كان بناء فرنسا لهويتها القومية الحديثة قد تم دعمه وتعزيزه عن طريق هدف ديمقراطي بعينه قائم على أساس الوحدة والمساواة. إلا أن واحدًا من النتاجات الثانوية لهذه المبادئ التقدمية كان الميل إلى المركزية والتجانس (إنكار الاختلاف) (سيلفرمان 19999). وعلى الرغم من أن هذا الميل إلى المركزية والتجانس في مواجهة التشظي وتعدد الثقافات في المجتمع الحديث كان محل سؤال، إلا أن مقدارًا عظيمًا من هوية فرنسا وثقافتها يمكن التعرف عليه وتحديده من خلال أفكار مركزية. كما هو معهود وكسمة خاصة، نجد جزءًا كبيرًا من سلطات البلد الإدارية، ومن سياستها بالإضافة إلى الحياة الثقافية، ورمزيتها القومية، لا يزال راسيًا داخل نطاق عاصمتها، باريس. وهذا صحيح أيضًا فيما يتعلق بالسينما الفرنسية. وبصفة عامة، فيما يتعلق بتمثيلها الاقتصادي والاستراتيجي، فإن القطاع الفرنسي السائد يميل إلى إعادة إنتاج هذا المعنى المتعلق بقوة الجذب المركزية في قلب التعريف القومي للدولة، وهو يساعد في تشكيل أو صياغة بعض الأساطير التي تعمل على إثراء الإحساس بالهوية الجماعية المستمدة منه (هايوارد 1993).
ومع ذلك فقد كان إنتاج السينما الفرنسية كافيًا دائمًا فيما يتعلق بالعدد وبالتعدد والتنوع بحيث سمح بالتطوير، جنبًا إلى جنب مع «سيطرة» أنواع بعينها خاصة بالسينما القومية، واتجاهات مؤثرة ذات ميل مقاوم ساعدت ليس فقط من خلال الأسئلة والاعتراضات وإنما أيضًا، من خلال التفاعل والتبادل، ساعدت في تجديد الممارسات التي كانت تمثل تيارًا سائدًا في صناعة الأفلام والإخراج. وسوف يركز هذا الفصل على السينما الفرنسية الحديثة (أواخر الثمانينيات وحتى الوقت الراهن) التي تصب في فئة الأفلام الروائية الطويلة التقليدية، وتوزيعها عبر الشبكات النمطية، لكن مع ذلك هناك ذلك الحيود في الموضوعات الرئيسية والشكل عن الجزء الأكبر، والأكثر رسوخًا، من الإنتاج السينمائي. (لأسباب عملية، فإن هذا الملخص القصير لا يتضمن الأفلام القصيرة والسينما التجريبية، وهو ما سيستلزم بالضرورة دراسة منفصلة خاصة بهما).
إن تنوع الأساليب وعدم وضوح تعريفات للنوع يحولان دون التصنيفات السهلة، إلا أن هناك نقطة تقارب بين عدد كبير من الأفلام التي تم توزيعها وعرضها بعيدًا عن هيمنة الاتجاهات التجارية في تلك الفترة. وهي تشهد اهتمامًا متجددًا فيما يتعلق بتصوير آليات الاستبعاد والتهميش في فرنسا المعاصرة. الأفلام التي «تدور في إطار حقيقي، وتعمل على تناول الحقيقة» (بلهر ٢٠٠٠: ص ٥١)، تشكك أيضًا في اختزال السينما وتقليص دورها إلى مجرد وسيلة ترفيه أو «مشاهد أو عرض محض» (بيجنيت ٢٠٠٠). يفرق «رينيه بريدال» (٢٠٠٢: ص٥٢١) أكثر بين السينما التي ينشغل مخرجوها (بالتزام سياسي) مثل «برتراند تافرنييه»(٢) الذي تميل أفلامه إلى إعادة بناء الواقع لكي تبرهن على وجه نظر خاصة، ومجموعة من المخرجين الجدد الذين يتناولون «الواقع» كنقطة انطلاق لهم. ومع ذلك فإن السمات الرئيسية لهذه الطرق في الإخراج لا يمكن المساواة بينها وبين المبادئ «البازانية»(٣) (نسبة إلى أندريه بازان) الخاصة بشفافية الواقعية الجديدة: على الرغم من تنوع الطرق والأساليب، فإن السينما في فترة التسعينيات تستقي مادتها الخام من الواقع إلا أنها تعمل على صياغته وتشكيله ثم تعيد تقديمه في قالب معين من الرؤى والتصورات الخاصة بواقع معقد ومتغير.
عودة الواقع؟
في الثمانينيات، حتى الأنواع السينمائية الأكثر رسوخًا مثل الأنواع الكوميدية و«البولار» (قصص مثيرة على الطريقة الفرنسية) بدت مضطلعة بنوع من الأعمال الإنتاجية السخية التي كان أفضل مثال لها هو الأفلام التي تم تنفيذها بأساليب سينمائية تنتمي إلى «سينما دو لوك» و«هيرتاج» أو (التراث). وأصبحت السينما المرتبطة بالميزانيات الكبيرة، ومشاهير الممثلين، والإعلانات الدعائية الضخمة، والوعد بمتعة بصرية مدهشة، أصبحت هي السينما ذات الاتجاه المهيمن. وكإنتاج ثانوي، بدا الميل الخجول إلى الابتعاد عن كل ما هو أيديولوجي ونقدي لصالح ما هو حنيني، وترفيهي، و«جمالي»، بدا أنه القاعدة المهيمنة (أوستن 1996، باون ١٩٩٩). ومع ذلك حتى فيما يتخطى حدود العمل الاختياري لقلة من المخرجين المستقلين المعروفين، فإن الإنتاج السينمائي في أواخر الثمانينيات كان يحتضن بالفعل علامات للتحول.
على الرغم من أن الأسلوب المميز لـ «سينما دو لوك» الآخذة في التلاشي مستوعبًا في نوعية قصص الحركة المثيرة (الأفلام التي قام بإنتاجها أو إخراجها «لوك بيسون» على وجه الخصوص)، ورغم استمرار هيمنة سينما «التراث«، إلا أن الفترة ما بين أواخر الثمانينيات وعام 2000 تم تناولها بالمناقشة في كثير من الأحيان في ضوء «عودة الواقع» (باوري ١٩٩٩، تيسون 2001). عدد غير مسبوق من المخرجين غير المعروفين أو الذين قدموا أعمالهم لأول مرة أثبتوا أنفسهم في تلك الفترة، وبدأ هذا العدد من المخرجين الجدد في تطوير أساليب ذات ميزانيات منخفضة جدًا على عكس الاتجاهات المهيمنة. وفيما يتعلق بالشروط المالية، فإن وجود هذه «السينما الفرنسية الشابة»(٤) لم يعتمد فقط على تطوير طرق في الإخراج السينمائي أقل إرهاقًا من الناحية المادية (بصفة خاصة، استخدام كاميرا من نوع «دي في دي»(٥)، وإنما أيضًا على الدور المتواصل لهياكل الدعم القومي مثل «المركز القومي للسينما» ونظام القروض avance sur recettes). (٦) عن طريق الجمع بين التمويل والعمولات الممنوحة من قنوات التليفزيون والدعم المقدم من المجالس المحلية والإقليمية، فإن هذه السياسة التي انتهجتها الدولة، على الرغم من عيوبها الواضحة(٧)، ساهمت بصورة كبيرة في الحفاظ على القطاع غير التجاري من السينما الفرنسية في حالة من النشاط والحيوية. وفي سنوات التسعينيات، لعبت دورًا محددًا في التيار الجارف من الأفلام الروائية الأولى التي قدمت في كثير من الأحيان رؤية نقدية للمجتمع المعاصر. لكن في حالات كثيرة، عوض إصرار وبراعة وعبقرية المخرجين غياب الدعم المالي الكافي (واحد من أكثر الأمثلة إدهاشًا هو فيلم «الحي الفقير» (1995) للمخرج «جان فرانسوا ريشيت»، الذي يرجع الفضل في إنتاجه إلى المال الذي تم الحصول عليه من الكازينوهات، حيث أنفق المخرج والسيناريست في هذه الكازينوهات أموال إعانات البطالة الخاصة بهما).
