الطريق إلى الربع الخالي
(حول الكائن المغترب والتسويات الممكنة)
قُدمت في اطار ندوة (الأدب والمنفى) في دولة قطر. وهذه الورقة/الشهادة لا تتطرق (كما هو واضح)، إلى حقل المفاهيم الشاسع بتعريفاته للمنفى والغربة والاغتراب والانفصال…..إلخ تلك التي بحثها فلاسفة وأدباء بشكل تفصيلي ومكثف إلا بقدر ما يتصادى مع دفق الشعور نظراً وتجربة في هذه المسألة التي هي من السمات الأكثر جوهرية فى عصرنا بمختلف جهاته وعوالمه المؤتلفة والمتناقضة حد الصدام والحروب الكاسرة.
يمكن القول بداية أن الكائن المنفي أو المغترب في برهتنا الراهنة ليس ذاك المقذوف خارج منطقة مكانية بعينها تسمى : وطنا ، وإنما ذاك الذي أضاع مكانه جذريا(٭) في هذا العالم ، وبدأ رحلة التيه الحقيقية التي لا أمل في العودة منها .
انطلاقاً من هذا الشعور الحدي لهذه اللحظة المحتدمة بالهواجس لكائن وَجَد نفسه خارج العالم ، خارج لعبة الاجتماع والتاريخ التي تبعثرت ، لحظة هذا الكشف الأليم ، شظاياها وخيوطها المحبوكة جيداً ، في صميم روحه وكيانه وحولته إلى كائن القلق والبحث والترحل بأبعاده الرمزية والواقعية ..
ثنائية الوطن- المنفى المتداولة حد الاستهلاك ، لم تعد تضيء شيئاً ذا قيمة في هذه الرحلة الليلية المحتشدة بالارتباك والأسئلة . لم تعد تعني شيئا إلا ربما للدارس النفسي والاجتماعي وفق مناهجه المحددة سلفا . وحتى عبر هذا السياق انقلبت معايير المنفى والوطن وتصدعّت حيث تبادلا الأدوار في عملية انقلاب ناعمة مخادعة ، وفق الشروط السياسية والاجتماعية والتعبيرية في أكثر من بلد ومكان . وحيث أصبح الوطن هو ما دُعي بالمنفى وكذلك العكس .
عملية الانقلاب هذه تستدعي بالضرورة، إشكاليات متعددة ليس على صعيد الحياة اليومية والمدنية التي أصبح منفى كالمنفى الأوروبي يلبي احتياجاتها ومتطلباتها أكثر من الأوطان المنكوبة بكافة أنواع التسلط والحروب والانهيار .
إشكاليات الكائن المنفي الذي يتعاطى الكتابة والتأمل والتفكير ، ذاك الذي ندعوه شاعراً ومثقفاً.. مثل كيفية اشتغال المخيلة ، الذاكرة والحنين .. إلى أي مدى تبحر سفنّه حيث لا نجم يٌهتدى به . بحرٌ مضطرب وظلامٌ عميق ؟
هل مازالت الأمكنة الأولى ، أمكنة الطفولة دوافع جذْب وحنين؟ هل مازال ذلك النبع الذي تنهل منه مخيلة الكتابة ، بؤرة الأماكن في تشظيها وتعددها ، مرجع الذاكرة في رحلتها الشاقة بين المدن الغريبة والناس الغرباء . أم كفّت عن أن تكون كذلك وأحكم التيه والانخلاع قبضته الأزلية؟
٭ ٭ ٭
لنفترض أن هذا الكائن الباحث في غابة الكلمات ، عن موطئ قدم ليحطّ فيها رحالَ الشاهد والمتذكر ، بدأ رحلة الانفصال عن المكان الولادي ، مكان الخطوة الأولى، مطلع السبعينيات من القرن المنصرم ، أحس في البدء ما يحسه الآخرون من لوعة الفراق للوجوه والأماكن المألوفة الذي استمر فترة من الزمن . وبالاندماج في حياة البلاد الجديدة بدأ نازع الحنين والتذكر في الخفوت، لكن ليس الانطفاء حيث استمرت جمرةُ الذكرى في التوهج، وحتى حين أمعن مشهد الترحل بشتى الأصقاع والأماكن ظلّت هذه الجمرة توصل الحياة السابقة لمرابع الطفولة بالحيوات اللاحقة وتُلحم الزمن الأول بالأزمنة المتقادمة التي أخذت في التكاثف والمباغتة حتى أصبحت على ذلك النحو السريع الصاعق .
يعود المترحّل بعد طول بعاد ونأي ، إلى تلك الأماكن التي حلم بالعودة إليها وراودته بكثافة الحلم واليقظة ، ليجد أن الوقائع تشيد بنيانها بمعزل عن الأحلام ونوازع الحنين ..
