هل الشعر قرين السلبيّ ، والهشّ، والمخيف ، أم أنه فيض البهجة، وصلابة الروح؟
كثيراً ما يذهب نقاد الشعر مذاهب متناقضة في الحديث عن جدواه، أو وظيفته. فمنهم من يعطيه القدرة على الكشف عن الخبيئ، والغامض والمشوّش من مكنون أنفسنا، ومنطوياتها الداخلية المحتدمة. ومنهم من يلامس فيه ذلك الشرر الذي يشبه السحر، والذي يحرر نفوسنا من مخاوفها، وترددها، وما يترسب في قيعانها من جبن، أو هشاشة.
عــلي جعفــر العــلاق
شاعر واكاديمي عراقي
الشعـر وفجيـعـة الـداخـل
غير أن هناك فريقاً آخر أتخيله دائماً، وهو يتطلع عبر السياج إلى حياة تقع هناك وتنتظر من القصيدة أن تمدّ لها يد العون، أن تكون كما الغيمة الخفيضة، التي تكشف عن مفاتنها المائية لكل ما ينتظرها بلهفة. ولا يقف طموح هذا الفريق عند حدّ، إنه يتطلع، أحياناً، إلى الشاعر المصلح، أو الشاعر النبي، أو الشاعر المحرّض. وهكذا ينصب هذا الفريق كمائنه المغطاة بالعشب والنوايا الطبية في انتظار القصيدة المشاركة في الحياة العامة. ويظل الشاعر حبيس تلك الأرجحة بين النبوءة ، والإصلاح والتحريض.
إن هذين الفريقين يؤمنان، على ما بينهما من تفاوت، بأن للشعر وظيفة كبرى، التغيير؛ أو الكشف، أو ترميم الذات، أو تجاوز ما يشوبها من قصور مفزع. وواضح إن الشعر قد ينهض بشيء من ذلك، غير أن تاريخ الشعر لا يقدم لنا، دائماً، أدلة ساطعة على أن هذه المهمة، كانت على رأس أولوياته، أو أن مسيرته كانت ، على الدوام، تجسيداً لهذا المسعى المحفوف بالعثرات.
وبين الموقف الأول والموقف الثاني، أعني بين اضاءة الداخل الإنساني والانخراط في الحياة العامة يتكشف لنا موقف آخر يكسر هذه الثنائية ويأخذنا إلى فعل شعري لا تستعبده وظيفة، أو مهمة، أو دور. فعل قد يبدو، للوهلة الأولى، وكأنه مكتفٍ بذاته، غير أنه يتكشف، بعد تأمله، عن دراما هائلة هي دراما الخوف، وانهيارات الداخل، وعجزه، وابتذاله.
إنّ، الشعر، وفق هذه الرؤيا، صنْو القسوة وقرينها الفظّ والجميل، فهو لا يجمّل الحياة ولا يسعى إلى إصلاحها بدوافع أخلاقية أو سياسية، وهو أيضاً لا يثقل جناحيه بمهمات نبوئية مدّعاة، بل هو على النقيض من ذلك كله يهبط بنا إلى قرارة الكأس، أعني إلى آخر موضع في الروح، إلى ضعفها المتخفّي، أو قبحها الكامن هناك ، أو خوفها الذي نحاول تخطيه، أو إهماله، أو تملقه.
إنه الشعر الذي يهجم ، كنمر الغابة، على أرواحنا، فيخلخل طمأنينها الكاذب، وينهش تجانسها الظاهري. الشعر الفاضح للخوف، والنضّاح بكل ما في النفس من رضوض لا نجرأ على مواجهتها في الضوء، أعني إحساسنا بالخسارة، أو الندم، أو اللامعنى.
وكثير من شعرنا تم تمجيه مبالغ فيه أحيانا للحياة العامة، وكثير منه يأخذ وجهة مضادة: يتجه إلى حياة الداخل، ليتحدث عنها بنبرة راضية مرضية، يعزز من قدرتها على الصمود أو يحرضها على المواجهة الواثقة حيناً. وعلى أكثر المواجهات يأساً حيناً آخر.
في كتابه (الشعر والتجربة) يرى الشاعر والناقد الأمريكي ارشيبالد مكليش إن أعمق حاجاتنا الإنسانية لم تكن الحاجة لي أن نجعل لحياتنا معنى، بل إلى أن نجعلها بلا معنى (١) . أيّ أن نكشف عن جوهرها الفظّ، والمراوغ.
وشعر يوسف الصائغ لامس عبر مراحله المختلفة، هذه المستويات جميعاً، كان يحاول دائماً أن يكون ملء المكان وملء الزمان الذي يحيط به ، كان تمجيداً للحلم العام تارة، وتعزيزاً لصمود الداخل تارة أخرى. لكن أكثر شعره احتفاء بالخوف والهشاشة واللامعنى هو شعره في مجموعتيه(٢) (سيدة التفاح الأربع) 1976، و (من قصائد البلبل الأسود) 1980 تحديداً، شعره الذي له صدمة الكابوس، وحرقة الفجيعة، وذلك ما أسعى إلى مقاربته قدر ما أستطيع.
شعـريـة الخـوف
يشكل الخوف شاغلاً مقلقاً من شواغل الشاعر الحديث وانهماكات قصيدته. وقد ترك هذا الشاغل، بمستوياته ودوافعه المتباينة، ندوباً واضحة على النصّ الشعري تجاوزت الموضوع أو الفكرة أو الاهتمام إلى ما أحدثته في أشكال المعنى من شروخ وتشطيّات.
وقد صار في حكم الراسخ ربما في العقل النقدي الحديث أن الشعرية جهد ينصرف به الشاعر إلى نصه ليرتفع بمكوناته وعناصره إلى مستوى يبتعد به عن النص العادي، أعني النص الخامل، أو المألوف، أو الواقع خارج منطقة التأجيج والإثارة. وبعبارة جاكوبسن(٣) فإن الشعرية هي ما يجعل من رسالة لفظية أثراً فنياً، وأنا ، هنا، لا أقصر هذا الجهد على التجويد الاستعاري أو المجازي وحده(٤)، بل على كل مسعى يهدف الشاعر ، من خلاله، إلى الارتفاع بمجمل القول الشعري إلى فرادته الخاصة أو سحره التأثيري. وهو كل مسعى يبني، أو يرتّب، أو ينمّي لغة النص، أو حركة المعنى، أو مسار الأحداث . إنه الجهد الذي يتجه إلى فائض الخوف، الكامن في قرارة النفس ليستخرجه من هلاميته، وعمائه، ويلبسه كياناً ما ليصبح ماثلاً، ومرئياً. وشعرية الخوف، في قصائد يوسف الصائغ، هي فائض هذا الذعر الداخلي عندما يفتك بنصوصه، ويدفع بها إلى مسارات أدائية ودلالية يمكن رصدها، واقتناصها، ووضعها موضع التحليل والتأمل.
