«للعرب في «اسم» لغات، يقالُ اسِم واسُم بكسرِ الألفِ وضمِّها، وسِمٌّ وسُمٌّ بإسقاطِ الألف وكسرِ السين وضمِّها» الإبانة في اللغة للعوتبي، ج2، ص 170.
«كان ابنُ خفاجة يغادرُ أحياناً منزلهُ بجزيرة شقر وحيداً، ويمضي حتى إذا صارَ بينَ جبلين هناك وقف يصيح «يا إبراهيم، تموت!» فيردد الصدى كلماته، ثم يعيدها ويعودُ الصدى إلى ترديدها، ويظل على هذه الحال حتى يخر مغشياً عليه»، تاريخ الأدب الأندلسي- عصر الطوائف والمرابطين، إحسان عباس، ص164.
1- الاسم وسْمٌ أم سُم؟
الاسم كلمةٌ تعنيني، سُممت باسمٍ أتجرعه كلّ مرةٍ من أفواهِ الناس، أنادي نفسي في المِرآةِ العجيبة، السّمُّ في اسمي كلما نطقتهُ قتلني بالسُّم وأحياني بالعسل، الاسم غرابة هويةٍ أولى، على قدرِ الوحدة الواحدة التي للصدى عند ابنِ خفاجة.
كلما نُطقَ اسمي تَلفتُّ حتى لو لم أكن أنا المنادى،. تشابهُ الأسماء في المكان الواحد يجعلني أتحفز، نادراً ما أستطيع تلافي التحفز الذي يعقب نطق اسم السم الذي يُحركني.
اسمكَ هوَ اسمُك لا اسمي أنا، حتى من سمّاكَ ساعة الاختيار ينسى أنهُ سممك، يناديكَ باسمك، وهو الذي كان في لحظة الاختيار يظن أنهُ قادر على أي سم من الأسماء، على أي سُمّ يشتهيه، ليتهُ اشتهى أنا، لأن أنا هي الصدى المقابل للاسم في العالم الآخر، العالمُ الآخر حيثُ صدى التسميات التي هي صرخة جبلٍ تسبب الإغماء.
سمومُ العسل التي تُحيي وتقتل في نفسِ اللحظة، إذا نُطقَ اسمي بعدد ذرات الرمل التي وطأتها فأنا ميتٌ لا محالة، سُمُّ الاسم والنشوةُ العجيبة لتعاطي هذا السُم الاسميّ، قبلَ أن أموت أمهلوني لحظة: هل كانَ اسمي هوَ اسمي حقاً؟ أُسَمِّي اسمي سُمّاً، بسُمِّ الاسم أموت، أسماءٌ هي وسمٌ في البصرة وسمو في الكوفة، هل حقاً ننسى أن الأسماء كلماتٌ أيضاً ونصوص؟.
اسمكَ مكتوبٌ على جبينك، اسمك هوَ اسمُ جبهتك، مُلصقٌ تعريفي بك، أنت كذا لأن اسمكَ كذا، لكن هل حقاً الذوات تابعة للاسم؟ أم العكس؟ أم الما بين؟ هل ذاتك هي اسمك الأبيض، أم أن للأسماء ألواناً رماديّة قابلة للأبيض والأسود معاً، نحنُ نحيا بين ألوان الذات وألوان الاسم، في المكانِ ما بين صيدلية أفلاطون حيث نشتري الأسماء، وخرابة دريدا حيث نتعاطى الإبر.
جرني أخي العماني الذي يحمل نفس اسمي ولقبي، أو لنقل أنا من حمل اسمه «لا أعرف من الأسبق إلى هذا الاسم» دون أن يستشير الواحد منا الآخر، إلى الحديث عن إشكالية الأسماء والكنى والألقاب. والواقع أننا لا نعرف من يختار ضحيته الاسم أم المسمى. كان لقب جدي من أبي، وهو المفروض أن أحمله الآن: «موليم». هكذا تحفظ مدونة الأرض المحفظة لملكه الذي اقتسمه ورثة كثيرون، وما عاد يهمهم سوى الأرض الذي ترك دون اسم. لكن على ما يبدو أن الأبناء لم يرقهم هذا اللقب، ومنهم والدي طبعا، وذاك حقه، وصادف موت جدي خروج الاستعمار من المغرب. غرد مع المتظاهرين في ذاك المساء «يحيا الوطن» ثم لفظ أنفاسه في الليل.
