تجربة واحدة ربما تخلق لي فرصة جديدة تماما، نبض جديد اقل خوفا من هذا النبض الخائف المهموم» والمستوى الثاني هو البوح الذي يعلو احيانا قليلة كما هو في المفتتح الذي أشرت إليه ويرق غالبا «لا. لا. ويحي سيقتلونني، سيذبحونني بالخنجر التي ألمعها كل صباح في الدار. ويلي. السر أحسن».
أي أن السرد يرق أكثر حين يتعلق الأمر بالاشياء حول زهرة ويتلون بالمشاعر المرتبكة، الخوف والقهر والازدراء وغيرها حين يتعلق بالذات. وتستطيع بلا ترتيب أن تجد هذا التفاوت في أي صفحة من الكتاب، «كانت هناك امرأة طويلة تطبخ عند نار قوية، تمسح حبات العرق المتساقطة من وهج النار، ترتدي ثوباً مشجراً ملفوفا حول جسد مكتنز… الخ.
ثم بعد قليل لماذا يستبد بنا الخوف من الليل. مع انه مخلوق نهوب ورقيق، ساج لا يجيد الازعاج والمشقة، لماذا نخاف عند خشخشة شجر بالجوار وتدور أعيننا في محاجرها طويلا حتى نستكين خلف باب به رتاج». أو «وبعد دقيقة او اثنتين انفرج الباب عن وجه خميس الباسم، كان يبدو مرهقا مكدودا، وما ان رأى وجهي حتى ندت عنه آهة استغراب». ثم بعد قليل «اليوم بالذات سأضحك ملء قلبي، واسطورة الذكي الشقي ستتحطم بيدي، سيذوق سلطان للمرة الاولى اصعب صفقاته مع من كان يظنها أضعف المخلوقات» وهكذا، وبين هذا وذاك نحن مع عالم غريب ومدهش في الجبل والقرية والبحر وصبوات ونزوات الناس. يمكن ان يكون علو الصوت الداخلي أحيانا مزعجا، لكن هذه هي مزالق المونولوج، المونولوج العربي بالذات، فالانسان العربي لم يعرف بعد كيف يكون بعيدا عن هذه الآثام من حوله، لانها موجهة اليه بالاساس، فما بالك، اذا كان هذا الانسان امرأة..
٤ – الوخــــز..
هي الرواية الأولى لحسين العبري، وهي كما هو واضح من العنوان عن الألم، والألم هنا هو ألم الوضع البشري، الانسان المتهم، لعلك تذكر الآن رواية حز القيد، لمحمد عيد العريمي. لكن لماذا لا نتذكر كافكا، مع محمد عيد العريمي، نتذكر شرق المتوسط لمنيف أكثر مما نتذكر كافكا، ومع حسين العبري نتذكر كافكا أكثر مما نتذكر منيف، ونتذكر اللجنة، لصنع الله ابراهيم لكنها أيضا تذكرنا بكافكا، أي اننا مع محمد عيد العريمي نتذكر حياتنا العربية أكثر مما نتذكر وجودنا، رغم تسهيل المكان، ومع حسين العبري نتذكر وجودنا ولا نفلت من حياتنا العربية. ولاننا نتذكر وجودنا أكثر يشف هنا السرد يصبح أكثر حيادية، ويبدو الكاتب منشغلا بالبناء الفني أكثر، فينوع من طرق السرد ويخترع شاهدا متخيلا «ينط» كما يقول السرد على أحيان متباعدة ليقدم لنا تفسيرات للسارد نفسه أو للموت، فالرواية المكتوبة بضمير المتكلم مثل الروايتين السابقتين للعريمي ولبدرية الشحي تتحايل لقطع رتابة السرد بهذا الشاهد الذي يتحدث بضمير الغائب، وهو غير هذه الوظيفة الشكلية، من الشكل، أو البنائية، من البناء، وهذا أفضل، له، وظيفة أخرى موضوعية هي توسيع معرفتنا وتنويرنا بالخفي الذي لا يبوح به السارد الذي هنا