تبدأ الكاتبة السعودية ليلى الجهني روايتها من النهاية على طريقة الفلاش باك Flashback ثم تستعيد أحداثها تدريجياً عبر أزمنة تحدّدها بالشهر واليوم والساعة لتنقل القارئ بين عالمين مختلفين في الرواية أحدهما سياسي يحدث في بغداد والآخر عاطفي يحدث في المدينة المنورة.
تبدأ الكاتبة فصولها الروائية باقتباسات من أخبار تتناقلها وكالات الأنباء العالمية حول حادثة غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق منذ الاستعدادات الأولى للحرب وحتى الإطاحة بصدام حسين،ثم تنقل القارئ بعد ذلك إلى عالم مختلف حيث علاقة الحب التي تعيشها بطلة الرواية ، لين ، الشابة البيضاء المثقفة التي، كما في نص الرواية ، «أحبت رجلاً أسود» اسمه مالك .
الأزمة التي تتمحور حولها الرواية تتلخص في رفض المجتمع لمثل هذه العلاقة غير المتكافئة بين فتاة «من بنات العرب» وشاب أسود فشل في امتلاك «صك الغفران» الذي يؤهله إلى أن يتقدم لخطبتها، رغم محاولاته الكثيرة في الحصول عليه لكنه دائماً ما يُقابل بهذين السؤالين: «عندك واسطة كبيرة؟ ولاّ تعرف تلعب كورة ؟» أي أن الفكرة الرئيسية التي تناقشها الرواية في تقديمها لهذا الموضوع المثير للجدل هي كما جاءت على لسان مالك نفسه الذي قال «العنصرية القذرة التي تسبح فيها الحيوات من حوله : بدوي، حضري ، حجازي ، نجدي ، قبيلي ، خضيري ، صانع ، تاجر ، 110 ، 220، عبد ، كور ، كويحة ، طرش بحر ، بقايا حجاج.»
وقد استخدمت الكاتبة الطريقة المطلقة في السرد The omniscient point of view التي تعتمد على استخدام ضمير الغائب ، الأمر الذي أتاح لها فضاءً واسعاً في التنقّل بين شخصياتها كيفما أرادت والدخول إلى عقولهم وأفكارهم مع إمكانية التفسير والتعليق على كل صغيرة وكبيرة تقوم بها هذه الشخصيات. هذه المرونة الكبيرة في السرد التي تتيحها هذه الطريقة قد تؤدي أحياناً بالكاتب إلى الوقوف بين شخصياته وبين القارئ فتفقد الرواية حياديتها وذلك بسبب أن الكاتب تعاطف مع البطل من دون أن يقدّم ما يشفع أو يبرّر هذا التعاطف من دلائل وشواهد في القصة الرئيسية تجعل القارئ يقبل هذا الأمر ، وقد رأينا هذا الأمر في تعامل الراوي مع الشخصيتين المتضادتين في هذه الرواية وهما «لين» و«هاشم» إذ أن القارئ يستطيع ببساطة أن يصنّف هذه الرواية على أنها تندرج تحت حركة النسوية Feminism أو الدفاع عن حقوق المرأة المستلبة بمجرد قراءة الأجزاء الأولى من الرواية رغم أنها تحتوي على موضوع رئيسي آخر هو نبذ العنصرية بالمفهوم العام الذي يطال الرجل أيضا. هذه التداخل بين الفكرتين جعل الرواية تتفاعل على عدة مستويات من العنصرية بشكل مثير أو لنقل هي عنصرية داخل العنصرية أو هي التمييز العنصري بشكل عام ثم بعد ذلك يأتي التمييز ضد النساء. لكن التمييز بشكله العام سيبقى حتى لو حاولنا أن نقلب شخصيات القصة في الرواية أي أن ينتمي مالك مثلاً إلى طبقة «لين «بينما هي تنتسب إلى طبقة مالك.
يُصاب البطل في غيبوبة منذ اللحظات الأولى من الرواية بعد أن تعرّض لعقاب انتقامي من شقيق «لين» الذي أحس بالعار والفضيحة من هذه العلاقة التي يرى فيها جرأة نادرة من أخته ومن حبيبها الأسود. هذا الأخ الذي حمل اسم «هاشم «يمثل الشخصية المقابلة أو المناقضة لشخصية «لين» Antagonist حيث الصراع بينهما بدأ وهو في رحم أمه التي أصبحت بعد ولادته تُسمّى «أم هاشم» في إشارة أخرى إلى التمييز بين الجنسين والتذكير بالثقافة العربية القديمة أيام الجاهلية التي تفضّل الولد على البنت.