يستعين جزء من «السينما الفرنسية الشابة» بتقاليد «سينما المؤلف» الفنية والأدبية، وأيضًا يقوم بالتركيز على البيئات الخاصة بالطبقات الوسطى المثقفة(٨)، ولكن مع تقديم أيضًا سينما خاصة بالمناطق الهامشية، وهي تلك السينما التي تعمل على تصوير المناطق الكئيبة والمظلمة في المجتمع الفرنسي وتتناول قضايا العوز والفقر والاغتراب. هذا الإحياء للاهتمامات السياسية والاجتماعية في السينما الفرنسية – لاقى دعمًا ومساندة، على سبيل المثال، من جانب «دعوة إلى العصيان والتمرد» في عام 1997، وهي التماس مكتوب، وموقع، تم توزيعه ونشره من جانب مجموعة من المخرجين كاحتجاج ضد سياسات الهجرة – يظهر على خلفية تاريخية ذات خصوصية هامة: فشل السياسات اليسارية وخيبة الأمل التي نتجت عن اتساع الفجوة الاجتماعية الاقتصادية أو عن التصدع الاجتماعي. بصفة خاصة، تسببت توليفة دائمة، قوامها التقسيم العرقي، والبطالة، ونقص الفرص المتاحة في فرنسا ما بعد الاستعمار، تسببت في وضع متفجر في بعض الضواحي، وفي تبني بعض قطاعات الرأي العام للراديكالية أو التطرف. على الرغم من اتصال هذه القضايا ببعضها البعض، وإن كان بصورة معقدة، وإثارتها بشكل واضح أو ضمني فيما تم تقديمه من أفلام، إلا أن السينما الفرنسية الخاصة بالمناطق الهامشية استعانت أيضًا بمنظومة عريضة من التقاليد السينمائية: من أفلام أصحاب «سينما المؤلف» المحنكين المنتمين إلى الموجة الجديدة وحتى السينما الأمريكية ذات الأصل الأفريقي والسينما الواقعية البريطانية، وكل هذه المرجعيات المتباينة المتداخلة نصيًا فيما بينها تساهم في التنوع الذي عليه هذه الأفلام.
«آنييس فاردا» وتقاليد الارتباط بسينما المؤلف بسبب تأكيدها على الرؤية الشخصية الخاصة والأسلوب الفردي، وفرت سينما المؤلف دائمًا بدائل مغايرة للطرق والأساليب السائدة، وذلك فيما يتعلق بكل من تقنيات الإنتاج ومادة الموضوعات وأهميتها. تميل سينما المؤلف إلى أن تكون أفلامها ذات ميزانية منخفضة وأن تكون متميزة بحساسيتها الشديدة، وبرفضها للشخصيات والقصص التقليدية النمطية لصالح السرد الموجز، والأبطال الضد، وتدفقات الوعي. ولهذه الأسباب فقد تعرضت للرفض والنبذ في كثير من الأحيان نظرًا لتمحورها حول الذات، (الأنانية)، أي لأنها تعبير عن وجهات نظر ذات طابع ذاتي إلى حد كبير. لكن، منذ عرض أول أفلام المخرجة «آنييس فاردا» (1982) في الخمسينيات وأعمالها تنكر الخط الفاصل بين المسلك الشخصي في التناول واستكشاف القضايا الاجتماعية. وبالفعل، جمع إصرارها على تطوير أسلوبها الخاص في الإخراج بين اهتمام قوي وثابت بتصوير الشخصيات المهمشة وتقديم المناطق المحرومة من حقوقها الشرعية في المجتمع الفرنسي. وفي فيلم «التشرد» أو «دون سقف ولا قانون» (1986)، وفيلم «جامعو بقايا الحصاد وأنا» (٢٠٠٠)، يثير استكشاف المناطق الهامشية تساؤلا وجوديًا وامتحانًا للممارسات السينمائية.
فيلم «التشرد»، الذي عرض في عام 1986، كشف الغطاء عن الكثير من القضايا التي أصبحت ضرورية بالنسبة لسينما المناطق الهامشية التي ظهرت على السطح في السنوات التالية. وموضوع هذا الفيلم الغريب أو غير العادي، وطريقته المتطرفة في السرد، والمعالجة البصرية والوصفية (أو التصويرية)، جعلت منه واحدًا من أكثر الأفلام الفرنسية تحليلا في الثمانينيات، ونصًا مؤثرًا إلى حد كبير بالنسبة لنظرية السينما النسائية، أو المناصرة للمرأة. الاستعانة بجماليات الفيلم التسجيلي لكن مع إضفاء جودة فنية نموذجية هو أسلوب الإخراج الذي يميز أعمال المخرجة «فاردا». وقد قدم فيلم «التشرد» تحقيقًا عن حياة امرأة صغيرة غامضة وجدت ميتة في أحد مصارف المياه. بداية من اكتشاف جثتها ودخول صوت المعلق من جانب المخرجة «فاردا»، يتناوب السرد بعد ذلك بين مقابلات مع الناس الذين التقوا بالفتاة، وهي متشردة تدعى «مونا»، وعودة إلى الماضي مرات بتقنية الفلاش باك لوصف رحلتها واللقاءات المتنوعة التي ميزت الأسابيع القليلة الأخيرة من حياتها. وتشكل مجموعة من اللقطات الطويلة المصاحبة إلى جانب موسيقى حزينة، موتيفة بصرية تمنح الفيلم سرعته وتصويره للشخصية الرئيسية التي تتحرك خلال منظر طبيعي قاس وممل للشتاء الذي ضرب الجنوب. تشبه رحلة «مونا» تيارًا مضادًا، فهي تمشي من اليمين إلى اليسار، تقاوم الحدود والقوالب والمواقف المحددة، وترفض الارتباط أو الانشغال بالقواعد التقليدية لنظام التبادل الاجتماعي والاقتصادي القائم. وهي استفزازية وتصيب الآخرين بالذهول، ولا تشكر ولا تسرّ، وتفتقر إلى هبة أخيرة جوهرية: الكرم النزيه. إن وجودها من المحتمل لا يقل إحباطًا بالنسبة للمشاهد عنه بالنسبة للشخصيات الأخرى في السرد، فالحضور الجسدي للمرأة الصغيرة حضور قوي: إنها تهيمن على المكان، إنها متسخة وتنبعث منها رائحة كريهة. إلا أن العملية التقليدية لتحديد هوية الجمهور تتم إعاقتها على أية حال بسبب مراوغة الشخصية (سميث 1998: ص 125-128، هايوارد ٢٠٠٠: ص ٢٧٢). إنها تتحدث بصعوبة، وفي الطريقة التي تدخل بها وتغادر الإطار، تهرب في كثير من الأحيان من التحديق الثاقب للكاميرا. ولهذا، فإن الوزن الرمزي لوجودها يصبح بالضبط على نفس قدر التشويق الذي هو لحركاتها ووظائفها القصصية: على الرغم من أن شخصية «مونا»، في فيلم «التشرد» تشكك ليس فقط في المفاهيم والموروثات الاجتماعية وإنما في النماذج السينمائية أيضًا وفي انغماس المشاهدين في الفرجة. ومن ثم فإن الفيلم يخلق شكلا قويًا وفعالا ومقنعًا من الرفض، الشخصية التي ترفض التشيؤ والتصنيف إلا أنها تزعم في مأساوية ومن دون خجل أنها مختلفة (سميث 1998: ص811، هايوارد ٢٠٠٠: ص270).