لا يأتي يوسف الصائغ قصيدته بذاكرة بيضاء أو جسد محايد، بل على العكس من ذلك تماماً. إنه يجتاح قصيدته بعدة كبيرة، تتجاوز اشتراطات الحرفة الشعرية إلى وعيه بالأجناس المجاورة، وممارسته لها: المسرح، الرواية، الرسم، السيرة الذاتية.
إن الكثير من قصائده الطويلة مكتوبة بهاجس روائي فريد، وتقنيات سردية لا يمكن اخفاؤها، من مكان وزمان، وشخصيات، وحذف، واسترجاعات، وحوار وتداعيات حرّة، كما يتجلى في قصائده(٥) (انتظريني عند تخوم البحر) و(رياح بني مازن) و(اعترافات مالك بن الريب) وقد تفيد القصيدة، كما هو الحال مع قصيدته (خواطر بكل عادي جداً) (٦) من تقنية الكتابة المسرحية إضافة إلى انفتاحها على حقل الرواية وتقنياتها.
منذ مجموعته (سيدة التفاحات الأربع)، كان يوسف الصائغ عرضة لرياح شديدة القسوة تهب دفعة واحدة على فكرته، ومخيلته. كانت هذه المجموعة نقطة تحول كبرى على مستويات عديدة نفسية، وفكرية، وفنية. لقد هيمنت على معظم قصائده تقنية القصيدة القصيرة، واتخذت غالبية هذه القصائد شكل الكابوس، أو الحلم، أو اللقطة السينمائية، أو المكالمة الهاتفية، أو الحوار المبتور. ويتواصل هذا المنحنى لدى يوسف الصائغ في مجموعته الأخرى (من قصائد البلبل الأسود): كانت الشرفات الأولى لتحصيناته النفسية، والفكرية ترتجّ، وكانت كتاباته تتفجر بالكثير من التحولات المقلقة، التي أخذت تزداد حدة وتتنامى بسرعة واضحة .
تبدو قصائده ، في هاتين المجموعتين، وكأنها بحث عن انثاه المستحيلة ، كان كمن يسعى وراء طريدة عصية، أو يحاول ، بشغف موجع، أن يستعيد تلك اللذة الغائبة، أو يرمّم ذلك الجسد الممزق واعادة صنعه شلواً شلواً من رماد نسائه المتعددات وهن ينطفئن في ثنايا قصائده. كانت محاولاته لا تهدأ لانجاز هذه المهمة الشاقة ، حتى لكأنه يقوم بدور أسطوري مقلوب، أعني دورا(٧) معكوساً، ليبعث انثاه القتيلة في ذلك العراء الموحش مرة أخرى، ويجمع أشلاءها الموغلة في اللذة والغياب من جديد.
كانت الريح تهب قبالة روحه مثقلة بالدم والوحشة، بينما كان يجلس على سريره البارد وحيداً، ليس معه ما يضيء به سهره الطويل إلا مخيلة مكتظة بالكوابيس، وجثة امرأة لا تريد مفارقته. كان كمن يقف، مذعوراً على مرتفع مهلك، باحثاً عن متكأ ما، فلا يرى إلا منزلقاً شديد الانحدار ومستقبلاً مشكوكاً فيه.
وفي غمرة هذه التحولات أقبل يوسف الصائغ على النثر بشراهة عجيبة، كان النثر يتحول، تدريجياً، إلى نشاط أساسي بينما يهبط الشعر، رغم جماله وقسوته، إلى هامش يضيق كل يوم. ولا أعني بالهامش هنا وصفاً لكمَّ الإنتاج، أو مساحته بل وصفاً لمكانته من نفس الشاعر. لقد أخذ يوسف الصائغ يتنكر لماضيه الشعري أولاً، ويكره الحديث عنه، ثم وصل به الأمر إلى النفور من شعره وكأنه نهب لانفصام كتابي يأخذه في اتجاهين متعاكسين: الشعر والنثر، الرواية والمسرحية، والسيرة، وأخيراً: كتابة القصيدة والنفور منها في الوقت نفسه. يقول في حوار نشرته مجلة نزوى(٨) إنه شاعر «عافت نفسه قصائده» وإن هذه القصائد ما عادت تستهويه قدر ما تستفزه لفرط ما تثيره في روحه غالباً من إحساس بالملل. وكان يحاول ، في معظم نثره، الدفاع ببسالة وألم عن تحولاته هذه، وخاصة في مسرحية (الباب) وفي روايته (المسافة). لقد كان كمن يغني ، في الظلمة، وهو يمتلئ رعباً، بينما ترك شعره بعيداً عن هذا السجال المرّ، والمعقد. ربما لأن النثر أقدر من الشعر على خوض هذا المعترك بتفاصيله وأحداثه، وشخصياته ، وتحولاته الزمانية والمكانيّة، أما الشعر ولغته الليلية الخاطفة فقد ادّخره لمهمة أخرى لكوابيسه، ورعبه.
حين يقعـي السريـر كالبهيمـة
الخوف، في شعر الصائغ، ليس كلمة مباشرة، أو مفردة، وبالتالي فهو ليس فكرة لصيقة بعبارة ما، بل هو أبعد من ذلك، يقع وراء المعجم الشعري، يضيئه لكنه لا يتصل به، بمعنى آخر، فإن الخوف، هنا، انفعال مقلق يتكشف عنه مشهد، أو حركة، وهو صورة تنهض معادلاً لذلك الانفعال(٩): يجسده دون أن يعبر عنه، ويبنيه دون أن يصفه.
تتفاوت الذوات الفاعلة، في الحدث الشعري، لكنها، عموماً، تؤكد انفصالها عن المألوف: مألوف الفعل ومألوف الشخصية أيضاً. ولذلك فإن شخصيات الحدث، في معظمها، مما يثير الرعب، أو التأمل: النمل، السلحفاة، الغراب، الجثة.
