يفتح محمد عيد العريمي، في سرديِّته المطولة الثالثة «بين الصحراء والماء»، نافذةً على الماضي القريب، يُطلُّ منها، ويُطلع قراءه من خلالها، على بعض تفصيلات المجتمع العماني، في مرحلة بينية شهدت تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية كبيرة. وعبر عين راصدة تتعقب التفصيلات اليومية المعيشة، متخذةً زاويةَ رؤيتها من الداخل لا من الخارج، يدبج الكاتب وثيقة أدبية تؤرخ تأريخا فنيًّا بديعًا للحياة الاجتماعية في خمسينيات القرن الماضي وما تلاها في بعض مناطق المجتمع العماني. وعلى الرغم من مستوى الصدق العالي الذي اتسم به النص، إلا أنه لم يخل من العناصر الأدبية التي تحفظ له بهاءه وإشراقه. إن النص أدبيٌّ صميمٌ بكل ما تقتضيه الصناعة الأدبية من تخييل وإثارة قد يجافيان الواقع ويحرفان الحقيقة. لقد وازن العريمي ببراعة بين متطلبات الجمال الأدبي ومقتضيات الصدق الواقعي. وبقدر ما توفر نصه على الصدق، اتسم بالجمال والروعة.
في هذه السردية التي لم يُعْنَ مؤلفها بتحديد هويتها الأدبية، يُحفظ من الضياع جانب من جوانب الثقافة العمانية، في ماضيها القريب، لطالما كان القسمة الأكثر غبنا وإجحافا، والأقل حظا وحضورا، في مجمل جهود المثقفين والكتاب العمانيين، وهو الجانب الاجتماعي. لم يحفل العمانيون قديما، وحتى عهد قريب، ولعلهم مازالوا حتى الآن، بكتابة تاريخهم بمختلف أشكاله: السياسية والثقافية والاجتماعية. ومن بين المستويات الثلاثة المشار إليها كان المستوى الاجتماعي، ولايزال، هو الأكثر إهمالا. وما من دليل على مدى الإهمال الذي أحاق بهذا الجانب أوضح من أن تراث المستشرقين يمثل الرصيد الأبرز فيما يمكن تسميته بـ«التأريخ الاجتماعي»، مع ما يصدق على كتابات المستشرقين من تحفظات ومحاذير منشؤها عدم انتماء الكاتب/المستشرق إلى البيئة التي يكتب عنها، الأمر الذي يعرضه للوقوع في تفسيرات خاطئة، أو تقديرات غير دقيقة. وإن كان، في الوقت نفسه، يُؤَمِّنُ له، في بعض الأحيان، نظرة أكثر حيادية ونزاهة.
أقدم العريمي على هذه الخطوة التوثيقية في جوهرها انطلاقا من وعي حاد بأهمية التدوين والكتابة في مواجهة مخاطر الاندثار والتلاشي والضياع:
«قررت في تلك اللحظة أن أكتب كل ما أتذكره وأحفظه من تجارب ومشاهد وحياة سابقة قبل فوات الأوان، عني، وعن الأماكن التي عشت فيها أو زرتها، وعن المواقف والأحداث التي تعرضت لها أو سمعت عنها وعن الأشخاص الذين عرفتهم، عن كثب أو مجرد معرفة عابرة!»(1).
هوية الكتاب الأدبية:
كما أشرنا أعلاه، لم يعين الكاتب جنس إصداره الأخير، إلا أن قارئه يهتدي دونَ كبير عناء إلى انتمائه إلى السيرة الذاتية. وإشارة الكاتب إلى أن «بعض الأسماء والأحداث في هذا النص من نسج الخيال، وبعضها الآخر من صميم الواقع»(2) لا تغير شيئا من حقيقة نسبته إلى السيرة الذاتية، إذ إن عملية التجنيس الأدبي، في كثير من الأحيان وفي عديد من النماذج، إنما تتم بمراعاة الطابع العام للعمل، وليس بمراعاة كافة تفاصيله وجزئياته. والنص الذي بين أيدينا يؤرخ حياة كاتبه، على نحو صريح، عن طريق إيراد تفاصيلها الواقعية الدقيقة التي نتوفر عليها من مصادر أخرى، أهمها موقعه على الإنترنت، والزاوية الخاصة بسيرته الشخصية على وجه التحديد.
