عندما باغت المخاض حبيبة وهي في زريبة المواشي، تركت ضرع بقرتها وجثت على ظهرها وفرجت بين ساقيها لتفسح الطريق للوليد، فجاءت الولادة يسيرة كانبلاج الضوء فوق الجبال المحيطة بقرية الوادي. جاراتها، لما هرعن إلى الزريبة فور سماعهن بكاء الوليد، دهشن من رؤيتها وهي مستندة على مرفقيها تنظر إلى وليدها بحيرة، فلم يكن على بطنها قبل ذاك ما يشي باكتمال أشهر الحمل أو حتى انتصافها. كانت هزيلة كفرع نخلة يابس وقد أيدتها الحياة والطبيعة وأديم أسلافها بقوة صلبة وعزيمة كالحجر. عندما امتلأت أنفاس الوليد برائحة الروث وتشربت عيناه من بهيم ظلمة الزريبة، تركته حبيبة لرعاية جاراتها وعادت إلى البقرة. ولأنها جديدة العهد بالأمومة، بقيت حردة تجاه الوليد ولما تمحظه اهتماما أكثر مما يكفي لإسكاته عن البكاء. لكن العاطفة تدفقت إليها فجأة كفيض إلهي يوم بدأت الصغيرة تتعثر بأولى خطواتها، وأصبح حبها لابنتها يزيد عن حب نعاجها التي لم تعد تحيطها بالدلال كالسابق. أصبحت هي وابنتها قطعة واحدة وتعلمت الصغيرة كيف تجعل من جسد الأم ملعبا لها، تتربع في أي جزء منه أو تنزلق إلى جزء آخر. وقد ألف أهالي قرية الوادي هذا الالتحام السعيد، ولو حدث وشاهدوا إحداهن منفصلة عن الأخرى فإن قلوبهم ترتعد وكأنهم يشهدون ظاهرة خارقة.
نساء القرية اللواتي جبلهن الله من طينة واحدة ونفخ فيها نزرا من سره ثم نثرهن على سفوح جبال مرعبة ذهل عنها الزمن، كن يتشاركن في الحياة كمن يعقد اجتماعا طويلا في حياكة قماش سيذهب قربانا لمعبد الطبيعة. مخلوفة العمياء التي انتبذت ناحية من السفح وسكنت كوخا مكشوفا للعراء، التي لا يتذكر أحد هل كانت يوما مبصرة ولها ظهر لم تقوسه السنون ورأس لا يتدلى كالنابض بمقربة ذراع إلى الأرض، كانت تخرج مع صياح الديك الأول وتتبع عصاها في الجهات المترامية للسفح لتعود قرب انتصاف النهار وقد عقدت على ظهرها كومة حطب وأعواد يابسة. تفردها أمام الكوخ فيأتي من لديه حاجة لإشعال نار ليأخذ منه بعد أن يرمي التحية إلى العجوز التي تكون ساعتها منشغلة بنتع الأشواك المعجونة بجلدها. يعبر الصبية من جوار كوخها في طريقهم إلى المرعى فتسألهم أن يعهدوا إليها بصغار النعاج لتناغيها ريث عودتهم. النساء يأتين إليها بين الحين والآخر أو يصطحبنها إلى القرية فتبقى هناك حتى توشك على نسيان مسكنها. وفي اليوم الذي ارتخى فيه رحم حبيبة وأفرغ حمله بيسر ماء مسكوب، كانت مخلوفة مستلقية في ركن من الدار تنوس في ملكوت عتمتها، بقيت بعدها في دار حبيبة وأصبحت حاضنة طفلتها وحصانة لها من جموح الأم.
الجبال الصخرية المحيطة بقرية الوادي، الممتدة بعدها ودونها لتغزو غور الأمداء، برؤوسها التي تشبه طقسا خرافيا، خلفتها الطبيعة منذ عهد الولادة الكبرى، تلك الدوامة الجبلية الثابتة هي نزع البقاء وشاهدة قبره في هذه المعزلة من الأرض.
