أقلقتني في الأيام الأولى من إقامتي بمقديشو, فكرة أنني في بلد عربي لا يتحدث سكانه العربية. لكن بمرور الأيام, تبين لي أن ثلاث لغات تتعايش على هذه الأرض. فبعض المتعلمين ممن تلقوا علومهم في دول عربية, أو من هم متدينون يتحدثون بشكل تلقائي, مع الوافد العربي بالعربية الفصحى.وثمة فئة متعلمة تجهل العربية, وتتواصل مع العربي وغيره بالإنكليزية.أما باقي الصوماليين فلا يتحدثون إلا بلغتهم.
الحقائق هذه, كنت أختبرها كل يوم, وفقا لظروف المكان الذي أتواجد فيه.ففي الفندق مثلا, كنت أتفاهم مع موظفي الاستقبال والندل, إما بالإنكليزية,أو بالعربية المفككة التي يتحدث بها المقيمون العرب في دول الخليج,مع الهنود والآسيويين.وكنت أتواصل مع محدثي الصومالي أحيانا إلى تفاهم.وفي غالب الأحيان, كنت أصاب بالملل, وأصرف النظر عن الطلب الذي أكون يصدده.
وأثناء عملي على إعداد التقارير وجمع المعلومات في المكتب, كنت أتحادث مع زملائي بالفصحى, وكذا مع السائقين والحرس. لم يكن الأمر هينا عندما تطول المحادثة, رغم أن الفصحى البسيطة, هي وسيلة التعبير في المهنة التي أعمل بها منذ عشرين عاما. لكننا تعودنا جميعا في مكتب الجزيرة بمقديشو على الأمر, عندما يتعلق بتواصلي معهم. أما عندما يتحدثون فيما بينهم, فكنت كما يقول المثل “كالأطرش في الزفة”.
وعندما كنت أجري حوارا أو مقابلة مع شخصية ما, كان أبشر دائما إلى جانبي, إذا كان المعني لا يتحدث الإنكليزية أو العربية. وقد حدث أمران طريفان في سياق الاختلاط اللغوي هذا.
ذات مرة, كنت أعد لحوار مع الجنرال المتقاعد جامع غالب.وكان الرجل الذي تطوع للعمل كمستشار أمني لدى المحاكم الإسلامية,صاحب تاريخ في الصومال. فهو كان وزيرا للداخلية في إحدى حكومات, محمد سياد بري آخر رؤساء الصومال قبل تفككها. وكان قائدا عاما للشرطة. وشدد الزملاء في المكتب بشكل خاص على نقطة أثارت إعجابهم في تاريخ الرجل, وهي أنه هو الذي أدخل الصومال, في عضوية الشرطة الدولية المعروفة اختصارا بالإنتربول.
الجنرال غالب كان متحمسا للمقابلة,وحضر بنفسه إلى المكتب لإجرائها,حاملا إلي نسخة من كتاب أعده بالإنكليزية,يرد فيه على اتهامات الولايات المتحدة للصومال بإيواء تنظيم القاعدة, ولبعض مصرفييها بتحويل جزء من أموال القاعدة إلى هذا البلد, عبر بنك بركات الذي ورد اسمه في التحقيقات بهجمات سبتمبر عام 2001, ثم لوحق صاحبه وأغلقت فروعه في اكثر من بلد.
عندما أطل الجنرال غالب وتصافحنا تحدث بالإنكليزية بلكنة غريبة. جلسنا. ووضعت آلة التسجيل أمامه للبدء بالحوار,ليفاجئني بالطلب بأن أطرح عليه السؤال بالعربية, على أن يرد هو بالإنكليزية. فعلت ذلك مع شيء من الاستغراب, عند طرح السؤال الأول. وأصابني بعض التشوش الذهني عندما تحول الأمر إلى حوار فيه أسئلة مستولدة من إجاباته, ما جعل الحوار مصدر إرباك لي وله. ولم ينته ذلك الإرباك, إلا بعد ان لجأنا تلقائيا إلى لغة واحدة هي الإنكليزية.