إن الكاتب يسرد وقائع حياته -في مجملها- سردًا واقعيًّا، دون تغيير في الأسماء، أو تحوير في الأحداث الرئيسية، على نحو يدفع القارئ إلى التساؤل أين تنتهي الحقيقة، وأين يبدأ الخيال الذي أشار إليه. لذلك، وفي ضوء ما سبق، أرى أن الأسماء والأحداث التي أشار إلى أنها من نسج الخيال، إنما هي عناصر ثانوية أو تفصيلية أراد من خلالها أن يسد بعض الفراغات أو الثغرات في الصورة الكلية التي رسمها للمشهد المكاني والاجتماعي(3).
وفي حقيقة الأمر -على ما يرى بعض النقاد- لا يكاد ينجو كاتبُ السيرة الذاتية من إضافة مادَّةٍ متخيلةٍ يُرمِّمُ بها المتداعي أو المتهالك من عناصر الصورة التي تحتفظ بها ذاكرته للماضي المنصرم. يقول د. عبد الفتاح أفكوح في هذا الصدد:
«ولا شك أن كتابة السيرة الذاتية تعكس واقعا ذاتيا غير مطلق، وذلك لكون هذا الواقع يجمع بين الحقيقة والتخيل في حدود معينة، وهي ازدواجية تقيم صلبَ الحياة الواقعية للذات الفردية، ولهذا السبب نرى من يكتب سيرته الذاتية، يجد نفسه مضطرا إلى ترميم ماضيه المسترجع بنسج تخيلي، لكن بشرط أن لا يخل بدعامة الصدق، وأن لا يحجب وجه الحقيقة، وهذا شرط لازم ودقيق، يتطلب من الكاتب قدرا من المرونة، وكثيرًا من الحذر ساعةَ يعجز عن تذكُّر ما تنطوي عليه التجربةُ أو الحدثُ المسترجع من تفاصيل، يجهد نفسه في إحيائها من جديد بالكتابة. إن كاتب السيرة الذاتية غالبا ما يلجأ إلى عملية الربط بين ذكرياته، محاولةً منه لسدِّ ما يصادفه من فراغات في سرد حياته المسترجعة، ومن ثم فإن الإبداع السيرذاتي يقوم على المزج بين حمولة الذاكرة الفردية وعنصر الخيال، فكاتب هذا الضرب من الأدب يستعين بذاكرته ومخيلته لبناء وترميم قصة حياته، وبذلك لا محيد عن الإقرار بضرورة وجود قدر من التخيل في تركيب خطاب السيرة الذاتية»(4).
وقبل تَجاوُز مسألة هوية الكتاب الأدبية، من المناسب التطرقُ إلى جنس أدبي يعرف باسم (قص الطفولة)، ومحاولةُ اختبار مدى انتماء نص (بين الصحراء والماء) إليه. اذ إن هذا الجنس الأدبي يعنى بتأريخ مرحلة طفولة الكاتب.
قص الطفولة:
في دراستها المعنونة بـ(أيام طه حسين بين السيرة الذاتية وقص الطفولة) تتناول الباحثة المصرية نهى أبو سديرة الجنس الأدبي المُسَمَّى بـ «قص الطفولة»، وتورد له تعريفين متكاملين لكل من جون سالس وفيليب لوجون. يقول الأول : « إن قص الطفولة هو نوع من السرد يقوم به الكاتب محاولا إعادة بناء وإعادة تقديم الذكريات الأولى التي شكلت حياة الطفل فهو يتخير بدقة من هذه الذكريات وهذه الأحداث الماضية ما أسهم بشكل رئيسي في تشكيل حياة الطفل». أما الثاني (فيليب لوجون) فيضيف إلى تعريف سالس قائلا: إن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن تُقدم للقارئ هذه الذكريات أو الأحداث الماضية من حياة الطفل بصوت راوٍ عليم ومحيط بكل شيء، أو من وجهة نظره -وإن كان هذا ما يطلق عليه لوجون قص الطفولة التقليدي والذي يشكل جزءا من السيرة الذاتية (التي تتناول مراحل العمر المختلفة)- بل إن ما يميز قص الطفولة الذي نعنيه هنا شيء أكثر تعقيدا، ألا وهو أن يحاول الكاتب أن يخلق وأن يحاكي «صوت» الطفل وأن يجعل له رؤيته الخاصة ولغته الخاصة وأن يعطيه حرية التعبير دون تدخل من الراوي «العليم» وفي هذه الحالة يكون الطفل هو نفسه الراوي الذي يقوم بعملية السرد(5).
