البيوت التي كنا نقصدها خلال طفولتي كانت نوعين: أماكن زيارات مرتبطة بصداقات اختارتها أمي طوعاً، وأخرى كانت مجبرة عليها لسبب أجهله. أنا، كنت أحب زيارات أمي المرتبطة بصداقاتها الحميمة. كان معظمهم من عائلات مستورة. أمي، عند ذهابنا إلى تلك الأماكن، كانت تحدّد بسعادة التعرّجات الناعمة التي تشكّل شفتيها، وتمرّر أحمر الشفاه بخفة على شفتيها فتحوّل لونهما من أحمر داكن إلى أحمر صارخ. نخرج من الباب بخطوات قطة. تنسى أمي أحياناً، إغلاق باب البيت الرئيسي بالمفتاح. إذا ما كان الطقس خريفاً، نعمنا بطراوة منعشة، وإذا ما كان الطقس ربيعاً نعمت عظامنا بدفء الشمس.
ألتفت وأنظر خلفي في الطرقات. أشجار البطم الباسقة تنتشر على شاطئ «شفا» الممتد داخل البحر، حيث كان الشباب يجلسون في ظلها عندما لا يرغبون بالسباحة. تنطلق المراكب من شاطئ «يوورتجو»، يتمددون على شاطئ «كوربايليدرا» وعلى امتداد شاطئ «كالامش» أو يتنزهون من «شفا» وحتى «موضا»، مع ميل شمس الظهيرة على الأكتاف ومداعبتها.
كنت أشاهد أمي وقد عادت فتاة شابة أثناء تجوالنا في الطرقات وحتى أثناء هطول المطر. أمطار سنوات صباي تلك، كانت تختلف عن أمطار هذا الزمان. الريح لا تصيب المرء بالبرد، حتى الرياح الباردة ما كانت تفتح أو تعصف بياقة أو أطراف معطفي المَطَري. لقد تجوّلنا، أمي وأنا، تحت المطر وفي التراموي وفي الحافلات وفي البواخر وفي سيارات الأجرة التي نادراً ما كنا نستخدمها، ونقر قطرات المطر الكبيرة المتجمعة على زجاج النوافذ فتستحيل ماء. كنت أرسم في مخيلتي آلاف الأشكال. أرى أمي، أتخيل عصافير، وأعلاماً تركية ذوات أهلّة… ومن مشكال المطر(1) أمرّر آلاف الأشكال المتعاقبة. كنا نلعب بصحبة الأخت «إنجيلا» تلك اللعبة أيضاً مع الغيوم. الأخت إنجيلا هي بنت العائلة التي تزورها أمي عن رغبة وشوق. لا أستطيع تخمين كيف تعرّفت أمي عليهم. قد يكون هناك معرفة قديمة أو صلة قرابة بيننا. كانوا يفرحون بجنون عند رؤيتنا قادمين لزيارتهم. تحتضنني «السيدة عفّت» وتلثم شعري مرات ومرات وتتشممه. ما إن أعبر مدخل البيت حتى أركض إلى الغرفة المواجهة، حيث تمكث والدة السيدة عفّت، وكما بقي في ذاكرتي، كانت سيدة كبيرة وطاعنة في السن، ورغم تهالك جسدها، لكنها كانت تتمتع بذكاء وذاكرة حادة.
لم تكن قادرة على الحركة بحكم سنها. تجلس على مقعد مريح من الصباح وحتى المساء تتلو أدعية دينية. تخرج مصحفاً كُتب بخط اليد من محفظته الأرجوانية المطرزة بخيوط ذهبية، وتعيد قراءة ما تحفظه من الآيات عن ظهر قلب دون كلل. كنت أقبّل يدها العابقة دائماً برائحة سحرية نفّاذة لكولونيا البنفسج.كانت زجاجة الكولونيا مستديرة قصيرة ومنتفخة وذات غطاء بلون فراء السنجاب موضوعة على رف قرب رأس «السيدة نوهبا».