عقدة أوديب
هناك علاقتان متناقضتان داخل النص تستدعي من الذاكرة مسرحية سافوكليس Sophocles والتي كانت تُعرض قبل الميلاد عن الملك أوديب الذي كان يعيش في مدينة طيبة Thebes اليونانية والتي استخدمها فرويد لاحقاً بما عُرف بعقدة أوديب Oedipus Complex حيث تكون الفتاة قريبة عاطفياً من والدها والفتى قريباً من والدته ، وهو ما حدث في هذه الرواية ؛ إذ أن والد «لين» يتفهّم هذه العلاقة التي نشأت بين ابنته ومالك ، بل أنه يأخذها إلى المستشفى لزيارته ويطيّب خاطرها ويهدئ من روعها في الوقت الذي تتعرض فيها للتوبيخ والأذى من أمها التي تفضّل أخوها عليها وتطلب معاقبتها.
في المقابل ، يجد «هاشم» حرية مطلقة في التصرف كيفما شاء من دون أن يحترم الآخرين ويجد الدعم والرعاية من أمه العزيزة التي تطالب «لين» أن تترك أخاها يتصرف كما يحلو له وتصرخ بها: «أتركيه يسوي اللي يبغاه» في إشارة أخرى إلى تكريس مفهوم الذكورية في هذا المجتمع . أما علاقة «هاشم» بأبيه فهي على النقيض تماماً فهو ينتقده كثيراً لأنه يفرط في حب ابنته ولا يردعها ويتساءل بينه وبين نفسه في أحد مقاطع الرواية قائلا: «أي نوع من الرجال أبوه ؟ كيف يحتمل أن يعرف أن ابنته الوحيدة على علاقة برجل ، وأي رجل ؟ لا ، لن يستطيع أن يرفع رأسه بعد اليوم.»
دلالة الاقتباسات
يجد القارئ صعوبة كبيرة في دلالات الاقتباسات التي تتصدر فصول الرواية ، وخاصة السياسية منها والتي تتناول غزو العراق عام 2003م ، وعلاقتها بقصة الحب المثيرة للجدل في مدينة طيبة الطيبة أو المدينة المنورة. هناك العديد من القراءات لهذا الاستخدام المتكرر للاقتباسات السياسية لعل أبرز أحدها هو أن الغزو الأمريكي للعراق ما هو إلا جاهلية حديثة ، تماماً كما هو الأمر في حالة عدم تقبّل المجتمع حالة مالك ولين والتي تعتبر جاهلية حديثة أيضاً وعودة إلى الوراء قبل ظهور الإسلام حيث كانت تنتشر الحروب العنصرية التي قد تهلك الحرث والنسل لسبب تافه وينتشر التمييز العنصري والقبلي ، وهذا هو تفسير العنوان الرئيس للرواية.
لا يتعلق الأمر هنا بالاقتباسات السياسية التي تتردد عبر وكالات الأنباء والأخبار فقط ، بل إن هناك اقتباسات من الكتب الكلاسيكية العربية في الأجزاء الأخيرة من الرواية كالسيرة النبوية والأغاني وغيرهما أرادت الكاتبة ببراعة استخدامها لتؤكد على حقيقة التناقض الكبير بين المفهوم النظري والتطبيقي للعنصرية في المجتمع العربي المسلم وخير مثال على ذلك استشهادها في الرواية ببلال بن رباح ، ذلك الحبشي الأسود الذي يعجز مالك «أن يفهم كيف تحكي الكتب التي يدرسها قصة بلال بن رباح بإجلال ، فيما يمتهن لونه وأصله معظم الوقت. ظن لفترة أنه يقرأ أساطير مكذوبة لفرط ما تبدو منفصمة عما يحياه كل يوم.»
تاريخ الأحداث
استخدمت الكاتبة طريقة جديدة ومختلفة في سرد روايتها إذ أنها صدّرت فصولها مستخدمةً أسماء الشهور والأيام في عصر الجاهلية لكي ترمز أن الحياة مازالت في عهد الجاهلية الأولى حيث «رأت الأيام والأشهر وهي تخلع أقنعتها أمام عينيها ، وتعود إلى وجوهها القديمة . رأت شيار يخلع سبته وأول يخلع أحده، وعاذلاً يخلع شعبانه ووعلاً يخلع شواله.»
تدور رحى انفعالات البطلة مع حبيبها المغدور في شهور ثلاثة هي ، بعد ترجمة شهورها الجاهلية إلى الشهور التي نعرفها ، شوال أو ما تطلق عليه «وعل» وشعبان أو «عاذل» و محرّم أو ما تطلق عليه «المؤتمر». يمثّل شهر شوال الشهر الأكثر استخداماً كعنوان للفصول لأن مالك تعرض للضرب المبرح في هذا الشهر.