يعيش سكان القرية صراع البقاء ويعتصرون منه نوى حياتهم، يعزفون على أوتاره عزفا كتيما يسري بينهم سريان الحياة في عروق شجرة نبتت في غفلة عن الطبيعة وسط كثبان ملتهبة. ولو كان لتلك الحياة غدران سرية تستقي منها فلا شك أنها النساء. إنهن بالهمهمة التي يحدثنها منذ بزوغ شمس اليوم وحتى انحسارها خلف الجبال الغربية، يفعلن وكأنهن في صلاة لا تنقطع في محراب الطبيعة المتجهم. وبخلاف السحالي المذهولات دوما من سياط الشمس التي تطاردها من حجر إلى آخر، أو الرجال الذين فسخوا عقد أعمالهم تحت شمس الظهيرة القاهرة وابتكروا معابدهم الظليلة، فنساء القرية وحدهن من ظل يماحك قائلة النهار بل ويبث فيها نفحات من طلاوة الوجود، طلاوة تخرج من عرقهن المخفوق بالمساحيق التي يستحضرنها سرا من عصارة بتلات الحناء والورس الجبلي، أو من نخالة ثمار برية مُرة أو لحاء شجيرات شط الوادي، طلاوة تتضوع من ثيابهن السوداء الحائلة إلى الزرقة الساخنة، المتشربة في بعض أجزائها بحليبهن اللاذع، طلاوة ترقص في إيقاع كلامهن الناغي الذي يجري كأصداء أمواه في قنوات مدفونة والذي ارتوت منه ألسن الرجال ولهجة الأجيال.
٭ ٭ ٭
نفس الوالي ملء رئتيه وشعر بفيض من الحبور يغمر صدره، ولما لم يطق صبرا حتى حلول الصباح، أمر ابنه أن يطرق باب نائبه ويأتي به لساعته. ظلمة سميكة حجبت مركز الولاية وأذابت فيها هيبة الحصن الذي لم يعد شيء يدل على سلطته سوى لسان ضوء شاحب ما برح يلوح من حجرة الوالي. سرت حركة في بيت الحريم الذي احتل نصف الطبقة الثانية من الحصن إذ عرّج إليه ماجد ليزف الخبر إلى أمه.
– كأن الوالد اقتنع أخيرا!
– مبروك يا ولدي.
في عصر ذلك اليوم وصل إلى الحصن الشيخ حمود: شيخ قبيلته في قرية الوادي ومن انتسب إليها في القرى المجاورة. يعرفه الوالي مذ كان يعمل في ولاية الجبل التي تشمل قرية الوادي إلى أعمالها. ولأنه اعتاد أن يذوق من أطايب كل ناحية يقوم فيها، أوكل الوالي إلى الشيخ أمر اختيار زوجة له، واتخذه شاهدا على الزواج بها بعد أن طلق زوجة من زوجاته الأربع. مر على ذلك ثلاثون عاما دخلت خلالها بيت الحريم وخرجت نساء من شتى الأعمار والسمات والأحجام، ولما فاتحه الشيخ عن غرضه من الزيارة، مسد الوالي لحيته الفضية الكثيفة وربت على كرشه الضخمة وبرقت في عينيه الضيقتين فكرة أنارت وجهه.
– طيب يا شيخ حمود، أعطيناك ابنتنا حلالا على سنة الله ورسوله، ولكن ربما سيترتب عليك أخذها هي وأمها. المرأة مريضة وليس لها سوى هذه الابنة ترعاها.
فطن الشيخ لما يرمي إليه الوالي فأجابه بضحكة وخزت عظامه الضعيفة، وفي المساء، بينما هو نائم في مضافة الحصن، دخل إليه الوالي بصحبة اثنين من العساكر.
– بعون الله عزمنا على الزواج.
– على بركة الله.. ولكن ألا تؤجل ذلك إلى الصباح؟
– إذا عزمتم فتوكلوا، والشاهدان هنا.
أتى ماجد بصحبة النائب الذي بان عليه أنه سُرق من نومه عنوة… ومحاطون بانعكاسات ظلالهم في جدران الحصن، حسموا أمرهم قبل أن تختنق ذؤابة الشحم في القنديل.
– ابنتي وكل ما أملك رهن إشارتك.. ولكن ما أعرفه أن في بيتك أربع نساء!
