تعود معرفتي بالفنان التشكيلي العماني محمد فاضل وبتجربته الفنيّة، إلى ربيع العام 1995، حيث أقام وسبعة من الفنانين والفنانات العمانيات، معرضاً مشتركاً لهم في صالة الشعب للفنون الجميلة بدمشق، قدموا فيه، تجارب في الرسم والتصوير والنحت، حملت موضوعات وأساليب واتجاهات مختلفة، وقد شكلت هذه الأعمال في مجملها، شريحة وافية، عن الفن التشكيلي العماني المعاصر الذي لا يختلف في أطيافه العامة، عن التشكيل المعاصر في الدول العربيّة الأخرى، حيث سيطرت الاتجاهات الفنيّة الغربيّة وما زالت، على المفاصل الأساسية، لهذا الفن البصري الذي عاود مسيرته، وشهد حالة من الانتعاش الواضحة، خلال القرن الماضي.
رغم السطوة القوية للاتجاهات الفنيّة الغربيّة، على الحركات التشكيلية العربية المعاصرة، وصبغها لها بألوانها وأطيافها وتقاناتها كافة، حاولت هذه الحركات وما زالت، التملص من هذه السطوة، والبحث عن الجسور التي توثق علاقاتها أكثر وأعمق، ببيئاتها ومورثها الحضاري العميق والأصيل، ومنها الحركة التشكيليّة العمانيّة المعاصرة التي يراها الفنان محمد فاضل، تمثل الأصالة والبيئة والتاريخ العُماني. فعُمان كما يعلم الجميع، ثرية بهذا التاريخ، والفنان التشكيلي العُماني المعاصر، يقوم اليوم، بوضع أسس وقواعد متينة، لنهوض حركته الفنية، وقوامها البيئة المحليّة، وتلاوينها مستوحاة، مما يسود الحركات التشكيلية العربيّة، والعالميّة، من اتجاهات وأساليب.
هذه الحقيقة البينة، لمستها بنفسي، خلال زيارتي الأخيرة لعُمان، وبالتحديد لمسقط ونزوى (نوفمبر 2007 ـ ذي القعدة 1428).
غير أن هذا التفاعل الخلاق بين البيئة العُمانيّة، والموروث العربي الإسلامي الأصيل والخالد، وبين الفنون الجميلة المعاصرة، احتضنته العمارة وتنظيم المدن، أكثر مما احتضنته الأعمال الفنيّة التشكيلية، التي تحاول باجتهاد وجديّة، إثبات وجودها في الحياة العُمانيّة المعاصرة، كثقافة بصريّة هامة ومؤثرة وفاعلة، كونها لا تحتاج إلى ترجمة، وتملك قدرات كبيرة، على محاورة الآخر، مهما كانت ثقافته ولغته، والوصول إلى بصره وبصيرته. الفنان محمد فاضل، وبحسه الوطني والقومي الرفيع، شعر بضرورة منح منجزه البصري، خصائص وسمات محليّة، تجعله يغرد خارج السرب الفني الغربي المسيطر والطاغي، ليس على التشكيل العربي فحسب، وإنما على التشكيل العالمي عموماً، ما دفعه للبحث عن معطيات تراثيّة عربيّة وإسلاميّة، تجلت في أكثر من منحى واتجاه، لعل أبرزها وأهمها، القدرات التشكيليّة والتعبيريّة المميزة للحرف العربي، إضافة إلى المعطيات الزخرفيّة التي طالما اقترنت به، وتكاملت معه، على هذا الأساس يمكن اعتبار الفنان، واحداً من الذين استلهموا الحروفيّة، وشدتهم إليها، فعكف على استنهاض منجز بصري معاصر، يتخذ من بنية الحرف العربي التشكيليّة المتفردة، أساساً له، بحيث تتماهى فيه، أطياف فنون الغرافيك الحديثة، بخصائص الحرف العربي التشكيليّة والتعبيريّة، فكيف جاء هذا المنجز، لدى الفنان حسني، وما هي ملامحه واتجاهاته، وأي حراك تشهده؟
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الفنان التشكيلي محمد فاضل من مواليد مسقط عام 1966. عمل منسقاً للفنون التشكيلية في المديرية العامة للثقافة بوزارة التراث القومي والثقافة العمانية، وهو عضو في الجمعية العمانية التشكيلية، ومرسم الشباب، وجماعة الفن بالنادي الثقافي. تخرج في المعهد العماني للتدريب والتأهيل (اختصاص فنون خطيّة) عام 1992. شارك في العديد من المعارض العمانية الداخلية والخارجية، كما أقام عدة معارض فرديّة لأعماله، وهو يجمع فيها بين خصيصتي التشكيلي والخطاط.
