مقاربةٌ نقديةٌ متحفزةٌ تستهدف المنتجَ الشعري -وهو احد الروافد الإبداعية- في تجربة كاظم جهاد أمرٌ لا يخلو من المجازفة والمغامرة, لكن سحر الغواية وافتتان اللغة بالإضافة إلى التحليق بعيدا إلى أفقٍ جديد يجترح النظام الجمالي بله الفلسفي والوجودي, كل ذلك يغرينا بجدوى المغامرة أغوار التجربة الإبداعية الفذة لكاظم جهاد في ديوانه الأخير «معمار البراءة».
(1)
لا بد أن نشير بداية إلى قضية محورية تمثل في حد ذاتها إشكالية مصيرية تؤرق الشاعر/الفنان/المثقف وهي ما اسميها بـ«إشكالية الالتزام». وما اقصده هنا بالالتزام هو بالمعنى القدحي للمفردة وليس كحكم قيمة. جدلية العلاقة بين المثقف والنظام السياسي سواء كان جماعة/حزب/دولة وخطورة انزلاق المثقف في خطر الفكر «الدوغمائي» للمجموعة التي ينتمي اليها بغض النظر عن مدى انسجام ذلك الفكر مع قناعاته الذاتية.كيف تعايش كاظم جهاد مع هذه الإشكالية وكيف نجى بنفسه من السقوط في الهاوية ؟ يقول في إحدى مقالاته انه «رفض في شبابه الانضواء تحت لواء أيٍّ من الحزبين المهيمنَين على الحياة الثقافية والشارع والسلطة، واللذين لا يجمعهما سوى خصلة واحدة: قدرة باهرة على الإيذاء وعلى محاربة المارق عليهما بكلّ ما لهما من قدرة على التجفيل النفسيّ والإرهاب الفكريّ»(1) بهذا ينعتق الشاعر من ربقة هذه الإشكالية المدمرة والمفسدة لكل عمل أدبي وفني إذ انه «ينبغي ان يتخلص الشعراء من جلاد كان ما برح في داخلهم يعمل»(2) .
إذا كانت إشكالية الالتزام بحسب المقولة السابقة هي ذات مدلول سياسي صريح فهناك ايضا صورة اخرى لهذا الالتزام وهو الالتزام الأكاديمي. فكما نعرف أن ثمة هناك الكثير من العوائق تتعلق بطبيعة العمل الأكاديمي وصرامته الفكرية بالإضافة إلى أن كاظم جهاد هو ناقد من الطراز الأول وكثيرا ما حدث هذا التنافر بين الناقد والشاعر في ذات واحدة إذ أن الأول يبحث عن القواعد والأصول والثيمات بينما يتيه الشاعر في الهذيان واللاوعي والأخذ بالتجربة الوجودية بعيدا عن أي تنظيرات مسبقة وإحكام جاهزة. رغم ذلك, نجد أن كاظم جهاد يكسر هذه الحواجز المنيعة كي يوحد بين الرؤية النقدية العميقة والحس الشعري النفاذ بين «المعمار» و«البراءة».
(2)
ثمة صورة ثالثة أيضا لهذا الالتزام أو إذ شئت التلازم- وان كان بشكل اقل حدة – بين الإشكالية الثنائية للعلاقة: القديم/الحديث تستصحبها بالضرورة اشكالية العلاقة نحن/الغرب. في «معمار البراءة» تجاورٌ خلاق بين شكل قصيدة النثر الحديثة والمفردة العربية الاصيلة فاستخدامه لعبارات ذات مدلول اصيل ومتجذر مثل(ديباجة,مقلة,يراع,اروماتي,تقبع,اشعشع,صنوي…) تعزز من هذا الوعي بعمق الانتماء العضوي الثقافي واللغوي للموروث العربي.