في واقعة أخرى ذهبت بصحبة أبشر للقاء نائب في البرلمان يتبع الحكومة الانتقالية, جاء مع نحو 20نائبا آخر إلى مقديشو لزيارة أقاربهم لأول مرة منذ زوال سلطة أمراء الحرب. اللقاء بهؤلاء كان فرصة بالنسبة لي لأن محاولاتي للقاء بهم في بيداوا حيث مقر الحكومة الانتقالية, كانت قد باءت بالفشل لأسباب لا مجال للخوض فيها.
التقينا في الفندق, الذي كنت أقيم فيه بناء على اتفاق على إجراء مقابلة هناك , مع النائب علي باشي الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين المعروفة باسم حركة الإصلاح.
ما حصل أننا وجدنا مسؤولين آخرين في الحكومة الانتقالية برفقته, هما وزير دولة, ونائب يشارك في المفاوضات مع المحاكم. وكان الأخيران متحمسين للمشاركة في الحوار, الذي تحول واقعيا إلى ندوة.
وضعت آلة التسجيل على الطاولة, وطرحت سؤالا على باشي بالعربية, فرد بعربية فصحى محبوكة ومتينة لا تحتاج صياغتها إلى أي تحرير صحفي. وعند سؤال وزير الدولة تبين أنه لا يعرف العربية فبادرت بسؤاله بالإنكليزية, فكانت ردوده بالإنكليزية أيضا. وعندما توجهت بالسؤال إلى النائب الثاني وجدت أنه يجهل اللغتين, مما دفعني إلى طلب النجدة من أبشر, الذي قام بنقل الأسئلة وترجمة أجوبتها من الصومالية إلى العربية وبالعكس.
الموقف بالمحصلة لم يخل من طرافة, لكنه كان يوجز جزءا من معضلة عروبة الصومال, بالمعنى الذي يفهمه معظم العرب خارجها. أي : عروبة اللسان والتاريخ.
بقيت على اعتقادي بعد شهور من عودتي إلى الدوحة,بأن عدم اهتمام بعض الصوماليين بالتحدث بالعربية أمر عابر نظرا لأنهم لا يشعرون داخل بلادهم بازدواجية اللغة. لكن زميلي صالح طبلاوي الذي عدت والتقيته أثناء زيارته لقطر, أوضح لي أن رفض الحديث بالعربية له, أسباب أعمق من ذلك, وهو بالنسبة لبعض الصوماليين موقف ثقافي, إذا صح التعبير.
وقد أوجز لي طبلاوي الأمر على هذا النحو: العربية بالنسبة للإسلاميين, ورجال المحاكم على وجه الخصوص, اختيار ثقافي وسياسي, شديد الصلة بالانتماء الديني لبلد لا وجود فيه لغير المسلمين. وهم رواد التعريب بمعناه السياسي, ودليله على ذلك أن الجيل الشاب بينهم مثل شيخ شريف و(النائب السابق للجنة العلاقات الخارجية للمحاكم) الدكتور محمد علي ابراهيم,درس في دول عربية وإسلامية وهم يسعون إلى توسيع المشاركة العربية في حل أزمة الصومال.
أما بالنسبة لفئة أخرى من الصوماليين-وهم حسب طبلاوي – من أمثال الرئيس عبدالله يوسف أحمد وبعض أتباع الحكومة الانتقالية,فالعرب ليسوا اختيارا من أي نوع. وتذهب هذه الفئة الصومالية إلى الاعتقاد حسب طبلاوي أيضا, أن الزعماء العرب في علاقاتهم بالصومال, يؤمرون من سادتهم في الغرب فيطيعوا. فلم الالتحاق بهم إذن؟.
نظرة بعض الصوماليين إلى العرب, قد تفسر عملية التحول في تدوين اللغة الصومالية من الحرف العربي إلى اللاتيني,وهو ما لم يكن لدي خلفية تذكر عنه, قبل المجيء إلى مقديشو.
