«خذني معك إذن أيها الشاعر/ سأدور خلفك من مقهى لمقهى/ ومن شارع لشارع/ لألملم تلك الزوائد الروحية/ التي تتساقط من جسدك على الأسفلت/ سأملأ لها وعاء عميقا من دمي/ وأدعها تسبح أمام عينيّ/ كسرب صغير من الأسماك»
بعد محاولات جهيدة للفرار من هاجس الموت، والنأي عن أن تكون فاجعتي في موت أسامة الدناصوري مدخلا لكتابتي عن تجربته، لم أجد نجاة وملاذا سوى في شعر أسامة الدناصوري نفسه. فالشاعر الذي درب روحه على استئناس الموت لم تحفل تجربته الشعرية سوى بالخلق؛ حتى أن مفردة الموت لا تكاد ترد في تجربته الشعرية سوى مرات نادرة. الخلق هو السمة التي لا تتوارى أبدا في تجربة أسامة الدناصوري.
منذ أكثر من عشر سنوات، وحين بدأت العكوف على دراسة تجربة قصيدة النثر في الشعر العربي، وبخاصة في المشهد الشعري في مصر، دائما ما كانت تجربة أسامة الدناصوري الشعرية الخصبة وقدرته الفذة على إبداع نص شعري خلاق أحد أهم التجارب التي تمثل لي الملاذ الذي أستغيث به حين تعثري بين جفاف ونضوب نصوص أخرى عديدة. فالنص الشعري عند أسامة الدناصوري به من التفرد والخصب والغنى الإبداعي ما يجعله علامة بحق في سياق التجربة الشعرية العربية بوجه عام، وليس في سياق جيله من الشعراء أو حتى في سياق مشهد قصيدة النثر العربية وحدها. وإذا كان أهم ما تمنحه قصيدة النثر للشاعر تلك المساحة الهائلة من حرية التفرد وخلق تجربته الشعرية الخاصة بعيدا عن نسخ أو تكرار تجارب الآخرين، فإن أسامة لم يكتف بملء كل هذه المساحة بزخمه الشعري المتفرد، بل خلق مساحاته شديدة الخصوصية والتي لم تلتبس أبدا بمساحات الشعراء الآخرين. فكان بحق الشاعر الذي «يجري فلا يُجرى معه».
هذا التفرد في تجربة أسامة الدناصوري هو تحديدا ما يجعل هذه الدراسة تنأى عن مجرد رثاء هذا الشاعر الفذ، وإنما تسعى بدلا من ذلك للاحتفاء بزخم تجربته الإبداعية ومحاولة استكشاف ملامح خصب النص الشعري عند أسامة الدناصوري في تجربته الشعرية بصورة عامة، من ديوانه الأول «حراشف الجهم» ثم «مثل ذئب أعمى» وحتى «عين سارحة وعين مندهشة». ونحاول من خلال ذلك تلمُّس جماليات تشكيله الابداعية لنصه الشعري من جهة، وتحولات نصه الشعري عبر امتداد تجربته الإبداعية في دواوينه الثلاثة.
تمثل ثيمة «الخلق» في نص أسامة الشعري محورا دلاليا وتشكيليا لا يمكن أن يغلفه القارئ لكل أعمال الشاعر من بدايتها وحتى آخر دواوينه « عين سارحة وعين مندهشة». لكن الأهمية التشكيلية لهذه الثيمة في نصه الشعري لا تقف عند حدود المجال الدلالي لشعره بقدر ما تمثل قوة تشكيلية تتبلور من خلالها العناصر التشكيلية للقصيدة بمستويات مختلفة وبتشكلات مختلفة عبر قصائده من ديوان لآخر.
على امتداد النص الشعري في دواوين أسامة نستطيع تلمس التحولات في ثيمة الخلق؛ فمن الحس المأساوي للخلق في ديوان «حراشف الجهم»، إلى حس السخرية والتهكم وربما المنافسة على قدرة الخلق في ديوان «مثل ذئب أعمى»، إلى الخلق الرائق للقصيدة في ديوان «عين سارحة وعين مندهشة». عبر الدواوين الثلاثة تتطور ثيمة الخلق دلاليا وتتحول تشكيليا نحو غايتها الصافية الرائقة في الديوان الأخير.