أسس لتجربته الفنية، بدراسة الخط العربي والزخرفة، ثم انكب على كتابة الخط العربي الكلاسيكي قبل أن ينتقل إلى مرحلة التجسيد والتصوير للحرف العربي وتالياً إقامة عمارة لوحته بكاملها، من المعطيات التشكيليّة والتعبيريّة الكبيرة لهذا الحرف.
يعتقد الفنان أن هذه المعطيات قادرة على التواصل وفتح حوار بصري وفكري مع المتلقي، بدليل هذه النتاجات الإبداعيات الكثيرة الموجودة في الحيوات التشكيلية العربية المعاصرة، بل لقد انتقلت الحروفيّة أيضاً، إلى عدد من الفنانين التشكيلين الأجانب، حيث يشتغل عليها عدد لا بأس به، ما يؤكد القيم التشكيلية والتعبيرية الفريدة للخط العربي.
إلى جانب التعبير بالسطوح، حاول الفنان محمد فاضل، التعبير أيضاً بالحجوم، فاستلهم الخط العربي وعالجه عل شكل منحوتات فراغية، وهو يعتقد أن كل قطعة فنيّة تنجزها أنامل فنان حساس ومرهف، سواء أكانت نحتاً أم تصويراً، من الطبيعة أو الحرف العربي، تشخيصية أو تجريدية هي عمل فني ساحر وجميل.
ويشير الفنان إلى أن التجربة التشكيلية العمانية بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي بإنشاء مرسم الشباب. كانت هناك تجارب فنية قليلة قبل ذلك، تمكنت من إرساء قواعد هامة للحركة الفنية العمانية الحديثة، وذلك عندما أقدم أصحاب هذه التجارب على تدريب بعض المواهب التشكيلية الهاوية التي سرعان ما تنامت لتترك بصمتها على الساحة التشكيلية العمانية، ولهؤلاء يرجع الفضل في دفع الحركة التشكيلية ونشرها على النطاق المحلي والخارجي، والحركة الفنية التشكيلية العمانية، وبشكل عام، تمثل الأصالة والبيئة والتاريخ، وعُمان غنية به وببيئتها التي كانت وستبقى المنطلق والأساس لسدنة الجمال وشغيلته في هذا البلد.
أساليب وتقانات
المتأمل المتمعن في تجربة الفنان محمد فاضل، يجد أنها تعيش حالة بحث و تجريب، سواء على صعيد الأسلوب أم التقانة، غير أن نزعة غرافيكية حديثة، تطل من كافة أعماله، على اختلاف صياغاتها والتقانات اللونية والخطيّة المستخدمة في إنجازها، وفي هذا إشارة واضحة لأسبقية شخصية الخطاط لديه على شخصية التشكيلي، وتالياً طغيان الأولى على الثانية. وشخصية الخطاط في الأساس، تنتمي لعالم الغرافيك أكثر من انتمائها إلى عالم التصوير، ما يفسّر لنا بجلاء، السبب الحقيقي خلف بروز هذه الخصيصة وطغيانها على كافة تجاربه التشكيلية الحروفيّة التي يمكن تصنيفها في اتجاهين رئيسين: الأول تشخيصي، والثاني تجريدي.