أما وعيه الفني والفلسفي لشكل قصيدة النثر فقد تجاوز في نظري الحدود التي عبرها جيل السبعينات حتى انه يمكنني الزعم بأن الشاعر لا ينتمي إلى هذه الفترة إلا زمنيا ولكنه تجاوزهم بلا شك فنيا ونقديا حتى إننا نجده يسخر من تشبث رموز تلك المرحلة بمقولات سوزان برنار حول قصيدة النثر» (ولقد تلقّت هذه القصيدة في العقود الأخيرة معالجات خصبة تقدّم بها محلّلون شكلانيّون وغير شكلانيّين لا أجد لدراساتهم الجادّة كبيرَ أثرٍ في التفكير العربيّ الذي ما برح يقارب قصيدة النثر من خلال مقولات سوزان برنار في كتابها (قصيدة النثر من بودلير إلى أيّامنا)، هذا الكتاب الضخم، المتناقض غالباً و«الثرثار» في جميع الأحوال(3)
إذن, كيف ينظر كاظم جهاد إلى قصيدة النثر؟ يجيبنا في إحدى مقالاته عن هذا التساؤل مستعينا بنظرية رومان ياكوبسون الشهيرة والتي تفرق بين الشعر والنثر «بموجب هذا التفريق يكون شعراً كلّ إنشاء يحتفي بالدّوال أكثر ممّا بالمداليل وتكتسب فيه الكلمات قيمتها من رنينها وشكلها واكتنازها بالإيحاء، ومن مجموع علاقاتها التجاوريّة». كما يشير إلى البنية التكوينية لقصيدة النثر تتسم بـ«الوجازة والتكثيف.. لكنّ هذا لا يمنع من إنشاء لوحات أو قطع متوالية تشكّل كلّ منها بحدّ ذاتها قصيدة نثر مرتبطة بالقطع الأخرى بناظم ضمنيّ أو ظاهر».
(3)
يحيلنا هذا الانسجام مع قصيدة النثر إلى الاشكالية الأخرى حول العلاقة الثنائية نحن/الغرب فبطبيعة الحال قصيدة النثر هي من مكتسبات الحضارة الغربية الحديثة, فما هي طبيعة العلاقة بين الشاعر وهذه الحضارة الغربية لا سيما وان كاظم جهاد هو أكاديمي ومحاضر في التعليم الجامعي بباريس مع الأخذ بالاعتبار الجهد الكبير الذي بذله الشاعر في ترجمة النصوص لكتاب غربيين على سبيل المثال لا الحصر رامبو وريلكه وجاك دريدا وجان جنيه..هل انصهر الشاعر في بوتقة هذه الأعمال الكبيرة وغدا مجرد بوق يردد ما قرأه وترجمه من نصوص؟ ليس من اليسير السؤال على مثل هذا التساؤل ولكن مما لا شك فيه ان كاظم جهاد اشتق طريقا وعرا في بناء قصيدة النثر بناء معماريا هندسيا متقن الصنع له نكهة فريدة تميزه عن الكثير من تجارب الشعراء العرب الآخرين الذين خاضوا هذه التجربة.
هذا ما يتكشف لنا معرفيا, ولكن ماذا عن البعد الانطولوجي (الوجودي) وإسقاطاته على المستوى اليومي والمعاش ؟ يطرح كاظم جهاد تجربة المنفى وهمومها في إطار التحدي والشغف لمجابهة ومعانقة هذا الأخر كما ينتقد بشدة وسخرية بعض التجارب الشعرية التي لم تتجاوز حدود البكاء والنحيب على الوطن كما ينتقد في آن بعض التجارب الشعرية التي ألقت بثقلها في سبيل نيل الشهرة والمجد من دون ان يتوانى في ذكر اسماء ذات شهرة كبيرة في عالمنا العربي والعالمي, فالمنفى «هو وعي ومعاناة ومسؤولية تاريخية وفنية» (4), هذه الرؤية الجديدة لمفهوم المنفى والاغتراب تشكل علامة فارقة في التجربة الوجودية لكاظم جهاد تساهم في عملية تخارج انطولوجي مع الكثير من تجارب المنفى الأخرى, كما لا يفوته بالإشادة والإعجاب بتجربة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش وانطلاقه من القضية الفلسطينية إلى أفاق إنسانية أرحب بالإضافة إلى استفادته الكبيرة من الإطلاع على المنتج الثقافي الغربي بشكل معمق «فإن قراءة أولى لأعمال درويش العائدة الى هذه المرحلة لهي كافية للوقوف على إفادته الكبيرة من وسائل المنفى وروافده الثقافية وما يمد به من خزانات هائلة من الأحاسيس والمشاعر والرؤى لا يكاد الشاعر المتوطن أن يعرفها» وفي مكان اخر يقول ايضا «وبفضل فضوله المعرفي الكبير، ومتابعاته الواسعة بالعربية والانجليزية ولفات أخرى، انفتح درويش على ما يجعل من الشعر منفى بالأصل، ومن الكتابة اختراقا للعالم أساسا تمسك الشاعر بمقولة رنيه شار في ضرورة تحويل «الأعداء الى خصوم صرحاء»، وراح يترك لسواه عمل الضغينة والوعي الشقي محولا القصيدة الى فضاء تراجيدي للتساؤل عما يجعل الانسان غريبا أنى كان في هذا العالم»(5)
اقتبسنا مقاطع طويلة هنا من كتابات كاظم جهاد حول تجربة درويش لأنها في نظري تسير في نفس السياق الذي يشكل تجربته أيضا وربما كانت بخطوات سبقت درويش على الأقل على مستوى المنتج الإبداعي للترجمة والنقد!. بهذا المعنى تجاوز كاظم جهاد المنفى كتجربة وجودية قاسية-في اغلب الأحيان- في مكابداتها المادية والاجتماعية نقول تجاوزها إلى مدى الاستفادة وتكوين الثراء الثقافي والمعرفي من هذه التجربة الإنسانية الخصبة.