كانت السيدة نوهبا تغسل شعرها بالحناء، وتغطيه بقماش الشاش الأبيض مطرز الحواف. كان رقيقاً القماش الذي يغطي شعرها. قطع قماش شاش سميك كانت توجد في الصرة الموضوعة عند طرف مؤخرة سريرها، ملتفة بأكياس صغيرة من الخزامي. كانت السيدة نوهبا تتصبب عرقاً عند أدنى حركة تقوم بها، فتضع ابنتها قطعاً من قماش الشاش السميك على ظهرها. ياقات وأطواق ملابس السيدة نوهبا، مطرزة ومزخرفة بوريقات الروكوكو(2)، وكانت السيدة نوهبا تجس بيديها هذه الوريقات بين الحين والآخر. تتحدث معي وكأنني شخص كبير، وتقول للسيدة عفّت «قدمي للفتى كأساً من شراب التوكنماز(3) يا عزيزتي». كانت السيدة عفّت لا تزال تعد بنفسها شراب التوكنماز في أشهر الشتاء، وتحضر لي اللوز الحلو والفستق المقشر وتضعها بهدوء إلى جانبي. في الحقيقة، الفقر المخفي، كان ظاهراً إلى حد ما من الغرف إلى عتبة مدخل البيت الحجرية ومن العتبة الحجرية إلى المطبخ.
بيت عائلة الأخت إنجيلا، كان يقع في الأزقة الخلفية لحي «بهارية». هناك ثلاثة منازل مبنية من الآجُر، أُجِّرت بعد أن أصاب الثراء أصحابها فهجروها ورحلوا إلى ضفة البوسفور الغربية. في بعض الأيام، وعندما يكون الطقس معتدلاً والوقت نهاراً، كنا نركب عربة يجرها حصان عند ذهابنا لزيارة عائلة الأخت إنجيلا. ما إن ننعطف عند زاوية الزقاق حتى يبدو لنا بروز السقف الذي يذكّر المرء بحواف المنديل الدانتيل. كانت جميلة جداً النقوش والمنحوتات الخشبية. لم تُطلَ واجهة المنزل بالدهان منذ زمن بعيد، فاسودت وأصبحت قبيحة، لكنها تذكّر بزمان عز غابر مضى. مصاريع النوافذ مكسورة ومتهالكة، وبعد عبور الحديقة، حتى يبدو المنزل وكأنه مهجور وغير مسكون. أشجار التوت والسنط غدت بوراً من عدم العناية والإهمال…
كانت عائلة الأخت إنجيلا، تقيم في الطابق الأرضي المطل مباشرة على الحديقة. ولأن النوافذ كانت مغلقة بشكل دائم، فلا يدخل البيت لا ضوء ولا نور المواسم ولا حتى رائحة عفن القبو، لذا فداخل البيت كان دافئاً وساكناَ ويشيع فيه تغريد طير الكناري الذي تطعمه الأخت إنجيلا وريقات الخس الأخضر. جدران المدخل كانت مطلية بالشيد الأبيض. باقات ورود مجففة كانت تملأُ حجرة السيدة نوهبا. وأنا، كنت مولعاً بالتقاط شعيرات الفرشاة العالقة بطلاء الشيد على الجدران.
أثاث غرفة السيدة نوهبا لم يجدد منذ سنوات طويلة، حتى بدا وكأنه جزء لا يتجزأ من البيت. سريرها الحديدي المسنود إلى الحائط بزواياه العالية والمزين بعجرات مرتفعة من النحاس الأصفر بهت لمعانها، وعلى يمينه ويساره أرائك مكتظة بالوسائد، وطاولة جدار بمرآة يعلوها فانوسان كبيران… الآن، لا أستطيع تذكر سوى هذه الأشياء، بالإضافة إلى حلوى حفل مولد الأخت إنجيلا.