في ديوان «حراشف الجهم» تبرز بوضوح ثيمة خلق الكون والكائنات وبشكل خاص ذلك الكائن الذي يسميه الشاعر مرة «المسخ» :
مرت هنا أمي/ منذ ستة وعشرين عاما/ .. وخلفتني./ هذا أنا ../ الأزغب،/ العريان./ ما زلت أحرن عن اللقمة الملقاة/ وأنكمش../ اذا مر الدود بجواري./عادةً../ تضع أنثى الوحش حملها بجانبي/ وتنظر لي دامعة../ ..فأنخرط في البكاء../ موحش نحيب الصغار./ .. أتعرفينه ؟! / أمي !/ ما طعم حلمتكِ؟!/ آثمةٌ/ هل اقترفتِ سواي ؟!/ عودي./ لا أريد حليبك./ فقط./ أعيديني .. لو استطعتِ./ لظهر أبي.(المسخ/ ٢١ـ٢٢)
إنه الكائن المتبرم الضجر من القسوة التي خلق بها، ويجابهها بمزيد من العنف والقسوة التي يجب أن تصلح ما أفسده خلقه:
أيها الظلام!/ دلّ القناصين على مكاني/ أين دهاؤك يا سلطان الماكرين ؟
وأنتِ../ ماذا حلّ بكِ أيتها الأرض ؟/ أكان قارون أعظم شأناً مني؟/ اجرفيني بعنف../ لجوفك الطافح بالعفن الرائق./ تثقبني أحيانا أبر الوقت/ وتنشرني الكآبة على نجيلها../ ..ولا أجف/ معجون بوسخكم المقدس../ أيها الملعونون/ كيف لم تسقطوا كلاباتكم في إثري ؟!/ ألا تصلكم حشرجتي !/ ها هو يمر من فوقي../ قفا سفينتكم المحدّب./ انتظروا../ خلصوني من عناق الأذرعة الرخوة./ يبدو أن الموت لا يثق في صدق نواياي. (رأسا لرأس/ ١٦ـ١٧)
وفي قصيدة أخرى من ديوان «مثل ذئب أعمى» عنوانها «ليتني كنت إلها» ينطلق الشاعر من ذلك الحبل السري الذي يصله بالرب، بإله وليس أقل، ومن الحبور الذي يشتعل به حين منحه كل هذه الحيوات ليبدي «ملاحظاته شديدة اللهجة» على خلق الأنثى، «بل كنت لأفضحه في منتدى اللآلهة»، حتى لو استحال الأمر حينا فإنه لن يكف عن هاجسه المحموم للخلق :
لكنني قد أصرخ في ضجر في النهاية من استحالة الأمر/ وربما أحسست بالخزي لعجزي/ عاقدا العزم/ على تقديم اعتذار لائقٍ على وقاحتي أمام الرب./ لأنني لم أكن لأجد أبهى ولا أكمل من صورتك ذاتها./ لكنني أيضا/ ربما استطعت رغما عن ذلك ،/ تقويم ظهرك المحدودب قليلاً ./ وشد القامة التي تكاد تنكفئ إلى الأمام قليلاً/ ثم الفخذان! … الفخذان !!/ ربما كشطت منهما ملء قبضتين/ لأحشو ثدييك الضامرين .. قليلا .. (لو كنت إلها/ ٦٨ـ٦٩)
الجهم المتمترس وراء حراشفه
في ديوانه «حراشف الجهم يرسم أسامة الدناصوري صورة ذلك الكائن المتفرد، ولا يكتفي بتسميته «المسخ» ولكنه يرسمه في قصيدة أخرى كائنا أسطوريا يتخفى وراء درقته الصلدة ويخفي وراءها ألمه ورقته وفلسفته معا:
يستطيع الجهم أن يجلس القرفصاء/ لأحقاب طويلة/ مصوبا حدقتيه/ للبعيد.. الذي لا يراه سواه./ وفي المكان الذي لا يخمن الحاذق / أنه يحدق فيه/ ولكنه هنا ليس مثل قنفذ سعدي يوسف : هذا الكامن المأخوذ بالأشياء في قارته القديمة/ والمحتبي في الغفلة العظمى/ الذي إذا ظنه الاطفال ـ يوما ـ كرة الأسمال يلهون بها،/ أو حسبته المرأة الصخر الذي يدلك رجليها/ وأفعى النخل إن ظنته فأرا هامدا ـ/ ما حل من حبوته./ لكنه في أول الليل/ وفي قارته القديمة،/ يسعى/ بطيئاً/ مسرورا بأن الأرض فيها هذه الفتنة.