(4)
في إطار عملية البحث ومتابعة بعض الدراسات النقدية التي كتبت حول ديوان «معمار البراءة» وجدت أن جل هذه الكتابات في محاولتها للبحث عن الثيمة المركزية في شعر كاظم جهاد قد استقرت إلى أن تلك الثيمة هي «الحنين» و«استعادة الماضي» و«ذكريات العراق» وهذا يدل على القراءة العجولة وغير المتأنية. فمنذ سطر الأول في ديباجته يعلن الشاعر بأنه يدين إلى والدته بهذه القصائد والتي راحت بأسئلتها «تستنهض في معرفة كنت حسبتها منفية لجغرافية العراق» كما يقول. فما جدوى الحديث عن هذه الموضوعة التي أعلنها الشاعر صراحة والنظر إليها كاستبطان واع إلى النصوص الشعرية في الديوان, هذه دراسات نقدية غير ناجزة على اعتبار أن الناقد أو حتى القارئ يجب أن يستنزف النص المستهدف أمامه ويحاول استنطاق المسكوت عنه وسبر الأبعاد الجمالية والفنية في النص الماثل.
إننا لا ننكر أن الثيمة السابقة هي ثيمة مركزية في هذا العمل الشعري فإذا استعرضنا الفهرس سنجد بوضوح هذه الدلالات فعلى سبيل المثال عناوين قصائد مثل «عودة, عراقيون, هجرات, شتات, طفولة, الذكرى, لسع لذكرى, جنوب, المنفيون, الخروج, شراك الذكرى» كلها تستحث على مثل هذا الرأي إلا إنني اعتقد أن الثيمة الأشد خطورة وأهمية هي محاولة الشاعر اعادة بناء الإنسان العراقي وتكوين ثقافة مغايرة أكثر رحابة وحرية أو بحسب عبارته أكثر (براءة) لما هو سائد في المشهد العراقي من هنا يكون لمدلول كلمة «البراءة» بعدا إنسانيا وتجريديا ومنعة مقارنة بمفردات اجتاحت النخب السياسية والثقافية في العراق مثل ديمقراطية وحرية وإرادة الشعب وفقدت معها ما تحمله من قيم إنسانية متعالية.
إذن, بناء ثقافة جديدة في مستنقع الدم اليومي أساساتها تتكئ على هلامية البراءة هو أمر لا يأتي جزافا ومفهوم البراءة يتجاوز معناه الأولي ليصبح مشروعا وليس قيمة أخلاقية أو ثقافية يستعيد فيه الإنسان ذاته. ولكن منذ متى كان الشاعر صاحب مشاريع وخطط يتقدم بها كي تدرس وتصادق من البرلمان لتنفذها الهيئات التنفيذية وفق «برنامج علمي مدروس!» كما اعتدنا على سماع هذه الجملة من الجهات الحكومية والتي تظهر في ما بعد ان البرنامج العلمي المدروس لم يفارق أدراج المسؤولين ومكاتبهم.
مشروع «البراءة» إذا ليس بالضرورة أن يكون قابلا للتنفيذ على ارض الواقع او في المستقبل المنظور ولكن «النضال ضد الاوهام القاتلة, والتشبث بالاوهام الجميلة,خيالات الكائن الفقير الباحث..,احدى مهامها». في قصيدة «الارض المطلقة» نتلمس وعي الشاعر بخطورة هذا المأزق والافق الممتد الذي يمنحنا مزيدا من الامل حول الولادة المرتقبة
«تولد الارض المطلقة من شبر من الداخل
بقي لسنين ينحت بؤرة من الضوء
تولد الارض المطلقة من سبخ
بورك طويلا
من اعمال لا تفضي الى نتيجة
ومن اللاشيء
اللاشيء العظيم الذي عنه يصدر القلب»(6)
بمثل هذه الروح النبوئية يغسل الشاعر أرواحنا ويبشرنا بالعنفوان القادم من رحم اللاشيء/العدم/الشعر والذي يفضي في النهاية إلى الكلمة..في البدء كان الكلمة!!
