( ١ )
اللفظ والمعنى، الشكل والمضمون، العاطفة والفكرة، ثنائيات ضدية صاحبت حقب التأويل منذ الأولين وحتى اليوم، وأحسن المدارس النقدية حظا تلك التي قررت مواجهة النص بوصفه كائنا حيا ينمو، أو من المفترض أنه ينمو، ولكن حتى هذه المدارس لم تسلم من الانغلاق في جسد النص كما فعلت البنيوية والأسلوبية من بعدها، وبقيت الدلالة إشكالية كبرى إلى أن وجدت خلاصها، لاحقا، فيما عرف باللسانيات النصية، والنظرية العامة للخطاب.
وعلى الرغم من ذلك فإن الطفرات التي شهدتها القصيدة الحديثة منذ الستينات وحتى الآن (وأعني هنا القصيدة العربية) لم تسلم تماما من إشكالية النظر على أساس من تلك الثنائيات الضدية، وتحت هذا العنوان ؛ قل ما شئت.
يبقى السؤال الجوهري الذي يتطلب إجابة جادة بوصفه محورا أساسيا في أي تأويل يستند على مرجعية منهجية؛ هذا السؤال هو: أي الاثنين يطرح الآخر ؛ النص أم المفهوم ؟ ومن الضروري هنا تحديد أن النص لكي يكون نصا ؛ لابد له من شروط أساسية وفق التوجه اللساني النصي الحديث، وتشمل أولا: الوسائل اللغوية المشكلة لجسد النص على الورق، بدءاً من الحرف ثم الكلمة ثم الجملة ثم الجمل ومختلف سبل الربط بينها، والمقطع والمقاطع، والحيل الأسلوبية وإحالات الضمائر والتكرار والتوازي.. الخ، ثم أخيرا جملة النص، وثاني هذه الشروط ما يقصد به شبكة المفاهيم/ المعاني/ الدلالة، الرئيسية منها والفرعية، وثالثها ما يمثل غاية الشاعر من رسالته الشعرية (القصيدة)، أما الرابع فيتصل بمدى وصول الرسالة وتأثيرها في المتلقي، وهذا يعني أن على النص أن يمتلك مفاتيحه التي تساعد المتلقي على فض عوالمه المبهمة ما أمكن ذلك، وخامسها ما يبوح به النص من إشارات تنحو نحوا معرفياً خبرياً على صعد اجتماعية أو سياسية الخ، الشرط السادس ملاءمة النص للموقف/الحدث/المناسبة، في إطار عملية الإرسال والاستقبال، بحيث تتحقق الفائدة منه، شعورية كانت أو قيمية أو خبرية أو بالإجمال (تأثيرية)، والشرط السابع والأخير ليكون به الكلام نصا هو علاقة هذا النص بغيره من النصوص، سواء كانت هذه العلاقة بالإحالة أو الاستضافة أو التوازي أو التقاطع أو القلب، تلك هي شروط النصية في عمومها(١).
أما المفهوم فهو ما نعبر عنه إجمالا بالمعنى أو الدلالة، وأي نص يشتغل على مفهوم أو مفاهيم رئيسية، يساندها عدد من المفاهيم الفرعية تسمى المفاهيم الثانوية ومهمتها دعم استمرارية المفهوم الرئيس وصولا إلى ذروة قصد الرسالة/القصيدة الشعرية، ووفق التحديد السابق للإصطلاحين (النص – المفهوم) يتضح أن المفهوم يندرج ضمن مقومات نصية أي نص، وعلى ذلك ؛ نتفق مبدئيا على أن النص هو ما يفرز المفهوم.