كان على الدولة أن تسجل عقود الناس وتدون كراسات المواليد تبعا لمراكز الحالة المدنية، تعمم النداء فتقدم والدي، مثل كل الناس، إلى أقرب مركز من أجل أن يدون نفسه ويصبح له كناشا للحالة المدنية «فيما بعد سيندم لو أنه تريث قليلا ريثما يتسع خياله لاختيار لقب ملائم». كانت تدور في رأسه بعض الألقاب، لكنه لما تقدم بطلب رفض من طرف المركز بدعوى أن هذه الألقاب قد اختيرت من قبل. تبدو هذه الظاهرة متفشية في الدواوير والقبائل المغربية بشكل كبير، حيث ان القبيلة بأسرها تحمل اللقب نفسه لكبيرها أو للشخص الذي له تاريخ فيها. عاد والدي حزينا يفكر، وجلس تحت شجرة يعصر دماغه عله يظفر بلقب ملائم… لا يهم. المهم هو أن ينتهي بسرعة من هذه الأسطوانة ويعود إلى عمله. أشعل سيجارة وراح يمتص منها الدخان. وفجأة طالعه صديق قديم، فحدس أن مشكل الاسم يؤرقه، فأخبره أن لديه الحل السهل. فاستبشر والدي. وتطلع إلى صديقه مندهشا. كيف أن خياله لم يهده إلى هذا الحل مع بساطته: أن يستلهم لقبه من طبيعة العمل الذي يزاوله. وكان أبي بناء، ولكثرة ما كان يهوى العمل بالحجارة، ويعشق رائحتها تبادرت إليه فكرة «الحجري». لم يكن هذا المبرر الوحيد لاختياره، فقد كان لونه أسمر يميل إلى اللون الحجري، وكان كل شيء آنذاك يرتبط بالحجر: الأواني، مواد البناء، الإسفلت… وأصبح لوالدي أكثر من سبب للتشبث بهذا اللقب. لم يدر بخلد والدي أن هذا اللقب الذي اختاره بهذه العفوية الكبرى سيحمله بعده أناس كثيرون كتب عليهم هذا الاختيار.
ولسبب ما يكون الإنسان شديد اللصوق بلقبه، مهما كان سيئا أو براقا (في النهاية أنت الذي تجعل الاسم براقا أو سيئا)، فهو فضلا عن كونه يألفك وتألفه، فهو أيضا يصبح كائنا حيا يعيش معك ويشاركك ليس أحزانك فحسب بل أحزان من مروا من تاريخ سلالتك وهذا هو الأهم. يصبح هذا اللقب/ العلامة اللغوية ممتلئا بتاريخ الأسرة، حابلا بتفاصيل الكدح والصراع من أجل الاستمرار، وتظل الأجيال، بعد ذلك، عاضة على هذه العلامة لأن لها طعم الجدود وتاريخ العائلة الذي نريده ألا ينقرض على الأقل على مستوى الألقاب والأسماء.
2- طفولة الأسماء
غيّرَ صاحبُ أولِ مكتبةٍ عرفتها اسمهُ النحسَ يحيى إلى اسم الحظ عامر، ويحيى عندما غيّرَ اسمه لم يستطع أن يُغيّرَ اسمَ المكتبة إلى مكتبة عامر، فظل اسمهُا مكتبة يحيى رغمَ أن صاحبها صار اسمهُ عامر، هو يحيى وعامر والبائع والصاحب، تشاكلَ الأمرُ على عامر مع مكتبة يحيى، المكتبة لم تغير اسمها وبعدَ عامين باعَ عامر المكتبة، وأطلقَ لحيتهُ تديناً، وانزوى في أطراف القرية، ملتحفاً الصمت مخططاً لغزوةٍ عامرةٍ للحياة، بدل غزوة يحيى التي أفشلتها المكتبة.
في تلكَ الأعوام وبعدَ أن أشتري قلماً من مكتبة يحيى كنت أتوجهُ وحيداً إلى المدرسة، كانَ جدارُ المدرسة الصباحي الذي أمرّ عليه مآلاً لثلاثة سكارى مجانين، كلما رأوني صرخَ أحدهم: إبراهيم ود سعيد، فإذا التفت إليهم تبسّموا وتضاحكوا فيما بينهم متظاهرين أنهم لم يكلموني ولم ينادوني، يعنونَ أني لستُ المُنادى.