وبما أن موضوع التحول من الحرف العربي إلى اللاتيني, بقي في ذهني مرادفا, لما فعله مصطفى كمال أتاتورك مع التركية مطلع القرن الماضي, فقد فوجئت منذ اليوم الأول في مقديشو,أن آخر رئيس لدولة الصومال الموحدة محمد سياد بري هو الذي أقدم على هذه الخطوة الاتاتوركية الطابع عام 1974. وعثر النحاة الصوماليين وقتها,على بدائل لاتينية معدلة, للحروف الصعبة في العربية كالقاف والحاء.
أما بالنسبة للوقائع المتصلة بتعامل الصوماليين,من الذين كان لي احتكاك يومي بهم مع العربية, فقد انطبعت في ذهني منها ثلاث:
الأولى عندما طرح علي أبشر ذات يوم,بضعة أسئلة عن هوية واضع «المورد»- قاموس العربية والإنكليزية – منير بعلبكي. لم يكن يعرف أنه لبناني, وسره كثيرا معرفة, أن روحي ابن منير, وضع قاموسا معاكسا من الانكليزية إلى العربية, ليفاجئني بعدها هذا الصومالي الذي لم يتجاوز الخامسة والثلاثين, بالقول أنه يعد من جهته منذ سبع سنوات, قاموسا مشابها من الصومالية إلى العربية, وأنه مهتم بالعثور على ناشر عربي له. ثم مضى إلى جهاز الكمبيوتر ليريني الصفحات الكاملة للنص.
الواقعة الثانية تتصل بابن مراسل الجزيرة فهد ياسين.وهو طفل دون العاشرة, كنت أراه بعض الأحيان, متنقلا بين غرف المكتب بصمت, إلى أن فاجأني ذات يوم بالسؤال بعربية فصحى, كتلك التي نسمعها على ألسنة الممثلين في المسلسلات التاريخية السورية: أين أبي؟.
لا أذكر ماذا قلت له, وأنا تحت وقع المفاجأة بلغة الطفل.وعندما فكرت بالأمر, لم أستطع أن أفصل في ذهني,بين عربيته المجلجلة, وعشرات المدارس الدينية المنتشرة في أحياء مقديشو, والتي يدير معظمها رجال دين سعوديون أو صوماليون , من التيارات السلفية.
أما الواقعة الثالثة فقد شهدتها عندما ذهبت لحضور حفل افتتاح ثلاث محاكم جديدة, أقيم في قاعة تقع ضمن بقايا القصر الرئاسي بمقديشو, بين المتحدثين كان رئيس مجلس شورى المحاكم حسن طاهر أويس. الرجل تحدث بالصومالية.وعندما كان يستشهد بآيات من القرآن الكريم, كان يتلوها أولا بالعربية, ثم يواصل خطبته بلغته الأم شارحا معاني الآيات ومدلولاتها.
هذا هو حال العربية في الصومال.أما التناقضات بشأنها فلا يستشعرها إلا وافد عربي آخر, بدليل أن صحفيا يمنيا يدعى مراد هاشم حركته المفارقة, وأعد تقريرا, مصورا حول الأمر, بعد زيارتي إلى مقديشو بأسبوعين.
لا أذكر ما قاله هاشم في هذا الصدد, غير أن معايشتي القصيرة الأمد للصوماليين, جعلتني استنتج أن مصدر هذه التناقضات اللغوية والثقافية, هو تقلبات الرئيس الأخير للبلاد محمد سياد بري. فقد ربط الأخير بلاده بجامعة الدول العربية, وهي خطوة ما زال الصوماليون منقسمون حولها,وألحق نظامه بالاتحاد السوفييتي السابق محاولا الاستفادة من هباته العسكرية في ذروة الحرب الباردة, ثم حول لغة بلاده من الحرف العربي إلى اللاتيني. كل ذلك حصل في أقل من عقدين .
محمد العلي كاتب وصحفي من فلسطين