ولكن ماذا لو كان الشاعر مفكرا سلفا، بمعنى أن فكراً ما يتسيد الرؤية الشعرية قبل تشكلها على الورق في شكل نص شعري؟ ومتى يكون الشاعر مفكراً ؟ وما القدر الذي يجب أن يكون عليه فكره وهو يصوغ تجربته ؟ وما الحد الضامن لتحقيق شعرية نص كتبه شاعر مفكر؟ ثم ما موقفنا نحن كمتلقين أولا وكنقاد ثانياً ؛ في محاورة نص يحركه فكر سابق، فكر منضبط، وإن بدا لأول وهلة فوضويا فانتازيا؟ قارئ نصوص الشاعر صلاح دبشة عليه أن يتحسب لمثل هذه الأسئلة، إلى جانب أسئلة لاحقة تطرح ضمنا في ثنايا هذه القراءة لملامح من أعماله السابقة عموما، وديوانه الأخير «سيد الأجنحة» على نحو خاص.
في ظني أن أهم ركائز رؤية الشاعر صلاح دبشة، والتي تمثل منطلقات أساسية يعمل عليها أو من خلالها ؛ تقوم على الآتي: الفردانية – الآخر/الآخرون -المهمش (حاضرا أو مستدعى) – التفاصيل اليومية، ولكي تأخذ هذه المحاور إيقاعها الأقصى ؛ فإن سياجا محكما يصهرها في ضفيرة مدهشة، تلك التي أدعوها أناقة صياغة المفارقة بنمطيها اللغوي والرؤيوي، وهذه المفارقة هي مطية صلاح ووسيلته الأثيرة في تصدير رؤاه وسخريته ومدركاته كافة، ولولاها لبدا لنا شعره عبر نصوصه/رسائله الحادة ؛ كيانا مهلهلا أو فوضى متشعثة.
( ٢ )
فأما الفردانية التي أعنيها فهي أن يضع الشاعر نفسه على الطرف الآخر من العالم والمحيط، مصرا على هذه المسافة الهلامية ليتمكن من نثر تعاليمه الكبرى، وللفردانية علاماتها اللافتة في عالم صلاح دبشة الشعري، تبدأ من عناوين دواوينه الأربعة التي تحمل دلالات صارخة على هذه الفردانية، فياء المتكلم في «نحوك الآن كأني(٢)» دلالة أولى، ثم اختزال المشبه به مفسحا المجال للمتكلم في مواجهة مع المطلق؛ دلالة ثانية أكثر عمقا، وفي الديوانين اللاحقين «مظاهرة شخصية ١/٢» إلحاح على هذه الفردانية (إلى جانب كونهما يمثلان المفارقة المشار إليها في أبلغ دلالاتها، وهو ما سأتوقف أمامه لاحقا) إذ الإصرار على شخصنة المظاهرة؛ يعكس إلحاحا مقصودا على تمثل تلك الفردانية، وفي ديوانه الأخير «سيد الأجنحة» يصعد دبشة بفردانيته درجات أعلى، عندما يوسع محيطها متجاوزا المكان/ الأماكن، إلى فضاءات السماء.
هذا النسق في الرؤية، أعني الفردانية في إطار المفارقة ؛ لا يعكس بالضرورة نزقا شخصيا أجوف، بل هو موقف من يريد اتخاذ موقف من مطلق المحيط : الناس، العلاقات الاجتماعية، السلوك، المقدس، التاريخ..الخ، هذا هو ما قصدت به الآخر/الآخرين، فهم دائما مدانون بالأثرة أو غلظة القلب من منظور «أنا» الشاعر:
«استند إلى سيارته/ ومد يده في الشارع/………/ سيارات كثيرة تمر في هذا الشارع/على يده/ التي سحبها من كثرة الدهس»(٣).