هكذا سأتنكرُ باسمي الآخر حين أكتب، سأكتب باسمي المستعار مني، حِفاظاً على سرٍ بين طفولتي والمجانين، وفي المسافة ما بين الآن والمدرسة سأدرك أنه ما من طريقٍ آخرَ لي لا يمرُّ بسكارى الصباح عند جدار المدرسة.
طلابُ المدارس كانوا يدعون أيامها باسم التلاميذ أو التلامذة: التلميذ التي تحيلُ على التلمود، أما في لغة القرية فيسمونهم المتعلمين أسوةً بالمتعلمين التقليديين، لكن المتعلمين التقليديين كانت لهم بساتين وأموال هي أوقاف للمتعلمين، هكذا سترفض القرية أن تسمينا متعلمين سيسموننا طلاباً كي لا نحصل على شيء، المتعلمون والطلاب والتلاميذ كلهم في النهاية مجردُ قطيعٍ أبيض يذهبُ للمرعى المدرسي صباحاً ويعودُ عندَ منتصف النهار من أجلِ المستقبل.
في الطفولة، كنت أتذمر من هذا اللقب، لأنه كان يستفز الزملاء الصغار، فيظلون يلوونه في ألسنتهم: الحجري، ولد الحجرة، الحجار، المحجور… وكنت عكسهم أصر على أن أعشق الحجر لأرد الاعتبار: كنت أغلِبهم في لعبة «القليع»، وكنت أنتصر عليهم في المبارزة بالحجارة، ومع المدة أصبحت أرمي الحجر أكثر مما يرميه من هم أقوى مني. فأصبح الصغار يتحاشونني مخافة أن أصيبهم بأذى الحجر: الحجر أيضا يندرج ضمن السلاح الأبيض. لم يقف الأمر هنا، المعلمون أيضا كانوا يضغطون على هذا اللقب، منذ الأيام الأولى، لما يكونون بإزاء إحصاء الغياب، وضبط اللوائح الفصلية. بل يتوقفون عنده ثم يرفعون رؤوسهم متعجرفين، ليروا من هو هذا الصغير التافه الذي اختار هذا اللقب. كثير منهم قال لي: هيه أنت! والدك لم يجد غير هذا اللقب الفظيع؟ أي مخيلة بئيسة يمتلك والدك المسكين!، وكثير منهم راح يسخر ضاحكا ليضحك معه الصغار الذين يتحفزون لأية حركة من أجل تكسير الحصار المضروب عليهم. كنت أكبر وتكبر معي ألفة هذا اللقب، غير أن للقب، مهما كان، تلك البشاعة التي نتلقى بها دوما بشاعة أوجهنا في المرآة. إذ تكون دوما غير راض عن هذه الصورة. صرتُ شيئا فشيئا ابنا حجريا، وكان علي أكون في مستوى وقع اللقب، كما قال الفقيه الأول الذي تعلمت عنده الحروف الهجائية وحفظت قصار السور القرآنية: «عليك يا بني أن تكون مثل الحجر، كاسرا جامحا مثل هذا الصلصال الكرانيثي، توضعُ على الجرح فتُبرأه».
3- محنة الوسم
السكارى الثلاثة كانت أسماؤهم غريبة، ومن يحمل اسماً غريباً أو نعتاً غريباً يحيا حياةً غريبة، غرابةُ أسمائهم سمّمتهم، كانوا يشربون الكولونيا التي تنتجها في عمان شركة اسمها: أمل!، من يشربُ الكولونيا عندنا يُسمى شاربَ عِطر، يشربون العطور كمن يتقلبُ في النعيم والحميم في مفارقة سَمٍ وسُم، أول الثلاثة اسمهُ دُوبَه! من دويبه ودابّه، كان دوبه يتعمد إغاظة مدرب الكاراتيه التونسي كي يجرهُ إلى عِراك محسومٍ سلفاً ضده، عراك دون كيخوتي يخرجُ منه منهزماً كل مرة، لذلك كانَ أولَ الذاهبين إلى الجنة كدون كيخوته تماماً.