قوانين الاستهلاك والمقايضة، على المستوى المادي والبصري معًا، تم بحثهما مرة ثانية في فيلم «جامعو بقايا الحصاد وأنا». هذه المرة المخرجة بنفسها هي التي تخرج إلى الشارع لكي تسجل أنشطة جامعي بقايا الحصاد المعاصرين – هؤلاء الذين يجمعون النفايات وكل ما لا قيمة له من أجل عيشهم، أو من أجل أسباب أخلاقية، أو لمتعتهم الخاصة. والفيلم مدين للسريالية، حيث يتطور في موازاة المبادئ الخاصة بالصدفة، والقيمة والمغزى من الأشياء التي عثر عليها والصور الموجودة. والفيلم في حد ذاته هجين، كولاج من الأساليب التي تجمع بين صور تم تنفيذها بمعدات محترفة وبين هذه المشاهد المأخوذة بكاميرا «دي في دي» صغيرة. والبنية التي عليها الهيكل القصصي للفيلم معقدة، ومصحوبة بصوت المخرجة التي تعلق عليها، وبالتقنيات المختلطة التي تتكرر في الطرق الإخراجية لدى المخرجة «فاردا»: المقابلات، وأساليب التصوير التسجيلية، واللوحات (التابلوهات) الثابتة، والتعليق الشخصي حيث يصبح جسد المخرجة ذاته مجالا للتحقيق والاستجواب. ومن ثم فإن فيلم «جامعو بقايا الحصاد وأنا» يظهر على أنه تقاطع بين الفيلم التسجيلي، والمقالة، والبورتريه الشخصي (روسيلو 2001). والتقييم النقدي لبعض آثار الاستهلاك الجماعي (للطعام، والأشياء، والصور) هو من صميم هذا الفيلم. على الرغم من أن تحقيقه في طبيعة المخلفات ونقده الضمني لهيمنة نماذج أو أمثلة من التوحيد القياسي أو المعايرة، للشباب، والجديد، يقودنا الفيلم إلى التأمل في الحرمان والشيخوخة الاجتماعية، وفي النهاية تدير «فاردا» الكاميرا إلى نفسها لتقتفي أثر العلامات الخاصة بفنائها. ومن ثم فإن عملية جمع فضلات الحصاد توحي ببديل متواضع للقواعد والتقاليد الاستهلاكية المسيطرة (لما هو جميل، ومفيد، وسينمائي…). تعطي المخرجة لنفسها دورًا كجامعة بقايا حصاد، وتقوم بجمع الصور التي تعتبر عادة غير ذات قيمة أو غير جديرة بالعرض على الشاشة، وتركز على ذلك الجزء من الواقع الذي يميل إلى الانفصال أو إلى البقاء في أو على هوامش الإطار. وفي فيلم «جامعو بقايا الحصاد: بعد سنتين»، الذي تم عرضه في عام 2003، تعود «فاردا» للبحث عن جامعي بقايا الحصاد الذين التقت بهم، وهم أناس يعيشون في الغالب في ظروف وأوضاع خطرة. وعلى الرغم من أنها تؤكد مرة ثانية على اختياراتها الأخلاقية، إلا أن هذا الفيلم الثاني يتحدى أيضًا وإلى حد بعيد الدور التقليدي للمخرج من خلال إلقاء الضوء على مسؤولياته تجاه الموضوعات التي تناولتها أفلامه أو أفلامها.
من المركز إلى الحدود الخارجية
جغرافيًا، الفيلمين اللذين تمت مناقشتهما هنا يتميزان بأنهما لا ينتميان إلى التيار الذي كان سائدًا في السينما في أواخر سنوات الثمانينيات وسنوات التسعينيات. وعرضت فيهما الأجزاء المضطهدة والمعروفة بدرجة أقل في باريس وأيضًا الأقاليم والمقاطعات غير المرموقة. ومع ذلك، ولأسباب عملية اقتضت تركيز التسهيلات الإنتاجية ومصدر التمويل في باريس، بل ولأسباب تاريخية وثقافية أيضًا، فإن باريس هي سمة لا مفر منها بالنسبة للسينما الفرنسية. التنظيم التاريخي والمعماري الخاص «بمدينة النور» حوّلها إلى مشهد مديني مغر كحالة خاصة حيث قامت أجيال من الفنانين، ومن بينهم المخرجون، بتحويلها إلى أسطورة. وقد منحوها على الشاشة معنى رمزيًا وهالة رومانسية، جعلت منها خلفية مميزة لأفلام الخيال التي فقط بإمكان التصورات الخاصة بالشمال الفرنسي الزعم في بعض الأحيان بمنافستها. و«عدم الارتباط بالمركز» (بلهر ٢٠٠٠) الذي يسم الدفعة الجديدة من الأفلام هو تحرّك هام، وهو يصاحب الانتقال من التركيز على البطل الفردي الذي يناضل لمصلحة جميع الأفراد إلى التركيز على فئات المهمشين والمجتمعات الصغيرة المعرضة للخطر.
وفيلم (Chacun cherche son chat) (1996) (٩) للمخرج «سيدرك كلابيستش» هو رمز لهذا التحول أو الانتقال. وباستثناء مشهد الإجازة الذي يستمر لثوان قليلة، فإن الفيلم يدور تمامًا داخل حدود إحدى المناطق الشعبية في باريس، وكثير من شخصيات الفيلم قام بها ممثلون غير محترفين تم الاستعانة بهم من هذه المناطق المحلية. وأماكن البناء والهدم تتخلل وتتناوب في الفيلم بين لحظة وأخرى مثل موتيفات بصرية وسمعية: الحي الصغير الذي تسكن فيه البطلة الجبانة، «كلو»، يمر بمرحلة جيشان عميقة. والوحدة التي يعاني منها أفراد مثل «كلو» تتزامن مع اختفاء المجتمعات القديمة، وإخراج الفيلم (الميزانسين) وشريط الصوت المفكك يؤكدان بشكل مستمر على الضيق الجسدي من التعايش المديني مع اللامبالاة والعزلة. لكن، على الرغم من بحث «كلو» عن قطتها المفقودة، إلا أن المتفرج مدعو إلى اكتشاف حي من الأحياء وعالم صغير حيث تجد الشابة اتصالاً إنسانيًا، وربما، حبًا. لكن على الرغم من أن الفيلم، يستحضر الوجود الخاص بالمجتمع التقليدي المرح بنوع من الحنين الواضح، إلا أنه ليس من الضروري أن يقدمه في صورة مثالية. تشير «اليزابيث عزرا» إلى أنه يكمن تحت الوصف أو التصوير الخاص بالمجتمع المترابط المتركز في مقاهيه المحلية مبدأ أوسع وأشمل من الإقصاء أو الاستبعاد. الشاب «جميل» العربي الأصل، المعرض للسخرية والحماية أيضًا من جانب المقيمين، هو جزء من المجتمع بقدر ما يقوم بوظيفة «معتوه القرية»، «الآخر» المقبول الذي لا يمثل مصدرًا للتهديد. ويوحي وجوده بأن هذا الترابط مصدر عون ومواساة مادام ثمة إمكانية محتملة لتأسيس جماعة اجتماعية تقليدية على الرغم من الأشكال الضمنية للتفرقة أو التميّز والانعزال (عزرا ١٩٩٩: ص219- ٢٢٢). ومن هنا، فإن الحنين الذي قام الفيلم بالتعبير عنه هو حنين إلى صفة أو خاصية غامضة ملتبسة: أساليب الحياة وباريس التي يتم استرجاعها، وهو ما يجعل هذا الحنين يبدو أنه بديل جذاب للتشظي المجرد من الإنسانية الذي يسم الحياة اليوم، إلا أنه مهجور وعتيق في مواجهة مجتمع معاصر متعدد الأعراق.