على طول الرواية تقريبا يتمتع بقدر كبير من الدهشة والدهاء. على أي حال هذا الشاهد تزداد مساحته مع تقدم الرواية، لقد تعب السارد/ المتهم من طول التحقيق وكشف خلاله عوراتنا ومأزق وجودنا، والسرد يتحرك تقريبا على وتيرة واحدة إلا حين يتغير الضمير من المتكلم الى الغائب، أو في النهاية حيث يقدم لنا تصورات كلية عن الناس والأمن والبشر، من كلام أشبه بالهذيان، لقد عرفنا كل شيء خلال الرواية عن ذلك وغيره، ويظل الحياء وعدم جنوح الاسلوب الى المحسنات البديعية أهم ما في سرد حسين العبري، ولقد طال منه كثيرا تحليل المتهم، السارد/ الراوي للأمور أمام جهات التحقيق، وواضح اثر عمله كطبيب نفسي على هذه الاطالة. لكن الرواية في النهاية ممتعة وبالنظر الى الروايتين السابقتين، للعريمي ولبدرية الشحي، يقفز السؤال المدهش الذي يجعلنا نطمئن على قوة البداية الروائية في عُمان، وهو لماذا موضوع الحصار. ذلك يعكس قوة الكتاب، ويؤكد ما قلته في البداية، بداية المقال، من أن الكتاب في عُمان على قلة عددهم يبدأون من حيث انتهت الرواية العربية والرواية بشكل عام. ونقفز الآن الى القصص القصيرة لبعض الكتاب.
٥ – حبس النورس:
قرأت ليونس الأخزمي مجموعتين قصصيتين، النذير، ثم حبس النورس. في المجموعة الاولى يفاجئنا الكاتب، أو لعله أراد أن يفاجئنا بقدرته على امتلاك قوة السرد. حتى انك تجد نفسك في حاجة الى فك شفرات النص بين الجملة والأخرى، والعبارة والعبارة، «رشقت المدى بنظرة متعجرفة، وتوفزت لابتلاع المسافات، تحت شمس جهنمية امضي غير حافل بتجفيف العرق، والمدى ينطوي.. خلف سراب قاحل، وأمامي سماء تحتضر، وفي الأفق ألمح زخم ضباب يتداخل».. مرئيات، لا مرئيات، توغل في الولوج الى الجمجمة المترنحة كالمقصلة..» أو «تقتعد التلة مبحلقاً من المحيط بتشتت، عيناك منتصبتان بقلق وعقلك مبعثر فوق الأرصفة. تقعد منعزلا.. في أعماقك غبار كثيف، وملء عينيك ملح وذعر.. تبكي . تعرك بأسمالك الرثة دموعك المتهدلة».. أو «في الرمق الأخير من الليل.. تنبثق مترهلا للعتمة الرابضة في المستنقعات» أو نصف اغماضة تفتح عينيك وتبرح البحر وصمتك دون حواس . تخطو.. فتنهال عليك الرؤى..»
هذه استشهادات قليلة من القصص الحافلة بهذا الاحتواء القوي للحالة الروحية للشخوص يساعد عليها «ضمير المتكلم أحيانا والمخاطب أحيانا وفي الحالتين لا نبتعد عن الكتابة النفسية، أو التي تقوم بتشريح النفس وتجسيد الحالة الروحية للشخوص. ومن حيث انها قصص فهي قصص تتمحور حول مركز هذه اللحظة الشعورية. وقصص المجموعة كلها كتبت في أواخر الثمانينات، ما بين عامي 1989، 1990 تقريباً وبهذه المناسبة فيونس بداية قوية للقصة القصيرة في عُمان. يمتلك قوة في السرد، رغم انها قد تكون استعراضية كما هي هنا، لكن هذا السرد يختلف كثيرا في مجموعته التالية الاكثر نضجا «حبس النورس». تصبح أكثر نصاعة وبساطة رغم انها لا تتخلص من رؤاها وخيالاتها.