الاتجاه التشخيصي
نجد هذا التوجه في الأعمال التي حاول فيها الفنان بناء هيكليّة تشخيصيّة إنسانيّة أو طبيعيّة، من خلال كتلة حروفيّة تتجمع إلى جانب بعضها البعض بثخانات وإيقاعات مختلفة، لتشكّل إنساناً في حالة ابتهال، أو سجود، أو مناجاة، أو ترسم كرة أرضيّة، أو غيوم، أو بيوت، أو أشكال حيوانيّة .. الخ. والعبارات والنصوص التي يبني بها ومن خلالها الفنان هذه المشخصات، قد تشير إلى المعنى أو الدلالة أو الفكرة التي أراد التعبير عنها، من خلال معناها الدلالي المباشر (دعاء، سجود، أرض، بيت، عصفور…) أو يشير إلى ذلك من خلال التجمعات والهيكليات التي تكوّنها هذه العبارات والنصوص، عبر توزيعات وإيقاعات بصريّة مدروسة لوناً وخطاً وتكويناً.
إن عملية عكّس أو تجسيد معنى الكلمة أو النص، بشكل مشخص، مارسها الفنان العربي والمسلم (خاصة الخطاط) القديم، ومازال بعض خطاطي اليوم يمارسونها، كأن يرسم الخطاط من كلمة (عصفور) عصفوراً، أو من كلمة إبريق إبريقاً، أو من عبارة حصان حصاناً أو من كلمة الأرض أرضاً … وهكذا.
ولتعميق التعبير في لوحاته الحروفيّة المشخصة هذه، ووضع المتلقي في جو الفكرة وأبعادها الصوفية النورانيّة القدسيّة، يقوم الفنان محمد فاضل بمسرحتها عن طريق خشبة وإضاءة (برجكتورية) تتجمع عبر حزم ضوئية، تسقط من الأعلى لتبرز وتؤكد كتلة الشخص وحركته ووضعيته، وفي نفس الوقت، تحفز إحساس المتلقي وتوجهه لالتقاط الرسالة التي أراد إيصالها له.
في هذه الأعمال، يبدو الفنان مُقيداً من الناحيّة التشكيليّة الغرافيكيّة، إذ يقوم بتسخير كافة عناصر العمل لخلق الهيئة المشخصة التي تمارس فعلاً معيناً هو المعنى أو الفكرة التي أراد التعبير عنها. ولأنه وجد أن الدلالة المباشرة التي تقدمها هذه المشخصات الحروفية لا تكفي للإحاطة الكاملة والوافية بالمعنى العميق لها، لجأ إلى استخدام الأرضية المنسوجة من حشد هائل من الكلمات والحروف، والإضاءة المركزة، والتوزيع المدروس لعلاقة الأبيض والأسود، والظلال والأضواء، والفاتح والغامق.
الاتجاه التجريدي
في هذا الاتجاه، نقف على معالجتين اثنتين: الأولى تتماهى فيها التشخيصيّة بالتجريدية، والثانية تجريدية كاملـة.
في المعالجة الأولى، يحافظ الفنان على حضور خجول للواقع والمشخصات في أعماله، عير إيقاع تشكيلي غرافيكي تتنازعه خصائص وتقانات الرسم والتصوير والحفر والإعلان، حيث يقوم باعتماد أرضية بلون واحد نقي، يزرع فوقها كتلة رئيسة (دائرة ـ أرض) صلبة، زاخرة بالألوان والكلمات والنصوص والرموز. ولكي يخفف من وقع كتلتها، يحيطها بغمائم من الألوان الشفيفة المزروعة بالعبارات والنصوص المتعددة الثخانات، تارةً تلتف حولها كالسوار، وتارةً أخرى تخرج من محيطها كأنها بركان أو رفوف من النحل الخارج لتوه من الخليّة.
في هذه الأعمال، يتحلل الفنان محمد فاضل قليلاً من سطوة نزعة التشخيص والمباشرية لصالح نزعة إشادة بنيّة تشكيليّة من الصعب تصنيفها ضمن لون محدد من ألوان الفنون البصرية، فهي رسم وتصوير وتخطيط وإعلان وحفر في آنٍ معاً، لكن النزعة التوليفيّة الغرافيكيّة هي الأبرز فيها. نراها في التشكيلات الخطية، وفي اللون، وفي عمارة اللوحة أو تكوينها، ولشعوره الطاغي بضرورة تواصل المتلقي معه، قارب فيها الاصطلاحات والرموز الواقعيّة القادرة على فتح حوار بينها وبين متلقيها، كما حاول ضمن هذا التوجه، تضمين النصوص المبثوثة في جسد المعمار التشكيلي، معانٍ محددة، تدعم وتسند الفكرة أو المضمون العام للوحة.