المدينة المتعددة الأعراق وسينما الضواحي
في نفس الوقت الذي كانت فيه عمليات «الترقية والتحسين» و«التنظيف والترتيب» للأحياء الشعبية آخذة في التقدم وبشكل متوال في قلب المدن الفرنسية الرئيسية ظهرت الضواحي والأقاليم أيضًا. كان هذا قد بدأ هذا بعد الحرب العالمية الثانية، وأخذت العملية تسير بوتيرة متسارعة في الستينيات، خاصة بعد استقلال الجزائر والاندفاع المفاجئ في أعداد العمال المهاجرين من شمال أفريقيا. هذه «الرؤية العصرية الرخيصة» (ريدر 1995: ص ١٢) تسببت في ترسيخ التدهور السريع للأحياء الحضرية أو الموجودة في قلب المدن (مجمعات سكنية لذوي الدخل المنخفض) التي عمتها البطالة والجرائم الصغيرة، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وساهم الفقر والشعور العام بخيبة الأمل في إحداث سلسلة من أعمال الشغب. أعقب ذلك، كما تبيّن من الشعبية المتزايدة لليمين المتطرف، حدوث اضطرابات واستغلال لقضية «انعدام الأمن» كسلاح سياسي أسهم في بلورة حالات القلق الاجتماعي التي يعاني منها جزء من الدولة فيما يتعلق «بمشكلة» الهجرة والضواحي. هكذا، وعلى الرغم من التحول المتزايد إلى حد كبير بالنسبة لمناطق المركز إلى مكان يعرض كل ما يمكن استهلاكه من جانب سكان المدينة أو السائحين، إلا أن(periph) (وهي اختصار لكلمة (poripherique)، بمعنى، طريق دائري أصبح مرادفًا للسياج أو للحد، الذي هو مادي ورمزي، بسبب ما شكله من أرض خراب محيطة تشكل سياجًا. بداية بفيلم «عشاق الجسر الجديد» (1990)(10) للمخرج «كاراكس» وإلى فيلم «ليس هناك شيء خاص فيما يتعلق بالناس العاديين» (1993) للمخرج «لورانس فيريرا باربوسا»، وحتى فيلم «لويس تيك٢» (١٩٩٩) للمخرج «سيجفريد»(١١)، أو حتى فيلم «ضرب بالهراوات حتى الموت» (١٩٩٩) للمخرج «يولاند زوبيرمان»، فإن الطريق الدائري ليس فقط مجرد علامة على العبور أو الانتقال من المركز إلى الضواحي: وإنما يشير إلى الرحلة من الحياة «العادية» إلى الاغتراب الاجتماعي والاقتصادي والعقلي، من أرض المعيشة إلى نوع من التطهر الروحي.
هذا التمييز لسينما الضواحي كان منصبًا على تقديم هذه القضايا بالفعل، لكن من وجهة النظر الخاصة بالجانب «الآخر»، من جانب هؤلاء الذين يسكنون قلب المدينة. والمكان هو الذي يحدد بعضًا من الأفكار الرئيسية الخاصة بالأفلام: الحرمان الاجتماعي والاقتصادي، البطالة والمخدرات، بل أيضًا التعدد العرقي داخل المدينة والعنصرية. وفي حد ذاتها، فإن سينما الضواحي تداخلت في كثير من الأحيان مع السينما «السوداء» وسينما «بيور» (لهجة الشارع العامية الخاصة بالعرب الباريسيين)، بمعنى، أنها تداخلت مع الأفلام التي قام بإخراجها مخرجون من «ذوي البشرة السوداء» أو «العرب الباريسيين»، و/أو التي ركزت على البيئات والشخصيات من السود والبيور(١٢). كان عام 1995 عامًا متميزًا بالنسبة لسينما الضواحي: فقد فاز فيلم «الحقد» للمخرج «ماتيو كازوفيتز» البالغ من العمر وقتها سبعة عشرين عامًا بجائزة أحسن مخرج في مهرجان «كان» (1996)، وذلك برغم ما أثاره من خلافات وجدالات عنيفة وغضب. وقد تم تصوير هذا الفيلم بالأبيض والأسود، والقوائم الافتتاحية الخاصة بالمشاركين فيه تظهر على تسجيل حقيقي لمعارك قام بها مجموعة من الشبان المعارضين من قلب المدينة ضد «سي آر إس» (شرطة مكافحة الشغب الفرنسية). ومن الواضح أن الفيلم انحرف بعيدًا عن القيم الفرنسية الراسخة ليس فيما يتعلق بمادة الموضوع الذي يتم تناوله فحسب وإنما أيضًا في مرجعياته السينمائية الحقيقية. وفيما يتعلق بجميع الخواص المميزة والمحددة لأماكن تصوير الفيلم، والموضوع، والشخصيات، والحوارات السريعة، وأسلوب الإخراج الخاص بفيلم «الحقد» فإن هذه جميعًا قد أثارت مقارنات مع أعمال مخرجين أميركيين مثل «جون كاسافيتز»، و«مارتن سكورسيزي»، و«سبايك لي».
يصور الفيلم يومًا واحدًا في حياة ثلاثة أصدقاء «أسود، وأبيض، وبيور» وهم «فينز اليهودي»، و«سعيد العربي»، و«هابيرت الكاريبي الأفريقي». الهيكل أو البناء الثنائي للفيلم يقسم مساحة القصة أو السرد بين مشاهد مسلسلة لحياة الشباب حسب روايتهم أي على لسانهم، ومشاهد تم تصويرها في مركز المدينة. وقد تم تصوير قلب باريس، حيث يشعر الشبان الثلاثة وبحدة أنهم في مكان غير مكانهم، بتجهيزات إضاءة خفيفة، وشريط صوتي أحادي ومجال عمقه ضحل. على العكس، على الرغم من أن الإحساس بالوقوع في شرك واضح في الأماكن الداخلية الضيقة من الشقق التي في المجمع السكني، إلا أن الأماكن الخارجية الفضاء لقلب المدينة روعي في تصويرها أن تكون من خلال حركات الكاميرا العلوية، والصوت المجسم. وهناك مثال من أروع الأمثلة على هذه التقنية وهو مشهد خاص بحفلة موسيقية مرتجلة. يبدأ التسلسل بلقطة مصاحبة عبر فناء حيث يتسكع الأطفال والمراهقون هنا وهناك ويلعبون، والمباني الخرسانية محيطة بهم. ثم يحدث قطع إلى داخل إحدى الشقق، حيث يعزف أحد الشبان الموسيقى على منضدته المشتركة. الموسيقا التي يطلقها إلى الخارج من نافذته العالية إلى الفناء تمزج بين أصوات باريس المعاصرة والأصوات التي لباريس القديمة، شذرات من «أنا لن أشعر بالندم» لـ «إديث بياف»(١٣) تتداخل وتتقاطع مع صرخات «اللعنة على الشرطة»(١٤). كما لو كانت محمولة بواسطة الموسيقا، تطير الكاميرا عبر النافذة المفتوحة إلى مشهد شاهق وشامل (بانورامي) للمجمّع السكني. بالإمكان مقارنة المشهد المتسلسل الفائت مع المشهد الذي يليه حيث يحاول الأصدقاء الثلاثة دخول بيت باريسي نموذجي راق، فيحبسون في قاعة المدخل التي تصيبهم بخوف من الأماكن الضيقة، وهم لا يدركون الشفرة التي ستتيح لهم دخول المبنى، ينحشرون معًا في الصورة التي يتم التقاطها لهم بكاميرا المراقبة التي تأسر وجوههم المشوهة بسبب تأثير عدسات «عين السمكة»(١٥). ومع ذلك فإن الفيلم لا يعطي صورة وردية عن الحياة في المجمع السكني. والسرد يتراوح ما بين المشاهد المتسلسلة الطويلة التي تصور الملل الذي لا جدوى منه ولا نهاية له والسرعات المفاجئة للمشاهد حيث يهدد العنف بحدوث انفجار وشيك. اللعب على الشعور بأن ثمة كارثة وشيكة الوقوع، هو ما تنبني عليه الحبكة الاستطرادية حيث الجو المتزايد من التوتر والاغتراب نحو ذروة تراجيدية لا مفر منها.