الجهم عند الدناصوري تغلفه قسوة بالغة فلا تستطيع الكائنات معاشرته: له ما للغابة من وحشة/ وما للبحر من غموض/ وجههُ/ لم يستطع أحدٌ وصف ملامحه بدقة./ وعيناهُ/ يقال .. ينكسر الضوءُ دونهما رهقا./ عاشرته الكواسر / لكنها سرعان ما لاذت بالفرار/ متبرِّمة من غلظته./ هو الذي إذا نطق / تغير الطقس./ ولا أحد يذكر أن رآه ../ ضاحكا.. أو باكيا./ لا يندهش لشيء قط/ فلقد عاش حياته قبل ذلك.
و«الجهم» أو «الجهيم» كما يرد في لسان العرب:
«الجَهْمُ والجَهِيمُ من الوجوه الغليظ المجتمع في سَماجة وقد جَهُم جُهُومةً وجَهامةً وجَهَمَه يَجْهَمُه استقبله بوجه كريه (…) ورجل جَهْمُ الوجه أَي كالِحُ الوجه تقول منه جَهَمْتُ الرجلَ وتَجَهَّمْتُه إِذا كلَحْتَ في وجهه وقد جَهُم بالضم جُهُومةً إِذا صار باسِرَ الوجه ورجل جَهْمُ الوَجْه وجَهِمُهُ غليظُه وفيه جُهُومة ويقال للأَسد جَهْمُ الوَجْهِ وجَهُمَ الرَّكَبُ غَلُظ ورجل جَهْم وجَهِمٌ وجَهُوم عاجز ضعيف».
واللافت للنظر في المعاني التي يوردها ابن منظور في لسان العرب عن «الجهم» ذلك التضاد في المعنى الذي تحمله الكلمة ذاتها. فالصفة التي تحمل كثيرا من دلالات القسوة العبوس والتنفير والقوة التي تجعلها صفة لوجه الأسد، تنطوي في الوقت نفسه على دلالة نقيضة هي العجز والضعف. وهما الصفتان اللتان تختفيان وراء القناع أو الدرقة التي يتمترس وراءها ذلك الكائن من قوة وقسوة لا تبارى.
لقد استل الشاعر تلك الصفة الحاملة للمعنى وضده معا ليجعلها اسما وعلما على ذلك الكائن الذي تلبسه قناعا للذات في تلك المرحلة من تجربته الشعرية مانحا إياه ذاته الفريدة:
يسير الجهم فردا بين أقرانه/ فجأةً ../ يتركهم قوسا مشدودا/ وينطلق كالسهم الغامض./ يتسلق حائط العزلة
فيبصر المرأة عاريةً/ فيبكي …../ (……….)/ يشتعل قش الشهوة/ فينتصب الفحل الهائج عارياً/ يعبر النيران بتؤدة/ يسبقه خواره الصاعق./ فتلزم الأفاعي جحورها
وتحجم النسور في أوكارها / .. عن اللهاث/ وآن فراغه من طقسه الإلهي/ يتجلى وجهه الرائق/ من خلل البخار والدمع./ مخلفا من ورائه النار الشاهقة/ أكثر اشتعالاً.
دراكيولا.. ودم للذئب العاشق
على أفيش فيلم «دراكيولا» (1992) للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، كتبت هذه العبارة في الأعلى وبخط بارز : «الحب لا يموت أبدا» LOVE NEVER DIES. في هذا الفيلم البديع المأخوذ عن رواية «دراكيولا» (1897) للكاتب الأيرلندي برام ستوكر Bram Stoker لا تُقدم صورة دراكيولا في وحشية مصاص الدماء ورعبه وكفى، وإنما تميز الفيلم بتقديم جانب العاشق المتفاني في عشقه من شخصية دراكيولا. فهذا الباحث عن الدم الذي يمتص دماء ضحاياه من النساء فيمنحه الدم حياته، يتحول حين يقع في الحب إلى عاشق قد يرتضي الموت إذا لم تكن نجاته وحياته من خلال محبوبته وحدها.
في بداية الفيلم يتلبس دراكيولا صورة الذئب حين يفترس ضحاياه وهن مستسلمات، يعشقنه، ينتظرنه، وقد يهربن من كل حراسة لحمايتهن ليكن في انتظاره حين يأتي. قد يتلبس في الرواية صورا أخرى غير الذئب ، مثل الكلب أو الوطواط، وتضفي الرواية على الكلاب قوة ربما تفوق قوة وبأس الذئب. لكن الفيلم يختار منها صورة الذئب تحديدا ويبرع في تصوير مشهد الحضور المباغت والشرس ومشهد الافتراس الذي استعدت له الضحية العاشقة.
