عبر نص طويل مؤلف من مقاطع عديدة يدون الشاعر زهران القاسمي قراءته في الذات والوجود والتاريخ في نصه «الهيولى» الصادر عن دار الفرقد بدمشق ليكون إصداره الثاني , وكان قد أصدر عام 2007 مجموعته الشعرية الأولى «أمسكنا الوعل من قرونه» عن دار الانتشار العربي ـ بيروت، بالتعاون مع النادي الثقافي.
في نصه الجديد يبدو القاسمي ممسكا بخيوط اللعبة الشعرية بشكل أقوى فهو يجعل من (الهيولي ) , اللفظة اليونانية , بؤرة محورية منها تتفرع رؤى وصور وأخيلة , تكون مفردة(الهيولي) هي الخيط الذي يلظم خرزه ضمن بناء هارموني منسجم ومتداخل الأجزاء لكن (الهيولي ) كمفردة , تبقى هي السراج الذي يسير على ضوء هديه المتلقي مبددا خوفه من المجهول ,مخففا عليه –المتلقي –ثقل عتمة إبحاره في ظلمات اللاشعور دون أن يتعبه حضورها المتواصل – وقد تتكرر مفردة(الهيولي ) في الصفحة الواحدة أكثر من مرة ,بل إنه يجعل من (الهيولي) نقطة البداية وخاتمتها لأن «الهيولي ليست موتا ولا حياة «كما يقول بل إن :
«الهيولي
هي تأخير قبلة
على شفة الحبيب
هي اكتمال الدائرة
لكنها لا تعود معنا
الى نقطة البداية»
فتكون الحجر الذي يبني بواسطته معماره الشعري منطلقا من مادة الكون الأولى و«في البدء كانت الكلمة» فتكون (الهيولي) مادة الكون الأولى معادلا للكلمة التي هي مادة الشاعر الاولى , منها ينطلق وبها يسبح في فضاءات الجمال وحين يفرغ القاسمي (الهيولي)من خواصها الكيمائية ليخرج بمركب شعري جديد يكون قد ركب متن المغامرة فيقدم عدة تعريفات لهيولاه وهي بالتأكيد ليست هيولى الفلاسفة القدماء, إنها هيولى شعرية :
الهيولي
ليست سديماً
هي صورة الأمس
ساطعة بين قوسين من خشبٍ عتيق
وبرقٌ يطعن نهد امرأة
الهيولي
مخبأ
معبأ بمادته
الهيولي
سكين تقطع المشهد نصفين
فيطفر سائل لزج
كل صباح
تسحب الهيولي الشمس
من قرنها
لتسحق الزهرة الغافية
وفي ثنايا هذه التعريفات تتناسل الصور وتتحرك المخيلة لتلج مناطق عميقة في اللاشعور يغير من صيغة الخطاب فيتجه للهيولى مخاطبا إياها :
«هيييييه أيتها الهيولي
لا مكان لك الاك
ولا إسم إلا ما سميت به نفسك»
ذلك لأن الهيولي التي ترتدي ثوب معشوقة تحب عشاقها
«لكنها تعبر عن حبها
باللعنة التي…..
تلاحقهم الى الأبد
موصومين بوجهوههم الشبحية»
فهي الحبيبة التي يدون الشاعر سيرتها وهي الوجود الذي تغلفه الأسرار والدهشة التي تتملك الشاعر وهو يقرأ سطور هذا الكون من خلال مادته الأولى :
«كان الكون بلا ملامح
كنت شبحا
ودخلت عالمك
لم يكن لي صوت
فصرت أغنيتي
لم يكن لي ضوء
لم يكن لدي ظل
وها أنا شجرة وارفة الظلال»
وينوع القاسمي في صيغة خطابه الشعري فمن التكرار, كون التكرار من عناصر النص الحديث الذي يصنع من خلاله الشاعر موسيقى تعوض عن الإيقاع الخارجي , ينتقل الى عنصر السرد لإثراء النص وتقوية البناء الفني لجعله أكثر تماسكا:
«قالت الهيولي للدرب: كن متاهة
وللمتاهة : كوني حبلا
وللحبل
كن أفعى
وابق سري ملتفا في داخلك «
ويصبح راويا حين يقول :
«كلما أطلقنا رصاصة نحو الأفق
يساقط شلال من الهيولي
في الاحتراق
تتصاعد الهيولي دخانا
ويا..لجمال خصرها
هل سبق لأحدكم أن راقص الهيولي؟»
ويواصل نثر أسئلته الساخرة محاولا أن يجعل من الهيولي كائنا يشارك الكائنات فراغها المطلق :»هل تود أن تعرف
أين تذهب الهيولي في عطلاتها ؟»
وهو سؤال صادم ومحير ويجيب عن سؤاله بسخرية مقابلة ومهارة ومكر :
«إنها تقضيها مع الخزاف
هي تحب أن ترى قلبها أحيانا
جرة ماء «
لكنه يكتشف في النهاية إنها ليست سوى طفلة في إشارة الى طفولة الأشياء بمعناها الوجودي والفلسفي
«من يدرك
أنه يرتب كلماته المبعثرة
ليلتقيك
من يستمع إلى جوقة العشق
وهي تشعل أغانيها في قلبه
أيتها الطفلة
أيتها الهيولي.»
وتتجلى لغة القاسمي التي تميزت بالكثافة والاقتصاد ومجانبة الترهل اللغوي في بناء الجملة الشعرية حيث جاءت, هذه اللغة, مختزلة عميقة متعددة الدلالات ويقف في أحيان كثيرة عند مرسى لغة المتصوفة فيكرر الحروف والألفاظ ويقلب الجمل والمفردات محاولا الاستفادة من بناء الجمل في تراث المتصوفة من أجل خلق لغة لها محمولات رمزية تنطوي على الكثير من الأسرار :
«أخيرا وجدتني
كنت أبحث عن لغة
أو كف تقودني اليّ
أدرك تماما أنني لا أدركني
فكيف سأدركك
أنا الهيولي فيك
وأنت الهيولي فيّ
ولن نحيط بها أبدا»
ويجعل القاسمي بناء نصه دائريا إعتمادا على المقاطع, قد يتألف المقطع الواحد من سطرين يفرد لهما صفحة من كتابه المؤلف من في 93 صفحة من القطع المتوسط مستثمرا المساحة البيضاء لإعطاء المتلقي فسحة للتأمل
«ما أروعك
نغتسل بأمطارك»
أو ثلاثة أسطر أو أكثر , وقد يشغل مساحة صفحتين (كما في 67 و68)
وكأنه ممثل يلقي دوره على خشبة المسرح ,و للقاسمي تجارب في السينما ممثلا , يختتم نصه بقوله :
«سأترككم الآن في رعاية الهيولي
لكن
إنْ مررتم ذات يوم
بعجوز تبيع حاجياتها
من الجوع والفقر
فلا تنظروا إلى عينيها
ففيهما
تغرق الهيولي
في نومها الأبدي
نومها
الذي لن ينفتح ثانيةً
إلا
على عصفور دامع العينين
ينام في بئر الهيولي العميق»
إن القاسمي بـ(الهيولي) دخل مغامرة كتابة النص الطويل الذي يتألف من أجزاء صغيرة تتنامى وهي مغامرة تحتاج الى نفس شعري وثراء لغوي وقدرة على القبض على خيوط اللعبة الشعرية فأي تراخ منه يعني فلتان هذه الخيوط وتحطم العمود الفقري للنص لتشكل عالم نصه.
عبدالرزاق الربيعي كاتب من العراق يقيم في عُمان