في المعالجة الثانية التجريديّة، اكتفى بإشادة معمار اللوحة من الخطوط الرقيقة والثخينة، تارةً بفردها فوق مساحة العمل، لتخرج من أطرافه الأربعة، وتارةً يحصرها ضمن رقعة مهشرة بخطوط ناعمة قاسية، ومؤطرة بخطوط عريضة صلبة، تبرزها وتؤكدها، أرضية شفيفة منفذة بلون واحد، قد يكون لون الورق، وفي جسد هذه الرقعة، يزرع نصوصه وكلماته وعباراته وكأنها إشارات موسيقية، تتوسد جسد (نوته) أو إشارات وأخاديد، تركها الزمن فوق جدار متهالك، وقد تقارب أحياناً، الرُقم والمخطوطات القديمة التي نجت من عاديات الزمن، لتصل إلينا، لحظة مجمدة، تبوح بالكثير عن عصرها وإنسانه.
في هذه الأعمال، يلجأ الفنان محمد فاضل للتنويع بثخانة الخطوط والحروف، كما قد يوشيها بأرقام ورسومات لطيور وزخارف وغيرها، إضافة إلى التنويع بدرجات الألوان وطريقة مدها فوق الورق أو القماش، بغية التأكيد على التكوين وتحريك اللوحة بصرياً.
تجربة لافتة
في تجربة لافتة، قدم الفنان محمد فاضل نفسه نسَّاجاً غرافيكياً مهماً، يقود عناصر لوحته بمهارة الخطاطّ والتشكيلي، وبحس توليفي فائق الانسجام، رغم التنوع الحركي الكبير والجميل، الذي تؤديه المساحات في معمار اللوحة.
في هذه التجربة، يلجأ الفنان إلى خلق مساحات مرصوفة بعناية وعفوية في آنٍ معاً، ومن درجات لونية منسجمة، تتدرج من الفصائل الباردة (أزرق، أخضر، بنفسجي، بني) تبرزها وتؤكدها لطشات خفيفة وقليلة، من الأحمر الحار. وهذه المساحات المشكلة لمعمار اللوحة، منفذة من سحبات ريشة شفيفة يرصف فوقها تأليفاته الخطيّة المتجمعة إلى جانب يعضها البعض، تارةً بكثافة، وتارةً أخرى، بإيقاع متباعد وممطوط للحرف المكرر في أكثر من اتجاه، وبحركات مختلفة.
هذه التجمعات الحروفيّة، لا تأخذ كامل مساحات الألوان، وإنما جوانب منها، ما يخلق حالة حوار بين اللون والخط، من جهة، وبين المساحة والأخرى، من جهة ثانية، خاصة وقد نوّع في الأساس في درجة ألوانها الغامقة والفاتحة، الكامدة والزاهية، المضاءة والمعتمة. وما أسعفه في إبراز معمار اللوحة أو تكوينها، تركه مساحات لونية مصمطة بين أركان اللوحة، وتنويعه لكثافة الخطوط، والسطوة الكبيرة لبعضها على كامل مساحتها.
هذا التنويع الخطي واللوني، خلق حالة إيقاعية بصريّة ساحرة ومعبرة، نهضت بكاملها، على إحساسٍ غرافيكيٍ رفيع، أتقن الفنان محمد فاضل التعامل معها واستثماره، في خلق لوحة غرافيكيّة حروفيّة حديّثة نهضت بكاملها، على القدرات التشكيليّة والتعبيريّة للحرف العربي الذي برع الفنان في التعامل معها ونسج تطاريز جميلة منه
محمـــود شــــاهين ناقد تشكيلي من سورية