وربما كانت الجثة أكثر هذه الشخصيات حضوراً، حتى بدت وكأنها ثيمة مركزية لا يمل الشاعر من استثمارها في غالبية قصائده. وظلّ السرير، على الدوام، فضاء لامرأة ميتة تزوره قادمة من الموت أو عائدة إليه كما يتجلى في قصائد عديدة مثل: الجثة، فاكهة المرأة النائمة، زيارة ، زيارة ، فجأة.
ومثلما تفاوتت الذوات الفاعلة، فإن فضاءات الحدث الشعري تفاوتت كبيراً بدءاً من السرير وانتهاء بالعراء المفتوح، وتندرج بين هذين الفضاءين مديات أخرى: كالغرفة، والبيت، والشارع والباص، ومع ذلك فلابد من القول أن السرير يمثل أكثر الفضاءات رعباً؛ فهو ، دائماً، يحفر عكس رصيده في المخيلة، ويعمل، باستمرار، على تخييب توقعاتنا النمطية عنه باعتباره ملاذاً من الخوف، أو فضاء للبهجة، أو شبكة لاصطياد النوم. إنه في هيئته الحسيّة الماثلة، يظلّ محفوفاً بدلالات رمزية كثيرة، تحرّض الحواس وتدفع عمل المخيلة إلى منتهاه.
وفي مقابل ضجة الحياة الخارجية، وانهماكاتنا في تفاصيلها فإن للسرير وظيفة مضادة، فهو يعيد تجميع الجسد، مرة أخرى، بعد انفصاله وتشتيته أو نسيانه. إنه جسرنا الراكع دائماً، لينتزع عن أجسادنا قشرتها اليومية، ويلقي بها في ماء النوم، أو ماء الذكرى.
إن هذه التشظيات المتوقعة تتعرض في شعر يوسف الصائغ، غالباً، إلى الانكسار، حتى إن الكثير من مباهج السرير، أو فضائله المثيرة تكون عرضة للاهتزاز، أو الازاحة. في قصيدته(10) (أسرار) ، مثلاً ، يأخذ السرير هذه الصورة العجيبة:
ما يزال السرير الحديديّ ،/ في غرفتي/ ينام على وجهه/../ رأسه يتدلى على الأرضِ ،/ عيناهُ/ مغمضتان على سرّهِ ،/ قوائمه السودُ/ تحفر أظلافها في الرخامِ ،/ وتحت الملاءةِ ، / تبدو عظام السرير المعذّبِ ،/ ناتئة باردةْ ../ تراودني ،/ أن أنام عليها …/ ولو مرّةً واحدةْ ..
يتخلى السرير ومنذ البيت الأول عن شطر من لطفه وليونته، فهو ، هنا، سرير متجهّم . إنه النقيض لذلك الخزين من الانطباعات والمشاعر: لا يواجهنا إلا برنينه البارد، الاصمّ، القاسي، تاركاً نفوسنا نهباً لندءات التأويل تارة ولروادعه تارة أخرى.
إن هذه القسوة الحديدية لا نتلقاها إلا بهاجس من الخوف والريبة، فالصورة، لا صلة لها بأي توقع إيجابي، أو حميم، غير أن هذه البرودة الصلدة سرعان ما تُنتهك بدبيب الحياة، غير أنه دبيب مبتور وملتبس سرعان ما يتعارض مع نفسه وينقلب عليها : إن السرير يتمرد على طبيعته، فهو سرير نائم، كما أن فعل النوم، هنا، مفروغ من تجانسه أيضاً: فالسرير ينام منكفئاً على وجهه، ورأسه يتدلى على الأرض كالمشنوق.
وهكذا تهيئنا هذه الصورة لمشاعر سلبية، لا صلة لها بالنوم الهانئ، ولا صلة لها بما يعدنا به السرير عادة من مباهج. هل هو سرير في سجن انفرادي أو زنزانة؟ في مكان للحجر الصحي أو في غرفة رجل يعيش لحظاته الأخيرة وحيدا؟ لا نجد في المقطع برهاناً نصياً يرجح لدينا أياً من تأويلات السرير السابقة، أو خصلة من خصاله. ليس هناك إلا إشارة واحدة تزيد الأمر التباساً ، وتدفع بنا إلى مهبّ التأويلات ثانية: إن هذا السرير يغمض عينيه على «سره» الخاص ، وليس على سرّ آخر هو شريك فيه، أو شاهد على كتمانه.
وتأخذ طبيعة السرير منحى آخر منفّراً ويبعث على الخوف؛ فهو يتكشف عن حيوان ينهض على «قوائم» سوداء، و«اظلاف» تحفر في رخام الغرفة. غير أن هذا الحيوان الذي يتشكل أمامنا، يكاد أن يفارق حيوانيته فجأة و يعود إلى طبيعة السرير من جديد: إن عبارة :
– وتحت الملاءة ..
تعود بنا إلى خصال السرير ثانية، إلى دفئه وتموّجه ، غير أن شحنة هذا الوهم سرعان ما تتفتت حين تبدو الملاءة عاجزة عن إخفاء عظام السرير الناتئة . وهكذا يتعرض السرير، إلى تحول آخر، فهو لا يواصل تشكّله الحيواني ولا يعود إلى حميميته، إنه يتوقف في المنتصف تماماً، بين حيوانية لم تكتمل، وبقايا وجود بشري موغل في العذاب والرغبة:
وتحت الملاءة / تبدو عظام السرير المعذّبِ/ ناتئة باردةْ ../ تراودني،/ أن أنام عليها.. / ولو مرّة واحدةْ…
يفصح هذا الجزء الختامي من القصيدة عن اشتهاء حسيّ ، يصعب إخفاؤه أو مراوغته ؛ فالسرير معذب، وعظامه الباردة تتكشّف عن هذه الرغبة في الآخر من خلال فعل المراودة ؛ في جملة:
– تراودني
وهي جملة جديرة بالتأمل لأسباب عدة؛ فهي، إضافة إلى ما فيها من نزوع شهواني صريح، تضمر فاعلها المؤنث وتتستر عليه، وكأنها وقوف في المنتصف: دعوة إلى الفعل وإعراض عنه. ومن جانب آخر، فإن الجملة تفصح ، للمرة الأولى، عن الذات الكاتية ، أعني « أنا» القصيدة. وتفصح ، بالنتيجة، عن فاعل السرد، هذا السارد الذاتي الذي ينهض بمهمة السرد وتنامي حلقاته من جهة ويندرج ضمن وقائعه باعتباره طرفاً في الواقعة السردية، من جهة أخرى. وهذه الأنا التي تتعرض لفعل المراودة أو الرغبة في اللقاء لا تبدي نزوعاً مماثلاً.