على الرغم من أن النقاد كانوا أكثر تأييدًا وإطراء لفيلم ((Etat des Lieux)) للمخرج «ريشيت»(٦١) وفيلم «راي» للمخرج «توماس جيلوو»(١٧) اللذين عرضا في نفس السنة (1995)، إلا أن فيلم «الحقد» أثار الحماس العام واحتل مكانته بين الأفلام الخمسة التي حققت أعلى إيرادات في شباك التذاكر الفرنسي تلك السنة. إلا أن بعض عوامل الجذب الخاصة بالفيلم تشير أيضًا إلى أوجه القصور في الرؤية التي يقدمها الفيلم. يلاحظ «كاري تار» كيف أن فيلمًا مثل «الحقد» يجعل من تعيين الهوية أمرًا سهلا وذلك عن طريق تصوير انجذاب شبان من خلفيات ثقافية وعرقية مختلفة يتمتعون «بجاذبية عالمية لأنهم منغلقون في ثقافة دولية، ذكورية، مشتهية للمغاير وتميل إلى التمرد والثورة الشبابية مع تجاهل الاختلاقات العرقية» (1993: ص341). الأكثر جدارة بالملاحظة هو اختفاء النساء تقريبًا، وهي سمة يشترك فيها فيلم «الحقد» مع العديد من أفلام سينما «البيور» و«الضواحي». فيلم(Cheb) (1991) للمخرج «رشيد بوشارب»، وفيلمي (Hexagone) (1993) و(Douce France)) (1995) للمخرج «مليك شيبان» هي أفلام واضحة كل الوضوح في احتوائها على شخصيات نسائية واعية ومدركة، كما أن هذه الأفلام قامت وبطريقة نابضة بالحياة بتشريح الوضع الفصامي الذي تعاني منه النساء الصغيرات الواقعات في الفخ في الحدود العنصرية والاجتماعية للمجتمع بمعناه الواسع والنظام العائلي المحكم ولكن الظالم في نفس الوقت.
في السنوات الأخيرة، تزايد عدد أفلام الضواحي التي نفذتها مخرجات (تار ٢٠٠٠: 153-١٧١)، والكثير من هذه الأفلام أبرزت الشخصيات النسائية في أدوار رئيسية. فيلم «العيش في الجنة» (1998) للمخرجة «بورليم دجوو»، وفيلم «يوم الأحد إن شاء الله» (2001) للمخرجة «أمينة بينجوجي»، على سبيل المثال، يصفان وضع النساء الجزائريات اللاتي لحقن بأزواجهن في الأيام المبكرة للهجرة من الشمال الأفريقي. ويركز فيلم «سامية» (2000) للمخرج «فيليب فوكون» على «البيوريتي» أو «الجيل الثاني» من الفتيات العربيات المولودات في المهجر. وقد حظي فيلم «سامية» بالمديح من جانب النقاد نظرًا لنجاح الفيلم في تجنبه الوقوع في إغراء الطرح التعليمي الذي يخضع ويذعن له الكثير من أفلام سينما الضواحي، وفيلم «سامية» لا يشرع في التعليم من خلال ضرب الأمثلة والتجارب، ومع ذلك يقدم ملاحظة ذات بصيرة نافذة عن حياة فتاة فرنسية مراهقة من أصل عربي. تظهر «سامية» ميلا أقل للالتزام بقواعد نظام التعليم عن أخواتها الأكبر سنًا، ومع ذلك فهي ترفض أن ترى مستقبلها مقيدًا داخل نطاق الحياة الأسرية، سواء إن كان على المستوى الشخصي (الزواج) أو على المستوى المهني (العمل كعاملة نظافة). ومع ذلك فهي مقيدة، وإن كان بدرجة من التبرم، بعائلتها من خلال روابط من الحب والظلم وتضييق الخناق. ومن خلال طريقة عمل الكاميرا وأسلوب الإخراج تظهر تعقيدات الحياة اليومية الخاصة «بسامية» من دون تأثيرات ميلودرامية. إطارات الأبواب وأجزاء من الجدران تحتوي على صور لشخصيات وقد تم تصويرها في لقطات متوسطة وشديدة القرب، داخل المساحة الضيقة في شقة العائلة. تحاول والدة «سامية» العمل كوسيط للربط بين ثلاث من الأخوات، وشخصية الأب الشاحبة، وأخ استبدادي، انساق إلى الأصولية والتسلط الدينيين بسبب الافتقار إلى الفرص أو إمكانيات النجاح، والتحقير والإذلال اليومي في مركز أو قلب مدينة «مارسيليا». والفيلم المفعم بحيوية النساء الصغيرات، ليس باعثًا على التشاؤم. ومع ذلك فإن نهايته المفتوحة، التي هي شديدة التميز في السينما الحديثة المستقلة، ملتبسة وغامضة. حيث تبتسم «سامية» بحزن بينما نقلها هي وواحدة من أخواتها إلى شمال أفريقيا بعيدًا عن مارسيليا في ظل التحديق المؤرق للأخ، لكن هل تم إرسالها لقضاء عطلة فحسب؟ على الرغم من ذلك، فإن الأمل، وكما تم توضيحه عن طريق بزوغ الطريق كعنصر سينمائي، كما في فيلم «وداعًا وداعًا» (1995) للمخرج «كريم دريدي»، أو في فيلم «مغامرات فيلكس» (2000) لـ«أوليفييه دكاستل وجاك مارتينيو»، أو في فيلم «النادم» (٢٠٠٢)، للمخرج «لايتيتيا ماسون»، حيث بالإمكان العثور على الأمل عن طريق الهرب من الضاحية، حتى إذا ثبت أن الجنوب والعودة (إلى البلاد التي هي مسقط رأس الآباء) هما طريق مسدود.