ولكن ليس هذا ما يحدث مع دراكيولا العاشق. فحين يعشق دراكيولا يمارس الحب مع معشوقته إنسانا شديد الرومانسية، أو يأتيها متخفيا فينسرب وينسل إليها دخانا أخضر ناعما يلف جسدها فتشعر بالنشوة ويستمد تجدد حياته. ويتحول إلى عجوز مشرف على الموت لأنه لم يقبل أن يرشف الحياة من سواها. بل ويفضل الموت على يديها طالما لن تستمر في عشقه طواعية.
ليس الغرض هنا سرد أحداث الفيلم إلا بقدر ما قد يضيء لنا ذلك جانبا مهما جدا في نصوص أسامة الدناصوري في ديوانه «مثل ذئب أعمى» ومن بعده ديوان «عين سارحة وعين مندهشة» من حيث تشكيل الصورة وإيقاع الكتابة وكذلك الرؤية الشعرية بينهما.
في ديوان «مثل ذئب أعمى» نلحظ صورة الذئبية متجلية في العديد من تفاصيل الصور في الديوان، بالإضافة إلى الإشارات الواضحة لصورة الذئب الماثلة منذ عنوان الديوان وحتى في ثنايا العديد من قصائده. في قصيدة «ليل أحدب» يصور الليل الأحدب الذي يسكن في داخله، المنزوي في خرائبه المهجورة، والذي يريد أن يؤاخيه مع الإله الذي سيسرقه من صديقه: عله يكف عن العواء المتكرر كل مساء/ مثل ذئب أعمى/ تهيجهُ ../ أصداء صرخاته.
وهي من الصور المتفردة لليل أحدب يعوي في وحدته مثل ذئب وتهيجه أصداء صرخاته، حيث تستدعي هذه الصورة في ذاكرتنا صورة الأحدب العاشق البائس في فيلم «أحدب نوتردام» حين هيجه الغضب والحب فراح يقرع كل الأجراس في الكنيسة ويزداد هياجه وصخبه كلما ترددت أصداؤها.
لكنه في قصيدة أخرى «على مشارف الشعاب» يصور مشهدا يكاد يكون مطابقا لمشهد الحضور المباغت للذئب لعشيقته التي تنتظره كل ليل: لكنى أعدكِ/ بالمجيء – كل ليلة- متسللاً/ وسط القطيع الهائل من أنباء جِلدتي/ ذوي الأنياب الحادة، واللهاث المرعب/ لنحتل الساحة المقفرة أسفل شرفتكِ العالية.
سأبول على التراب/ صانعاً بذيلي كرات دافئة/ هي هداياي/ التي سترنّ طوال الليل على زجاج نوافذك/ مهيجة لعابا حامضا/ لا يمكنكِ تقيؤه ./ آن لي/ أن أستلم الفضاء بشدقيّ/ مطلقاً عواء فرحتي/ أجيبوا ندائي/ فلقد آن لكم أخيرا/ أن تهبوا لملاقاتي على مشارف الشعاب/ أيها الرفاق .
لكن ملامح الذئبية في الديوان لا تقتصر على الصورة المباشرة للذئب في هذه القصيدة أو في غيرها، بل إنها تشكل العنصر الأساسي في تشكيل الصور في معظم القصائد. فنلاحظ مثلا أهمية تراتبية الحواس في تشكيل الصورة. فهذا الذئب الأعمى لا يلتمس حميمية الحواس في النظر أو الرؤية، وإنما تعلو حاسة اللمس على كل الحواس في اللحظات الحميمية. في لحظات الحب (مع العشيقة أو مع صديق) وكذلك في لحظات القتل الحميم والافتراس العاشق.