ثانيهم: ولد امحينوه! ومحينوه تصغير مَحِينَه من المِحنة التي هي مصدرُ الامتحان، ومن شهرته أطلقَ اسمهُ على زجاجة الكولونيا في عمان فصار اسمها محنتيني في تصغير التحبب بعدَ أن كانَ التصغير الأول تصغيرَ احتقار، قضى ولد امحينوه آخرَ حياتهُ يتسول سعرَ الزجاجة أو يقطع السمك في السوق، ويشرب بثمن تقطيع السمك متخلياً عن المجدِ الذي يحيط باسمه في الوديان والجبال والبحار والصحاري العمانية.
الثالث كمبوش! ولقبهُ أمريكي، واسمهُ يتقارب مع جملة انجليزية تعني تعال يا بوش، come Bush، وجاءَ بوش الأول والثاني للمنطقة بالفعل، أما اسم كمبوش فقد يكونُ من كَمَشَ أي قبضَ ومنه سُميت الكماشة، والباء أضيفت للدلالة على أن الكماشة صدئة لا تعمل، كمبوش هوَ الذي أصرّ على أن يلقبَ بأمريكي ساخراً ومتنبئاً وكان يرددها دائما بصوته الأجش: أمريكي، وهو عازف عود أيضاً إنهُ المغني السكران الذي تقطعت حباله الصوتية من شرب الكحول الصِرف، كان حالماً بالزمن الأمريكي الذي كان، لذلك ربما توارى في بيته بعدَ أن زارت جيوش بوش المنطقة وانهارت الأحلام، وإلى الآن لا يعرفُ أحدٌ إن كانَ حياً أو ميتاً لأنهُ لم يخرج من بيته منذ حرب الخليج الثانية على الأقل، وتتلخص حياتهُ الآن ـ إن كانَ حيا ًـ في استقبال المغرمين الجدد بالأسطورة الثلاثية وتوفير مكان للمطرودين من بيوتهم والمضروبين والمجانين، والغناء.
ولما كنت صغيرا، كنت أعتقد أنني الوحيد من يحمل هذا اللقب/ الوسم، لكن بانفتاحي شيئا فشيئا على العالم لاحظت أن هناك آخرين يحملون نفس الوسم واللقب معا. كان مدير المؤسسة لما سلمني شهادة الباكلويا قد استفزني قائلا: هل لك أخ أستاذ له هذا الاسم؟ أجبته بصوت متعب: لا أعرف أحدا يحمل هذا اللقب. قال لي: هاك، اذهب، ستظل تائها في الكلية حتى تعود. لكن ابنه تاه وعاد خائبا، وعدت أنا البدوي الفقير موفقا. في الكلية وجدت طلبة آخرين يحملون نفس الاسم والكنية، وهناك طالبات لهن نفس اللقب. مرة ذهبت لأستلم الدفتر الصحي من أجل إعادة التسجيل في كلية الجديدة على الساحل الأطلسي، وبينما نادت الموظفة بالقسم الصحي اسم «إبراهيم الحجري» هببنا نحن –الثلاثة- مسرعين. فأضحكتْها المفاجأة، وقالت أنا ناديت واحدا لا ثلاثة! ولم تميزنا غير أسماء آبائنا وأمهاتنا والشُّعب الدراسية.
4- لعنة الأسماء
الاسم سُم لأنك قد تموت لو عرفَ ساحرٌ باسمك واسم أمك، اسمُ أمي اليوم فاطمة، رقمي في حِسابِ الجُمَل: رياضيات السحر، مائتان وتسعة وأربعون، لأن كل المجانين السُكارى الذين اتقيتهم بسُمٍ آخر ماتوا في حوادثَ دراماتيكية ولم يبقَ منهم إلا أطيافهم، سأشربُ سُمِّي الذي لا مناصَ منه، لأن اسمي أيضاً مِلكٌ لآخر يتفقُ البعدُ الزمني على أن نكتبَ باسمٍ: سم واحد، ها نحنُ ذا:
(فلو أنّا على حجَرٍ ذُبحنا جرى الدميانِ بالخبرِ اليقين).
