الآن فقط أحني رأسي لكل شيء، للريح والمطر والموج الثائر، أحني رأسي لأصابع جدتي الباحثة عن مكامن الملح في جوف كل موجة تتسلق ظهري في عنف لتدعكها بعروق يدها النافرة و لتقتل خوفا عاش معها عمرا، أحني جسدي لوخز السنين الفائتة القابعة بين يدي أمي لتفي بنذر ظل دينا معلقا في رقبتها منذ ان لبست السواد، الآن فقط أحني رأسي للبلل، للبلل الكثير المخزن في جوفي والرطوبة التي تسكنني والمتقاطرة حبات من شعري وملابس جدتي، وهنات أمي القلقة من بلل المطر وكثافة الموج الذي تغرس قدمها في رحم رمله لتقف متحاشية العاصفة وصوت الاعتراض في داخلها من تعريضي للماء المالح وهي الساهية عن البحر. أسلِم ساقي لدعك الأيادي وهدير الموج علهما تنبتان خطوة لم أستطيع أن أخطها على وجه الأرض،. أسلِم رأسي لعمق البحر لأغسل فكرا بنى في داخلي حواجز غير منتهية متيمنا بآخر الأقوال التي قالتها جدتي هذا الصباح في نقاش مطول بينها وبين أمي حول دعك ساقي بماء البحر كلما اكتمل القمر في الأيام العشر الوسطى من كل شهر عربي.
– البحر مثل ما ياخذ يعطي، ومثل ما يجرح يداوي.
ولكن أمي يممت وجها شطر الحزن والصمت، رأيت في عينيها رجاء بقي جامدا منذ كنت صغيرا.
– أمش، أمش حبيبي، يكفيني التعب طول الدهر.
أنا العاري الآن ليس أمام جدتي وأمي فقط وإنما أمام البحر، أمام الليل الذي انتصف على حدود وقت حددته جدتي بحاسة جديدة لم تحددها بساعة معينة. أمام عين أبي الغارقة في عمق لم يحدده لنا حتى في الأحلام الكثيرة التي زارنا فيها دون وجه، ليته حدد موجة لأطاردها بطول هذا البحر وعرضه وعمقه، وأصبح صائدا للأمواج،ليته يصرخ بالقهر الجاثم على صدر أمي بالصمت الساكن في عروق جدتي. بالعجز المتربع في ساقاي مشيرا إلى الموجة بعينها
– هذه الموجة أخذت عيني عندما عانقتني في البحر ثلاثة أيام.
عندها فقط سأرد العين المفقودة في ليلة تشبه ليلة العاصفة هذه، أجبرت جدتي أن تدفن جسدين وضع لأحدهما قطن مكان عين أخذها البحر، أنا العاري أمام أنف أبيه المقطوع يشم رائحة خوفي من البحر ورائحة استحيائي من أيادي امرأتين تغسلان جسدي عابثتين بأخص خصوصياتي.لا أملك حق الاعتراض حتى بالكلمة التي بقيت ساكنة على لساني.أنا المدد فوق الموج وتحت المطر وبين عاصفة رفعت صوتها بالبرق والرعد.
الآن فقط أحني رأسي لكل شيء، الآن فقط يبللني كل شيء حتى القمر الغائب عن سماء وقت اكتماله، يبللني حديث جدتي المكرر حول حلم نسجت من حقيقة واهمة أنها رأت جدي وأبي طوال السنوات يأكلان من جراب التمر ويمدان لها تمرة منه لم تذق مثلها على طول هذا العمر، بنظرات أجادها ترد بتأكيد لا أفهمه.
– أنا شميت ريحتهم. والحلم ما فيه ريحه.
تحكي جدتي عن يومها فتقدم ذكر أبي على ذكر جدي وتتحدث أمي عن يومها مقدمة ذكر جدي عن ذكر أبي، ويختلط علي في الفصل بينهما وأنا أقف أمام البحر عاريا إلا من خوفي منه في ليلة تشبه تفاصيل أحلامي التي تحيكها جدتي من كل مكان في البيت جلسا فيه، أكلا فيه وضحكا فيه، وماتا فيه، ومن كل دعاء من فم أمي تختم به صلاة غير واجبة في جوف الليل متضرعة فيه إلى الله الجليل، أن أشفى أمشي كما يسير الناس شافعة ذلك بدموع كثيرة وسجود مطول.
أبي المغامر بأحلامي بين عشرين عاما بلغتها بين جنبات بيته، المتحدث دائما على لسان جدتي وأمي عند انبلاج وجه الصبح وأفول كل مساء، وجدي صاحب الزندين العاليين، الواقف دائما عند حدود الذاكرة بتصميم الأبطال الذين تحكي أمي عنهم عندما تبدأ أنفاس جدتي بانتظام في خفوت ويمحو الأرق الطويل النوم من أجفاني و قلب أمي المشتعل بالتفكير المكرر حول ليلة بدأت أبي صباحها برتق شباكه وبدأه جدي بفحص مركب صنعه، لم يعد المركب، ووجدوا جدي منتفخا من فيض بحر شرب منه لثلاث ليال. وعاد أبي مربوطا في لوح خشب دون أن تعرف جدتي إجابة لسؤالها حول مصير العين التي كحلتها طويلا وهو صغير لتحافظ على نظره.