إن حاسة البصر والرؤية ليست حميمية بما يكفي حيث تظل هناك مسافة فاصلة لا تسمح لحميمية الاتصال بالتحقق. والطعنة في القتل لا يضاهيها في حميمية الوصال والإيلاج تعبيرا عن الحب سوى فعل الافتراس: منذ ان أحببتك/ والطعنة المفصلة على مقاسك/ تنام رأسيا في عينيّ/ عينيّ ذاتهما.. الغائمتين دوما بالحنان اللامع/ وابتسامتي المنصوبة على وجهي.. كفخ متيقظ/ لاصطياد رعشة وجهك الرومنتيكية عند وداعي./ استدر كي أنعم برؤية النافورة الحمراء تطرطش على وجهي/ وأمد يدي من الثقب الدافئ الذي يتسع/ سألغ في رئتيك/ وأعجن العضلة الحية التي تبظّ من بين أصابعي/ كي أخلط السعال بالرحمة/ وأخض الدم في الإيمان. (ليل أحدب/ ١٠ـ١١)
إن رؤية النافورة الحمراء من الدم لا تكفي للذة الحواس، وإنما لابد أن تستكمل بطرطشة الدم على وجهه، وربما هذا أيضا ليس كافيا، فليحدث الإيغال والإيلاج إذن. فلا يتحقق مس شغاف القلب سوى بالقبض عليه مباشرة والشعور بنبضه الحي الدافق، مستخدما أكثر المفردات حسية (ألٍغ ـ أعجن ـ العضلة ـ تبظّ ـ أخلط ـ أخضّ ) بغض النظر عن كونها عامية أو فصحى، لكنها بالفعل أكثر المفردات الحسية مواءمةٍ لهذه الصورة.
ومع الحواس الأخرى تضيف الصور تأكيدات تفصيلية تجعل من أثر هذه الحواس أكثر حسية واستمرارا في أثره. ففي قصيدة «على مشارف الشعاب» لا يكتفي بتصويب الضراط نحوها، بل:
وسأتركه عالقا في سماء البهو/ موصيا إيّاه/ أن يظل يدوّي بعد رحيلي/ متخبطا بين الأركان.
وكذلك الباب الذي «يرتج مزلزلا الجدران»، و«هداياي التي سترنّ طوال الليل على زجاج نوافذك/ مهيجة لعابا حامضا لا يمكنك تقيؤه» في القصيدة نفسها. ومن السهل أن نصادف أمثلة أخرى على هذه الذئبية في توظيف الحواس لتشكيل الصورة في قصائد هذا الديوان.
لغة تصفو لترشف ماء الحياة في قصيدة
وفي تحول كبير عن هذه التراتبية في حسية الصورة الشعرية التي صادفناها في ديوان «مثل ذئب أعمى» وفي ديوان «حراشف الجهم» من قبله، يطالعنا ديوان «عين سارحة وعين مندهشة» بداية من عنوانه بتلك الحاسة التي كانت مهملة أو مهمشة في تراتبية الحواس السابقة. فالعين التي تتصدر الديوان مرتين تشي بأنها نافذة ومدخل على رؤية جديدة في تجربة أسامة الدناصوري الشعرية. ومن بعد العنوان تشي كل تفصيلات الديوان بعد ذلك بذلك التحول في نص الدناصوري بكل تشكلاته، بدءا من مفردات لغته وإيقاع الكتابة وحتى الرؤية الكلية في قصائده، مرورا بالطبع بتشكيل الصورة عنده.
قد لا نستطيع القول بأن اللغة التصويرية في قصائد ديوان « عين سارحة وعين مندهشة» لغة تجريدية تماما، لكنها أقل حسية، أو بالأحرى تنطلق من حسية مختلفة عن اللغة المستخدمة في ديوانيه السابقين. فلا نجد في هذا الديوان مفردات من قبيل ( الوسخ المقدس / العفن الرائق / لغة /قيح بغيض/ مثانة مكتظة بدم / كلام لا يريح الأنف ) كما في ديوان «حراشف الجهم». ولا نجد كذلك صورا من قبيل «القيح الأصفر المعرّق بالدم» أو «لعاب مر» أو لعاب حامض لا يمكنك تقيؤه أو تصفق قبل اندفاق البول من مثانتك / ثم تنحني متأملا الرغوة الكثيفة / لتفكر في أول كأس شربته من البيرة» أو «ليحتقن هواء الغرفة / بروائح نفاذة» أو «الصورة الدائمة/ لسرير فارغ، يطفو كقارب ضال / وسط بحيرة تموج بسوائل مالحة / ويفيض على حوافها . . لعاب مر.»
إن هناك فارقا كبيرا بين هذه الصورة من ديوان حراشف الجهم:
يشتعل قش الشهوة/ فينتصب الفحل الهائج عاريا/ يعبر النيران بتؤدة يسبقه خواره الصاعق.