– اعتبرني طلقت واحدة.
– …..
– أنت أبوها وبيدك أن توافق أو ترفض ويكون الأمر منتهيا منذ الساعة.
– ولكنها ما زالت صغيرة!
– تعني أنها صغيرة على عجوز مثلي!
– لا أقصد…
– كما تريد.. دعها لديك وسنجد غيرك يزوجنا.
– معاذ الله! أنت الوالي وكلامك أمر مطاع.
– باسم الله إذن…
– باسم الله.
كان ماجد صامتا يتجرع حسرته، ولما انفض الجمع، قام يحمل القنديل وتقدم أباه إلى حجرته.
– سنجد لك زوجة أخرى.. لا تهتم، أنت شاب والحياة أمامك فدع أباك العجوز يستريح في آخر أيامه. أخبر الخادمة أن تجهز الغرفة فالعروس في الطريق.
صباحا كان في بيت الحريم خمس نساء، وعلى غير العادة، سكن الصمت جنباته، والزوجات مكثن في غرفهن كأنهن رفوف مهجورة، يصخن السمع إلى العتبات وينظرن إلى الأبواب بانتظار لحظة ولوج الوالي. على حين غرة انتفض الصمت وقد داهمه بكاء مخنوق، ولما خرج الوالي من غرفة أم حبيبة، تتقدمه كرشه الهائلة، هرعت نسوة الحصن إلى أم حبيبة فعاد الصخب إلى بيت الحريم.
٭ ٭ ٭
عندما بلغه خبر إنجاب زوجته كان الشيخ حمود يعالج أخته بالقرآن. صمت عن ترتيله الهامس فوق رأسها واستجاب لقبلاتها على ظهر راحته.
– الحمد لله يا شيخي… جاء فرجه من حبيبة.
– تأخر كثيرا، ولكن نحمده تعالى على كل حال.
– سمها على اسم الوالدة!
– أسميها فاطمة.. على اسمك أنت.
بقي الشيخ بجوار أخته إلى أن أسلمت روحها، وطار الخبر يطرق أبواب البيوت بابا بعد آخر، تاركا علامة فيها. تقاطر الناس إلى بيتها، قاطعين الدروب الحجرية وقد هد الحزن عظامهم وأزاغ خطواتهم. بكاء النساء يصدر من البيت لا لحن فيه ولا أنين: نغم فخيم يهوي في بطن الوادي. تريد النساء أن تمزج في حناجرها سيرة الحياة والعدم، الحياة وفقدانها، سيرة المرأة التي سار عليها الموت، تمزجها بذكرى الظلال وحداء الليل في نواح بنات آوى، بالتراب والطين ومرأى الماء والجبل. تحركوا في طريق المقبرة واقترب بكاء النساء من الجبل مرسلا هديره إلى أرحام الكهوف فكأن الأجداد جاءوا منها للقاء الساكن الجديد. ولما غاب الجثمان في الحفرة وأهيل عليه التراب، حينذاك أطلقت الحناجر عويلا حادا كالنصل، انفصم منه فضاء المقبرة ثم عاد فالتأم.
٭ ٭ ٭
بعد وفاة أمه، لم يبق لسرحان أحد أقرب إليه من خاله، فعزم هذا على اصطحابه ليعيش معه في بيته. لم يكن باديا على مرأى الفتى أنه مصاب بموت أمه؛ عينان صغيرتان غائرتان لا تفصحان عن شيء غير ما تفصح عنه آثار الرمد والقيح المزمن في مدمعيه. الابتسامة الخجولة نفسها ظلت محفورة في وجهه كما لو أنها درعه الوحيد الذي يذود عنه سلوك الحياة وشقاوتها.
عند مطلع اليوم الأول في بيت خاله، ومن غير أن يسأله أحد، استفاق سرحان من نومه وترك فراشه وسار إلى الحقل. كان يعرفه جيدا، فطالما أرسلته أمه لمساعدة خاله في الفلاحة، خلا ذلك فهو يعرف حقول القرية معرفته لإسمه ويرى فيها بعينيه المريضتين ما لا يراه غيره، فمنذ أن أرشدوه إلى طريق الحقل أول مرة، أصبح يعود إليه عند ارتعاش الضوء على قمم النخيل. يستنشق من نداوته المترعة بالضوء الخمري والصمت الحالم، فيشعر برعشة لذيذة تجري في جسده الناحل، تمشطه بوخز طري حتى تبلل رؤوس أصابعه الخشنة.