انظر مثلا في قصة يوم صمت في مطرح «جفلت هذا الصباح على حلم غريب، حيث وجدت جيوبي خاوية وملابسي رثة ممزقة وأنا اتسمر رصيف شارع كورنيش مطرح المزدحم بالمارة». وتمشي مع القصة او غيرها في هذه المجموعة فتجد ان المكان هنا هو الذي يتصدر المشهد، وهو الذي يتفاعل مع الحالة الروحية للسارد او البطل، لدينا اذن بطلان في السرد،المكان والسارد أو البطل، وأول ما يلاحظ ان علامات الترقيم هنا عادت الى طبيعتها أي استخدام الفاصلة والنقطة بدلا من استخدام النقطتين فقط في المجموعة الاولى في محاولة لتسارع الايقاع وهو ما كان يحدث في القصص القصيرة حين طفرتها الكبيرة في الستينيات.
الآن القصص عادت الى طبيعتها الاولى، الحكاية، ولكن ممتزجة بالمكان. انظر كيف صار السارد اكثر ارتياحا في هذا المقطع من القصة الثانية «وجه سلوم» «كان البحر دائما في الهدوء والسماء قطعة زرقاء صافية المعالم في ذلك الصباح الذي لا يختلف عن عداه من صباحات ايلول الباردة» والمقارنة بين القصتين في السرد وفي الموضوع تصل بنا الى يقين بأنه كاتب موهوب يمتلك ناصية القص وقادر على ابداع لوحة فنية شديدة التميز والقوة، فيوم صمت في مطرح اغتراب عنيف للسارد وحضور قوي للمكان، السوق والباعة والاغراب، فإذابة الاشد اغترابا، «ووجه سلوم» أشبه بالسيرة الجميلة لبطل شعبي صغير، هو سلوم طفلا وشابا الذي أحبته القرية لكن قال ما لا تعرفه القرية، ان لكل وجه ثلاثة ابعاد كما لكل شيء ثلاثة أبعاد، هذا ما تعلمه في المدرسة، ولوجه سلطان الذي وضعته الحكومة وسط الصيادين، أو شيخا لهم، ألف بعد، بعدد العيون أو البصاصين الذين زرعهم بين الصيادين، يكفي ان يقول سلوم ذلك ليختفي ولا يعرف أحد هل سجن أم مات، والقصة في شكل رسالة يكتبها المؤلف الى لا احد، القارئ طبعا، وان حملت في بدايتها كلمة سيدي، فنحن لا نعرف أي سيد يخاطبه الكاتب ولا نريد، رغم اننا يمكن ان نقول ببساطة انه السيد الذي بيده اعادة سلوم من سجنه، أو اختفائه، أو موته، المهم اننا نحن القراء نفهم محنة سلوم ومحنة القرية، لذلك يغلق الكاتب قوس القصة بعودة سلوم اليه، في الحلم أو الحقيقة ليعترف انه لا يفهم معنى أن يكون للمخلوقات ثلاثة ابعاد، وان لوجه سلطان ألف بعد، وسواء كان ذلك صحيحا أم لا، فالكاتب في النهاية يقول انه ليس لسلوم البدوي وجه ثالث بعد أن اضاء لنا بعديه السابقين، بعد المعرفة وبعد التمرد. القصة حول البراءة الانسانية، مؤكد، والقصة انتصار لها، مؤكد، لكن من سرد هادئ موجز، وهي كقصة قصيرة مثل ايقونة شديدة الاتقان.. لقد امتلك الكاتب ناصية السرد ولم يعد في حاجة الى استعراض قدراته اللغوية، صار قادرا على إبداع عمل جميل فاتن. وتستطيع ان تقول ذلك على بقية قصص المجموعة التي تتنوع فيها طرق السرد، فتصل الى حد النشيد أحيانا في قصة مؤامرة حبس النورس. أو تستطيع أن