إن عبارة :
– ولو مرة واحدة ……..
تشي بهذا التمنّع، وتكشف عن الانفصال عن دوافعه.
والشيء اللافت في هذه القصيدة حقاً، انها جميعاً صورة لوضع جنسي لا يثير التشهّي بل التهيب والخوف. إن السرير، في هذه القصيدة، في استسلام مطلق لغريزته المخيفة: تلذعه الشهوة، وتتملكه الرغبة في السفاد. غير أن هذا الرضوخ الحيواني المطلق لا يلقى إلا الاستجابة المعاكسة، فأنا القصيدة، أو بطلها، لا يقابل هذه الرغبة برغبة مماثلة، كما يكشف لنا المقطع الأخير من القصيدة.
– لماذا تحوّل السرير، في هذه القصيدة إلى بهيمة مغتلمة؟
– لماذا ظلت هذه الغلمة المتأججة دون إطفاء؟
– وما الذي جعل بطل القصيدة طرفاً سلبياً في هذا الحدث؟
ربما تبدو الإجابة القاطعة ضرباً من المقامرة(١١)، أو نوعاً من الوهم الصافي. إن أيّاً من هذه الأسئلة قد لا يجد إجابة، كاملة أو نهائية. ومع ذلك فإن الإجابة على أسئلة كهذه قد تكمن في أسئلة مقابلة، فالشعر، مكمن الأسئلة دائماً، ثم:
– اليس الشعر حلماً أو تخيلاً أو وهماً؟
– اليس النقد مقامرة للاقتراب من ذلك الحلم، أو ذلك الوهم نتفحّص خلالها لغته الليلية المارقة، وصوره العصية على الإدراك؟
يبدو لي أن الصورة المخيفة التي جسدها يوسف الصائغ، لهذا السرير البهيمي تجسّد، ربما، إحساساً بالأثم أو الخوف أو الندم. فالسرير المقعي، كالبهيمة، يتفجّر بقوة كابحة لكلّ ايحاء شهواني. إنه يدمر ما تشتمل عليه صورة المرأة؛ عادة، من إشراقات اللذة، أو تداعيات الجنس، وكأن السرير، بعد رحيل أنثاه الأولى، صار باعثاً على الرعب لا على النشوة، وعلى التوحش لا على الهناءة.
ظلت صورة السرير مفتوحة على ممكنات تأويلية عديدة، لم يعد فضاء لابتهالات الجسد الحارة، أو للافصاح عما فيه من تلقائية وصبوات. إنه، الآن، يتقمص طبيعة الحيوان، ويستسلم لغلمته الغليظة. وهكذا تنزع قصيدة (أسرار) عن السرير هالته الجسدية المحفوفة بالنشوة. إن عنوان القصيدة نفسه، ينهض على أنقاض السرير، بعد تفكيكه وبعثرة اسمه بلعبة جناسية بارعة، فالقصيدة، إذن، تفصح عن مسلكها التدميري منذ العنوان، وتدفع بالسرير إلى هوة حيوانية ملغزة ، تقترن بالآثم لا اللذة، وبالدناءة لا الارتواء. لذلك فإن الرغبة في النوم، حتى مجرد النوم، على هذا السرير، لا تواجه إلا بالممانعة؛ لأن النوم لم يعد طريقاً إلى الجسد، أو شرفة للحلم، بل انخراط في عمل بهيميّ مقزّز.
الاكتمـال بالمـوت
يظلّ السرير، في قصائد يوسف الصائغ، معتماً ويابساً على الدوام: لم يشهد لقاء وجدانيا مكتملاً بين عاشقين، ولم يضئه جسد امرأة حيّة إلاّ نادراً:
١- عالم الغياب:
قميص نومها/ ملقىً على السريرْ ../ كتابها/ منضدة الزينةِ،/ مشطها ../ المرآة …/ والمفتاح ما يزالُ،/ فوق البابْ/ يفصل بين عالم الحضورْ/ وعالم الغيابْ(12)
٢- السؤال الأخير:
يبتدي الحبّ .. بالأسئلةْ ../ ينتهي …/ ويظلّ السؤالُ/ بدون جوابْ/ ونحن/ نفتش في الكلماتْ …/ وبين الأصابع .. والذكرياتْ ../ فما بين أسئلة في الضميرْ/ وأخرى تشاركنا في السريرْ ../ نزيد عذاباً .. / ونزداد حباً/ إلى أن/ يجئءَ/ السؤالُ/ الأخير.. ! (13)
تشترك هاتان القصيدتان في تعميق ملمح مهم في موضوعة السرير عند الصائغ وهو الغياب. فالسرير، كما في القصيدة الأولى مكمن لذكرى امرأة غائبة، متوجُ بقميص نومها، ومحاط بنتفٍ من بقاياها: كتابها، منضدة الزينة، مشطها، المرآة . إن كل واحدة من هذه الإشارات تمثل حضوراً ناقصاً، فهي مبتدأ مفتوح على الغياب، أي على خبرها المحذوف، وكان يمكن لهذه القصيدة، لو استمرت في تعداد لوازم المرأة وأدوات زينتها، أن تظلّ ، ربما، حبيسة منظور حسّي يذكر بنزار قباني ونسائياته، غير أن الشاعر يلتفت ، التفاتة ذكية، حين يتوقف أمام تفصيل واحد من تفاصيل هذا العالم النسائي المائج فينحرف بالدلالة إلى منحى مختلف؛ فهو لا يكتفي بذكر المفتاح باعتباره واحداً من التفاصيل التي ذكرها تباعاً مجردة من إيما وظيفة انفعالية ، بل يجعله مصدراً لجملة من الدلالات، بعضها لا يقع بعيداً عن رمزية الجسدية وفاعليته المعطلة. لكنه، مع ذلك، قلب اتجاه المشهد كله، وارتفع به إلى دلالة مشحونة بالوجع والغياب، وهكذا يظلّ المفتاح حدّاً بين حضور يخترقه الغياب، وغياب يؤكّده الحاضر ويذكّر به.
