جيرانه الجدد كانوا يعتقدونه صابئياً من أهل العمارة يمتلك معرضاً لبيع الفضة والمسبحات والأحجار الكريمة، أو مسيحياً من أهل الموصل يمتلك مكتبا للصيرفة في شارع (كرادة داخل). حيث كان يخرج بسيارته كل يوم صباحاً ولا يعود إلا وقت الظهيرة. أما جيرانه القدامى فقد كانوا يعرفون حق المعرفة أنه مدرس لغة عربية أكمل خمسة وعشرين عاماً من خدمته ثم تقاعد قبل سنوات، وهو لا يذهب إلى مكان محدّد ومهم غير تلك الأماكن التي يذهب إليها عادةً كبار السن والمتقاعدون.
ما لم يكن أحد منهم يعرفه، لا من أبناء الشارع الذي يقيم فيه ولا أصحاب الأسواق التي يختلف إليها أثناء التبضع، هو أن روحه قد تاقت وهو في الكهولة إلى أحلام الشباب، فعاد إلى مهنة الكتابة التي أحبها في مطلع شبابه، وقرر أن يعيد إلى الحياة حلماً قديماً كاد أن يذوي ويفنى بعد أن أخذته مهنة التدريس أول تعيينه إلى أجوائها الكئيبة فاعتاد عليها واستحمل مشاكلها على مضض، مكتشفاً في نفسه موهبة الأستذة التي يمكن من خلالها نقل عدوى الثقافة التي تعشّش في رأسه، إلى رؤوس التلاميذ.
يروح بدربه ويجيء بدربه- كما يقولون- ولكن إلى أين يقود هذا الدرب؟ لا أحد من أولئك الجيران كان يعرف أو يتخيل أنه يقود إلى أهم وأقدم صحيفة تصدر في البلاد، وهي صحيفة (بريد الحياة) التي كان يقضي فيها أجمل أيام حياته محرراً ومشرفاً على أغلب أبواب الصحيفة بدءاً من عناوينها الرئيسية وحتى آخر إعلان مبوب في صفحتها الأخيرة، متنقلا بذلك بين أول اكتشاف لآثار الديناصورات في شواطىء الجزيرة العربية إلى العناكب التي تستعمل الأشعة فوق البنفسجية أثناء التزاوج، الى الأزهار البرية التي تتحرك من مكانها لجذب الحشرات، الى البتراء ثامن أعاجيب الزمان في وادي موسى.. متذمرا طوال الوقت من خطوط المحررين الرديئة في زمان الكتابة على الورق وأخطائهم اللغوية المهولة التي تحول الـ(لكن) إلى (لاكن) و(ان شاء الله) الى (انشاء الله)،وحين يصححها كان يشعر بالرضا العميق لأنه في واقع الامر كان منسجما مع عمله ومحبا له الى درجة العشق.
بامتياز. كان، بالنسبة لزملائه في الجريدة، الداينامو الذي لا غنى عنه والأسطه الذي لا يُشقّ له غبار في احتراف الكتابة بأي موضوع تختاره ما ان تغلق عليه الباب وتدعه وحيداً بين الورقة والسيكارة والقلم. أما بالنسبة إليه، فقد كان الأمر حلماً قديماً سرّه أن يراه يتحقق في النهاية، وهواية جميلة يزجي بها أوقات فراغه وتعينه على زيادة موارد دخله التي بالكاد تسد الرمق. هكذا مضت الامور بالنسبة اليه واليهم طوال الوقت فاهتموا بشؤونهم واهتم هو بشؤونه، وان كان ظل يحيرهم جميعاً عدم نزول اسمه على اي موضوع يكتبه، وعدم العثور له على صورة بالأرشيف وعدم قبوله على الاطلاق أن تُلتقط له صورة جديدة تظهر مع أي موضوع من تلك الموضوعات التي تُكتب أحياناً عن محرري المجلة، في حين أن مواضيع كالزفت في رداءتها تظهروتظهرمعها أسماء كتابها بالبونت العريض وصورهم البهية بأحلى بوز ممكن.
وكان هو المنقذ الذي طالما تمخيل ونجّاهم من المآزق،عندما كان يتهددهم الوقت بالغرق فيطلع عليهم بشتى البدع والفذلكات التي لا يعوزها الخيال، تارة بابتداعه عموداً عن الحب تكتبه سمر، وأخرى بابتكار عمود عن الرياضة يكتبه سامر، أو صفحة عن الأزياء تكتبها خبيرة الجمال سوزان. واذا ما غاب محرر الابراج عن الجريدة لانقطاع الطريق بين الجريدة وبين بيته في أبي غريب، فان الضرورة تستدعي أن يكتب هو الأبراج نيابة عنه مخترعاً شتى أنواع المصائر والمشاكل وايام السعد وأرقام الحظوظ. هذا كله بالإضافة إلى عموده الفني اللاذع الذي كان يكتبه بتوقيع سين، مكتفيا بذلك التوقيع للدلالة عليه. وللرد على الزملاء الذين يسألونه كيف يقبل أن يعتقد الناس ان ما يحبونه من موضوعات يكتبها اشخاص وهميون مثل سمر او سامر أو سوزان فيقول لهم إن الظل بارد وجميل، وإن المهم العمل لا العامل، والقولة لا القائل، فيسألونه ضاحكين:
-هل أنت مع موت المؤلف؟
فيضحك وهو يقول:
-هوو هوووو من زمان.