تأخذ «أنا» الشاعر/ (الآخر- الآخرون) صورا مختلفة من الاحتدام بحكم تباين الرؤى ومنزع النظر:
«لن أطير الآن/ حتى لا يلتفتوا إليّ/ ويقيدوني/ لم أكن كاذبا/ عندما ابتسمت لحائط» (٤)
ولا تقتصر فردانيته على اشتباك «أناه» مع الآخر ؛ بل تتعدد أقنعتها لتشمل شخصيات أخرى:
«المرأة التي تصرخ / جعلت زوجها شارعا/قلبه/ يلوح للسيارات»(٥)
ثم هي تتجاوزه ومختلف تقمصاتها للشخصيات الإنسانية، إلى كائنات أخرى:
«مررت بطائر/ مسجى على أرض سائبة/ نتافات ريشه تتبع الريح/ أو تغوص في طين/ كان بجناحيه/ يغطي نصف وجهه/ أراد مسح دموعه/ حين خانه الهواء»(٦)
الشواهد على أنساق الفردانية أكثر من أن تحصى ؛ بل هي تشكل ظاهرة جديرة ببحث مستقل لاتساع رقعة انتشارها على نصوص الشاعر، منذ ديوانه الأول وحتى الأخير، إلا أن المهم هنا هو ما تسفر عنه هذه الجدلية المستمرة الاشتباك بين أنا الشاعر والآخر/الآخرين، وهو ما سميته في موضع سابق بـ «إعلامية» النص، ومن ثم فكر الشاعر المتسيد على رؤيته الشعرية، سواء الفكر المحرك لدى الشاعر، أو ذلك المستنتج «أثرا» لدى المتلقي، وفي أنحاء تلك الجدلية المشتبكة ؛ تتفشى التفاصيل بما تعكسه من هامشي (ماثلا كان أو مستدعى)، فالماثل هو المعاش المعاين المرئي في بصر الشاعر وبصيرته معا، بما ينضح به من فوضى مريعة أو خصوصية منتهكة:
«في منزلنا الكبير / أحلم/ أن تكون لي غرفة»(٧ )
أما المستدعى من التفاصيل ؛ فيعمل خلفية للماثل المعاش في توازن تتوحد فيه إدانة أنا الشاعر للمحيط بلا استثناء:
«حين فقدت لعبتي/ جناحين على خشبة/ قالت أمي: طارت»(٨)
من البديهي ألا تكون الفردانية قصرا على شاعر بعينه، من حيث هي مقوم أساس ومشترك ومحرض أولي للرؤية لدى الشعراء كافة في نظرتهم المخالفة في عمومها إلى الآخر، إلا أن ما يجعل لها وقعا خاصا في نصوص صلاح دبشة ؛ أنها جاءت اختيارا، ولم تكن نتاج تهميش اجتماعي أو اضطهاد سياسي مورس على الشاعر قسرا، كما هو الشائع مع غالبية الشعراء المتمردين المشاكسين، ولأنها كذلك ؛ فقد أتاحت له براحا مكنه من بذرها على امتداد رؤيته الشعرية، وهو ما منحه قدرا كافيا من الجرأة المحسوبة، خصوصا وهو يمارسها متحررا من الضغوطات المفترضة كافة، ولأن هذه الحرية لم تمنح للشاعر ولم يستهلك طاقته في سبيل الحصول عليها ؛ فقد منحته بعدا أعمق للوعي بالاختلاف، لذا لم يكن غريبا أن يختتم رحلته في «سيد الأجنحة» على هذا النحو من الشفافية:
«من هذه الربوة/ أنظر إليهم من بعيد/ باسطا ذراعي/ أنا القصي / سيد الأجنحة/ هف هف/ هف» (٩)
هذه المجاهرة التي هي أشبه ببيان ختامي؛ نصبت من أعمال صلاح السابقة، وديوان سيد الأجنحة خصوصا ؛ رموزا في سيمياء المخالفة، عندما يختزل الجميع في ضمير لاحق (إليهم) موسعا معها محيط الاختلاف عبر ما سبق من أعمال، وفيما سيأتي منها، باعتبار النص السابق مسدلا الستار على ما كان من أعمال، ومفتتحا لما سيأتي منها.