في القصيدة الثانية (السؤال الأخير) يغدو السرير حاضنة يتجاور فيها الحضور والغياب معاً، لكنه حضور خاص تقلقه أسئلة مريرة لا جواب لها، وغياب ينمو مع الحب وعذاباته. يكدره الوعي بقسوته وحنوّه، ويؤججه الجسد بنداءاته وعرامته، وهكذا تستمر لغة السرير في جدلها هذا حتى يأخذ الغياب اكتماله النهائي بالسؤال الأخير: أي الموت. هذا السؤال الذي يدفعه خوفنا منه إلى قيعان النفس، ثم يعيده إلينا السرير ثانية، محفوفاً بالنوم تارة وبالبهجة القلقة والمهددة بالزوال تارة أخرى.
سـريـر الأضـداد
وتنتقل صورة السرير، في قصائد أخرى، متخطية دلالة الحضور الناقص أو الغياب المقترن بالحضور، كما في القصيدتين السابقتين. ففي قصيدة (فاكهة المرأة النائمة) (14) يغدو كل شيء مساوياً لنقيضه وضده: يغدو الأسى ضحكاً، والغياب حضوراً، ويتماهى السرير مع التابوت حتى يتبادل الموت والنوم خصائصهما وأدوارهما المتضادة.
في المقطع الأول من القصيدة ، يتشكل الهزل المرير من صميم المأساة اليانعة: حيث يكون الموت في مثل نعومة النعاس، وتتبرعم زهرة السخرية من خشب التابوت؛ هازئة بعالم النهار الترابي:
كانت المرأة النائمةْ / وهي في قبرها …/ تتسمّع أصواتهم ،/ وتغالب ضحكتها / ….
وتأخذ المضاهاة بين السرير والتابوت مداها، ليغدو الموت لعبة مضحكة، وتتهاوى الفروق بين التعارضات الطافحة بالمرارة:
حين صبوا على القبرِ/ ماء الوداع الأخيرْ/ فكّرتْ:
لعبة الموت مضحكةٌ ../ ثم راحت تقارن ، ما بين تابوتها ،/ والسريرْ
وهكذا ينقلب السرير على نفسه، ويربك صورته الراسخة في الوجدان والمخيلة: إنه الآن إناؤنا الليليّ الذي نملؤه بالنوم، أو الأحلام، أو التشهيات. فهو في واقع الأمر، وكما تقدمه هذه القصيدة، قبرنا الليليّ الذي نمارس فيه ملذاتنا أو موتنا المؤقت، وتسيل عليه أطرافنا المنقوعة بالخوف ناسية كل ما يشدّها إلى النهار. بعبارة أخرى، إن فعل النوم هنا هو تسمية أخرى لفعل الموت:
لم تعد تسمع الآن صوتاً/ لقد ذهبوا كلهم … / فليكن/ وأحست نعاساً من الحزنِ ،/ يملأ تابوتها/ وشيئا من الجوعِ../ مدّت أصابعها إلى باقة الوردِ ،/ قرب مخدّتها…/ أكلت وردتينِ/ .. ونامت ..
وتكتمل المفارقة: لا يفصل المرأة عن الحياة، إلا سقف تابوتها المليء بالحزن والنعاس، والذي يبدو وكأنه حاجز بين عالمين : خارجي يبعث على الضحك ، وداخلي يتصل بالذات وهي في عريها الفاجع والحقيقي أمام الموت. إنها الآن أكثر قرباً من الحقيقة، وأكثر انخراطاً في عبث المقارنة بين وجوهها المختلفة.
ومن اللافت ، هنا، إن المرأة لا تبدأ لذة الانسجام مع الموت إلا بعد أن تنطفئ أصوات المشيعين، خارج تابوتها، ويأخذون في الانصراف. وكأنها الآن تبدأ استمتاعها، بموتها اللذيذ الصافي دون أن يعكره أحد. وكما تفعل امرأة انهكها فعل الحبّ، وداهمها النعاس واللذة وشيء من الجوع:
مدت أصابعها إلى باقة الوردِ/ قرب مخدّتها ../ أكلت وردتين/ ونامتْ ..
وهكذا يأخذ التابوت خصال السرير ومباهجه، ويتماهى فعل النوم(15) مع فعل الموت تماماً.
القـداسـة المنتهـكـة
في قصائد يوسف الصائغ يتعرض السرير، دائماً، إلى الانتهاك ؛ تنكسر وظيفته الأزلية فيغدو نقيضا للأمن والهناءة، أعني يغدو بؤرة للخوف، وتوالد الكوابيس، ويغدو في أحيان أخرى، مكاناً للنقص: نقص الفاعلية أو بترها، أو نقص الآدمية، أو تحّولها إلى النقيض .
إضافة إلى كل ذلك فإن هذا السرير قد يصل إلى الدرجة صفر تماماً، حين يفقد الكفاءة لأداء أي من وظائفه ؛ فلا يعود سريراً للحب ولا سريراً للموت أيضاً.
يحدث ذلك، وبشكل مريع، في قصيدة (العيون) (16)، التي تجسد عجز السرير، أو تجرّده من أي وظيفة . تنشطر القصيدة إلى خليتين متقابلتين ، وكلتاهما تشتملان على فعلين متضاديْن دلالياً وبنائياً، لكن القصيدة لا تكتفي بهذا الانشطار بل تذهب به إلى مدياته البعيدة؛ فالفعلان منقوصان، أو محبطان تماماً:
إنها امرأتي ../ أيها العابرون ../ وهذا سريري ../ أشيحوا ../ أما تستحونْ ؟
هكذا يتأسس فضاء الحدث: ويتأكد جوهره: المرأة والسرير، وحرف التوكيد، وياء التملك ، واسم الاشارة، وفعل الأمر، وأداة النداء، وصيغة الاستفهام. إنه مفتتح يضجّ بحركة الذات وما يؤكد حضورها، هنا والآن. كما أن السارد الذاتي على أهبة الحبّ، لكنه حب منتهك، يُجرُّ بعيداً عن دفئه السرّي المقدس، ويُنشر أمام فضول العابرين:
يصعب الحبّ/ حين تحدُق فينا / العيون الغريبة ..
إن فعل الحبّ، هنا، يتجرد من هالته السرية، ويتعرّى أمام المارّة، ليغدو عصياً على التحقق، ومفرغاً من خصوصيته فينتسب إلى المبتذل، والمفضوح .