حدث في حفل شعري، بمناسبة اليوم العالمي للشعر، أن التقيت بأحد الشعراء المجانين، وهو صديق قديم جمعنا الدهر في لحظة ما بمركز تكوين الأساتذة بمدينة مازكان، وبعد أن دردشنا قال لنا –وكنا شلة أدباء- بأنه كتب نصا خلاسيا عن لمتنا، وكان من بين ما قال فيَّ: «إبراهيم يا خمرا معتقا، كلما تقادم ارتقى وراب ما همه طول السفر والغياب، أنت فارس غير مروض. لك المسافات بساط لجوادك، ولك الألوان كلها، فاختر ما تشاء… لكني أخاف أن يورطك أحد أصدقائك الولوعين بمطاردة الفراشات الضالة، إذ يقول في التحقيق حول جريمة الاغتصاب «سبب الجريمة «حجري».
5- حكايا الأسماء
الحكاية كلها شِعرية: الشاعر سيف الرحبي سيفاجئني: لديك اسمٌ على الأبواب الموصدة في المغرب!، الخبر أفرحني لكن كم هي المسافة بعيدة من هنا، وكم هي الأبواب موصدة حقاًً، سأخشى أن يتهمك أحدٌ بحماقاتي، وأنا لو كنت في قديم يابان الإمبراطورية لكنت بلا اسم ولا سُم، رعايا الإمبراطور مجردُ ضمائر في رحمِ الغيب، لا يستطيع الساحر أن يفعلَ لهم شيئاً، والله يقترحُ اسم يحيى، لكن يحيى هَجرَ المكتبة واتجهَ لله عامرا، والمكتبة بقي اسمها مكتبة بعد أن هربت من مكتبة يحيى إلى مكانٍ آخر صارت فيه مكتبةً بذاتٍ قرطاسية، وافتتحَ مكانها محل خضار خسرَ وأغلق لسوء الحظ.
وعلى عكس اللقب، كان للإسم وقعه الرفيع، ففضلا عن كونه ممنوعا من الصرف، كان يحيل على اسم النبي إبراهيم عليه السلام بقصة ما حدث له مع ابنه إسماعيل. قال لي صديق متذمر من اسمه مرة، الحمد لله، أنت سموك على اسم الأنبياء أما أنا فلا اعلم من أين استلهموا لي هذا الاسم الغريب «الشرقاوي». لذلك كنت دوما أسبق ذكر الاسم على اللقب. الواقع أن أمي سمتني «إبراهيم» لا استيحاء من النبي، بل لأن ميلادي صادف سفر والدي إلى الولي الصالح مولاي إبراهيم الصوفي الذائع الصيت، دفين مدينة مراكش الحمراء، في جبل عالٍ يقام فيه موسم كل عام. ولم أزر هذا الولي لحد الساعة وفاء لذكرى التسمية والميلاد.
6- أخوة افتراضية
الزمنُ كفيلٌ بتغيير الهويات القاتلة إلى هوياتٍ ممكنة، والزمن قادرٌ على جعلِ السُمّ اسماً حقيقياً ندافعُ عنه دفاعنا عن ذواتنا في ألعابٍ قاتلة، هكذا سيكون هناك بورخيس مقابلَ بورخيس، سمٌ في قنينة الاسم، أو اسمٌ مطبوعٌ على قنينة السُم في فيلم بالأبيض والأسود تشتريه طفلة لأبيها محمود مُرسي، أما في الواقع الأشد غرابة فهناك هذه المرة إبراهيم الحجري وإبراهيم الحجري ربما كي ندركَ كلانا أن الاسم أكثر رحابة مما نظن، هكذا نفرغُ في ذات الدائرة الزمنية قنينة سُمٍ واحدة من تلك المسموح بها أدبياً، ليتني التحقت بالمجانين السكارى ذوي الأسماء الغريبة والحيوات الأغرب، لكني لا أظن أن لي معدة تحتمل تجربة كولونيا أمل، يكفيني إبر الأمل التي يروج لها جورج تراكل، وقنينات الأمل التي تباع في حانة أبي نواس، وخمارة طرفة، ودكان الشنفرى، لأن الحكمة المطبوعة على كل التقاويم التي تصدر في جميع أنحاء العالم هي نفسها مهما تغير التاريخ، كلما سحبنا ورقة جديدة من التقويم نجدُ قول المتنبي: ما أصعبَ العيشَ لولا فسحة الأمل.