وعندما نحاول اختبار مدى انتماء نص (بين الصحراء والماء) لأدب قص الطفولة المشار إليه، نجد أنه يتقاطع معه في جانب ويفترق عنه في جانب آخر. إنه يلتقي معه في محاولة إعادة بناء الذكريات الأولى التي شكلت حياة الطفل، ويفترق معه في طبيعة الراوي، فإذا كان (قص الطفولة) على نحو ما اشترط لوجون يتطلب أن يكون الراوي الذي يقوم بعملية السرد هو الطفل نفسه برؤيته الخاصة ولغته الخاصة دون تدخل من الراوي العليم، فإن نص العريمي يعتمد في عملية السرد على راو عليم كليِّ الحضور، حيث إنه يتناول أحداثا لم يشهدها الطفل صاحب السيرة، ويتحدث أحيانا عن آثار بعض الأحداث في حياته المستقبلية عندما أصبح رجلا، كما أنه في أحيان أخرى يستشرف المستقبل فيروي أحداثا ستقع بعد ذلك بسنوات عدة، فضلا عن التحليلات النفسية والاجتماعية التي تنتشر في النص ويتعذر على الطفل أن يهتدي إليها. وبناءً على هذه الملاحظات المتعلقة بطبيعة الراوي في نص (بين الصحراء والماء) أرى أنه لا ينتمي إلى نوع (قص الطفولة) بمعناه الحديث، وإنما إلى السيرة الذاتيه، أو ما سماه لوجون بـ (قص الطفولة التقليدي) الذي يشكل جزءا من السيرة الذاتية.
من سيرة الشخص إلى سيرة الوطن:
من دائرة الحياة الشخصية الضيقة ينطلق الكاتب ليسرد بشفافية عالية وصدق كبير سيرة الوطن، ليس في بعده السياسي المتمثل في الأحداث الكبيرة التي شهدتها المنطقة والتي أسست لقطيعة سياسية وحضارية شبه شاملة مع الماضي القريب، وإنما في بعده الاجتماعي الذي ظل حتى تلك الفترة امتدادا وفيا للحياة الاجتماعية للمجتمع العماني القديم، بكل عناصرها الواقعية والمتخيلة، وكائناتها الحقيقية والأسطورية. لذلك نجد العريمي، من منطلق التعقب التفصيليي، يُصوِّرُ الأماكن التي شهدتها نشأته الأولى في قرية وادي المر ومدينة صور، من خلال تفاصيل الحياة اليومية، تصويرا دقيقا. والمكان الذي يرسم لوحته بفنية كبيرة ليس هو المسرح المادي الطبيعي وما يضمه من منشآت ومبانٍ بشرية، وإنما هو، بالإضافة إلى ما سبق، الشخصيات التي تضطرب في أرجائه، والأحداث اليومية المتكررة، التي لا تكتمل لوحة المشهد المكاني إلا باستحضارها وتجسيد أدوارها وممارساتها شبه الثابتة. في هذا الإطار، وسعيًا إلى إضاءة الجانب المعنوي المبطِّن للجانب المادي الظاهري، يتطرق الكاتب إلى المخيال الشعبي الذي يصبغ بلونه نظرة الأهالي إلى مختلف جوانب وشؤون الحياة اليومية. ويتسم تناوله للمخيال الشعبي بالرؤية الناضجة، فهو على وعي بحقيقة القصص التي تتداولها المجتمعات البدائية، وكيفية تحولها إلى أساطير، وطبيعة العوامل النفسية التي تكمن وراء عملية التحول تلك. في حديثه عن حكايات جدته لبطولات جدها «الظفري» يتضح نضج الرؤية والتفسير:
«في روايات جدتي لقصص جدها الظفري وغيرها من حكايات وأساطير الصحراء من الحقيقة شيء، ومن الخيال شيء، ومن الرغبة كثير!»(6).
«عديدة هي حكايات جدتي، لكن حين تروي لنا تلك القصة أو غيرها من قصص جدنا (العود)، كانت عيناها الصغيرتان الغائرتان في تجويفيهما تبرقان وتشي ملامح وجهها بفرح طفولي.. لعله لم يغادرهما منذ أن سمعت جدتي تروي لنا قصة جدها الكبير «الظفري»»(7).