لا يستشف بسهولة أنَّ السيدة عفّت هي ابنة السيدة نوهبا. كانت امرأة صغيرة الحجم، ورغم مظاهر الوهن الشديد، لكنها مفعمة بالحيوية، لذا لا يمكن تخمين عمرها بسهولة. كانت أناملها مصفرّة جداً من التبغ لقيامها بلفّ السجائر لأمها. ترتدي فساتين طويلة تقادمت موضتها. ملابسها كانت تتغير، لكن الدبوس الماسي الذي تعلّقه على صدرها ما كان ليتغير أبداً. عكّازها المذهّب والمطعّم بحجارة كريمة وغير المعروف من غصن أي شجرة مصنوع. الحجارة الكريمة اسودّت بفعل الرطوبة. كانت السيدة عفّت تعقص شعرها على شكل كعكة. مهما حاولت أن أحصي عدد مشابك شعرها العظمية ودبابيسها ما كنت أصل إلى نتيجة. كل ما كان يمور في الخارج من صخب ومرح ومتعة وحتى الأحزان والأتراح ما كانت لتقتحم سكون هذا البيت سوانا: أمي وأنا.
كانت الأخت إنجيلا تبدو لي حورية من قصص الخيال القديمة. تمشط شعرها الأشقر وتفرده وتتركه ينساب على كتفيها. تغسل شعرها الأشقر بماء زهر البابونج، بعد غليه في وعاء على المدفأة. كنت أساعدها بتفتيت زهرات البابونج، كما كنت أساعدها أيضاً بتحضير عطر من ماء زهر القرنفل المجفف. كنت متعلقاً بها وأشعر بالسعادة عندما أكون معها. كانت تخط حواشىَ لصفحات دفتري بأقلامي الرصاص نوع «فابر»، وتحتفظ بأوراق تغليف قطع الشوكولاته المفضّضة وتصقل تغضّنها بأناملها الرقيقة، لتقدمها لي عند مجيئي. كانت تجمع شعرها، في بعض الأوقات، مثل أمها، لكن كعكة شعرها لم تكن محكمة. بعض من خصلات شعرها الناعم كانت تنسل متدلية على مؤخرة عنقها.
كنت أتساءل إن كان هناك أحد غيرهم يقيم في الجوار؟ كأن لا أحد يقيم في الطوابق العلوية ونحن شاهدون على منزل لا يقيم فيه أحد. لم نلتقِ المستأجرين يوماً لا عند مطلع الدرج ولا في الحديقة ولا تحت ظلال شجرة التوت ولا في أي مكان آخر. الأشخاص مدار حديث السيدة نوهبا، كانوا من الماضي من المهاجرين. كانت تعرض عليّ صوراً فوتوغرافية التُقطت لها مع أصدقائها القدامى ذوي الوجوه الشاحبة والوجنات المتدلية المترهلة. أما السيدة عفّت فأظن أنها لم تجد فرصة للذكريات أو للتفكير بمثل هذه الأمور. كانت السيدة عفّت تعيد ترتيب البيت بعد أن تجعل عاليه سافله، لا تتوقف وإنجيلا عن العمل على مدار الأيام. ما إن تنهي عملها المنزلي حتى تنكبّ على طارة التطريز وتشرع بتطريز قطعٍ جلبتها لتعاود بيعها. ما تبيعه السيدة عفّت بصعوبة من المطرزات، نور العين والكد والعناء يذهب بأبخس الأثمان. كانوا يضمّون بدله إلى راتب التقاعد القليل الباقي من والد إنجيلا، بالإضافة إلى راتب الأرملة واليتيم المصروف لهم من الدولة. ثلاثتهن كن يعشن وحيدات بلا رجل. قد يكون ذلك سبب عيشهن منقطعات عن العالم الخارجي. الخيط الأكثر حياة كان ممزوجاً بالشجن، والزهور الأكثر إبهاراً للعيون كانت مغمسة بالألم. في حين مختلف أشغال ومطرزات الأخت إنجيلا كانت تضفي السكينة على نفوسنا.
كانت أمي دائما تقدم الهدايا للسيدة نوهبا وللخالة عفّت وللأخت إنجيلا عند كل زيارة. لكن هذه الهدايا لم تكن كباقات الزهور ولا شوكولاته «الفوندان» الفاخرة التي كانت تقدمها أمي عند زيارتها أماكن أخرى مكرهة. كانت تترك علب الهدايا خلسة على طاولة الطعام ذات القوائم المتأرجحة الموجودة في المدخل، وتلاحظ السيدة عفّت على الفور فتقول «لمَ هذا العناء يا ابنتي». ارتعاش صوتها كان يدفعني إلى الهرب من المدخل متنقلاً بين غرف البيت.