وحين ينتهي السارد من إنجاز المقطع الأول من القصيدة، يتنامى جزؤها الثاني كالآتي:
ويأخذها الموتُ مني ../ فتهمَس لي ،
وهكذا ينبثق هذا الجزء، ليؤسس مساره السردي، وملامحه الأسلوبية المغايرة للجزء الأول ، في الدلالة وفي الأداء معاً. إن النبرة هنا تتشكل في فضاء الموت، أو تفضي إليه، لا ذكر للسرير هنا، ولا شيء من عنف المقطع الأول ورسوخه في الزمان والمكان، لا شيء إلا الاستسلام لقوة الموت . ومما يعزّز من حيوية الدلالة في هذا المقطع، إن المرأة لا تُنتزع من السرير، بل تُقتطع ممن تحب وكأنها فلذة (منه) تفارقه إلى الأبد:
– ويأخذها الموت (مني) .
– فتهمس (لي)
إن التعزيزات الأسلوبية، هنا، غزيرة الدلالة، فالعبارتان (مني) و (لي) تؤكدان وظيفتهما بطريقة باهرة، فالمرأة لصق حبيبها، وبضعة منه، وبذلك يحتشد البيتان بكثافة ذاتية حادة.
وتبلغ القصيدة مدى دلاليا وعراً ومفاجئاً في المقطع الأخير منها، هذا المقطع الذي ينهض على مجافاة تامة لمقطعها الأول، كان الحب يستعصي أمام عيون العابرين ، أما في هذا المقطع فيصبح الموت هو الآخر عصياً على الاكتمال:
ابتعد يا حبيبْ/ يصعب الموتُ/ حين تحدّق فينا/ العيون الحبيبةْ
يشتمل البيت الأول، من هذا المقطع، على وعد مضلل، سرعان ما تنسفه الأبيات الثلاثة الأخرى، وبذلك ينشأ تململ دلاليّ حيّ بين الأبيات: ابتعاد الحبيب عن امرأته شرط لاكتمال الموت ؛ إذ يصعب عليها أن تموت أمام عينيه . لذلك لم تكن رغبتها القاسية في رحيله إلا هرباً من عذاب أقسى: من عذابه حين يراها تنتفض بين مخالب الموت، وعذابها وهي تتشبث بالحياة من أجله . وهكذا يكون المقطع الأخير، عدا البيت الأول منه، نشاطاً دلالياً معكوساً للمقطع الأول من القصيدة.
السـريـر وخـوف السـلطـة
ويمضي السرير في تعرّيه وخذلانه ؛ ويكبر فضول المارة، بعد أن يتعرض لتحوّل مخيف، لا يعود حُمْقاً اجتماعياً، أو تطفلاً مجافياً للأخلاق ينتهك ذلك السرّ، المقدس، والحميم، بل يتلبّس صورة السلطة، ويتشرب الكثير من انتهاكاتها؛ وقدرتها على توليد الخوف، وتسريبه إلى أكثر اللحظات انقطاعا إلى الحلم أو إلى الجسد. تحول آخر، لكنه من طبيعة خاصة هذه المرّة ، وخوف من نمط مختلف، يخالط رائحة السرير، ويقطر من حفيف أغطيته ؛ أو يكمن تحته كما في قصيدة (أمسية السبت) (١٧):
في هذي الساعةِ …/ من أمسية السبتْ ../ حيث امرأة نائمة قربي ../ والغرفة غارقة في الصمتْ ../ أتوقع أن يحدث شيء ما ../ أن يقرع بابي/ شرطيّ – مثلاً / يسأل عن رجلٍ مجهولْ / أو أنظر تحت سريري ،/ فأرى، ثمةَ ، إنساناً مقتولْ ..
قصيدة مخنوقة ، لكنها محتدمة، يحاصرها الزمن من بيتها الأول وحتى خاتمتها المثقلة بالنعاس. ثمة وطأة ثقيلة للزمن هنا، وتحديد صارم لحضوره في البيتين الأولين من القصيدة. وتندفع إلى واجهة المشهد امرأة نائمة. هنا، تنتعش مخيلة القارئ، وتدب في توقعاته حركة حميمة. المشهد إذن، يهيئنا للقاء حميم، وسرّي.
ولكن قبل أن يذهب المتلقُي، أو نذهب نحن، في استسلامنا اللذيذ لهذا الظن، ننتبه إلى إن هناك امرأة ما:
– حيث امرأة نائمة قربي
لقد هدم هذا التنكير ما في العبارة من يقظة حسية متوقعة، ثم يأتي الظرف(قربي) ، ليُجهز على ما بقيَ من إيحاءات: إن المتحدث، أو السارد، في هذه القصيدة ، لا ينخرط في مشروع للذة، أو الانصهار الحميمي في الآخر: المرأة، فهذه المرأة تقع خارج معرفته، يترصدها التنكير وعدم الألفة ، ثم إنها نائمة (قـربه) وليست (معـه) .
والنص لا يتركنا لتوقعاتنا؛ إذ يقحم السارد نفسه، فيربك المشهد كله ويحقنه بالخوف، ويهدم ما تهيأت له أخيلتنا من توقعات؛ فهو ينتظر شيئاً ما، غير أن هذا الشيء ، يأخذ شكل الكابوس: شرطياً يقرع عليه الباب، أو جثة يكتشفها تحت سريره. الملاحظ ، هنا ، إن الباب والسرير، كليهما، جاءا مضافين إلى ضمير المتكلم، أو الأنا الشعرية. انهما، على العكس من المرأة النكرة، يؤكدان انتماءهما إلى بطل النص، وتمثيلهما لعزلته الشخصية الآمنة، التي يتم انتهاكها بهذا العنف. وبذلك يفرغ المشهد من تداعياته المشتهاة، لتحل محلها بواعث الخوف أو رموزه،: الشرطي رمز للسلطة، والجثة كتلة من حياة متخثرة.
عند هذه النقطة كان من الممكن أن يهدأ منسوب القلق ، أعني قلق النص وتوتره، وننساب معه، هادئين، إلى الساحل؛ فالذات المتحدثة حصرت هواجسها في احتمالين محددين، واقترحت لهما شكلاً متعيناً: الشرطي أو الجثة. أي أن منازلة هذا الخوف تكاد أن تنتهي إلى حل ما، مواجهته أو التكيّف معه على الأقل.
لكن، النصّ يرتفع في موجة انفعالية جديدة، تعيد التوتر إلى سيرته الأولى، وتشحن الجو بالتوقعات من جديد، لكنها توقعات معتمة، ومبتورة: لا تحدد موضوعها، ولا تقترح له شكلاً كما حدث في المقطع السابق:
أتوقع أن يحدث شيء ما ../ لكن ../ تمضي الساعاتُ…
ولا شيءَ ../ سوى أمسية السبتْ / تتفرّس بي/ من نافذة البيتْ/ أتعب من قلقي ../ وأنامْ ..