الواقعية الجديدة في التسعينيات
اختارت سينما «الواقعية الجديدة» في سنوات التسعينيات، بعيدًا عن باريس وضواحيها، أماكن إقليمية غير مألوفة في الغالب لتسليط الضوء عليها سينمائيًا. الضواحي الشعبية للمدن الإقليمية، والبلدات والقرى العادية، التي يسكنها أناس عاديون، بدأت تظهر على الشاشة بانتظام متزايد في التسعين يات. الخوف من البطالة والفقر، والضغوط في بيئة العمل المصحوبة بالتوترات العائلية والتي تم تصويرها من خلال السرد الموجز، حلت محل الحبكات ذات التشويق المحكم والأفعال البطولية للسينما السائدة. «دومينيك كابريرا»، و«برونو دومونت»، و«روبرت جيديجوان»، و«كلود موريراس»، و«ساندرين فييسيت»، و«إريك زونكا»، على سبيل المثال وليس الحصر، هم جزء من مجموعة كبيرة من المخرجين، في تلك الفترة التي لا تزال مجهولة تقريبًا، اختاروا التركيز على العادي والتافه والمبتذل من أجل استكشاف جوانب المجتمع الفرنسي الحديث وسبر أغواره التي تم التغافل عنها وإهمالها في كثير من الأحيان. تستدعي هذه السينما وتستحضر بشكل ما «الواقعية الشعرية» للثلاثينيات و«الواقعية الجديدة» للأربعينات. إلا أن أوجه الشبه الرئيسية الخاصة بها موجودة في التقليد الخاص بالفيلم التسجيلي، وفي أعمال المخرجين الفرنسيين المستقلين المتميزين (من بينهم «روبير بريسون»، و«آنييس فاردا»، و«جان لوك جودار»، و«موريس بيالا») وفي أفلام المخرجين البريطانيين أصحاب الاتجاه الواقعي مثل «مايك لي» و«كين لوش». وهي طريقة تستحضر بوجه عام الأدب العصري في رفضه للوصف السيكولوجي والتفسيرات السيكولوجية (بلوهر 2000)، إلا أنها أقرب إلى تقاليد الواقعية في الأهمية التي تعطيها للسياق العريض، وخصوصية البيئة الاقتصادية أو الجغرافية أو الاجتماعية التي، على الرغم من أنه نادرًا ما يتم لهذه الخصوصية أن تقوم بالشرح أو التفسير، لكنها من المحتمل أن تحدد سلوك الشخصيات. يحترم الحوار اللكنات والعبارات الاصطلاحية المحلية، واستخدام اللقطات المتسلسلة، الملائمة تمامًا لمجموعة البنى أو التركيبات (دارك 1998)، مما يدعّم الأهمية المعطاة للجماعات الصغيرة والمجتمعات المحلية. نوعية التعصب الساخر المزعومة في بداية فيلم «مارياس وجينيت» (1999) للمخرج «جيديجوان» لا تعوق أو تمنع بقية أجزاء الفيلم من أن تسبغ على الشخصيات والقصص بعدًا كونيًا تمت الإشارة إليه في كثير من الأحيان من خلال عناوينها. في نفس الوقت، تتجنب الواقعية الجديدة أية محاولة لتصنيف صارم ودقيق جدًا للنوع السينمائي: فعناصر الميلودراما قد تكون مصحوبة بعناصر هجاء وكوميديا، في حين أنه بالإمكان تضفير الوصف الواقعي بعناصر ذات طابع فنتازي وغنائي.
كانت جميع أفلام المخرج «روبرت جيديجوان» الروائية الطويلة قد تم تصويرها في مدينته «مارسيليا»، مع نفس المجموعة من الممثلين، وتبدو أو تعتبر إحياء لسابقاتها للكاتب «مارسيل بانيول» في الثلاثينيات (لكن في تناقض كامل مع التصوير السينمائي للاقتباسات الأكثر حداثة التي تم إعدادها عن قصص لـ «بانيول»، كما في العملين الإبداعيين الرائعين «جين دي فلورات» و«مانون دي سورسيز» للمخرج «كلود بيري»، وكلاهما كانا في عام 1986). تختلط الكوميديا، والرومانسية، والميلودراما في حكايات المخرج «روبرت جيديجوان» التعليمية، ووصفه الجذاب والمتجانس بصورة متعاطفة مع المناطق الشعبية الصغيرة أكسب السينما الخاصة به اسم أو لقب «الواقعية الدافئة» (أنجار 2000: ص 50).
تقدم أيضًا أفلام المخرجة «ساندرين فيسيت» التي تدور على وجه التحديد في الجنوب، تقدم رؤية أكثر كآبة إلى حد بعيد. وغالبًا ما يشار إلى أول فيلم روائي طويل لها «هل ستثلج من أجل عيد الميلاد؟» (1996)، كواحد من أبرع الأمثلة على الاتجاه الواقعي الجديد. وعلى الرغم من ميزانية الفيلم الصغيرة وتصويره الأحادي النظرة لحياة الريف، إلا أنه قد حقق نجاحًا هائلا بين النقاد والجمهور على حد سواء. والفيلم يصور حياة عائلة «غير شرعية»، امرأة وأطفالها السبعة، تعيش في مزرعة يمتلكها والد الأطفال. والجنوب الفرنسي كما تم تصويره في فيلم «فيسيت» هو على نقيض ما تم تصويره في نوعية الأفلام الخاصة بالـ «السياحة البصرية» التي قدمتها سينما «التراث» ذات الإنتاج السخي. مع ذلك وعلى الرغم من الطابع التسجيلي لفيلم «هل ستثلج في عيد الميلاد؟»، إلا أنه يتضمن عناصر للفكرة الرئيسية والأسلوب من الميلودراما الطبيعية ومن البعد القصصي الخرافي. يدور الفيلم، الذي جمع بين ممثلين محترفين وغير محترفين، في مزرعة منعزلة تقريبًا والحقول المحيطة بها. ويتبع الهيكل السردي إيقاعات الفصول والأنشطة الزراعية: فالحدث هو، كما في غالبية أفلام الواقعية الجديدة، سمة مركزية للعالم السردي أو القصصي في الفيلم. الوصف الدقيق للبيئة الاجتماعية والجغرافية، والاقتصادية يسمح للفيلم بتجنب الخطب ذات الطابع الجوهري في تصويره للعلاقات الخاصة بالجنس (ذكورة وأنوثة) (بيجنيت 2000). وهذا الفيلم، «هل ستثلج في عيد الميلاد؟» هو نموذج لطريقة أو أسلوب الواقعية الجديدة في أفضل حالاتها، حيث تصبح الإيحاءات البصرية، ومقاومة التحديق أو التفرس الموضوعي الذي يشيّء الأفراد، والعناية بالتفاصيل من الطرق المضادة للقولبة والتبسيط المفرط.
كشف ابتعاد السينما السائدة بوجه عام عن التطرق إلى تناول الحقائق المؤلمة الخاصة بالشمال الصناعي، كشف عن مصدر إلهام قاطع بالنسبة للمخرجين الذين ينتمون إلى الواقعية الجديدة، وذلك في أفلام مثل: فيلم «الشمال» (1992) للمخرج «كزافييه بوفوا»، وفيلم «هل يفترض أن تكون ماتيلدا محبوبة؟» (1992)، للمخرج «إدوين بيلي»، وفيلم «أن تملك (أو لا تملك») (1994)، للمخرجة «لايتيتيا ماسون»، وفيلم «الحياة الحالمة للملائكة» (1998) للمخرج «إريك زونكا»، وفيلم «الكرنفال» (1999) للمخرج «توماس فنسنت»، ونجح المخرج «برونو دومونت» في تحقيق بروز من خلال فيلمه «حياة يسوع» (1997)، وقد منح جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» عن فيلمه «الشعب» (1999)، وسط جدال ومناقشات حماسية. على الرغم من قسوة وصرامة وصفه وتصويره للأوضاع الدنيوية القاسية والشخصيات العادية، إلا أن «دومونت» يسبر في الواقع الأبعاد الميتافيزيقية للوجود البشري في أفلامه. وبسبب تركيز أفلامه على القدر، والاختيار، والشر، والذنب، والتحرر، فقد تمت مقارنة أفلامه بسينما المخرج «روبير بريسون» (بريدال ٢٠٠٢: ص٢٨). والحوار في أفلام «دومونت» نادر، واللقطات المقربة والفترة الزمنية للقطات ذات الإطار الساكن مزعجة ولا تبعث على الارتياح، هذا إضافة إلى تأثير عدم الألفة في التمثيل السينمائي. جزء من الجودة الانعكاسية لفيلم «الشعب» ينبع من مرجعياته، السردية والشكلية أيضًا، الخاصة بالأعمال التشكيلية الواقعية في أواخر القرن التاسع عشر. وتكشف التكوينات الفنية للفيلم في بعض الأحيان عن الجمال الخفي للأرض، إلا أنه ركز بشكل متزايد على العنف والقلق الكامنين اللذين يخترقان ويتخللان بيئة يشكل فيها الابتذال والفراغ القاسيان إشباعًا للروح. والعنف والفجاجة المتكرران والواضحان في التصوير السينمائي (على سبيل المثال، لقطة مقربة على جثة مشوهة لفتاة صغيرة قتلت في بداية فيلم «الشعب») تجعلان من سينما «دومونت» قريبة من الاتجاهات الأكثر تطرفًا في السينما المعاصرة، والتي يمكن تصنيفها أو الإشارة إليها على أنها «سينما الحقارة».