إن الرغبة التي لا يتيح لها الواقع الصحراوي القاسي فرص التحقق لا تنطفئ، وإنما تلتمس طريقها إلى التحقق في الخيال، من خلال الخرافات والأساطير التي تترجم عنها أكثر مما تترجم عن الواقع أو التاريخ الفعلي. إن العريمي هنا يشير إلى أحد وجهيْ «جدل الرغبة والنفور» الذي يشير إليه نورثروب فراي، في كتابه «تشريح النقد»، على أنه الأساس الذي تنهض عليه الشعائر والطقوس المرتبطة بالأسطورة «الرغبة في الخصب والنصر، والنفور من الجفاف والأعداء»(8).
راكساند: يتوقع قارئ (بين الصحراء والماء) أنه مقبل على قراءة نص ممتلئ برائحة الماضي وعبق التراث، بفعل مجموعة من العوامل النصية التي شكَّلت عتبة النص ومدخله الأولي، وهي:
– الغلاف الذي احتوى صورة بيت عماني تراثي قديم.
– والتقديم الذي حرره الصحافي (عبد الجليل السعد) والذي أشار صراحة إلى أن النص يبدأ «بمحمد عيد تجاوزا وينتهي به، وما بين الاثنين تقع جدته والظفري ووالده ووالدته ومعلمة القرآن شمسة، وأصدقاء الطفولة والمرأة وحماره (غدير) وغافة عكّاز والمكان في أكثر من رؤية ومفهوم وموقع»(9) .
إن هذا الانطباع الذي تخلقه العوامل النصية المشكلة لعتبة النص يهتز فور الدخول إلى المتن حيث مواجهةُ فصلٍ أوَّلَ مكرسٍ للحديث عن فتاة غربية أمريكية هي راكساند.
يثير الدهشةَ والتساؤلَ هذا الافتتاح: افتتاح نص مخصص لحكاية الحياة العمانية في ماضيها القريب بشخصية فتاة غربية أمريكية هي راكساند.
لقد انضمت راكساند إلى نص العريمي وانتمت إليه. وفي حقيقة الأمر، لم يتعد هذا الانضمام أو الانتماء مرحلة التمهيد لما سيلي سرده من سيرة العريمي ووطنه. وعلى الرغم من ذلك لم يكن هذا الدخول على خط السرد بدون آثار. لقد باتت (راكساند) أحد عناصر البنية النصية للعمل، وبتعالقها مع بقية العناصر –تشابها أو تضادا- ستكتسب معناها السياقي وستخلع على العناصر الأخرى المتعالقة معها معانيها السياقية.
(راكساند، على تواضع شأنها، كتبت مذكراتها، فلأكتب أنا –سيرا على نهجها- سيرتي)
تحتل هذه الفكرة البسيطة موقعا مركزيا في نص (بين الصحراء والماء). وإنها لتلقي بظلالها على مختلف مستوياته السردية وتجلياتها النصية. إنها تعقد مقارنةً مماثِلَةً، لا سبيل إلى تحاشيها، بين راكساند والكاتب. وإذا كانت راكساند، كما كتب عنها العريمي نفسه، «لم تحظ من الجمال بالشيء الكثير»(10)، وأنها ليست سوى «فتاة عادية كغيرها من بنات جنسها وعمرها وبيئتها»(11)، وأن جمال مذكراتها لا ينبع من جمال في الأسلوب والعرض بقدر ما ينبع من الصدق والعفوية(12) – فإن الكاتب نفسه، عن طريق مقارنته بشخصية راكساند، سيكتسب سمات تواضع الشأن وبساطة الحال. وسيكون داعيَه إلى كتابة سيرته الذاتية، ومبررها في الوقت نفسه، ليس أهمية صاحبها وخطورة شأنه، ولا عظم الأحداث التي خاض غمارها أو الأدوار التي اضطلع بها، وإنما مقولة الشاعر الإنجليزي (كلوريدج) «إن أية حياة مهما كانت تافهة ستكون ممتعة إذا رويت بصدق»(13).
على امتداد التمهيد بدت راكساند جميلة فاتنة جذابة، على الرغم من تواضع جمالها وثقافتها ومهاراتها الكتابية. وعلى امتداد الفصول التالية بدت حياة العريمي، وفي «وادي المر» على وجه الخصوص، جميلة فاتنة جذابة، على الرغم من خلوها من الأحداث الجسام والشؤون العظام. والسبب، تماما كما هو الحال لدى راكساند، صدق العرض وشفافية التصوير.