كنا نخلع أحذيتنا عند المدخل، فتحضر الأخت إنجيلا خفوفاً تعبق برائحة النفتالين. الخفوف كانت كبيرة قليلاً على أقدامنا. في وقت شرب الشاي، كنا نتناول إفطاراً من الخبز المحمص مع الزبد والمربى. كنت أفقد شهيتي فجأة، فأبحث عن عيون الأخت إنجيلا. وما إن تتلاقى نظراتنا، حتى تكفّ معدتي عن الغثيان، وأستعيد شهيتي.
كل شيء كان قديماً، لكن ما بين تلك الأشياء البسيطة، كانت فناجين الشاي رائعة وفخمة. كانت من البورسلين الفاخر. عرواتها على شكل عصافير من الفضة مائلة نحو الشاي كأنها تهمّ بارتشاف الشاي…. بعد احتساء الشاي، تعزف لنا الأخت إنجيلا على العود، وتغني أغنية شعبية من جنوب الأناضول تقول كلماتها: «دير بالك على جمالك يا جمّال/ الجاه الآن صار لمالك المال».
لسبب أجهله، كانت السيدة نوهبا تقطب حاجبيها وتنظر بامتعاض إلى الأخت إنجيلا عند غنائها لتلك الأغنية الشعبية، أو هكذا كان يتهيأ لي. معرفتي لإغلاقهم باب البيت، عندما يحل الظلام في ساعات المساء، بحيث لا يمكن فتحه من الخارج، أثارت لدي تساؤلات حول غموض حياتهم، لم أجد لها جواباً. سماعي صوت تهشم فناجين الشاي ذوات العصافير الفضية التي كانت تقدم لنا. موت طير الكناري في قفصه ذات صباح. تصدع زجاج الدفيئة الزجاجية التي في الحديقة بصدوع طولية وازدحامها بالنحل، مقارنة بانتظارنا لأبي عند عودتنا إلى البيت.
أحد الأمور التي أثارت حيرتي، عدم زيارة السيدة عفّت والأخت إنجيلا لنا مطلقاً، أما بالنسبة للسيدة نوهبا فقد ربطت ذلك لسنها وعجزها عن المشي. ذات يوم واجهنا أمر غير مألوف عند عائلة الأخت إنجيلا. رغم أن لا أحد سوانا أمي وأنا يأتي لزيارة عائلة السيدة نوهبا، فذات عصر بداية صيف، شاب وسيم، كان يجلس على أحد الكراسي التي حول الطاولة في باحة المنزل، ويحتسي القهوة. علاوة على ذلك مصاريع النوافذ شبه مفتوحة. انعكاس وهج النهار الذي ملأ الغرف على الأثاث القديم أعطاه ألقاً وبهجة. خصلة من شعر الشاب تهدلت على جبينه. وعندما استقبلت السيدة عفّت أمي، وقف هو أيضاً على قدميه.
«خيراً فعلتِ بمجيئك، لقد انتهيت من تقطيع الأرِيشْتة(4)»، قالت السيدة عفّت.
وقالت الأخت إنجيلا لأمي باضطراب وهي تلملم جدائل خيوط الغزل مختلفة الألوان « أرجو المعذرة على هذه الفوضى».
«وهل نحن غرباء يا إنجيلا؟»، أجابت أمي.
«هذا جاهد ابن سهيلة، لابد وأنك تعرفينها، زوجة خال كامران والعم حسن»، قالت السيدة عفّت.
تبسّمت أمي. أما بالنسبة لي فهذه أول مرة أسمع فيها أسماء كامران والعم حسن وزوجة خالهما.
«جاهد أصبح مهندساً هذه السنة. لقد واجه مشقة كبيرة وهو يبحث حتى تمكن من الوصول إلى هنا، ليحفظه الله».
اتخذت على الفور قراراً بأن أصبح مهندساً. كما اتخذت من الشاب جاهد أخاً، فأنا، عندما أكبر سأصبح مثله. أكتاف عريضة، وقامة طويلة. يعطي الثقة عندما يصافح الآخرين.