وهنا، لا يجد سارد النص إلا الليلة نفسها تحدّق فيه من النافذة، مثقلة بالقلق، والوسواس الذي يُجسده حرف السين في هذه الكلمات الأربع: سوى. أمسية . السبت . تتفرّس
ولم يتبق لسارد الحدث الشعري مهرب من قلقه العاصف إلا النوم . لكنه ، وكما يوحي الشكل البصري للبيت الأخير، نوم معزول ، ومثقل بالخوف.
وإذا كان دخول الشرطيّ، أو العثور على الجثة يمثلان انتهاكاً لهالة السرير، وخرقاً لخصوصيته، فإن هذا الانتهاك والخرق يظلان على مستوى اللغة، أو الافتراض، أعني أنهما نتاج مخيلة مهدّمة: أنهكها الخوف، وعصف بها توقع الغامض والمجهول. وبعبارة أخرى(١٨)، فإن العنف، هنا، شفهي أو لفظي محض، وليس عنفاً فعلياً.
غير أن هذا العنف لا يظلّ عائماً ضمن هذه الحدود، بل يندفع في حدث فعلي، ليدمر دلالة السرير، وغبطته، ويتجاوز اللغة، أو التخيل، أو التوقعات. يحدث ذلك في أكثر من قصيدة لعل أبرزها (فجأة)( ١٩):
كنت مستلقياً في سريري ../ وإلى جانبي امرأةٌ عاريةْ../ فجأةً ../ فُتح البابُ ../ جاء رجالٌ ثلاثةْ ../ أخذوا امرأتي ../ وخلوا إلى جانبي/ امرأةً ثانيةْ …
تبدأ القصيدة بداية مسترخية، لتؤسس لاحتمال حميم، لكنه، وكما حدث في القصيدة السابقة، احتمال يأخذ بالتآكل بسرعة ؛ فالمرأة غير معرّفة هذه المرة أيضاً. وثمة اندلاع قوي لسلسلة من الأفعال المفاجئة: فتح الباب، دخول الرجال الثلاثة، أخذهم المرأة، ووضعهم امرأة ثانية بدلاً عنها. الملاحظ، هنا، أن القصيدة تعمّق اختلافها عن أجواء القصيدة السابقة في جوانب عدة. كان العنف، على مستوى اللغة والتوقع فصار الآن على المستوى الفعلي، وحتى طبيعة الأفعال تعرضت إلى اختلاف كبير، تحول الطرْق المتوقع على الباب، إلى فتح مفاجيء له، وخرج الشرطيّ من المتعين إلى الغامض ، ومن الوحدة إلى التعدد، ثم اندلعت متتالية من الأفعال الحادة.
وكما حدث في القصيدة السابقة ، يشهق النص شهقة مفاجئة في نهايته، تاركاً في مخيلة كل منا، أو في ذاكرته، قطرات من دمٍ عنيف:
عندما أخذوها ../ تبقّت أصابعها / في يدي ..
إن القصيدة تحفل، على قصرها، بجو عجائبي متوقد، وهي، كالكابوس، مقلقة عاصفة ، فوق طبيعة، وكأنها شظية من حلم أسود، قفزت من اليقظة إلى النوم أو من النوم إلى اليقظة، لا فرق. إنها تجسيد لعالم تختلط فيه الخصائص، يغترف الضدّ من الضد والواقع من نقيضه: يفيض الكابوس على الواقع، وتغدو الحياة قرين الغرائبي وصنوه. وبذلك يعرى الحلم الفردي من أسيجيته ، ويختلط النهار بالليل، ويكتسب السرير فظاظة الشارع .
كـوابيـس اليقـظـة
أشرت، في مقطع سابق، إلى أن السرير في قصائد يوسف الصائغ لا يبدو ، في الغالب ، إلا معتماً، وخالياً من الحياة، غير أن هذه الملاحظة قد تحتاج إلى شيء من التعديل وإن كان طفيفاً. فما يبدو حياةً، ليست أكثر من حياة سلبية أو متوهمة، أو كابوسية. إنه إفصاح عن عقمها، أو خلوّها من الجوهر والمعنى. ونحن قد نحس، أحياناً حركة ما، لكنها حركة في اتجاه الذبول، أو الرعب، أو الموت في النهاية.
تمثل قصيدة (الجثة) (٢٠) افتقار السرير إلى حركة الحياة، إلى ما يرتفع بلحظة العيش إلى مستوى الحميمية:
الليلةَ ../ في الأحلامْ .. / مرّ علي وجهيَ صوتُ تنفّسها،/ فأفقتُ ../ رأيت الجثّةَ ،/ فوق سريريَ ،/ نائمةً ../ قمتُ ،/ واشعلتُ الضوءَ ،/ ففتّحت الجثة عينيها …
سألتني/ إن كان الليلُ على أوّلهِ ..
قلت : أجلْ …
قالت: ما تأتي لننامْ ؟!
مفتتح شديد الثراء، ويعدُ بالكثير ؛ فالليل، والأحلام، وتنفس المرأة ، علامات تنتمي إلى حقل واحد أو يكاد أن يكون واحداً: حقل الجسد في توهّجه، أو استرخائه. وهذا المقطع يمثل الحركة الأولى، من حركات ثلاث تشكل الحدث الشعري، هنا، وتغذي نموّه وتصاعده .
تنغلق هذه الحركة باستيقاظ الأنا الشعرية، أو سارد الحدث. وواضح أن هذه الأبيات الافتتاحية تمهّد لبداية ليّنة وموحية إلى حد كبير. إن قارئ القصيدة يجد ، دون عناء ، أنه على وشك الانخراط في فعل جمالي خالص، أو استقبال ذي طبيعة خاصة لهذا النص، فكل العناصر المكونة لهذا المفتتح تدفع بنشاطنا التخيلي إلى وجهة محدّدة: جسدية ولذائذية مثلما هي مسترخية وآمنة.
ومن أوجه الثراء في هذا المفتتح أيضاً، أنه ينطوي على التفاتة بارعة، تسهم في توتير النص وتعميق خيوط الارتياب فيه، إن ضمير التأنيث، في كلمة (تنفّسها) يتكشف عن شحنة تضليلية كبيرة، فمرجعه يظلّ مشوشاً: أهو تنفس امرأة: زوجته أو حبيبته مثلاً؟ أم أنه تنفس الجثة التي وجدها في فراشه بعد استيقاظه ؟ وهكذا نكتشف أن ضمير التأنيث هذا مبعث حيرة تأويلية تنعش دلالة النص وتثريه.