وفي الواقع لا تصدق سمة التواضع والبساطة على حياة الكاتب فحسب، وإنما تنطبق أيضا على حياة المجتمع الذي ينتمي إليه، وهو المجتمع البدوي في (وادي المر). إن هذا المجتمع، على نحو ما يصفه الكاتب، يتخذ من حادثة غرق سفينة عابرة مناسبة تاريخية تُؤَرَّخُ الأحداثُ والوقائع بالرجوع إليها، ويظل يردد لمدة طويلة قصة حِمارةٍ واجهت حيوانا مفترسًا دفاعا عن ابنها، كما أنه لا يمتلك من الثروة سوى الماشية، وإذا ما جفت المراعي بسبب انقطاع الأمطار لم يكن أمام السكان سوى الموت أو الرحيل، فضلا عن امتزاج الخرافة بمعتقدات أفراده على النحو الذي يحملهم على إفساح مكانٍ في حلقة السمر للجنية الفاتنة محبوبة شاعر الوادي ومغنيه سليِّم المر!ّ
وإذا كان اتخاذ «راكساند» مدخلا للنص أَدَّى إلى معادلة الكاتب وموطنه الأول بها، ومن ثم إكسابهما صفاتِها من تواضع شأن وجمال وثقافة، فإن لهذا المدخل بُعْدًا آخر هاما جدا لا ينبغي إغفاله. إن علاقة الكاتب براكساند الأمريكية هي التي دعته إلى أن يعود إلى حياته وحياة قومه ليرويها بصدق وعفوية. لقد كان التعرف على الآخر، من خلال (راكساند)، داعيا أساسيا للتعرف على الذات. يقول العريمي معبرا عن هذه الحقيقة:
«ها أنا أقف وجهًا لوجهٍ عاريًا أمام نفسي من خلال عينٍ أخرى غير عيني!»(14)
وفي هذا السياق اتسمت العودة للذات للتعرف عليها بالاعتدال والتوازن، والصدق والنزاهة، فبرئت من أية محاولات زائفة لادعاء أمجاد وهمية تسعى إلى تضخيم الذات، أو المبالغة في الإعلاء من شأنها. والسبب الكامن وراء هذا السلوك الناضج، كما يبدو لي، هو سلامةُ الكاتب من أيِّ إحساس بعقدة نقص تجاه الآخر يحمله على تعويض الفارق بالادعاءات الكاذبة والمزاعم الفارغة. إن هذا التوازن والاعتدال في تصوير الذات والوطن يُكسبُ النص مضمونا إنسانيا على درجة كبيرة من الأهمية.
إن نص (بين الصحراء والماء)، بسبب انضمام راكساند إلى عالمه، تحرك باتجاه أفق إنساني رحب يؤسس لقيم التعارف بين الشعوب والأمم، وينظر إلى الآخر باعتباره مرآة تُمَكِّنُ الذات من اجتلاء خصائصها واستكشاف ملامح هويتها.
سطوة المكان:
بالنظر إلى أن بطل هذا العمل القصصي، والمجتمع الذي ينتمي إليه، يتصفان بتواضع الشأن والحال، على نحو ما بينا أعلاه، يبدو طبيعيا جدا أن تكون الغلبة فيه للمكان على حساب الشخوص والأحداث وغيرها من عناصر البنية السردية.
إن النص يبدأ بالمكان وينتهي به. وما بين البداية والنهاية يبدو الحدث منزويا ضئيلا. فليس هناك تصاعد للأحداث باتجاه عقدة ما. وليست هناك شخصيات تنمو وتتطور بفعل الأحداث والخبرات التي تمر بها. وقد كان من أثر هذه السطوة المكانية أن شاع الوصف وتفوق على غيره من أشكال اللغة السردية.