وصورة أخرى من الديوان الأخير للشاعر:
هل يجب أن أخبركِ/ أني لم أتعمد لمس ذراعك وأنا أشعل لك السيجارة؟/ لكني أقول لكِ : إن هذه الهدية الثمينة جعلت بقية أعضائي تبتهل طيلة السهرة/ شاكرة ليدي اليسرى./ (كمن يعتذر / ٤٣)
إن الفارق هنا ليس مجرد التخلي عن المفردات الصريحة التي شكلت صوره القديمة، أو التعبير الحسي الذي وسم قصائده في الديوانين السابقين، ولكنه تحول في الرؤية ذاتها، تحول في مفهوم الحسية وفي مفهوم القنص ذاته. ليس مجرد القنص في العلاقة بالفتاة، بل الأهم هو رؤيته لقنص القصيدة واصطياد الشعر، وهو ما يتجلى بصورة رائعة في قصيدته «إيروتيكية». فليست الفتاة في هذه القصيدة إلا تجليا لحضور الشعر وللذة القنص التي يمارسها الشاعر تجاه القصيدة.
لم يعد أسامة الدناصوري مهموما في هذا الديوان بخلق الكون أو الكائن أو حتى خلق الأنثى كما في ديوانيه السابقين. وإنما يتفرغ الشاعر في هذا الديوان لخلق رائق للقصيدة. فهو يصفي لغته في هذا الديوان من كل الزوائد الروحية التي علقت بها من قبل وشغلته عن خلقه هو لامرأته التي طالما كان مغويا بها منذ ديوانه الأول (القصيدة) والتي يرتضي من اجل كتابتها موت حبيبته نفسها. في الاستهلال الذي صدر به ديوانه الأول يورد أبياتا لصمويل بيكيت تقول: أود أن تموت حبيبتي/ أن تهطل الأمطار ../ فوق فناء المقبرة/ وأن أسير وحدي في الشوارع/ تحت المطر../ أبكي ../ أول وآخر من أحبوني.
ثم يعود ليكتب قصيدته هو عن القصيدة في الديوان الأخير عنوانها «سنتمنتالية» ومنها:
كنت ستموتين بين ذراعيّ/ أليس هذا ما اتفقنا عليه ؟/ ماذا أصنع إذن بأقراص الفاليوم/ التي اشتريت لكِ منها علبة كاملة ؟/ هل أبلعها أنا!/ (………)/ ثم ماذا سأصنع الآن/ بالقصيدة التي أعددتها لرثائك؟/ هل تسخرين مني؟/ لن أغفر لك ذلك أبدا./ لكن الآن/ ما العمل؟/ بعد أن رتبت حياتي المقبلة بالفعل؟/ (………….)/ أيتها الجبانة/ لقد أفسدتِ كل شيء.
إن هم خلق القصيدة هو الذي يعلو على كل شيء في هذا الديوان. ويتصدر الديوان منذ القصيدة الأولى «مرآة الشاعر»:
أيها الشاعر: انتبه/ هل ستخرج على هذه الصورة؟!/ هل ستهبط من وكرك قاصدا المدينة هكذا؟/ ألن تنتهي أولا من القصيدة التي بدأتها لتوك؟/ أنت أيها الهارب ../ من تظن نفسك؟/ أتظن أنك قادر على الفرار، ثم الفرار،/ هكذا إلى الأبد!
وفي قصيدة «إيروتيكية» يشكل الشاعر صورة بديعة لفعل الغواية والقنص للقصيدة برؤية تتخلى عن الافتراس أو الاضطراب والهياج الحسي التي سيطرت على صور التواصل في الديوانين السابقين، في إيقاع أكثر هدوءا وأكثر ثقة ومكرا في فعل القنص: لا ../ لن أنداح أبعد من ذلك/ لن أقع أنا هذه المرة أيضا/ في الشرك الذي أنسجه لك/ خذيها/ خذي البلوزة./ خذي بطنك المدورة ذات الأعكان/ والثنيات الوفيرة./ خذي جبهتك العريضة/ وشعرك السائل المنحول/ وحاجبيك الخفيفين./ خذي فمك الشهواني الغليظ/ وابتسامتك البنية المتوحشة./ خذي ساقيك القصيرتين الملفوفتين/ حديقة الزغب المهملة/ التي تستشري فيها الحشائش البرية السوداء./ خذي صدرك الضامر القوي/ بحلمتيه الوقحتين..كإصبعين./ خذي كل ما يخصك ودعيني أغفو?543; أتوسل إليكِ?543; لا تخافي/ اقتربي قليلا..أكثر/ اطمئني تماما../ ها ها هااااي/ ما جدوى صراخك الآن أيتها الحمقاء/ كان الأجدر بك أن تظلي بعيدة كما كنتِ/ وأن تنتشيها مثلا..بخطاف طويل؟/ ألم يدر في خلدك / أن خيالي المحموم/ خيالي الشقي/ ربما يكون رابضا يتربص في أحد الأركان؟!!