تقول انشودة وداع، ويبرز الراوي ليقطع السرد بتعليقات مضيئة كما في قصة سيدة الاحلام، وهو راوٍ متخيل غير الراوي الاصلي، الكاتب، وسيدة الاحلام هي بداية الجزء الثاني من المجموعة وقصص كلها كتبت عام ١٩٩١ أي قبل قصص الجزء الأول، وانا لا أعرف هل جعل يونس القصص الاقدم في الجزء الثاني ليبدأ القارئ بالقصص الاكثر اكتمالا، أم لشيء آخر. على أي حال قصص هذا الجزء تبرز نوعا آخر من قدرة الكاتب أو رغبته في إظهار هذه القوة، فهي قصص حافلة بالعناوين كما في «مساء الحكاية المؤرق» أو بالتقسيمات الكثيرة. انها قصص مسكونة بالشعر. شعرية الخطاب، وهو أثر من مجموعته الاولى لكنه اهدأ وأبسط ويظهر في التكوين او المعمار أكثر مما يظهر في الجملة نفسها، وفي كل الاحوال يونس الأخزمي صوت قوي في القصة القصيرة، يؤكد ما كتبته أول هذه الدراسة من ان بدايات كتاب القصة في عُمان بدأت من الاكتمال.
٦ – الماء باتجاهين:
مجموعة قصص قيد النشر لعلي الصوافي، أول ما يبدهنا فيها هو بساطة السرد، فالقصة الاولى مثلا «السكنية» هي صور لحياة الأولاد والبنات بين الخضرة أو الجبال، يرويها واحد منهم بروح طفولية عذبة، ومن ثم يتحرك السرد على نفس مستوى البساطة والعذوبة، وتجد احتفاء بالطبيعة، يساوي الاحتفاء بالفرح بأجساد البنات، ورغم غرابة المسميات لبعض الأشجار والاماكن والألعاب بالنسبة للقارئ غير العُماني، وكثرتها، فالرسالة تصل بسهولة لأن الغالب هو الاحتفاء الكلي بهذا الفرح الطفولي وذلك السلام الروحي وتلك الصبوات الأولى.. الكاتب ينجح أن يكون السارد الصغير لذلك لا تجد هنا تداخلات عقلية ثقافية. القصة كلها أشبه بالحنين الذي يضفي الهدوء على السرد، وفي النهاية تبدو مثل لوحة فنية لا نتوءات، ولا زيادات بشيء أشبه بلوحات التأثيريين، فللشمس هنا نصيب كبير، يسري منها الدفء الى أوصالنا في لغة حانية. في القصة الثانية «الفصل» يتسارع السرد، فالولد الصغير التلميذ في حالة من الارتباك وهو يهرول خارجا من المدرسة ثم يعود الى الفصل ليعيد الزمزمية التي نسيها ليكتشف انه نسي الحقيبة اسفل فيعود للحقيبة فيقع ويتعثر ويسيل الماء من الزمزمية والدم من وجهه وينتهي نهاية مأساوية وقد دهسته سيارة عند الباب، لكنها نهاية ليست ميلودرامية فهل الارتباك السابق ينذر بالنهاية، وسواء مات الطفل أو لم يمت فالمهم هنا ان القصة التي تجري وراء حالة الولد تجري بنا في سرد سريع محايد في جمله وعباراته، ليس محايدا في التكوين الأخير، وتنتهي القصة بسرعة تناسب سرعة ارتباك الولد وهنا نجد الأفعال الماضية منذ الفقرة الثانية بسرعة، ركض الولد. وضع الولد. شد الولد. اندفع. ركض. وصل. تجاوز. انزل. كلها افعال لجمل قصيرة لا يضع فواصل من أي نوع بينها، لا نقطتين ولا فاصلة، ويتكرر فعل الركض اكثر من مرة. سرد متواتر سريع كالحالة التي عليها الولد