وللعريمي قدرةٌ على الوصف تتسم بالدقة الكبيرة. وتضطلعُ بمهمة الوصف جملٌ طويلة، وأخرى طويلة جدا، لكنها مبنية بناءً هندسيا بديعا، من خلال تقسيمها إلى مقاطع متساويةٍ نسبيًّا في أطوالها، مؤلفةٍ من مفردات رشيقة ومنتقاة بعناية، على نحو يجعلها تنضح بالإيقاع والمؤسيقى الداخلية الهادئة. والفقرة الآتية التي يصور فيها الكاتب جانبا من رحلته على ظهر سفينة والده (صوت العرب) مثال جيد على ذلك:
«في البداية شدني أسلوب مناولة الصيادين الكنعد المملح لبحارة السفينة، والتي كانت تجري بسلاسة وانتظام يثيران الدهشة، إذا علمنا أن وزن السمكة الواحدة يتراوح ما بين 10 إلى 15 كيلوغراما. كان صاحب القارب يمسك ذيل السمكة ويسحبها من بطن القارب بيد واحدة وعندما ترتفع إلى مستوى الصدر يمسك وسطها باليد الأخرى ويرميها عاليا ليتلقفها مَن على ظهر السفينة بحركة واحدة بلا توقف ويرميَها في (الخن) حيثُ يصفها مَن هم داخل مخزن السفينة بانتظام دقيق»(15).
لنلاحظ أن الفقرة تتكون من جملتين فقط، تبدأ الأولى من (في البداية) حتى (15 كيلو غراما). وتمثل الثانية بقية الفقرة، إلا أنهما تضمان جملا فرعية، معطوفة على بعضها في الغالب، وتكاد تتماثل في أطوالها، على نحو يشيع جرسا موسيقيا جميلا.
إن السمة الأسلوبية المشار إليها، والمتمثلةَ في شيوع الوصف على حساب العناصر السردية الأخرى، والتي تعلن عن نفسها بوضوح تام على امتداد صفحات العمل- تصافحك منذ أول كلمة فيه ممثَّـلة في العنوان (بين الصحراء والماء). إن ظرف المكان (بينَ) يوحي بقوة أن النص مغلق، مؤطر الحدود، لا مجال واسع فيه لنمو السرد وتطور الأحداث. إن الامتداديْن المكانيَّيْن الهائليْن (الصحراء) و(البحر) يتحولان إلى ما يشبه السجن الذي يَحُدُّ من حركة وفاعلية الشخصيات والأحداث.
«حيث يلتقي البحرُ اليابسة، جلست على ركبتي وطبعْتُ كَفِّي على التراب الرَّطْب.. أمضيت دقائق وأنا أضغط بيدي بكل قوتي.. وكأني أسجل حضوري»(16)
في رحاب هذين العالميْن الضخميْن لا يزيد الوجود الإنساني، في فاعليته وتأثيره، عن طبعة كفِّ على رمال شاطئ، سرعان ما تجري عليها مياه المد فتمحوها إلى غير رجعة.
بضآلة الحدث والشخصية يتضاءل الزمان أيضا. ويتراءى للقارئ أن العالم الذي يقرؤه عالم خيالي (سحري أسطوري) خارج من ربقة الزمان. عالم قصارى جهود البشر فيه التكيفُ مع ظروف الحياة الصعبة والقاسية. ويتجلى ذلك بوضوح تام في الصحراء. وبتحقيق التكيف يتحول الإنسان إلى عنصر من عناصر المشهد المكاني لا أكثر، فليس هو السيد المتحكم القادر على تسخير عناصر الطبيعة الأخرى لصالحه. إنه مجرد كائن حي شأنه شأن الكائنات الحية الأخرى الخاضعة لسلطة الطبيعة القاهرة. في سياق طبيعي من هذا النوع يتضاءل الحدث الواقعي، فلا نمو للأحداث، ولا تغير في ملامح الشخصيات. ومع تضاؤل الحدث الواقعي يتصاعد الحدثُ الأسطوري، يقوى ويشتد عوده ليملأ الفراغ الذي يُخَلِّـفُه الفعلُ الإنسانيُّ الواقعي. هكذا هو الإنسان، أو هكذا هي روح الإنسان، لا يمكن أن ترضى بالهزيمة أمام قوى الطبيعة، فإذا ما ضاقات مساحات الفعل الواقعي لجأت إلى الخيال أو الأسطورة تمتح من معينهما ما تملأُ به الفجوات التي يتركها الأول. وبقدر ما تعمل الأسطورة على رفع معنويات البشر، وتخفيف وطأة قسوة الطبيعة عليهم، تبدع فنًّا وأدبًا يلبيان الاحتياجات الجمالية للروح الإنسانية. إن هذه الحقيقة هي التي التفت إليها الكاتب، ولكن من زاوية أخرى، في قوله:
«ترتبط البادية في أذهان الناس بالجدب ووحشة المكان وخوائه الكامل.. أرضًا وسماءً. وانعكس ذلك، بحسب قول من قال، على الحياة الاجتماعية والإبداع الإنساني، ونسي هؤلاء أن الذاكرة العربية الخصبة بالشعر والحكايات والأساطير الشعبية هي إنتاج الصحراء دون سواها»(17).