سينما الحقارة
جزء من سينما الأماكن الهامشية يستدعي تقليدًا ضمنيًا أو علنيًا من الثقافة الأدبية المضادة الفرنسية والأمريكية «دو ساد»، و«رامبو»، و«جورج باتاي»، و«جان جينيه»، و«أنتونين أرتو»، بل أيضًا «ويليام بروز»، و«تشارلز بكاوسكي»، والميول «السقيمة» و«التافهة»)، مع مرجعيات سينمائية تتراوح من التعبيرية الألمانية «راينر فرنر فاسبيندر»، و«بيير باولو بازوليني»، و«ديفيد لينش»، حتى الفن الإباحي وجرح أو انتهاك الآداب العامة «الجور gore.» (18) الانتهاك هو المبدأ الرئيسي، حيث العبور الجمالي والموضوعي لحدود المقبول إلى عالم الحقارة. يركز بعض المخرجين على الموضوعات المحظورة (التابوهات) «جرائم عنف بشعة، اغتصاب، زنى محارم»، ويستعينون في ذلك بتقاليد خاصة بأنواع بعينها مثل البورنوجرافي و«الجور»، التي تم تهميشها من جانب السينما السائدة وسينما الفن معًا. في كثير من الأحيان، يتم التعامل مع الجسد كلحم على أنه المادة الخام لعملية صناعة الأفلام، حيث يتعرض للاعتداء والهجوم، والتشويه والبتر، والانتهاك والتدنيس، فيصبح منطقة قتال، رمزًا للهجوم الذي من المفترض أنه يتم بالمثل أو للسبب نفسه على التقاليد الاجتماعية والثقافية والسينمائية.
الحقارة، الأجساد التي تشعر بالاغتراب أو التهديد بسبب النفور العنيف الموجه ضدها وعملية الإقصاء والإبعاد التي تتعرض لها، هي أيضًا بمثابة استعارة لعمليات الاستبعاد التي يحاول من خلالها «الكيان أو الجسد» الاجتماعي «تطهير» نفسه (بيجنيت 2001). وتعمل سينما الحقارة تحديدًا على التركيز على تلك العناصر «الضالة المنحرفة»: المجرمين، أو السيكوباتيين، أو دميمي الخلقة أو من ينظر إليهم على أنهم كذلك، هذه المخلوقات التي صنعها النظام نفسه الذي يريد أن يستأصلها.
وعناصر الانتماء إلى الاتجاه الطبيعي الجلية في أفلام «دومونت»، كما في أعمال المخرج «جاسبار نو» المثيرة للجدل، والخاصة بأماكن التصوير الخارجية والشخصيات تم تصنيفها وإدراجها كشكل «فائق» في أشكال الواقعية الفائقة. لكن على الرغم من أن نوعية الحقارة الخاصة بالواقع قد تم تقديمها بشكل مرئي أكثر من خلال اللقطات المقربة إلى أقصى حد، بصورة متواصلة ومتكررة وهي بمثابة قوام فيلم «الشعب»، إلا أنها خدمت في النهاية كتذكرة بالفناء وكدعوة إلى التجاوز والسمو. وهذه الطريقة تستدعي إلى الذهن طريقة المخرجة «آنييس فاردا» التي تستخدم فيها اللقطات المقربة إلى أقصى حد لوصف الجسد الإنساني. في فيلم «جامعو بقايا الحصاد وأنا» على وجه التحديد، نجد أن استفسارها عن نوعية «الحقارة» الخاصة بالكبر والهرم هي أيضًا دعوة إلى التحري والاستكشاف.
على العكس، في أفلام المخرج «جاسبار نو»، التركيز المتواصل على معاشرة البغايا والحقارة فقط يعزز من الطبيعة الغريبة والمخيفة للواقع الذي تم تصويره. فيلم «كارنيه» (1992) وفيلم «أنا أقف بمفردي» (1998) ركزا معًا على حياة جزار عاطل، ينساق تدريجيًا إلى عالم مفرط من العنف، والتحامل أو الانحياز، وزنى المحارم. على الرغم من الطرق (التقنيات) المتنوعة (الحديث الفردي لصوت المعلق، والعناوين الداخلية، والأسلوب «المتسارع» في المونتاج على وجه التحديد)، إلا أن الفيلم يبني رؤية شخصية مشوهة وظاهرية إلى حد كبير، لكنه يشبه بشكل أساسي خطاب الصحافة الصفراء. على الرغم من أن الجزار يعاود الظهور لفترات قصيرة في المقدمة، إلا إن فيلم «غير قابل للتغيير» (٢٠٠٢) للمخرج «نو»، يسجل، بترتيب عكسي، ليلة واحدة في حياة مجموعة مختلفة من الشخصيات. وعلى غرار أعمال «نو» السابقة، استطاع فيلم «غير قابل للتغيير» أن يلفت انتباه الإعلام، هذه المرة بسبب تصويره التفصيلي والمطول لمشهد الاغتصاب.
نفس اللجوء إلى العنف التصويري سنجده في فيلم «القتلة» (1997) للمخرج «ماتيو كازوفيتز»، وهو فيلم تم تكريسه للنهي عن تمجيد الشخصية الكلاسيكية للقاتل المحترف. يقدم فيلم «القتلة» رؤية متشائمة لمجتمع يحكمه التأثير المذهل للتليفزيون والتدخل التخريبي من جانب شخصية الأب التقليدية ذات التفكير العتيق.
وأفلام «نو» و«كازوفيتز» تصف معًا الرجولة على أنها تعاني من أزمة، إلا أنها تتضمن أيضًا إهداء شأن النساء والتقليل منه، والتصوير العدواني العنيف والمهين أحيانًا لهن. ومع ذلك فإن الشخصيات المركزية من النساء تتمتع بمكانتها في هذا الاتجاه السينمائي، وإن كان ذلك غالبيًا في أفلام لمخرجات سيدات. تبرز النساء بشكل جلي كمخرجات للأفلام التي تتناول الانتهاك، ومن ثم فهناك إصلاح لهذه المساحات في الوصف أو التصوير السينمائي للجنس والعنف اللذين يتم تعريفهما في العادة على أساس ذكوري. «فيرجين ديسبينتيز» و«كارولين تراينه» في الفيلم الإباحي(19) «اغتصبني» (2000) تقدمان تصويرًا وحشيًا لانتقام امرأتين عن طريق الجنس والقتل يؤكد بالتحديد على تلك الصفات التقليدية «الحقيرة» المكبوحة للأنوثة والجسد الأنثوي. في فيلم «رومانس إكس» (1999) وفيلم «إلى أختي!» (2001)، تستعير المخرجة «كاترين بريلات» عناصر من أنواع سينما البورنوجرافي و«الجور» على التوالي للتحقيق في آليات العلاقات الجنسية المعاصرة. في هذين الفيلمين، يعبّر منطق الواقع المنغمس في والمشبّع بالعادات والتقاليد والنفاق والرياء، وبالقيم البطريركية ذات الصبغة الذاتية وبألعاب القوة، يعبّر عن نفسه من خلال الممارسات الإباحية والسادية المازوخية، ومن خلال القتل والاغتصاب. وأفلام المخرجة «بريلات» غير العاطفية من الناحية التصنيفية، تفكك الأساطير المرتبطة بالحب والجنس، حيث يختلط العنف العاطفي، والجنسي، والجسدي بشكل غير قابل للعلاج مع الحب، والعاطفة، والرغبة، والوظائف أو الأدوار الجوهرية كنموذج أو معيار للسلوك.