وكالنذير بالنهاية. في القصة الثالثة يتأكد لنا ما ظهر في القصتين الاولى والثانية، وهو ان الكاتب علي الصوافي مبدع ماهر للصور الصغيرة، أو الموتيفات البصرية الصغيرة، التي تكون لنا لوحة كبيرة، هي القصة القصيرة، وتأتي النهايات الكاشفة ليكتمل الاطار الفني، فالنهاية هنا هي مشاركة السارد ملمع الأحذية في شم الاسبراي، ملمع الاحذية الذي اقترض منه النقود يجد عزاءه في هذا الشم والسارد يشاركه، وليس مهما معرفة السبب، هل يمزح؟ هل هو مثله مرهق؟ المهم انهما يصنعان لحظة حلوة يتساوى فيها الناس، وعلى نفس المستوى يأتي السرد موجزا سهلا. هنا مع التقدم في القصص نكتشف اننا في منطقة بين قصيدة النثر، حين تجنح الى القص، وبين القصة حين تميل الى القصيدة، لكننا لسنا بإزاء ما عرف مؤخرا بالقصة القصيرة، انما نحن ازاء قصة تختار لحظة من الزمن وتنثرها أمامنا كأشعة الشمس حين تقع على الأرض ويظل السرد في المنطقة الهادئة، وتأتي قوته من تتابع الموتيفات ورهافة حس السارد.
على هذا النحو يمضي علي الصوافي في قصصه كلها، لكنه في بعض القصص «الماء باتجاهين، المنبه على الطاولة، والاولى أكثر، تظهر العامية العُمانية لتحتل مساحة كبيرة، قد تربك القارئ مثلي لكن لا بأس فالقصة عُمانية في النهاية، كما انه في هاتين القصتين يلجأ الى حيلة سردية جديدة، إذ يأتي باسم المتكلم بعد الكلام، كأنه لا يريد للسرد أن ينقطع. في القصة الثانية يبدو الأمر طبيعياً، فالذي أمامنا ليس حديثا لكن تقارير في العمل، ثم يعود في قصة «أيام البلدة» ليفسر ما يشير اليه الحوار، أو المتكلم، «هاذول بنات ناس» مثلا، ثم يتبعها «امرأة بوجه دائري وعباءة ماركة «صالونة» كانت تقف أمام الرفوف الخاصة بالشعيرية والمعجنات، هو يرسم المكان أيضا. وهكذا. نخلص في النهاية أن الصوافي يستخدم تقنيات حرة علينا ان نتبعها لأنها تساهم في اختصار السرد وهو ما يطمح اليه أي كاتب.
هذه سياحة كنت أتمنى أن تطول، فأتحدث فيها عن محمود الرحبي من جيل يونس الأخزمي وعن سليمان المعمري وهلال البادي من جيل أحدث، لكن الوقت لم يسعفني، وإنما أردت فقط أن أوضح ما سقته في البداية من أن كتاب القصة والرواية يعرفون طريقهم جيدا، على قلتهم، ولهم كشوفات حقيقية، يسبقهم شاعر وناثر كبير هو سيف الرحبي الذي يمكن اعتباره بحق رائدا لكل هذا النثر القوي، والذي حقق مكانته في الكتابة العربية عبر مكابدات معرفية وشخصية وتجربة حافلة.. ثم أن هذه القراءة السردية في النهاية ليست قراءة ناقد متخصص بقدر ما هي دعوة للنقاد أن ينتبهوا لهذا العدد القليل من الكتاب لتتسع مساحتها كما سبق واتسعت في بلدان خليجية عديدة، مثل السعودية والكويت أو كما سبق واتسعت في أكثر الدول العربية ولا يجب أن ننتظر حتى يصنع التراكم التاريخي ذلك، لكن على النقاد انعاش هذا التراكم اختصارا للتاريخ.