بين الصحراء والماء:
بين الصحراء والبحر تقلب العريمي في أطوار نشأته الأولى. وقد كان لذلك أثره في انتماءٍ مزدوجٍ واجهه الكاتب في صباه:
«فلم يكن غريبا أن أجد نفسي حين كنت صبيا مشتت الانتماء بين الصحراء والماء! كان صبيان قرية (وادي المر) يلقبونني بـ (راعي بحر) على الرغم من أني ولدت بينهم وترعرعت، ومعهم شربت الماء نفسه، في حين ظل صبيان المدينة لوقت طويل، بعد انتقالنا إلى صور والإقامة فيها، يلقبونني بـ (البدوي)»(18).
ويحق لنا أن نتساءل أي الانتماءين كان أشد تجذرا ورسوخا في وجدان الكاتب، وأيهما كان أكثر فاعلية في تشكيل شخصيته؟
أرى أن وجدان العريمي أشدُّ ارتباطا بالصحراء منه بالبحر، وأنها –أي الصحراء- هي الأقوى أثرا في تكوين شخصيته. ولا ريب أن السبب يعود إلى سنوات النشأة الأولى التي قضاها في ربوع قرية وادي المر الواقعة «وسط بحار من الكثبان الرملية على التخوم الشرقية لصحراء الربع الخالي الرهيبة»(19). فمن منظور علم النفس تُعَدُّ سنوات الطفولة الأولى هي الأشد حسما في تشكيل شخصية الإنسان وصياغة مزاجه العام. ويحفل النص الذي بين أيدينا بالعديد من الإشارات النصية التي تدعم هذا الافتراض (افتراض غلبة الصحراء على الماء في السيطرة على وجدان الكاتب وشخصيته).
إننا عندما نقارن شخصية العريمي بشخصية والده، من خلال الأوصاف والتعبيرات التي يستخدمها للتعبير عن كليهما، نلاحظ أن والد الكاتب، لا الكاتب، هو من اتصف بصفات البحر وعُجن بطبائعه:
«لقد كان والدي بحارا متمرسا وفيه من البحر كثير: معطاء إلى أقصى حدود البذل، وقاسٍ بأقصى حدود القسوة على نفسه أولاً قبل غيره… كالبحر أيضا: كان سهلَ المعشر.. مزاجيًّا ومتقلب الحال، وصعب المراس إذا غضب، وإذا أَمَرَ لا يرضى بكلمة «لا» جوابا.. مغامرا ومندفعا وفيه شهوة التمرد والانطلاق.. وفوق كل ذلك وبعده كان رقيق القلب..»(20).
أما الكاتب فهو – في مقابل صورة أبيه- معجون بطباع الصحراء وخصائص سكانها :
-«بدوي عجنته صحراء الربع الخالي بقسوتها.. ملول وصعب المراس… شبيه بالبيئة التي جاء منها.. تلك التي استنفدت كل ما لديه من طاقة على الصبر»(21).
-«قررت أن أظهر لراكساند شيئا من كرم عرب الصحراء»(22).
-«كَلَّمَني(23)، من خلال ترجمة راكان، عن نفسه، وعن وطنه، وعن الصحراء التي جاء منها»(24).
-«لقد تركت تلك السنوات في نفسي تقديرا كبيرا للبدو والبادية والصحراء، فسكنت بحب ذلك المكان وتاريخه، وتقاليد أهله وأساطيرهم وأسلوب حياتهم»(25).
-«صعوبة انصياعي لقانون أو سلطة من جانب آخر… أنا الذي تربيت على الفطرة في بيئة لا حدود لفضائها ولا قوانين تكبل من يعيش فيها. لعل هذا الاتساع هو الذي صاغ في نفسي التوق الدائم للانطلاق والخوف من الجدران والحواجز»(26).
-«ولعل طبعي الذي حملته معي من الرمال: الاستفسار عن كل ما أراه ولا أعرف ماهيته…»(27).