كانت الكاتبة تستخدم عاصفة الصحراء ، وهو الاسم الذي استخدمته العسكرية الأمريكية لعملية تحرير الكويت من غزو العراق في 1991، بداية السنة التي تبدأ بها تأريخ الجاهلية الجديدة ، إلا أن الكاتبة في الفصل الأخير من روايتها استخدمت هذا العنوان : «شيار التاسع عشر من المؤتمر من عام حرب الصدمة والترويع» وهو ما يمكن ترجمته بالتاسع عشر من محرم من عام 1424هـ ، أي بعد يومين من عملية «الصدمة والترويع» التي استخدمتها العسكرية الأمريكية في تسمية عملية غزو العراق والتي حدثت في 20 من مارس 2003م . هذه الصدمة الرمزية تتحرك على عدة مستويات لعل أهمها صدمتها في مالك ونهايته الشنيعة التي يمكن أن تكون الموت ، والصدمة الأخرى على المعنى الحرفي السياسي وهي سقوط بغداد.
النهاية المفتوحة
تأبى ليلى الجهني إلا أن ترهق القارئ وتشاركه في عملية إنهاء الرواية بنفسه حيث لم يعرف هل توفي مالك أم أنه مازال في غيبوبته التي لم يستيقظ منها بعد ، أم أنه سيعود يوماً إلى الحياة ليكمل مع «لين» مواجهته الكبيرة مع هذا التيار التقليدي الجارف. لكن لو أراد القارئ أن يعتمد على المؤلف في كشف هذه الحقيقة فإن عليه أن يقرأ من جديد أكثر من مرة وأن يبحث عن مفاتيح متناثرة داخل النص لكي يجمع شتاتها لتساعده في فك شفرة هذا اللغز مثل كلمة «خلاص» الموجودة في ص 13 ، أو كلمة «سيموت» في ص 50، أو استخدامها مصطلح «الصدمة والترويع» في الفصل الأخير، أو العبارة التي أنهت بها الرواية والتي كانت صدر بيت أطلقه صدام حسين قبل لحظات من سقوط بغداد حين قال «أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل». هذه العبارة تعكس أكثر من نهاية فهي لأحد القراء قد تعني مواجهة العدو وعدم الاستسلام على المستويين السياسي عند صدام حسين الذي سيواجه الغزاة الأمريكيين والعاطفي عند «لين» التي ستواجه هذه العنصرية البغيضة مع مالك أو بدونه ، كما أنها لقارئ آخر قد تعني الاستسلام لأن هذه العبارة الأخيرة لصدام حسين انتهت بسقوط بغداد على المستوى السياسي ، كما ستنتهي بـ «لين «إلى الاستسلام والخضوع لإرادة التقاليد البالية التي مازالت تتمسك بالتمييز القبلي العنصري ، وقد تعني أيضا موت مالك كما ماتت بغداد.
لقد أبدعت الكاتبة في رسم نهاية سريالية مفتوحة مناسبة للرواية حيث تركت البطلة تتذكّر بصخب كبير أفكاراً شتى تتصارع في رأسها وكلمات تتداخل مع بعضها البعض بشكل يصعب فرزه أو تفسيره ويبقى دور القارئ في فك طلاسم هذه النهاية التي تتناسب مع التقنيات الحديثة التي تتناسب مع عصر ظاهره العولمة وباطنه الجاهلية الأولى.
الرواية الثانية
هذه هي الرواية الثانية لليلى الجهني بعد روايتها الأولى «الفردوس اليباب» التي نشرتها دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة وحققت نجاحاً جيداً يتناسب مع موهبة هذه الكاتبة المبدعة التي أضافت نجاحاً آخر بإصدارها هذه الرواية المتميزة في موضوعها المثير للجدل وتقنيات السرد التي وظّفتها.هناك العديد من الوقفات التي يمكن أن يقف عندها القارئ لمثل هذا العمل الجريء لعل أولاها اللغة التي استخدمتها ليلى الجهني وأصبحت تميّزها في أكثر من موضع في الرواية مثل استخدام صيغة الجمع النادرة لكلمة حياة وهي «حيوات» في محاولة منها لربط النظرية النحوية بالجانب التطبيقي أو عبارة «لكن لو لن تفعل شيئاً الآن» في ص20، والكلمة الشائعة التي تستخدمها في أكثر من موضع وهي «ثمّ» في عبارة «أليس ثَمَّ أمل؟» .كذلك أظهرت الكاتبة ليلى الجهني خبرة كبيرة في الوسط الرياضي على المستوى المحلي إذ نثرت بين فصول روايتها العديد من الوقفات الرياضية التي تجعلها تارة – على لسان أبطالها – من مشجعي النادي الأهلي عندما ذكر مالك أن محمد عبد الجواد هو أفضل ظهير أيسر في المملكة ، أو من مشجعي نادي الاتحاد عندما وصفته بأنه «نادي الشعب»، أو من مشجعي نادي النصر عندما تحدث مالك عن شبهه بماجد عبد الله ، لكنها نأت بعيداً عن نادي الهلال وسمحت لأبطاله بأن ينفروا منه ، في أحد الموا
خالــد العــــوض كاتب من السعودية