والنوع الذي يطلق عليه سينما «الجور» هو سمة مميزة أيضًا لفيلم «مشكلة كل يوم» (2001) للمخرجة «كلير دينيس»، الذي يدور حول قصة جنسية لشخص من آكلي لحوم البشر حيث يتضمن مشاهد قتل مع استخدام مؤثرات صوتية ورسوم بصرية. الشخصيات المسكونة في فيلم «مشكلة كل يوم» تعيد إلى الذاكرة من «جويانا» مرضًا قاتلا يعمل على استهلاكها واستنفادها ببطء ليحولها إلى وحوش. كما في فيلم «الأسود والأبيض» (1986) للمخرج «كلير ديفير»، خلف الأبواب التي تنغلق على رجلين أبيض وأسود في علاقة سادية مازوخية، وفي أفلام المخرجة «دينيس»، «لا خوف، ولا موت» (1990)، و«لا أستطيع النوم» (1994)، و«عمل جيد» (1999)، حيث استكشاف الانتهاك المعاش من خلال التحقيق في الآثار الباقية للنزعة الاستعمارية (الكولونيالية)، نجد أن إماطة اللثام عن الضيق أو الانفعال المعاصر الذي يؤثر على المستعمِرين السابقين والمستَعمَرين السابقين يؤدي إلى تصوير أشكال مدمرة وغير صحيحة من الاغتراب، يتم اكتسابها عبر تذويبها في الذات، وعبر كبت الذاكرة، وتعبيرها ظاهريًا عن نفسها بطريقة مهلكة وعشوائية يضع آليات المجتمع في حالة حركة استعداد وتحفز.
الخلاصة
كانت فرنسا تفاخر دائمًا بقوة ثقافتها المضادة، والتي راحت تتحدى مرارًا وتكرارًا تقاليد المركزية والتطبيع (جعل الأمور طبيعية) التي ظلت راسخة لفترة طويلة. في الحقيقة، يميل النظام المركزي إلى التربية أو التنشئة و، بالتبعية، إلى البحث عن تكامل أو توحيد أساليب التعبير الهامشية: كما يشير أحد المؤلفين، توفر فرنسا مثالا نادرًا على «السينما المعارضة ذات التمويل الحكومي» (دارك 1999: ص ٢٦). هذا التوتر المستمر والتبادل الدائم كفل التجديد والثبات لمجموعة متنوعة قلما تكون متساوية في السينمات القومية الأخرى(20). والتطورات التي حدثت في سنوات التسعينيات تذكر أيضًا برد الفعل الانعكاسي بين السينما والمجتمع العريض، نظرًا لأن الأفلام عكست وأعطت شكلا في نفس الوقت للحقائق التي صورتها، وذلك من خلال المساهمة في النقاش والجدال المثار حول المجتمع المعاصر، والهويات القومية، والاحتجاج والشكوى. وقد بدا ظهور الاتجاهات المتنوعة المرتبطة بسينما المناطق الهامشية كإزعاج صحي مفيد، وذلك إلى حد كبير عند المدرسة الشكلية الفرنسية في النقد السينمائي، التي تجنبت لمدة طويلة أي نقاش حول أيديولوجيا واستراتيجيات الاحتجاج والشكوى، وإن كان بصورة هيمنة أضعف، التيار السينمائي السائد.
الهوامش
١- فصل من كتاب بعنوان «السينما الأوروبية» صدر عام 2004 عن دار نشر «أوكسفورد».
٢- مخرج وكاتب سيناريو ومنتج وناقد وباحث ولد عام ١٤٩١ – المترجم.
٣- دافع المُنظّر السينمائي «أندريه بازانس على نحو ممتاز عن أولوية «البرو فيلميك»، أي، عن الواقعية التي لا يجب التلاعب أو العبث بها – حيث ينبغي على السينما أن تأسر بدلا من أن تقوم بإعادة البناء أو إعادة التشييد.
٤- التعبير اختاره «ميشيل ماري» (1998)، لكتابه عن المخرجين الجدد، وقام بترجمة الكتاب «كريس دارك» (1999).
٥- كاميرا تصوير يستخدم فيها خام «سابر» بمقاسات متنوعة منها (٢٧، و٢٨، و٣٠، و٥,٣٠، و٣٧، و٤٣) مم – المترجم.
٦- «سلفة مدفوعة مقدمًا»: برنامج للقروض الحكومية يقدم إلى المشاريع السينمائية التي تدر عائدات من حصيلة بيع التذاكر، أول تشريع له كان في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية – المترجم.
٧- يلاحظ «كاري تار» (1993: ص 321) أنه من أجل الحصول على ((avarice sur recettes (سلفة مالية مقدمًا على عائدات التذاكر)، «يجب أن يأتي الطلب الخاص بذلك إما بدليل على عوامل الجذب التجارية (سيناريو سليم، وتوظيف للنجوم، وقيم الترفيه) أو إمكانية أن يكون الفيلم معبّرًا عن الذات، وينتمي إلى سينما المؤلف».
٨- انظر، على سبيل المثال، أفلام «أرنود ديسبليشين»، وسأولفييه أسايس»، و«باسكال بونيتزر»، و«باسكال فيران» – المترجم.
٩- يحلم الفيلم العنوان الإنجليزي «عندما غابت القطة» – المترجم.
٠١- في الفصل الخاص بالاتجاهات الجديدة ورد ذكر اسم هذا الفيلم والسنة الخاصة به على أنها ١٩٩١ وليست 1990 كما ورد الآن، وهذا الاختلاف راجع إلى أن بعض المراجع تستند إلى سنة إخراج الفيلم والبعض الآخر إلى سنة عرض الفيلم – المترجم.
١١- سيجفريد ديبربانت: (1973)، مؤلف موسيقي، وكاتب، ومخرج، ومصور فوتوغرافي – المترجم.
12- السكان العرب، أكبر أقلية عرقية في فرنسا، وهم الأغلبية في الكثير من المجمعات السكانية الموجودة في الضواحي.
13- إديث جيوفانا جاسون، (1915-1963)، مغنية فرنسية – المترجم.
14- حرفيًا: ((Fuck the police – المترجم.
15- عدسة عين السمكة: لقطة تتم بعدسة ذات زاوية منفرجة تمامًا تشبه زاوية عين السمكة، ويتراوح البعد البؤري لعدسات عين السمكة من ١-٧مم في أفلام ٦١ ملم، ويزداد المجال الخاص بهذه النسبة في أفلام 35ملم. وهي تستخدم عادة في تحقيق مؤثرات خاصة، وذلك لقدرتها على تشويه الأشياء القريبة من الكاميرا وإشاعة الإحساس برحابة واتساع مدى الصورة أو ضخامتها المبالغ فيها في اللقطات البعيدة أو العامة أو القريبة – المترجم.
16- جان فرانسوا ريشيت (1966)، مخرج ومنتج، وممثل، وكاتب سيناريو – المترجم.
17- مخرج وكاتب وممثل فرنسي – المترجم.
18- ((gore film، ويعرف أيضًا بـ«splatter film»، وهو نوع من أفلام الرعب، يركز بصورة مكثفة على نقل وتجسيد العنف والقتل الدمومي، وذلك عبر التصوير المتعمد للدماء وتمزيق الأعضاء البشرية وخروج الأحشاء – المترجم.
19- X – rated ، تصنيف للأعمال الأدبية والفنية والسلوكية يعني «إباحي أو داعر» – المترجم.
20- على الرغم من أن عمليات إعادة التنظيم التي تمت حديثًا لنظام التمويل، وعملية بيع محطة «قنال بلاس» (Canal +)، إحدى القنوات التليفزيونية الرئيسية المرخص لها، قد تكون بمثابة توجيه ضربة لإنتاج الأفلام المغايرة للتيار السائد.
مارتن بيجنيت ترجمة: محمد هاشم عبد السلام