أجرب أن أنسلخ من جدتي، من أمي، من ليلة أبي وجدي، من خطوة أبت أن تخضع لإرادتي، أجرب أن أنسلخ من نفسي من هذا البحر أمامي ـ يرشقني بموجه وأرشقه بخوفي . أقف لا أنسلخ حتى من دمعي الذي اختلط بملح البحر وثورة السماء هذه الليلة.
جدتي خائفة من البحر، من بلل السنوات، من تجدد مخزون الدمع فينا بعد أن ظننت أنه نفد واعتبرت رؤية البحر ككحل يسرق نظرها فأقفلت عليها بابا من والسكون والرهبة وأقفلت على أمي أبوابا موصدة بين الحرام المشدد والمكروه المحرم، بابا من تحريم رؤية الحياة بمنظور الأحياء وبابا من طفل ثقلت ساقاه من حمل جسده ليكسر في داخلها خاطر أن يكون ساقا لها في شيخوختها وبابا من حديد صدئ بقيت أمي آخذة بزمامه لم تكشف مكنونات ما في داخلها إلا رجل منحته له كل العمر في ليال أخذ السهاد منهما لذة النوم، ولكنه أسند رأسه للموج والريح قبل أن يكتمل حلمه بمعرفة خلق جديد إلا بعد أن وسد رأسه التراب بشهرين، تاركا للآخرين أن يحسموا أمر أي موجة أخذت بعينه تاركا للأيام إفصاح مصير صراخ اشتاق لاحتضانه لأربع سنوات أو يزيد لن يعرف أنه انبعث من غرفته. تاركا مضغة معلقة بأهداب الحياة لم تحدد ملامحها إلا بالدمع الغزير على الخدود الكثيرة التي زارتنا ذلك اليوم، وطمر الخطوات في ساقين معرضتين لغضب البحر الآن،كانتا كأعميين يقود كل منهما الآخر إلى مجهول لا يعرفانه. وكنت بينهما غير مبصر إلا عجزي .
في عمر السنتين حملتني أمي لتسقيني من كل الأدوية الموصوفة لها من كل لسان المجرب أو غير المجرب لترى وحيدها يسير تابعة خطواته باحثة عنه إذا غاب عن ناظريها، لتتباهى به أمام أترابه وتفتخر به أمام أترابها، دعت مطولا ليتساوى نمو الساقين مع نمو أعضاء جسده الأخرى،أذكرها الآن واضحة أمامي كموج البحر العاصف، ككلمة أعياها أن تعرف معناها في كل قاموس، تأخذني من بين أغطيتي توقفني، مرة، مرتين، وتحاول الثالثة، وتصل للعاشرة أسقط أمام قدميها في كل مرة، تصرخ في:
– أمشي، امشي.
يتناثر ريقها في الفضاء القريب من فمها.
تعود لتبكي بمرارة وعجز. تضمني إليها، أصبح رفيقا للفراش.
في عمر السنتين طافت بي جدتي تبيعني في قفير بال على نساء القرية، عرضتني بأبخس الأثمان، أرادت كما تقول أن يشتريني الإنس قبل أن يقول الجن كلمتهم فيأخذوا بقية جسدي كما أخذوا الخطوات من قدمي من قبل، تذبح لي دجاجتها وتدعك الساقين بالدم، بالزعفران، تسأل كل رجل كُشفت عنه الحجب وكل امرأة طيبت بيتها باللبان، طافت على كل عين باسطة نذرا خالف ما اتصل بروحها من،أمان… تمد جذرا للعائلة ليورق في جذع شجرة بأرض ليست ذات قحط. فيتفرع بجذور السنين القادمة، ويحمل أسماء من أحبت والتصقت بهم بجذور أيامها و أيام أمي وأخيرا قالت بإلحاح من يتقمص أرواح الراحلين في داخل جسد لم يكتب له طبع خطوة على أديم الأرض.
– البحر مثل ما يأخذ يعطي، ومثل ما يجرح يداوي.
أفكر في أبي الذي بقي بين أجفاني طوال الليل الآن بدلا من تفكيري في أمي التي أخذت تدعك ساقي ضامة المطر والعاصفة، أفكر بجدي الذي غزل أسطورة البطولة بربط ابنه إلى لوح بعد أن عرف أن صديقه الذي مخر عبابه قد غدر به في وقت لم ينفعه فيه الزندان العاليان بدلا من أفكر من توجس جدتي من البحر وعجزي الذي طال. أستجير بهما من السعي الدائم لأمي وجدتي ذهابا وإيابا إلى البحر بعد أن حددتا اكتمال وجه القمر في وسط السماء في الأيام العشرة الوسطى من كل شهر عربي وقتا تهبانه للبحر ليغسل العجز عن ساقي، معللتان بشبه حدث قبل ولادتي عندما زارتاه رجاء في خصب يغزو جفاف أرض أمي من بذور الأبناء والبنات والذين اختارت أسماءهم سلفا ودأبت أن تكنيه باسم جدي والذي أصبح ملتصقا بالأرض مثلي.
رحمـــة المغيــزويـة قاصة من عُمان