لكنْ أن تعرف شاعرا أو كاتبا بارزا يحمل اسمك، فهذا لن يتكرر مرتين في التاريخ، ومنذ أن عرفت أن في الشرق شاعرا يحمل اسمي، لأول مرة، في منتصف التسعينيات عبر جريدة القدس العربي، حينما بعث لي الصديق الشاعر سعد سرحان قصيدة مقطعة بمقص، ظنا منه أنها لي دون أن ينتبه للتعيين المكاني المذيل للقصيدة، وبقدر ما ضحكت من المفاجأة غمرني فرح كبير. وكنت أتطلع دوما لمعرفة هذا الأخ الذي يبعده المكان، ولا أعرف لا صورته ولا سنه ولا شكل خطه. ما أعرفه عنه هو نبرة مداده: الصوفي العميق الذي لا تطاوعه غير المعاني الملتبسة. لكن شكرا للانترنيت، فقد باغتني الشاعر الصديق سعيد يأسف مرة بأن كتب لي على الإميل «لقد قبضت على إميل أخيك الذي يؤرقك البحث عنه». وكنت أول من بادر بالوصل. وجاء الغيث من الشرق على غير عادته. لكنني برغم التواصل، حزين لأنني لحد الساعة، لم أقرأ ديوانه، ولم تجمعنا طاولة شاي، ولا هاتفٌ مراوغٌ، ولا موعدُ لقاءٍ… وكأننا معا نهربُ من بعضنا. نخاف أن نتقاطع في البحر أو السماء أو في البر دون أن يعرف أحدنا الآخر. وذهب إبراهيم الحجري الشرقي إلى حد الرغبة في تغيير اللقب. أبدا لا يهوسني هذا الأمر أحس بعمق أن لكل واحد نبرته المميزة، فضلا عن كوني مقلا في كتابة الشعر ونشره. ومقابل ذلك يعرفني الناس ناثرا في النقد والقصة والرواية. وما عرفت إبراهيم الشرقي إلا شاعرا صوفيا يغزل المعاني ويسربلها بدم من مرَّ منَ الحكماء.
7- ويستمر الحلم!
عليّ أن أتأكد من أن:
1.جدار المدرسة انهدم على الطريقِ الصباحي، المدرسة التي اسمها من الدّرس والدروس (وهل عندَ رسمٍ دارسٍ من معوّلِ).
2.يحيى عادَ من خلوته الطويلة بهويةٍ أخرى يبيعُ الأواني -بدلَ الكتب ـ مستبدلاً الظرف الورقي الزمني بظرفٍ معدني مكاني.
3. مجانين السُكارى انتقلوا إلى الملكوت البعيد ولم يعد يعنيهم أمري نهائياً.
هكذا يسرني بكل تلك المناسبات السعيدة أن أتجرع سُمِّي، معابثاً السكارى المجانين الذين ماتوا، متشبثاً بإبراهيم الحجري اسماً وسُماً وذاتاً أخرى، أشتري قلماً من مكتبة طارت في الهواء، عائداً إلى منزلي بضجةٍ متعمدة، لها نفسُ الموجة الصوتية التي تسبب الإغماء بالصدى عند ابن خفاجة الأندلسي، والصدى صرخة الحجر. توفي أبي بعد أن حملني وزر اللقب، وبعد أن عمل جهده على بصم هذا اللقب بطريقته الخاصة: بنى كثيرا من الدور والأسوار وعمر الأرض رمم المدن وساهم قدر علمه في خلق عمارة من نوع خاص. فلبستُ الرداء نفسه وتابعتُ الطريق، متشبثا بنفس اللقب، ساعيا إلى صبغه بدينامكية خاصة تنزاح به عن المسارات التي اتخذها بعد كثرة الخلَفِ، إذْ لم يعد أبي (مهندسُ اللقب) وحده من يملك سلطته. بل أضحى، بعده، كثيرون –لهم نفس اللقب- يهرولون في هذا العالم الغريب، كل بشطحه الخاص. وتظل سيرة اللقب تمشي، تنحت ذاتها من بصمتنا وبصمة من رضوا حمله!!!
إبراهيم الحجري إبراهيم الحجري
قاص وناقد من المغرب شاعر من عمان