صافح أخي جاهد أمي بكل احترام. كما صافحني أيضاً بكل احترام. أظن أنه كان أول إنسان يصافحني بجدية. أذكر ذلك وكأنه الأمس: أكلنا ذلك اليوم كعك عيد المولد النبوي الشريف بعد أن اجتمعنا كلنا في غرفة السيدة نوهبا. تجدّد شباب السيدة نوهبا. أرت أمي غطاء رأس بطُبع سوداء وبيضاء أحضره أخي جاهد. أن يسأل عنهم أناس آخرون ويبحثون، أيقظ كبرياء بالنفس خفياً. قالوا لي « أسمِع أخاك جاهداً قصيدةً». أدرت رأسي نحو أخي جاهد، ثم أحنيته إلى الأرض خجلاً. خرجنا ثلاثتنا إلى الحديقة، الأخت إنجيلا وأخي جاهد وأنا. جلسنا على القش في الدفيئة ذات الزجاج المصدع طولياً. عند دخولنا باحة المنزل وأثناء ارتدائنا لخفوفنا الكبيرة، كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب. غمرت حمرة الأصيل غرفة السيدة نوهبا. كان أخي جاهد يتأمل الأخت إنجيلا خلسة. عرضت على أخي جاهد الحواشي التي خطتها الأخت إنجيلا على صفحات دفتري. أخرجت العدّاد من حقيبتي المدرسية. حرّكت مواقع الخرزات. رسم أخي جاهد بالفرجار دوائرَ على دفتري. تمتمت السيدة نوهبا بضع كلمات ونفخت على وجه السيدة عفّت المتعرق من كثرة طلباتها. لم تعزف الأخت إنجيلا على العود. وضعت السيدة عفّت الأرِشْتة الخاصة بنا في كيس قماشي، وقالت: «سأعطيك أنت أيضاً ياجاهد». «سآكل عند مجيئي لزيارتكم يا خالتي». أسمعُ من جديد ترديد أسماء زوجة خال كامران والعم حسن، كما تعيد السيدة نوهبا إخراج مخطوطة المصحف من محفظته المخملية. عند الانصراف، عانقت أمي الأخت إنجيلا بحنان.
في الأشهر الأوائل من الصيف كنا نلتقي دائماً بأخي جاهد عند عائلة السيدة نوهبا. غرفة الضيوف غدت الآن تُفتح لأجله، مثلما كانت تُفتح لأجلنا. باشر أخي جاهد العمل. مجال العمل الآن مفتوحٌ أمام الهندسة والمهندسين. الجميع كانوا يرغبون بأن يصبحوا مهندسين… عندما كان يمر من«كاديوي» ما كان يفعل شيئاً سوى أكل الأريشتة عند عائلة السيدة نوهبا.
كانت السيدة عفّت تقرّب الطارات والبكرات من عينيها، تخيط وتطرز أشياء وأشياء بلا توقف. كما أن مجلات الأزياء والتطريز التي كنت قد قلبت صفحاتها لم تعد موجودة في المنظور. كان ينتشر ورق أبيض وأقمشة معدة للتفصيل تحت الطاولة في باحة المنزل. عندما خرجنا إلى الشارع سألت أمي:
«ما هي علاقة جاهد بهم يا أمي؟
«سيتزوج إنجيلا. ليسعد الله إنجيلا.»
«هل ستترك الأخت إنجيلا هذا البيت؟»
كنت خائفاً من فقدان الأخت إنجيلا. كأن قلبي الطفولي طُعن بخنجر. ما زالت إنجيلا تعزف على العود في الدفيئة الزجاجية، وأخي جاهد يغني بصوته الجهوري أغنية مطلعها «لا تئنّ بلا طائل إنسَ يا قلب». كانت السيدة نوهبا تستمع وقد فتحت نافذتها على مصراعيها. كانوا يخرجون الكناري مع قفصه إلى الحديقة ليتشمس. اخضوضر العشب وانتشر بالحديقة. حتى نباتات الفوشية الهزيلة المزروعة في أصص مصدّفة، تبرعمت وتفتحت. لم أكن أستمتع بالنظر إلى النقوش المحفورة على سقف المنزل، وما كنت أحب صوت الرجل الغليظ والملعلع في الدفيئة. ما كان أخي جاهد ليصبح صديقي المقرب.