أما النقلة الثانية فتبدأ على النحو التالي:
– رأيت الجثةَ ،/ فوق سريريّ ،/ نائمةً ..
إن رؤية الجثة، هنا، بداية لشرخ زمني، تنشطر فيه اللحظة الآنية إلى شطرين: يقظة السارد ونوم الجثة؛ لحظتان متضادتان يضمهما، رغم تعارضهما، فضاء واحد هو السرير. بكلمات أخرى تؤشر هذه النقلة حركة تتجمع قطرة قطرة، لتشكل بداية الكابوس، ومرة أخرى نلاحظ أن اللحظتين المتعارضتين لا تلتقيان في سرير ما، أعني في سرير من الأسرّة، بل في سرير محدد ينتمي إلى الأنا الشعرية، ويعود إليها عودة صريحة لا لبس فيها:
– فوق سريري
وإذا كانت النقلة الثانية تستند إلى فعل من أفعال الحواس: رأيت، فإن النقلة الأخيرة تدفع بالمشهد خارج السرير، حيث ينزلق السارد من سريره الطافح بالنوم إلى يقظة تنمو كالكابوس :
قمتُ، / وأشعلت الضوءَ ،/ ففتّحت الجثة عينيها ..
سألتني/ إن كان الليل على أولّهِ ..
قلت أجلْ
قالت: ما تأتي لننامْ ؟!
يأخذ المشهد ، في هذه النقلة، بالبروز والتبلور من خلال جملة من الأفعال المادية: قمت، أشعلت، فتّحت. يبدأ البروز أولاً، في التقاطيع الخارجية للمشهد وفي حركته عبر المكان، ثم يهبط في اتجاه الداخل من خلال اللغة وتعالق الذوات وحوارها. وهكذا يتنامى، ويسيل ويزداد سطوعاً، لكنه سطوع لا يكشف إلا ما هو مخيف وغير طبيعي ، ان الضوء لا يقترن ، هنا، بالجمال ولا يفصح عن مفاتن مستترة، بل يقترن بموت غريب أو حياة غريبة: جثة تفتّح عينيها، وتسأل عمّا مرّ من الليل، أو عما بقيَ منه. الضوء يكشف مكمن الرعب لا مكمن الهناءة.
وربما للمرة الأولى، يقترن السرير بحركة ما، صلة ما تربطه بالمشهد الكلّي؛ أو بعنصر من عناصره. أعني صلة السرير بالغرفة أو حوار الجثة مع سارد الحدث أو الكابوس.
عند هذه النقطة، أجد العودة إلى النقلة الأولى أو مفتتح القصيدة بالغة الأهمية؛ فهو يشكل الزمن الأول للحدث الشعري، أعني زمن الحلم، أو النوم. وهو زمن رخيّ ، وناعم إلى حد ما، كما أنه يعد ، كما قلت في مقطع سابق، بتفاصيل هانئة. أما الزمن الثاني في النص، فيبدأ حين يفيق السارد من حلمـه، أي حين يهبـط من حافة النوم إلى اليقظة ، و الشيق ، هنا، أن النصّ يقلب منطق الزمنين رأساً على عقب، فيضفي طابع الهناءة على الحلـم، ويجعـل زمن اليقظة كابوسياً، وفوق طبيعي.
وهكذا يغدو ما هو واقعي وعادي عجائبياً ، يغدو مجافيا لكل ما هو عقلاني: الكابوس، إذن، لا يحتاج إلى النوم أو الحلم فضاء له؛ لأن الواقع أشدّ عجائبية من العجائبي وأكثر رعباً من الكابوس (٢١) والمثير أن الجثة حين تعلم أن الليل ما يزال في بدايته، تطلب من بطل النص أن يأتي للنوم، وكأنها تشفق عليه من واقعه الكابوسيّ الذي سيطول، وكأن كوابيس النوم أخف وطأة من كوابيس اليقظة.
وإذا كان عالم كافكا كله ، كما يرى تودوروف(٢٢)، يخضع لمنطق حلمي، إن لم يكن كابوسياً، فإن عالم يوسف الصائغ ، في هذه القصيدة، وفي سواها من قصائده القصيرة تحديداً، لا تقع، بعيداً، عن هذا الوصف فهو عالم أشدّ ضراوة من الكوابيس، وأكثر غرائبية منها.
هوامش
١- أرشيبالد مكليش، الشعر والتجربة، ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي، مراجعة: توفيق صائغ، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996، ص170.
٢- يوسف الصائغ، قصائد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1992.
٣- رومان ياكبسون، قضايا الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال، الدار البيضاء، 1988، ص24.
٤- لا تتحدد ملامح الشعر دائماً داخل الصور المجازية، كما أن لغة المجاز تقع خارج مجال الشعر أيضاً، أنظر: تزيفتيان تودوروف، الأدب والدلالة، ترجمة: د. محمد نديم خشفة، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1996، ص114.
٥- يوسف الصائغ، المصدر السابق.
٦- المصدر نفسه.
٧- آرثر كورتل، قاموس أساطير العالم، ترجمة: سهى الطريحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1993، ص٢٢.
٨- مجلة نزوى، العدد 41، ص145.
٩- M.H. Abrams, Glossary of Literary Terms, fourth Edition, Holt, Rinehart and Winston, New York, 1981, p. 23.
10- يوسف الصائغ، المصدر السابق، ص388.
١١- فإنسان جوف، رولان بارت والأدب، ترجمة: محمد مسويري، أفريقيا الشرق، 1994، ص119.
12- يوسف الصائغ، المصدر السابق، ص217.
13- المصدر نفسه، ص359-360.
14- المصدر نفسه، ص٢١٢-213.
15- توم شيتوايند، معجم تفسير الأحلام في ضوء علم النفس الحديث، ترجمة: أحمد عمر شاهين، دار شرقيات، القاهرة، 1996، ص291.
16- يوسف الصائغ، المصدر السابق، ص376.
17- المصدر نفسه، ص371-372.
18- تزفتان تودوروف، مدخل إلى الأب العجائبي، ترجمة: الصديق بوعلام، مراجعة: محمد برادة، دار الكلام، الرباط، 993، ص170.
19- يوسف الصائغ، المصدر السابق، ص٣٧٣.
20- المصدر نفسه، ص210.
21- تودورف، المصدر السابق، ص208.
٢٢- المصدر نفسه.