في إطار هذا المشروع يلج كاظم جهاد المخيلة العراقية عبر بوابة الذكرى محاولا استحضار الماضي للعراقيين كما كان لوالدته الدور الأساس في ولادة «معمار البراءة» فالعودة إلى الأرض وجغرافيا المكان وان كان متخيلا هو ما سيتيح لنا العودة الى طفولتنا أي «براءتنا!!» فكأن هنالك تماهي بين دور الأم/الشاعر وتماهي بين التداعيات/القصيدة لتشكل حلقة بالغة التعقيد والتواشج بين الشاعر /التداعيات بين الام/القصيدة…
هذا المعمار له شروطه الموضوعية التي يبنى عليها, يشير إليها في قصيدة «القادمون» «و بصيغة تقريرية تحاكي تعاليم الأنبياء والقديسين «فينبغي تنظيف الروح» و«ينبغي شيء من حكمة زرادشت» ,إعادة بناء الروح لا بد وان تسبقها مرحلة الهدم فـ«المحو هنا من آيات الكتابة»(7)
هذا المحو يستلزم ولادة جديدة وهو المسار الأخر الذي شقه الشاعر في إطار تزامني مع مسار «استحضار المخيلة». لقد اتخذ مفهوم «الولادة» عمقا بنيويا في العمل بأكمله وسنعود هنا إلى التواشج الذي تحدثنا عنه سابقا في أن الفضل يعود إلى والدته في ولادة هذا العمل الفني كما لها الفضل في ولادته هو بيولوجيا, فالعودة إلى الأم مرة أخرى تبرر هذا الوجود, فحسب والولادة البيولوجية حبلى بالولادة الفكرية/الشعرية!
لنتناول في حصر بعض المفردات التي جاءت تعزز نظرتنا نحو هذا السياق, منها: (طفولة, تتوالد, الطلع, حبلى, منزل الأب, مشيمته, حبل سرته, عوالم الولادة, حرارة الوالدة, الجنين, أجنة…) كل هذه المفردات تشير الى جو الولادة المفعم في ثنايا الديوان فهي شرط أساس لإعادة تكوين او بالأحرى خلق إنسان عراقي جديد أكثر وعيا بظرفه الحاضر وانفتاحا على احتمالات المستقبل.
لنجمل القول السابق, بالزعم أن الثيمة المركزية لمعمار البراءة هي محاولة فردية لبناء الإنسان العراقي عبر مسارين اثنين. الأول, استحضار المخيلة الجمعية للمجتمع العراقي وإعادة تكوين صورة لجغرافيا المكان اكثر إشراقا من الواقع اليومي. الثاني, التبشير بـ«الولادة الجديدة» لفرد او مجتمع اكثر براءة ينتشل ويغير الانطباع السائد بطبيعة العنف في المجتمع العراقي وكأنها حالة أصيلة في هذا المجتمع.
هذا المناخ التبشيري الذي ينضح به معمار البراءة له طابعه الخاص. اقول ذلك وفي ذهني التباشير التي تأثرت بالإرث الأسطوري التموزي عند بدر شاكر السياب كما هو عند عبد الوهاب البياتي. هذه إحدى العلامات الفارقة في شعر كاظم جهاد فإذا كان عدد من الشعراء منذ جيل الخمسينات قد استعانوا بالكثير من الأساطير في بناء قصائدهم وسردها سردا تاريخيا فجا ثم تطورت في مراحل الستينات والسبعينات على يد بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وادونيس وامل دنقل على سبيل المثال لا الحصر بحيث غدت الاسطورة تارة اسقاطا للواقع المعاش ثم لبثت ان اتخذت بعدا اكثر عمقا بحيث شكلت الأسطورة بعدا داخليا وفلسفيا في بناء القصيدة.
الأسطورة في معمار البراءة ليس لها وجود بنيوي ولا حتى فلسفي لقد خرج كاظم جهاد من الارتكاز على البناء الأسطوري في القصيدة بشكل كلي اما قصيدة «أوديسة اختي» فليس لها أي دلالة اسطورية عميقة بهذا يكون الشاعر قد شكل اختراقا واسع المدى للفضاء الاسطوري الذي هجس به مجايليه نحو أفق آخر سنتحدث عنه بعد الإشارة الى الاختراق الثاني اعني به اختراق الموروث الثقاقي التاريخي بشكل عام والنص الديني على الاخص. ففي حين استمر التفاعل مع النص الديني/القرآن/الكتب السماوية المقدسة او حتى استحضار التاريخ احداث/شخصيات كل ذلك شكل نسيجا حاسما في بناء القصيدة للشعراء الاخرين المجايلين الا اننا نجد هذه الخصيصة غائبة تماما في معمار البراءة فلا وجود لثقل التاريخ وللنص الديني سواء كان اقتباسا او تناصا او نصا مضادا للنص الديني.