( ٣ )
تأتي المفارقة بما هي نسق تشكيلي ورؤيوي في نصوص الشاعر صلاح دبشة لازمة لافتة، تسم ملامح وتفاصيل تجربته الشعرية، وأكاد أقول على الاطلاق، والحديث عن المفارقة متصل بما سبق عن فردانية الرؤية في النص، إذ كلاهما في محيط الاختلاف، وإذا كانت الفردانية خيارا مبدئيا للرؤية في النص؛ فإن المفارقة بشقيها (التشكيل النصي والمفهوم الرؤيوي)؛ جاءت ضرورية لحوار المسافة بين أنا الشاعر والآخر/الآخرين، وما يجعلهما معا (الفردانية/المفارقة) متسقين ؛ تلك الدهشة وكسر النمط ونفض الساكن واستحضار المألوف مصطدما بالماثل غير المألوف، لتفضي في النهاية إلى ذلك التشاكس بين الشاعر ومتلقيه.
فكيف صاغ الشاعر مفارقاته ؟ أرى أن مسألة أسبقية الفكر التي طرحتها في مطلع الدراسة ؛ لعبت دورا مهما في ذلك، وبإضافة ما سميته وعي المخالفة (وهو هنا يشمل قبل وأثناء وبعد زمن الكتابة الفعلية وما يليها من مراجعات إلى أن يأخذ النص شكله النهائي) ؛ فإننا أمام ما يشبه القصد المتعمد، إلا أنه لم يفقد نعومة عفويته وسلاستها.
الناظر في نتاج الشاعر عموما، وديوانه الأخير «سيد الأجنحة» خصوصا يرى تفاوتا في تشكيل المفارقة، يبدأ من المباشرة التي تصل إلى حد النحت المقصود، كأن يقول:
«أطل كشمس/ النوافذ تفتح أذرعها/ لأدخل في غرف/ أبوابها موصدة»(10)
أو يرتقي بها لتأخذ أبعادا اعتمالية أكثر عمقا:
«أحط قرب قافلة من أشجار الأسل/ ألاعب قطرات الندى»(١١)
فإذا استدعينا عنواني ديوانيه السابقين (مظاهرة شخصية١/٢) وتساءلنا عن كيف تكون المظاهرة شخصية؛ تبدّى لنا شعور حاد بقلق أنا الشاعر في علاقته بالمحيط على جناح المفارقة، التي اتخذ منها أداة كشف للرؤية في مهمة متواصلة الكدح لاستنطاق الغائب المأمول أو طمس الماثل المزيف.
( ٤ )
نصوص صلاح دبشة قد تتشابه في الظاهر، بوصفها قلقا مفهوميا دائم الاصطدام والتشاكس بمفاهيم الآخرين، إلا أنها من منظور آخر تأخذ أشكالها المميزة، وهذه النصوص يمكن تقسيمها (كأنساق بنية) إلى ثلاثة أقسام:
الأول: نصوص قصيرة شفرية الأثر مهمتها تسليط فلاشات حادة على ما يراه الشاعر، إجمالا، عورات مجتمعية أو وجودية وتمثلها قصائد: من دفتر الهبوط(12)/ من دفتر الهبوط – الورقة الثانية(13) / وقصائد ?545;تلويح، أفق، جنوح، أرق، عباءة ألأم، عصا الأب، امتحان الخفة، امتحان الحلم، الصعود إلى القمة، النجوى، النأي?547;(14).
الثاني: قصائد تحمل عنوانا واحدا على فرعيات مرقمة أو معنونة، قد تتغاير مفهوميا في الظاهر، ولكنها تظل على عضويتها فيما يشبه الحبل السري بانضوائها تحت العنوان الأم، وشواهدها: جذاذات ولد مهذب / نريدهم على أشكالنا / يقول أبي إنها من أجلنا / ومهددون بالسلاح الكيمياوي(15)، وقصيدتا: المعلقات السبع / سهرة مستقلة(16)، وأخيرا قصائد: الهواء / ريش / البيت المهجور / الأطياف(17).