يعاود الرحيلَ والعودة مرة ومرات وبوتيرة سيزيفية ، ليكتشف كل مرة ما لم يعد بحاجة إلى اكتشاف: خرائب الروح وخرائب طفولة الكائن والمكان. يقف ناعقا بهجاء قاسٍ وانتباه أقسى إلى هذه الصيرورة الفاجعة المنذور لها بقدرية عمياء صارمة، حين لامكان للتسوية ولا خيط شمس يتسلل من تلك البيوتات الطينيّة العتيقة، حيث كانت تقطن العائلة في الأزمنة التي بدت له نائية أيما نأي وسحيقة.
٭ ٭ ٭
يمتزج البعد الوجودي الأنطولوجي للمنفى بأبعاد اجتماعية وسياسية ، وهذه الأخيرة تلهب الأولى وتدفع بها إلى حافة أكثر خطورة ومكابدة. تتضاعف المعاناة وتزدوج فالإنسان أو الشاعر الذي دفعت به خياراته في ظروف محددة ودفعت به الصدفة إلى أن يكون ملاحقاً من قبل دولة وأجهزة لاريب يعيش حالة حياة خاصة ، تختلط في رأسه الوقائع والأوهام على نحو كابوسي يوصل ليله بنهاره ويطوّح به إلى حافة الجنون والموت ، خاصة وأن هذا الكائن ، الذي نحن بصدد الإشارة إليه، فرد يعي فرديته وأفقها بعيداً عن الانضواء القطيعي تحت لواء الجماعة بأسمائها المختلفة .
بطبيعة الحال هؤلاء الأفراد غالبا ما يكونون من أهل الأدب والفن ، حيث تتوتّر المسافة بينهم وبين الجماعة التي تحمل لواء المعارضة اللاهجة باليقين، المبشرة بالنصر الحاسم القريب. تتوتر المسافة وتتسع كما توترت واتسعت من قبل مع تلك الأوطان الافتراضية المحمولة على لغة الشعارات وغنائية الحنين المبسّط . ويجد الفرد ذاته مقتلعاً من جديد ومرميا في مهب الجهات العاصف . يسارع إلى لملمة أشلائه ومحاولة التخفيف من فداحة الخسارة بمعناها الجذري. انه يقف وحيدا في مرآة مُدماة مشروخة ، هشاً وضعيفاً أمام بطش الوجود المتعدّد الوجوه والمصادر والأهداف، هو الأشبه بالكائن التجريدي من غير أهداف واضحة، وذاك الذي وُلد من صفحات كتاب قرأه ذات مرة وبقيت صورته الوحيدة في رأسه تميمةً يلوذ بها من فتك التلاشي والخراب . تتسارع حلقات المنفى إلى الاستواء والنضج ، ليجد نفسه مرة أخرى ليس على مشارف الربع الخالي، تلك الصحارى الجبلية الرملية التي ولد في أتونها، وإنما في القلب منه واقعا وأفكارا ، مسار حياة ورمزا .
ينكسر المنفى الصلب بصفاته وأهدافه المحددة ويوغل المغتربُ المنفي في تيه الصحراء ، باحثا في ضوء هذا الانكسار عن سُبُلٍ جديدة يستطيع مواصلة ما تبقى من حياته ، ربما يجد بعضها في الكتابة والكتب/ في المرأة والتحديق جيدا في المغيب المحتدم بالأشباح الجميلة كل مساء .
٭ ٭ ٭
ربما تذكر المنفي وهو في غمرة هذا الصراع المرير مع شرطه الوجودي والتاريخي ، في عهوده البعيدة، حين كان يجلس على المشارف المطلة على الصحراء العاتية ، المكللة بغناء الروح ، وسط العوز والفقر- تذكر القوافل المترحّلة بين التخوم والأودية والشِعاب مُيمّمة شطر جهة مجهولة بالنسبة إلى الطفل الذي كان في ذلك الزمان .
تذكر وراودته في اللحظة لمحة وجيزة من العَوْد النيتشوي ، تلك الدائرة الجهنمية لرحى العذاب البشري كما يود تأويلها حيث العَدَم يطبق قبضته على الكائن كما تطبق عواصف الربع الخالي قبضتها على القوافل المترحلة ببشرها وحيواناتها. العَوْد الأبدي بهذا المعنى إمعاناً وتعميقاً لمأساة الوجود وليس ضوءاً في آخر النفق أو مخرجاً لدوائر الوجود المغلقة .
وتذكر كائنُ المنفى أيضا مرأى الطائرة لأول مرة .. لكن ما أثار مخيلته أكثر وأشعلها مرأى القطارات التي لم يشاهدها من قبل حتى في السينما والتليفزيون اللذين لم يكونا موجودين آنذاك .