كان الصندوق الخشبي المصقول بالشمع والموجود في غرفة السيدة عفّت يُفتح ويُغلق. في أغلب الأحيان، كنا أمي وأنا نزورهم بعد الخروج من المدرسة. كانت السيدة نوهبا تقول، عند كل فتح للصندوق وإغلاقه، « أيام زمان، كان جهاز الفتاة المتعارف عليه يتألف من قمصان كتانية محلاة بخيوط من الحرير بأشكال جميلة»، فيهزأ الجميع من حديثها هذا. ذباب التوت السمين، كان يدخل إلى الغرفة من خلال مصراعي النافذة المفتوحين. أصبحت أيامي بلا مطمح ولا بهجة، فأنا لم أعد أفكر سوى برحيل الأخت إنجيلا من هذا البيت الذي تظلله شجرة التوت. بدأت أشعر بالأخت إنجيلا بحقيقتها من لحم وعظم، ولم أعد أراها حورية من قصص الخيال. كان يُعدّ لجهازها كل شيء بما فيه الملاءات والأغطية السميكة.
ما كانت أمي تقول سوى «لم ينمُ النجيل في الدفيئة منذ سنوات، بسبب نبات الشمعة المشؤومة هذه». أثناء خياطة ملابس الخطبة ساءت العلاقة. زيارات أخي جاهد أصبحت قليلة. ما عادا يذهبان إلى الدفيئة ويغنيان. لقاؤه بالأخت إنجيلا كان بارداً وفيه جفوة. اختلف نمط جلوسه وحركته، لباسه وملبسه. لم يعد يرسم بمثلثه أشكالاً مختلفة على دفتري. زهور الشمعة في الدفيئة ذوت على أغصانها.
كان غامضاً سبب عدم خطبة أخي جاهد والأخت إنجيلا. ما كانت أمي تجيبني كلما سألتها. وأنا سرعان ما نسيت الأمر لانقطاعنا عن زياراتهم. على أية حال فالعطلة كانت قد اقتربت، وهوس الصيف سيطر على تفكيري.
كانت السيدة عفّت تستقبلنا بعينين محمرتين كالجمر. عُلّقت ملابس الخطوبة «التفتا» الشفافة ذات اللون الوردي الفاتح، في خزانة الثياب القديمة. وأمي تقول «لا تحزني يا أختي عفّت… لا يوجد مثيلة لإنجيلا في هذا الزمان. لم تنقطع قسمتها». لكن أمي أيضاً لم تكن مقتنعة كثيراً بما تقوله. أُعيد الكناري لمكانه القديم. اختفى بصيص الأمل بالحياة في ابتسامات الأخت إنجيلا. ومن ثم، بدأت تهزل، واتقد جسمها النحيل من الحمى. قالت أمي «ما هذه الفعلة الشائنة! كم هي معيبة معاملة عائلة لا معيل ولا ملاذ لها بهذه الطريقة!»
أمي، امرأة ترتدي القفازات البيضاء في المناسبات الاجتماعية وتحمل مظلة واقية من الشمس. قالت ذات يوم «ما عاد أحد يتقدم لخطبة إنجيلا من بعد الآن. شوهدت مرات عدّة بصحبة هذا المهندس الشاب. كما سُمع غناؤُهما في الدفيئة وهو يلعلع في الأجواء».
تناقلت الألسن بطريقة مختلفة، أحوال عائلة السيدة عفّت من خلف ظهورهم: كسبهم العيش من أشغالهم اليدوية، وأشغال الإبرة، ومن خلال مساعدة الهلال الأحمر، والعلاقة بالشاب الوسيم.