الثالث: النص الطويل، ولا أقول المفتوح، وإن كانت الدواوين السابقة قد خلت منه أو كادت ؛ فان ديوان «سيد الأجنحة» شهد زخما لهذا النص الطويل، بما يعد نقلة على صعيد بناء النص، إذا عددنا ذلك تحولا، فإلى جانب قصائد: الأجنحة، السرايات، الخيط، الفقاعات، بوصفها نصوصا طويلة نسبيا في الديوان ؛ يقف نص «الهاوية» ليس فقط شاهدا على التحول إلى النص الطويل، بل يجاوز ذلك إلى معمارية مختلفة عن طريق تداخل طقسي القص مع الأسطورة، إذ عمل تداخلهما معا على تصعيد الحدث في النص عبر دراما مشوقة، تجاوزت فيها الرؤية الشاعرة محض التناص مع أسطورة موروثة بهدف إسقاط ما ؛ إلى صياغة أسطورة بكر عبر رحلة النفاذ من الإطار/القلق إلى الهاوية التي ألح الشاعر على بلوغها، لتطل علينا المفارقة من جديد في أكثر وجوهها إدهاشا، من دون أن يتخلى الشاعر عن لازمته المفضلة القائمة على فردانيته التي عكستها ضمائر المتكلم والغائب والمخاطب (التفاتا)(18).
هذه الأنساق الثلاثة التي جاءت عليها نصوص الشاعر ؛ هي تنويع على إيقاع واحد حسب رأيي، ولم يكن ذلك محض تكرار، بقدر ما ضمِن استمرارية الرؤية الشعرية في دواوينه الأربعة، لاستنفاذ بوحه الذاتي الفرداني في تصدير مواقفه من محيطه المفارق، إلا أن التحول إلى النص الطويل يشي بنقلة محتملة لتشكيلات جديدة فيما سيأتي من أعمال.
( ٥ )
لا نزال قريبين من عوالم الفردانية والمفارقة، ولكن من زاويتين، الأولى: آلية الشاعر في تشكيل الخيال في النص، والثانية: تتصل باللغة عندما تجاوز دلالاتها القريبة لترتقي رموزا لمفاهيم خاصة بالشاعر، وهو ما درجنا على تسميته بالمعجم الشعري.
فأما الخيال فإنه ينحو نحوا مركبا، بمعنى أنه يتجاوز اللقطة المفردة إلى المشهد المترامي، بما يعنى أيضا تجاوز الاحتفاء بالصورة المفردة النمطية إلى عالم مشتبك الأحداث، ولا يحتاج ذلك من الشاعر نصا طويلا كي يحققه ؛ بل يحدث في أكثر المقاطع اختزالا، من دون أن يفارق قلق الأنا في اشتباكها مع الآخر/الآخرين:
«أمشط شعري إلى الوراء / قبل انطلاقي في الشوارع/ لأصير أسرع/ من أولاد الجيران»(19)
ويأتي تشكيل المشهد متحررا من النمط التقليدي القائم على مفردات البنية التشبيهية، ولكنه، وعوضا عن ذلك ؛ يصدر عن بنية خبرية تأخذ طابعا قصصيا في الغالب:
«في مرة كنت/ أرسم أسلاكا شائكة على الرمل/ أمام حيطان تمد ظلالها/ نحو بابكم»(20)
وأحيانا يبدأ الخيال من حيث تنتهي اللغة من رصد الموقف أو الحكاية، مفتوحا على احتمالات عديدة عدد قارئيه:
«اششش/ ها هي قادمة إلينا يا قلبي/ فلنهرب / كل واحد في جهة»(21)
فإذا تجاوزنا المقاطع القصيرة إلى النصوص الطويلة نسبيا، يبدو المشهد التخييلي أكثر تركيبا، وربما تعقيدا، خصوصا عندما نستشعر وعيا مسبقا بإحالة هذا التشكيل ليكون أكثر إدهاشا وغرائبية، ويبدو هذا جليا في نص «الهاوية» (بوصفه مثالا على ظاهرة)، إذ يأتي تشكيل المشهد إطارا لأحداث القص، وبغض النظر عن بساطة الحكاية أو تعقيدها؛ فإن التشكيل الداخلي هو ما منحها بعدا أسطوريا، وأحالها إلى حكاية مدهشة، ونظرة مختصرة على نماذج من هذا التشكيل التخييلي تكشف عن ذلك بجلاء:
– طفوت في سماء خاوية/ – رحت أحرك يدي في ظلمة لا تعرف أحدا / – على دمي الرعونة والدفوف/ – لا أسمع صدى سوى نواح مروري في الهواء / – كثرتي تتناقص وراء دموعي المتطايرة / – رمقت ما في الحضيض من حياة /
– لمست استطاعتي في أن أهوي جالسا
– استعدلت واتكأت على كتل الهواء المندفعة
– ربما أصحو واجدا نفسي ميتا على رصيف
-… الخ
وتكاد تكون التشكيلات الداخلية لتفاصيل مشهد السقوط في النص ترجيعات شديدة التكثيف لصناعة الغرابة في جسد الأسطورة، غير بعيدة عن حياكة المفارقة، إذا انتبهنا إلى أن السقوط لم يكن قدرا يُسعى إلى الهروب منه؛ بل جاء رغبة طال الإلحاح عليها منذ لحظات الطفو الأولى وحتى السقوط النهائي بعد رحلة مجهدة.