في بداية السبعينيات حين نزل القاهرة ليلاً وذهب ليسكن في حي الدقي المتاخم لحي بولاق الدكرور ، سمع صفيرا يشبه النحيب، حسبه في أول الأمر صفير بواخر راسية في عرض البحر.. لكن حين انجلى ليل القاهرة عن بدايات الصباح ذهب إلى مصدر صوت الصفير ليشاهد تلك القوافل الحديدية العابرة السكك والقضبان. وحين عرف أن هذا المارد الخرافي اسمه (قطار) ذهب ليفتش عن أصل كلمة قطار . فوجد أن العرب كانت تسمي الناقة الطليعية في القافلة (القاطرة).
لاحقا ينفجر مشهد القطارات على مصراعيه واقعاً وكتابة.
٭ ٭ ٭
حين يصل الإنسان الذي دعوناه في هذه العجالة بالكائن المغترب والمنفي والمترحل . أسماء متعددة لوجه واحد يتعدد حين يرنو في مرآة ذاته ؛ حين يصل إلى هذا الشرط المتفجر لوجوده يدخل حالات هذيانية شتى .. كأن تتلبسه الضغينة على محيطه كما تتلبس المؤرَق الذيجافاه النوم في الليالي الموحشة، تجاه طمأنينة النيام وهدوئهم. تراوده هواجس عدائية تصل إلى حدود تخيل مجزرة بكامل ضحاياها، لكنها تظل مجزرة في المخيلة و اللغة ولا تتجاوزهما. فهو من فرط العواطف وربما اليأس لايستطيع أن يؤذي حتى بعوضة كما يقول المثل الدارج . وليس بقادر إلا على تدمير ذاته بالتحديق والتأمل في المشهد الدموي المحيط الذي يتناسل وحشية وانحطاطا لامثيل لهما.
عليه أن يتدبر تسوياتٍ أخرى أكثر انسجاما ونبلا مع محيطه وذاته المُمزّقة .
٭ ٭ ٭
يصل المترحِّل إلى نوع من الوضوح الكاسر ، ذاك الذي يحمل شفافية اليأس وقوة انكسار الأمل : لم يعد للتجوال في خرائط الجغرافيا حلم كشف وإشراق، لا للرحيل ولا للعودة لا للوطن ولا للمنفى. تهشّمت في مخيلته ووجدانه هذه الثنائيات لتحل محلها خارطةُ متناقضاتٍ داخلية متموّجة بجمالٍ وقسوةٍ خاصين . هذه الخارطة ، بستان الداخل ، هي التي يحاول تعهدها بالسقيا والرعاية عبر خيارات جمالية يرتئيها.
في هذه الحالة تتحول خرائط الخارج بسراباتها وحقائقها إن وُجدت ، إلى امتداد أرومة جمالية ، لبستان الداخل بسراباته وحقائقه التي ربما تتجلى ولو كاشراقات عابرة، كنوع من تسوية ممكنة مع وجود صعبٍ وعمر هارب .
٭ ٭ ٭
ما أشرتُ إليه من هواجس ومشاهد تشكل ثيمة الكتابة ولبَّها ، واحتها المضطربة التي تنزع دائما إلى الاتساع والامتداد لتستطيع لـمّ شملِ هذا الكائن أو الكائنات المتشظية المصدوعة بالموت والغياب .
هذا النزوع أو الطموح لبناء وجود موازٍ عبر الكتابة يتحمل كل هذه الأعباء من الفجائع والمهازل، لا محالة له من توسيع رقعة الكتابة ومفهومها، من الدخول في حقول التجريب والخروج على ماهو متفق عليه وسائد. التجريب والخروج في هذه الحالة ضرورة وليس تَرَفاً أو نزقا عابرا، شرط وجود وإبداع . انفجار الأحشاء بعنف الداخل والخارج في الصورة والعبارة لتستحيل الكتابة إلى منازلة مفتوحة مع العالم . تحاول الذات الكاتبة في هذه المواجهة أن تتلبس أقنعة شتى وتحشد أسلحتها وحيواتها المختلفة: أزمنة بدائية تسطع على صفحة المسودة الأولى للخلق. حيوانات وجوارح. أحلام وذكريات الأمس الموصولة بأحلام البشر الأوائل. وقائع صغيرة وكبيرة تتوحد في مركب المخيلة المندفعة من الحسي إلى التجريدي و المرئي المباشر إلى الغيب المتعالي .
في وهم هذا الوطن الموازي أو البديل أو أي اسم آخر، الذي يسمى الكتابة، تحلم الذات الكاتبة أن تلامس قبسَ وحدةِ وجود مبعثرة في الأصقاع ، وأن تنقذ ما أمكن وسط جلَبَة الإعصار والهشيم .
سيف الرحبي
هامش
هذه الرؤية التي تسترشد بسارتر ، ربما تتقاطع مع رؤية المتصوفة للاغتراب كون الحياة رحلة اغتراب بكاملها بدأت منذ انفصال الإنسان الأول ونفيه خارج الجنة ليعيش وذريته اللاحقة ذلك الحنين الجارف بالعودة إليها من جديد .