وقف أمام نخلة في منتصف عمرها، جذعها عريض وليفها مشبع بالحمرة، لولا أنها مالت وأحنت رأسها فتدلت أعذاقها كمن كشفت أثداءها للهواء. وكعادته عندما يسترعيه أمر لتوسيع مجال نظره، أمال رأسه ميلا جانبيا خفيفا وأغمض إحدى عينيه ليرمقها بنظرة حاول أن يديمها قدر استطاعته. كرر ذلك مرات عديدة حتى ندت منه ضحكة أزاحته عن مكانه ودفعته ليقفز بين خوابي الحقل، وعندما باشر في طلوع النخيل الأخريات، كان يهمس إلى رؤوسها ضاحكا فكأنه يسر إليها عن حال ذات الأثداء العارية.
٭ ٭ ٭
عدا أن رافق أباه إلى غرفته، مد ماجد خطوه إلى خارج الحصن فلحق بالنائب وهو في طريقه إلى بيته.
– انقضى الأمر يا ولدي وليس باليد حيلة.
– كيف هان عليك كل شيء ولم تعترض ولو بكلمة؟
– ومن أكون لأعترض!؟ أنا عبد فقير وهو الوالي ولا أستطيع إلا أن أطيع.
– وهل نسيت ما كان بيننا؟ هل نسيت أنني صاحب هذا الحصن بعده؟
– كن في مكاني وأحكم بنفسك! رفضي هو خروجي عن طاعته وأنت تعلم الباقي وما سيحل بي.
– اطمئن ودع الأمر عليّ.. سأتدبر الأمر قبل انقضاء هذه الليلة.
– وما الذي تنوي فعله!؟
– ما أطلبه منك أن تدخل عليها وتخبرها أنها ستزف إليّ هذه الليلة.. أخبرها أن هذه رغبة الوالد ولا بد من تنفيذها.
– لم أفهم! وماذا بعد؟
– سأنتظركم في منتصف الطريق.. سآخذها معي لنعيش في حمى أخوالي.
– هل فقدت عقلك!؟ استعذ بالله يا ابني واسمع ما أقوله: عد الآن إلى الحصن وأُشهد الله أني سأجد لك من هي أجمل منها.
– لن أعود عما عزمت عليه ولو فصل عني رأسي. سئمت ألاعيب هذا الثعلب العجوز وأقسم بربي أنه لا يريد الزواج رغبة فيه قدر ما يتعمد مكايدتي.
– ولكننا عقدنا القران وهي زوجته بشرع الله.. أتعلم ما يعني هذا!؟
– أعلم وأعاهدك أمام الله أن لا أقربها قبل أن يصلني خبر طلاقها. لن يطول ذلك فليس من عادة بيت حريمه أن يخلو من الرابعة.
– فليكن ما تريده.. ولكن ماذا سأقول له وهل فكرت بعاقبتي؟
– لا علاقة لك بشيء.. أخبره أني هجمت عليكم وانتزعتها بالسلاح.
– ولو عرف مكانك؟ لو تبعك وعرف كل شيء؟
– ومن أين له أن يعرف!؟ ما زال الليل في أوله وغدا سأكون بجوار أخوالي.
– لن يعوزه شيء لمعرفة ذلك، كنت بجوار أخوالك أو في آخر الدنيا.
– فليعرف يا عم… هل تظن أخوالي سيتركونني له ولو بحد السيف؟
– العن الشيطان يا ابني ودع الليلة تنتهي بخير.. إنها مشيئة الله وعلينا أن نرضى بذلك.
– ما لدي قلته ولن أتراجع عنه. سأبقى هنا ولن أدعها تدخل الحصن ولو على جثتي.