ومن المناسب أن نلاحظ معا أن العبارات الثلاث الأولى، من العبارات المتعلقة بوصف شخصية العريمي، وردت في سياق علاقته براكساند. هذه الملاحظة تؤكد ما ذهبنا إليه من أن انتماء العريمي الروحي إلى الصحراء أقوى من انتمائه إلى الماء، لأن الإنسان في مواجهة الآخر الغريب (راكساند) يستحضر أبرز ما يميز شخصيته وهويته، وبإلحاح الكاتب على البعد الصحراوي في انتمائه يتأكد الموقف المشار إليه.
في الإطار نفسه، نلاحظ أيضا أن كل ما يتعلق بحياة الكاتب في أميركا أورده الكاتب على نحو متقطع أثناء سرده لحياته في الصحراء. وفور انتقاله إلى الحديث عن حياته في مدينة صور الساحلية انقطعت تلك المقاطع التي يوردها بين الفينة والأخرى وتتناول حياته في أميركا(28). وإذا كانت أميركا قد مثلت (الآخر) فإن الصحراء التي جاورت أميركا في فضاء النص ستمثل (الذات)، من منطلق أن الأضداد تتعالق وتترابط ويستدعي بعضُها بعضًا.
لقد مثل الأبُ الماء، بينما مثل الابنُ الصحراء. وحقيقةُ مصاهرةِ الأب للبدو في الصحراء وارتباطِه بأهلها، وحقيقةُ انتقالِ الابن إلى مدينة صور الساحلية، وعيشِه فيها شطر الشباب والرجولة الأولى، هاتان الحقيقتان لم تغيرا في الانتماء العام لكليهما حيث بقي الأول منتميا إلى الماء، وظل الثاني منتميا إلى الصحراء.
وفي ضوء ما سبق يأتي الفصل الأخير (العودة إلى الرمال) ليؤكد بوضوح أن العريمي يخرج من الصحراء ليعود إليها. وما للماء من حضور في حياته الداخلية إلا بمقدار ما يُعزِّز انتماءه إلى الصحراء ويؤكد ارتباطه الروحي بها.
الهوامش
1 – محمد عيد العريمي، بين الصحراء والماء، مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر، الرسيل، سلطنة عمان، الطبعة الأولى، 2006، ص31.
2 -محمد عيد العريمي، مرجع سابق، ص17.
3 -كون هذه العناصر ثانوية أو تفصيلية لا يعني أن ما بذل فيها من خيال ضئيلٌ ومحدودٌ وفقيرٌ، كما قد يتوهم البعض، وإنما المقصود أنها لا تمس الأحداث والشخصيات الكبرى والرئيسية في حياة الكاتب بالتحوير والتغيير.
4 – د. عبد الفتاح أفكوح، درجة الصدق في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة،المقالة الحادية عشرة، على الإنترنت:
http://www.latef.net/alnokhbah/showthread.php?t=1848
5 -نهى أبو سديرة، أيام طه حسين بين السيرة الذاتية وقص الطفولة، مجلة القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، العدد 162، مايو 1996، ص154.
6 – محمد عيد العريمي، مرجع سابق، ص 48.
7 – المرجع السابق، ص50.
8 – نورثروب فراي، تشريح النقد، ترجمة محيي الدين صبحي، دار الكتاب العربي، طرابلس، 1991، ص155.
9 – بين الصحراء والماء، ص14. 10 – المرجع نفسه، ص 30.
11- نفسه، ص29. 12 – نفسه، ص29.
13 – استشهد العريمي بهذه المقولة في صفحة 29.
14 -نفسه، ص26. 15 – نفسه، ص208. 16 -نفسه، ص 110. 17 – نفسه، ص65. 18 -نفسه، ص 39. 19 – نفسه، ص33.
20 -نفسه، ص 220. 21 – نفسه، ص21. 22 – نفسه، ص22.
23 – ضمير المتكلم يعود لراكساند، وضمير الغائب المستتر يعود للكاتب.
24-نفسه، ص25. 25 -نفسه، ص81
26 – نفسه، ص165. 27 – نفسه، ص224.
28 – باستثناء حالة واحدة، في ص 171. وعلى الرغم من مجيئها في الجزء المخصص عن حياة الكاتب في صور، إلا أنها تشير إلى أن الكاتب في أميركا لم يجد أفضل من البادية وسكانها موضوعا للكتابة عنه في مقرر تاريخ العرب، وتحدث، ضمن ما تحدث، عن شخصية البدوي. والفقرة، بالمضمون المشار إليه، تؤكد ما ذهبنا إليه وتصب في قناته.
حميد عامر الحجري
كاتب من عُمان