فيقولونه له بانزعاج:
– أهو هوووو هاي أنت غير معقد.
وما المعقد؟ أليس هو العليم الفهيم الذي يعيش وهو ليس بحاجة إلى الأوهام فيرضى أن يمشي لصق الحائط، لئلا تصيبه عين حاقدة أو طلقة تائهة أو ربما عين لم تصلِّ على النبي وصاحبنا (سين) كان كذلك بأصالة، يروح ويجيء بدربه اليومي دون أن يعرف أحد من الذين يلتقونه في هذا الدرب، أنه هو نفسه كاتب المقالات العظيمة التي يقرأنها وأحيانا يطرونها أمامه ويسمع إطراءهم عندما يكون في المقهى، فيبتسم في سره ويدع أصابعه السمراء المتغضنة تتمدد أمام عينيه كأنما يشكرها لما تدعه يشعر به من رضا عميق. ما أحوجه إلى هذا الرضا الذي يروي غروره كالماء. أما الفائض من شؤون الماء الأخرى فهو في غنى عنها بل يعتبرها السموم التي يجب أن تذهب الى مكانها المحتوم في دورة المياه.
قال زملاؤه لا بد أنه من الممتع له أن يكون الكاتب الغامض المجهول ولكنهم قط لم يفهموا كراهيته للشهرة والأضواء، مصرين على اعتباره غريب الاطوار أو مجنوناً أو، كما كانوا يمازحونه بالقول، هارباً من القانون، فيشاكسهم بالقول:
-لا احد يستطيع أن يهرب من القانون، ولكني هارب من الأيام.
ويطلق ضحكة مجلجلة تشبه بكاء الطفل اللجوج، وأحيانا كان يرتج عليهم فلا يعرفون إنْ كان يضحك أم يبكي، ولا يفهمون واحداً من تلك التبريرات التي يسوقها لشرح أسباب زهده بملذات الحياة، مستخدماً أثناء سوق تلك الأسباب مفارقةً يستمدها من كلمة الحياة التي هي في الوقت نفسه اسم الصحيفة التي يعمل فيها. مزاحه الذكي الذي يؤطّر حكمته هو المفتاح الذي يستدير، فيفتح مغاليق خريطة الكنز الموجودة في قلبه، والذي سرعان ما يجعلك تكتشف أنه رجل فقد نصف الحلم في الطريق إلى الهدف، ويريد أن يربح نصفه الآخر بأن يضع ذلك الحلم طي الكتمان فيما يتبقى من الطريق.
-ولكن هدف التسلل لا يحتسب.
-ومن يريد الأهداف؟ أريد فقط أن ألعب؟
وهكذا ظل (يلعب) طيلة عشرين عاماً من حياته حتى بلغ الخامسة والستين من عمره، فسقطت بغداد سقوطاً مريعاً بأيدي برابرة همج، وطويت الأرض داخل قماط أسود يحمله منقار لقلق أمريكي أحمق، فأُغلقت الصحيفة التي يعمل فيها وتشرّد الجميع بين بلاد الله الواسعة، ولم تعد الأرصفة صالحة للسير ولا البيوت آمنة من القتل، بل أن أسماء بعض زملائه قد ظهرت مطلوبة علانية في مواقع شهيرة على الإنترنت، بعد أن دخلت هذه الخدمة إلى البيوت، ولم يعد للسكان شيء ذو بال يفعلونه غير التفرج على أخبار الستلايتات أو التحدث عبر الموبايلات أو البحث المستمر عن كل شيء جديد وغريب يطلع على شاشاتهم عبر الانترنت.
هاجر البعض منهم الى تلفات الدنيا، وبعضهم تطوع هو للسفر قبل أن يصله التهديد اما البعض الاخر فلزم بيته ولاذ بالصمت طلبا للامان، إلا صاحبنا سين الذي لم يظهر اسمه قط على أي قائمة للمطلوبين، ولم يصله أي تهديد بالقتل، وكيف يظهر اسم من كان بلا اسم، أو صورة من كان بلا صورة أو لقب من كان بلا لقب.
وظل صاحبنا لما تبقى من حياته بلا اسم ولا صورة ولا لقب، يخرج في موعده الصباحي المعتاد من بيته ويعود ظهرا بالوقت المضبوط،بعد أن عثر على صحيفة جديدة يعمل فيها تكون بلا شعارات رنّانة تصم الآذان وليس فيها مزايا أو امتيازات تجعله يشعر بالخوف أو القلق، وهي بالنسبة إليه لا تعني شيئاً أكثرمن مكان يتيح له الكتابة والتأمل. وكل ما يكتبه من زوايا وأبواب هو الطريق الوحيد للدخول إلى ذلك الحلم الذي تبقى والذي ظل بالنسبة اليه، يعني اسما طي الكتمان.
بعض جيرانه الجدد ما زالوا يعتقدونه صائغاً من شيوخ الصابئة، وآخرون يرونه مسيحياً من أهل الصيرفة. أما القدامى فوحدهم يعرفون حق المعرفه أنه مدرس للغة العربية، لا به ولا عليه، تقاعد بعد زمن طويل من الخدمة في المدارس. وعندما يخرج من بيته كل يوم فإنه لا ي
ميسلون هادي كاتبة من العراق