عبثت الهواجس بالنائب وهو يلتمس طريقه في حلكة الليل وتكاثرت عليه الأسئلة فيما سيفعله بعد قليل. فكر في العودة ليثنيه عن لعبته الخاسرة، ولكنه تراجع عندما كر في ذهنه بريق التحدي في عينيه وتلك النبرة الصلبة التي تحدث بها معه. من حلكة الظلام انقشعت أمامه فجوة لمعت كعين الذئب، ظهر فيها الوالي بوجهه ذي القسمات التي تجعل الناظر إليها يلوب في دوامة من الجلال المكفهر، يعتمر عمامته المتربعة على رأسه مثل سحابة ثخينة مكنت على رأس جبل. خطر له وهو جامد يستمع بكلل إلى شكاوى الخصوم واستعاد صوته الجارح وهو ينطق حكمه الفصل، وقبل أن يلج النائب بيته، شعر بعباءة الليل تنشق من خلفه، يبزغ منها خنجر الوالي مبتسما كهلال ماكر.
٭ ٭ ٭
بضعة الأيام التي قضاها الشيخ حمود في ضيافة الحصن هي أطول إقامة له في مركز الولاية، كان قبلها يمر منه مرور الكرام: في ذهابه أو عودته من الصحراء حيث يسكن أقاربه. في كل مرة كان يصادفه شعور مضنٍ لا يعرف كنهه فيظل يحمله في سفره الطويل حتى وصوله ولقائه بأهله. وخلا تلك المرتين اليتيمتين اللتين التقى فيهما بالوالي: عندما أعطاه يد ابنته ولما أيقظه ليلا ليستخره في عقد قرانه بابنة النائب، لم يره من بعد. يخرج قبل بزوغ الفجر إلى المسجد المجاور للحصن فيبقى هناك حتى يتلبد صمت المسجد بالصخب القادم من السوق، يتركه بعدها ليبدد سحابة نهاره بين متكأ بوابة الحصن وبين أروقة السوق أو أنه يقفل عائدا إلى المسجد.. ولم يسمح لنفسه بأكثر من ذلك.
الشمس أشد قسوة من شمس قريته ولهيبها يسلخ الحجر قبل البشر، مع ذلك يرى الناس وهم يلبدون تحتها وكأنهم ينتظرون شيئا عظيما سحريا يجهله! ولما لم يكن من طبعه أن يسأل كثيرا ولا قليلا، فقد ظل أمر الناس في المركز مبعثا لحيرته ومصدرا لتعكير دخيلته. أناس آخرون يشبهونه كانوا ينتشرون فرادا وجماعات تحت حائط الحصن، ينظرون ساهمين إلى الساحة أمامهم أو يتثاءبون ويحركون رؤوسهم بكسل، وفي كل مرة يظهر فيها الحارس من بوابة الحصن حاملا صينية التمر، كانوا يلتفون حوله ويقيمون حزام أحاديثهم. سأل أحد العساكر عن أمرهم، فأخبره أنهم يأتون من القرى المجاورة طمعا في مساعدة أو تلمسا لمقابلة الوالي ويبقون أياما تحت الجدار إلى أن تعاف بطونهم التمر. أمر واحد كان موقنا منه ويشعر به مثلما يشعر بألسنة اللهب تشوي لحمه وهو قلة شأنه وضآلة مقداره وسط جلبة الأصوات والبشر، ما جعله ناقما على نفسه طيلة إقامته ويلومها على المجيء.
انتظر ثلاثة أيام، وفي صبيحة اليوم الرابع، سأل العسكري القائم على ضيافته أن يأخذه إلى الوالي مثلما دأب على سؤاله في الأيام السابقة، وكالأيام السابقة سمع الجواب نفسه: «لا يمكن في الوقت الحاضر، الوالي في شغل هام من أمره».
إذا رأيته قل له أن حمود بن سليمان الذي تزوج ابنته منذ ثلاثة أيام عاد إلى بيته ، فإن شاء أرسلها إليّ وإن شاء فليدخرها في حصنه – ثم ولىّ ظهره للحصن ورمى رحله ضاربا الطريق إلى قريته.
ــــــــــــــــــ
٭ جزء من مجمل نص أطول.
أحمد محمد الرحبي كاتب عُماني يعيش في موسكو