هَمْ مْ مْ مْ مْ.
تنتمي معظم عناوين القصائد في ديوان «عين سارحة وعين مندهشة» لمصطلحات علم النفس مثل (نرجسية ـ ايروتيكية ـ مازوكية ..إلخ) إذ تتمحور كل قصائد الديوان تقريبا حول هذه «الذات». إنها هنا ليست الذات الكونية كما في «حراشف الجهم»، ولا الذات الذئبية ولا المتألهة كما في «مثل ذئب أعمى»، لكنها ذات إنسانية متوارية ـ ظاهريا على الأقل ـ تنأى عن الصخب سواء في الحب أو في القتل أو أن تلهث أو تعوي تلهفا على اشتباك في علاقة حميمة من أي نوع كان مع أي آخر كان. إنها تكاد تكون ذاتا مكتفية بانغلاقها على ذاتها، إلا في لحظات القنص. ذات لا تسعى لعلاقة حميمة حميمية الدم كما رأينا في قصيدة «ليل أحدب»، ولا تسعى لقنص من خلال افتراس صاخب مدوي كما في قصيدة «على مشارف الشعاب». ربما عن يأس من حميمية الدم، وربما عن تصالح مع المسافة التي يمكن أن تكون فاصلا في العلاقة لكنها ليست قاطعا. بل ربما ذات ماكرة تجد لذة اكبر في وجود هذه المسافة وفي استبدال لذة الغواية بلذة الافتراس في القنص.
تستبدل الذات الكامنة في الديوان بالعلاقات الصاخبة الحميمة علاقة «الأخوة»، تلك العلاقة الملتبسة التي تبقى على المسافة من الحيرة والشك في جدواها أو مصداقيتها. في قصيدة أخوة يقول للفتاة: اطمئني/ لا حب، ولا رغبة/ بدءا من الآن/ نحن أخوة في الدم/ «محارم»/ أنتِ علىّ كظهر أمي/ قالت: – حسنٌ/ وسكتت قليلا ثم قالت:/ -والأخوة عادة لا يحبوننا…/ فضلا عن أنهم لا يرغبون فينا./ -بل أحيانا يكرهوننا/ -حقا../ لكنهم فجأة يوجدون وقت الشدة/ -نعم../ لكن لا تنسى
أن الأذى لا يأتي أحيانا من أحد سواهم/ هم وحدهم/ ومضى..
كان كمن يتعلم المشي/ واختفى في أقرب زاوية/ كانت تجلس مازالت/ تحدق ذاهلة في أثر خطواته/ لم تكن تعرف حقا../ هل كان يتوجّب عليها أن تكون الآن../ سعيدة..أم تعسة./
وبدءا من الآن بالفعل تتحول لفظة الأخوة في الديوان للاسم الذي تسمى به كل علاقة لذات الشاعر مع كل آخر أيا كان، مع الفتاة التي لا يناديها سوى بـ «يا أختاه»سواء في هذه القصيدة أو في القصائد اللاحقة، أو مع أشباهه من الرجال الذين يتعرفهم في كل مكان (قصيدة مازوكية)، أو حتى مع الكلاب الذين كتب عنهم قصيدته «على مشارف الحقول». وربما من اللافت هنا أن نلفت النظر إلى أن مقارنة بين هذه القصيدة في الديوان الأخير وقصيدته «على مشارف الشعاب» من ديوان «مثل ذئب أعمى» قد تظهر بوضوح الفارق في الرؤية. ليس فقط بين الذئبية في الديوان السابق وصورة الكلاب في الديوان الأخير الذين قد نرى أنهم ينقصهم الافتراس الذي كان للرفاق في قصيدة الديوان السابق، لكنهم لا تنقصهم الثقة والتسيد رغم اغترابهم ـ مثل الشاعر ابن الريف مثلهم ـ في المدينة. وربما يذكرنا هذا بالإشارة لرواية دراكيولا للكاتب الأيرلندي برام ستوكر التي تحتفي بقوة الكلاب التي تفوق قوة الذئب وإن انعدمت رغبتهم في الافتراس. يقول في قصيدة على مشارف الحقول:
لا أكذبكم القول: لم أكن أعنى بها مثقال ذرة من قبل!/ وإن شئتم الصدق؟/ لم أكن أدري أني مولع بها / قبل هذه الليلة.