مرَّ صيف على فسخ الخطوبة. صيف طويل انقضى. شاهدنا أخي جاهداً في حي «موضا» بصحبته فتاة قصيرة وأنيقة جداً. كانا يهمّان بدخول نادي البحر. شعر الفتاة الشابة صُفّف على شكل جعدات. كانت تتكئ في الصعود على كتف أخي جاهد، وخصلات شعرها تداعب وجهه… موسيقى الجاز كانت تُعزف في نادي البحر. حشد من الجمهور قدم بالقوارب لمتابعة الراقصين. أراد أخي جاهد ابن سهيلة زوجة خال كامران والعم حسن، السلام على أمي، لكن أمي قابلته بوجه من جليد، فلوّح لي بيده، فسحبتني أمي من ذراعي وابتعدنا عنه.
عندما تقام حفلات الزفاف، تنزل العروس الدرجات بوجه ضحوك، ويمرح الأطفال في وسط القاعة. تقوم النساء بإصلاح حال شعرهن المصفف. تُقطع كعكة الزفاف.
أنا لا أذهب أبداً إلى حفلات الزفاف.
فتحت الورقة الوردية التي بداخلها بضع قطع من حلوى السكر وقطعة راحة واحدة. شاهدت صورة وجه الأخت إنجيلا بطبعته الشاحبة على ورقة التغليف الوردية. كان الثلج ينهمر على الدفيئة الزجاجية، يتساقط ويذوب منساباً إلى الداخل من خلال شقوق الزجاج المتصدع.
البرد الشديد أعقبه هطول الأمطار.
«أهلاً وسهلاً»، قالت أمي.
«الأمطار تهطل بلا توقف، بللّت معطفي الفرو»، قالت ضيفة أمي ذات المظلة الواقية من الشمس. خلعت حذاءَها ذا الساق الطويلة. انتفش وبر فرو معطفها. وبينما كانت تدخل إلى الغرفة حيث تشتعل المدفأة، سألتْ «هل سمعتم؟ جاهد، الشاب الذي كان على صلة بابنة أصحابكم إنجيلا، خطب ابنة السفير السابق السيد «رجائب»، وسيتزوجان زواجاً صاعقاً (5) «. سكتتْ لحظة وقد غمزتْ بعينها غمزة ذات مغزى.
«السيد رجائب سعيد جداً. بالتأكيد سيكون سعيداً، جاهد شاب وسيم كما أنَّ له مستقبلاً واعداً» .
لم تستطع أمي منع السيدة الضيفة من أكل كعكة الموز.
*****
سليم إلري ولد عام 1949 في استانبول. بدأ الكتابة وهو على مقاعد الدراسة ونشرت له المجلات الثقافية أعماله وهو ما زال في مرحلة الدراسة الثانوية. درس الحقوق في جامعة استانبول. أول مجموعة قصصية له «وحدة يوم السبت» صدرت وهو ما زال في سن التاسعة عشرة. نال جائزة المجمع اللغوي التركي عام 1977 عن روايته «قبو كل ليلة»، وجائزة سعيد فائق عام 1978 عن مجموعته القصصية «آخر أيام الصداقة»، وجائزة أورهان كمال عام 2002 عن روايته «هذا الصيف سيكون أول صيف للفراق»، ومنحته وزارة الثقافة التركية لقب «فنان الدولة» عام 1998.كتب العديد من القصص والروايات والمسرحيات وتُرجم بعضها للفرنسية. ما زال يعمل بتقديم برنامج تلفزيوني يحمل اسمه.
ملاحظات المترجم:-
1-منظار يحتوي على قطع متحركة من الزجاج الملون ما إن تتغير أوضاعها حتى تعكس مجموعة لا متناهية من الأشكال الهندسية المختلفة الألوان.
2- أسلوب في التزيين راج في النصف الأول من القرن الثامن عشر يتميز بالزخرفة البالغة.
3-شراب تقليدي في الأناضول يحضّر من منقوع الفواكه المجففة المختلفة حتى يتخلل.
4-نوع من المعكرونة البيتية تصنع من رقائق العجين.
5-مصطلح في اللغة التركية لمراسم زواج سريع يعطي مفهوم وجود حالة عشق قوي بين الزوجين قبل زواجهما.
الترجمة من التركية: صفوان الشلبي\
\ كاتب ومترجم من الأردن