يخيل لي ان كاظم جهاد تجاوز هذين الفضاءين: الأسطورة, الدين ليصل في النهاية الى العلم/المعمار. وهي بحد ذاتها تشكل دلالة رمزية لمسيرة الحضارة البشرية في ارتقاءها الفكري من الأسطورة-الدين-العلم وهو البناء الذي يرتكز عليه معمار البراءة بعيدا عن الخلفية الأسطورية والدينية لإعادة تشكيل العالم وبناء وعي ثقافي جديد على اساس قيم مغايرة.
كان الحديث سابقا عن المسكوت عنه في نص معمار البراءة على مستوى بنية النص وتشكيله. ولكن ماذا عن موضوع النص نفسه؟ عن الهواجس التي لم ينطق بها النص؟عن الاحداث التي لم يسمها؟ يتكون معمار البراءة من ثلاثة فصول: معمار البراءة وقصائد اخرى, دراسة يد وقصائد اخرى, هكذا اعيد ابتكارك يا اريافي. الفصل الاول كتب كما اشار الشاعر في عام 2000 والفصلين الآخرين عام 2005. وهذه التواربخ ذات دلالة بالغة الاهمية على مستوى الحاضر العراقي منذ الحصار الامريكي الجائر على الشعب العراقي مرورا بالاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 وما اسفرت عنه من تراكمات واستحقاقات سياسية ومخاضات عسيرة وارهاصات غير واضحة المعالم على ارض السواد.
والسؤال هو لماذا لم يشكل الواقع السياسي في العراق منذ عام 2000 الى عام 2005 أي اثر في معمار البراءة خصوصا قضية الاحتلال وهي قضية مصيرية في تاريخ الشعوب؟ والشاعر بطبيعة الحال لا بد وان يكون له موقف ازاء مثل هذه الظروف. فلا نجد عند البحث في معمار البراءة أي مفردات مثل: الاحتلال, الغزو, الامريكان, المواجهة, الاستقلال الى غيرها من مفردات تشي بموقف الشاعر ورؤيته على الصعيد الثقافي والانساني من هذه الحالة العراقية عدا عن قضية الاحتلال العراقي تغيب ايضا عن معمار البراءة افرازات هذا الاحتلال كتصاعد الارهاب الديني والسياسي في مكونات التركيبة العراقية على جميع المستويات والتحولات الملموسة في بنية المجتمع العراقي.
هنا ندخل نحن في طقس»الصمت» في شعر كاظم جهاد وفي التكوين النفسي له ايضا. الصمت له بعد محوري في شخصية كاظم جهاد ويبالغ في انتقاد الهذر في الكلام
«في رطانتنا اليومية
لم يكن التفاهم ضروريا
كان ينبغي بأي ثمن
احداث ذلك الصفير المتموج
الذي به يذكر واحدنا
بوجوده»(8)
الكلام ليس شرطا للوجود كما ان الصمت لا يعني العدم في لغة كاظم جهاد ثمة ابعاد موغلة في الصمت تستنطق جروحا غائرة «روحه مؤرقة بكلام لم يقله»(9) لهذا يشغل «الصمت» مساحة افتراضية في نصوص كاظم جهاد يعبر عنها بشهوة الانتظار وهاجس الولادة المرتقبة فضلا عما يحمله الصمت من احتجاج صارخ ضد الواقع المازوم.
اختم القول, بأن التهميش المتعمد في معمار البراءة للحالة العراقية هو من قبيل الايمان المطلق ببقاء الوطن وزوال الاحتلال كحتمية تاريخية اثبتها التاريخ البشري وما جدوى الحديث عن الاحتلال والمحتلين وهم «عابرون في كلام عابر» كما يقول الراحل الشاعر الكبير محمود درويش.
المصادر
(1)) من مقالة عنوانها «يوميات في حياة كاظم جهاد؟» لكاظم جهاد نشرت في جريدة النهار
(2) نفسه
(3) من مقالة «حول قصيدة النثر» لكاظم جهاد نشرت في جريدة السفير
(4) من مقالة عنوانها «مهجر جديد ام منفى جديد؟» لكاظم جهاد نشرت في «مجلة نزوى
(5) المصدر نفسه
(6) معمار البراءة, ص 34
(7) المصدر نفسه, ص 76
(8) المصدر نفسه, ص 13
(9) المصدر نفسه, ص 42
ثامر علي اليوسف كاتب من العراق