ثمة ملمح أخير يتصل بالتشكيل النصي للخيال في نصوص الشاعر صلاح دبشة، وهو الجنوح إلى الإيغال في رصد التفاصيل، يدعم استقصاءه المنضبط في بلوغ أقصى درجات الإدهاش:
«أفقد الإحساس بقدمي/ في نهار حجب السماء بشال أسود/ تناثرت فيه غيوم رهيفة/ وطيارات ورقية»(٢٢)
( ٦ )
عندما تبلغ اللغة حدا من النضج في وعي الشاعر، تتخلى عن دلالتها الإبلاغية شيئا فشيئا واصلة إلى آفاق الرمز، وهذا يعني أن عددا من مفردات اللغة (يقل أو يكثر) مرشح لأن يشكل سيميائية خاصة في لغة هذا الشاعر أو ذاك، وتأتي لغة صلاح دبشة في هذا السياق لتشكل مفاهيمها الرامزة والمنتسبة إلى معجمه الشعري بشكل بات واضحا، ولأنتخب مفردة «الهواء» في ديوانه الأخير شاهدا(23)، فلم يكن ورود هذه المفردة عفويا، بل تلونت بمختلف الألوان المفهومية عدد ورودها في كل سياق، ومن ثم أراها تحيل إلى مفهوم خاص في وعي الشاعر ولا وعيه على السواء، فهو أحيانا يستخدمها في دلالتها المعجمية المألوفة:
«ومن جيبي رميت أقحوانة/ دارت مثل مروحة تهف على الشمس / وهي تميل بخفة في الهواء / ترسم استدارة نهد»(24)
غير ذلك وأشباهه ؛ فإن مفردة الهواء تأخذ أشكالها، فتعكس أجواء من الخوف والخطر:
«انزويت مخبئا رأسي بين ركبتي/ ممسكا بقضبان سور
أتوجس انجرافا هائلا /……/ الهواء»(25)
أو تأتي مفردة «الهواء» لعوبا مراوغة:
– «أراد مسح دموعه / حين خانه الهواء»(26)
– «في المسافة من بابنا إلى بابكم/ تلهو روحي في الهواء»
وشيئا فشيئا يأخذ مفهوم الهواء عوالم غير مستحبة، مما يدفع الشاعر إلى استفزازه ومشاكسته:
«كنت أعبث بالهواء/ أفجر بالونات جلبها أبي»(27)
عدا ما سبق ؛ يدخل الهواء ( المفهوم/الرمز) بؤرة أكثر جدلا وسخونة في تجلية فردانية الشاعر ومفارقته المحيط، فيكتسي بالكراهية والقهر والاستبداد وصولا إلى العدوان، في تصريحات الشاعر تارة، وتلميحاته تارة أخرى:
– «كل مختنق مات / كان ثمة هواء في صدره»
– «شرع الهواء يثقب جسمي/ من كل جهة»
– «ما أكتبه حرا/ في بخار فمي على زجاج السيارات/ ………/ يمسحه الهواء/ وحين أصعد ربوة / يهب فجأة علي
هس»/ – يا بنت / الهواء يرفع قراطيس القضبان/ منذرا هبوبه/ ليجرف حكاياتنا»(28)
ولا يقتصر ورود «الهواء» بوصفه كائنا مباشرا يفعل في الحدث ؛ بل يرد أحيانا مطية لعوالم أكثر عدوانية وإفزاعا:
– «أدخل في ظلال السدر وخزانات المياه/ والهواء يتبعني بلفحاته/ ………/ آلهة وشياطين/ تدنو بحشود تترى في الهواء»/ – صارت غيمة شائبة على علوّ/ تنفذ منها الأشعة
رأيتها وجه هواء يتهيأ للانقضاض»/ – لا أمسك بشئ ولا أسمع صدى / سوى نواح مروري في الهواء»(29)
يصل مفهوم «الهواء» إلى ذروته الضاغطة عندما يحال إلى مطلق تحدي محاولات الخلاص كقدر محتوم لا فكاك منه، متوازيا مع الموت أحيانا، أو الموروث المقدس أحيانا أخرى:
– «حين يهب الهواء/ لا يستقبله أحد / تخلو الشوارع والساحات/ والأشجار لا تنحني/ بل تصد»
– «فيا هواء دعني وعد لعرشك في السديم/ لواحاتك في السرمد»(30)
( ٧ )
أخيرا، لقد أطال الشاعر تفتيش ذاته، حتى ليخيل إلي أنه نثرها كلها عبر نصوص «سيد الأجنحة» وما سبقه من إصدارات، وأطال كذلك في ممارسة صرامة الانضباط على بوحه الذاتي هذا، حركة وسكونا، كلمات وتراكيب، مقاطع وقصائد، وتحفظ كثيرا في فك لجام المغامرة والانطلاق مفضلا الروية، ولكني أرى أنه قد آن الأوان ليرفع صلاح دبشة قبضته الثقيلة عن الشاعر صلاح دبشة، عندها ستتكشف حتما وجوه أخرى.. أكثر إبهاجا.
الهوامش
٭ شاعر من الكويت.
١- تجمل هذه الشروط في : السبك، الحبك، القصد، القبول، الإعلامية، المقامية، التناص، على الترتيب السابق، وفق اصطلاحات اللسانيات النصية .
٢- عنوان الديوان الأول للشاعر
٣- مظاهرة شخصية /١ – ص12
٤- مظاهرة شخصية /١ – ص21
٥- مظاهرة شخصية / ٢ – ص12
٦- سيد الأجنحة – ص ١١
٧- السابق – ص 16
٨- السابق – ص 16
٩- السابق – ص 81
10- مظاهرة شخصية/١ – ص23
١١- سيد الأجنحة – ص80
12- مظاهرة شخصية/١
13- مظاهرة شخصية/٢
14- سيد الأجنحة
15- مظاهرة شخصية/١
16- مظاهرة شخصية/٢
17- سيد الأجنحة
18- أجريت إحصاء لما يقارب التسعين ضميرا في نص الهاوية، غلب فيها المتكلم على المخاطب والغائب بشكل لافت.
19- سيد الأجنحة – ص17
20- السابق – ص18
21- السابق – ص19
٢٢- السابق – ص47
23- اللافت أن مفردة «الهواء» لا يكاد يكون لها ذكر في دواوينه السابقة باستثناء ورودها مرة أو مرتين إلا أن تواتر ورودها في «سيد الأجنحة» جعل منها شاهدا على تحولات اللغة بدءا وانتهاء .
24- سيد الأجنحة – ص25
25٥٢- السابق – ص10
26- السابق – ص١١، ٢٢
27- السابق – ص13
28- السابق – ص ١١، 53، 12، 29 على الترتيب .
29- السابق – ص 39، 47، 49
30- السابق – ص 14، 54 .
محمد عليم
شاعر وباحث من مصر مقيم في الكويت