…الكلاب/ ما أجملها من كائنات!/ انبحوا أيها الأخوة/ لكم أودّ لو وقفت في الشرفة / ورفعت لكم عقيرتي/ لكن نباحي يدوي في جوفي فقط!/ لا عليكم/ ها نحن آخر الليل/ وها هي الشوارع تعود ملكا لكم/ امرحوا/ تحت أيديكم الآن مدينة بكاملها/ وبالكاد، ترون كل حين شبح آدميّ/ يمر بكم سريعا حابسا أنفاسه/ تهيجكم رائحة خوفه التي تثير غثيانكم/ فتطاردونه..حتى يتعثر في ثوبه..وينكفئ/ فتضحكون/ ثم ترجعون سعداء وقانعين
إن مقارنة أخرى بين قصيدة شروع من ديوان «مثل ذئب أعمى» وقصيدة «نرجسية» من الديوان الأخير ربما تكشف لنا بصورة أجلى كيف يسعى الشاعر في الديوان الأخير ليصفي لغته ورؤيته الشعرية حتى في مشهد القتل. تصور القصيدتان مشهد قتل المحبوبة، لكن القتل في قصيدة شروع قرين لذة السفك والافتراس، حيث «زفيري السام / يكاد يؤرجح جسدك أمامي / ….. / عندما وقعت على نظرة الرعب الجامدة.. / كما لعيني جثة تحت الأنقاض./ واستسلام عنقك الماثل للذبح../ إذعانا لقدر سماوي». وينتهي المشهد باللذة التي تتحقق من جراء هذا القتل: «وخرجت مسرعا من الغرفة / محاولا إخفاء الشيء الذي اشرأب بين فخذيّ / والقشعريرة الغامضة التي سرت في جسدي».
بينما في قصيدة «نرجسية» من ديوان «عين سارحة وعين مندهشة» تتبدل مفردات الصورة إلى عشق حقيقي لها وليس اقتناصا للذة ذاتية في القتل: رأس حبيبتي الأملس الحبيب/ يا رأس حبيبتي الأملس الحبيب/ أود أن أشجك بفأس./ آه يا صغيرتي/ كيف استطاع رأسك الضيق / طيلة هذه السنين/ أن يحتوي هذا الكم من الهلاوس المجنونة/ انصتي :/ ها هي تهج الآن ./ كجيش دبابير مذعورة يلوذ بالفرار.
لكِ الآن أن تنامي يا حبيبتي/ نامي../ ما أعذب ابتسامتك/ ابتسامتك الخالدة/ بشفتيك المبيضّتين/ وعيونك الخاوية/ التي ترنو الآن إلى بقعة في الداخل/ سحيقة / سحيقة.
وتلي هذه القصيدة مباشرة قصيدة «ذكريات» التي تحتفي بقتله هو فلا نشعر معها ومع مشهر الدماء فيها بتلك القسوة التي كانت تخلفها صورة الدم في الديوان السابق. الدم في هذا الديوان رائق، صاف، وعاء للخلق الجميل ( كما في القصيدة الأولى «مرآة الشاعر» التي استهللنا الدراسة بجزء منها) ويسمي الدم في قصائد أخرى «ماء الحياة»:
قولي../ أجيبيني بصدق أرجوكي:/ أحقا توافقين/ أن ألتف كلبلابة حول فرعك ؟/ وهل ستدعينني/ أرشف من ميسمك الرطب/ بعضا من ماء الحياة؟
هل هو هنا دراكيولا العاشق العجوز الذي ينتظر من معشوقته التي يحبها والتي ابتهلت لغوايته أن تمنحه ماء حياته؟ هل يلتف كلبلابة خضراء حولها كما كان ينسرب دراكيولا العاشق دخانا أخضر ملتفا حول جسد حبيبته؟ ربما تكون القصيدة هي ما يعشقها ، والتي ستدور خلفه من مقهى لمقهى تلملم الزوائد الروحية التي تتساقط من جسده على الأسفلت فتملأ لها وعاء عميقا من دمها وتدعها تسبح كسرب صغير من الأسماك. ربما تكون مرآة الشاعر أو ذاته التي تلازمه حتى القصيدة الأخيرة «سلملي على طه» لتلطم هذا الشاعر الهارب الذي يفر ثم يفر قبل أن ينتهي من إكمال قصيدته التي بدأها، فتلطمه ليطفر الدم الرائق من فمه قطرة قطرة وعاء تسبح فيه القصائد التي يخلقها كسرب سمك صغير
سيـــد عبــــدالله ناقد وأكاديمي من مصر