1-العربية اليوم
أطرح هذا السؤال البسيط: كيف يمكن أن نقول كنط بالعربية، أي بلغة أقدم منه؟ بلغةٍ لا فاصل فيها بين ضمير الفاعل والفعل أو هي لا تذكره حتى تضمره (قلت للتو: أطرح، لم أقل: أنا أطرح مع إمكان قول ذلك إنما بمعنى مختلف). بل كيف يمكن اليوم أن نقول كنط بالعربية مع عودة هيمنة البلاغة الأشعرية التي لا تحسب الفاعل الظاهر في مثل قولك: حل الولد المسألة، فاعلاً على الحقيقة بل مجرد فاعل على المجاز، لأن لا فاعل حقيقياً إلاّ الله ؟!
بل كيف يمكن أن نقول فعل التفكير، وهو فعل مركزي في «النقد»، وفعل متعدٍّ (transitif direct) عند كنط؟ حيث «فكَّر» فعل لازم، بالعربية، لا يتعدّى الفاعل نفسه ولا يجاوز بنا إلى أيَّ مفعول به. فأنت تقول: فكّرتُ في المسألة، وتفكّرت بها. والمسألة هنا قائمة بمعزل عن التفكير بها، مثلما هي قائمة أشياء التفكير (أغراض القول) بمعزل عن القائل وقوله.
وإذا كان هذا هو شأن ميتافيزيقا اللغة الواقعية فكيف لي أن أقول «ترانسندا نتال» بالعربية، واللفظ كما هو معلوم، مفهوم مركزي عند كنط؟
لقد قالت العربية أرسطو من دون مشكلاتٍٍ بمثل هذه الحدّة، فهل يمكنها أن تقول كنط القائم في مدوّنة لغوية أخرى، بل المخترِع، نوعاً من الاختراع، مدوّنةً لغوية جديدة (بمشكلاتها وصيغها اللغوية) بالنظر إلى كل ما سبق؟.
وإذا ما أمكن بشطارة ما، شطارة في التجوّز اللغوي، والاشتقاق والاستخراع (الاختلاق) المستشري اليوم بالعربية بضغطٍ من الحاجة إلى قول التفلسف والتفكير المعاصرين – أقول: إذا ما أمكن تجاوز العائق اللغوي بطريقة ما، فأي كنط سنقوله بالعربية اليوم، ما اليوم؟
اليوم، يوم العولمة وأحادية القطب والمعلوماتية والقرية العالمية، من جهة الغالب، ويوم عودة هيمنة البلاغة الأشعرية على مجال القول بالعربية. أي يوم الغلبة المطلقة لمبدأ المرجعية (Principe d>autorité) الذي بدأت الحداثة بنقضه.
اليوم، أي كنط ليقال ويقرأ بالعربية؟
وماذا عساها العربية تصنع بكنط بعد قطع رأس «الشيء في ذاته» مثلاً، وأي مستند سوف تجده للحرية الإنسانية بعد ذلك ؟
أو بعد نسخ التمييز الكنطي وزمّه إلى مجرد تمهيد للجدل المنتصر مع هيغل ومن سار مساره (وما أكثرهم وأقوى سلطانهم)؟!
بل ماذا عسانا نصنع بكنط منظّراً للمعرفة لو ابيتسمولوجيّاً حين يكون تقدم العلوم وتوسعها قد قضيا، تسعفهما التكنولوجيا، على آخر دور للفلسفة في تأسيس المعرفة البشرية (على ما يشخّص هيدغر)؟ وأية خدمة – بلغة الوضعيين – ترتجى للعلوم من فلسفة بيّنت الثورات العلمية المتتالية قصور مضمونها المعرفي (منطلقات فروضها التفسيرية)؟
وماذا عسانا نصنع بكنط بادئاً فلسفة التناهي البشري المتمحورة حول ذهن متلقٍ وليس تلقائياً على ما يريد هيدغر؟
ولماذا تصلح فلسفة الذات الكنطية بعد كل «النعف» المعاصر لفلسفة الذات وتدمير سلطة الوعي وإعلان موت الإنسان نفسه بعد إعلان موت (السماء) وبعد أن تمّ تلخيص الانهمام الكنطي في سؤال واحد أحد: ما الإنسان؟… فهل لم يعد يجوز على كنط سوى الرحمة!
2- أيّ ميتافيزيفا اليوم؟
لكن، يقول المعترض: لا داعي لكل هذا التشاؤم. فكنط، رغم ذلك، ينتفض من ترابه ويعود معافي وملهماً، وأبلق فرداً في زمن انهيار العمارات الفلسفية الكبرى:
ألم يستلهمه جون رولز في عدالته؟ ألا يبني عليه هابرماس في نظرية الفعل التواصلي؟ أليس هو قائم في أساس آطيقا الحوار وتجاوزية آبل؟ أليس هو أخيراً حصان السباق المفضل لدى لوك فيري وألان رينو والعودة إلى أُنسية ما جديدة ؟!
أجل. كل ذلك صحيح تقول العربية. لكن رولز يستحضر كنط الأخلاقي والحقوقي وحسب. وهابرماس ينتقي من كنط مقاصد وحدوساً تفيده في «الفهم المعاصر للحقوق». في حين أنه، لا هو ولا آبل، مهتمان بميتافيزيقا كنط التي لم تعد تعني لهما شيئاً. أما الفرنسيان فيري ورينو فيشترطان «أنسية من دون ميتافيزيك» ويبحثان في كنط عن مجرد نصاب فلسفي متماسك لوعد الحريّة، وعن حل لمسألة الذات والعقل في العلاقة مع الآخر…
يستلهم كنط الأخلاقي والحقوقي إذن. وترذل ميتافيزيقاه، أي يرفض جوهره (على تعبير هيغل).
فماذا عسانا نصنع بكنط مخلّصاً من الميتافيزيقا: إن لدى العربية معيناً لا ينضب من المعاني الأخلاقية، وخزانة فيها من الكنوز ما يكفي ليضيء لغاتٍ أخرى: بدءاً من التعارف، والتسامح، والإباحة وصولاً إلى الحرية وسيادة العقل والتعقّل. وبدءاً من المعتزلة إلى المعري وابن رشد وصولاً إلى كبار المتصوفة. والسؤال ليس هناك، بل في مكانٍ آخر هو:
ما الأساس الميتافيزيقي الذي سوف يسند هذه القيم جميعها؟ ما النصاب الذي يجمع معرفتي بالعالم إلى تصرّفي فيه وآمالي الممكنة؟!
بالعربية، واليوم، لا أفهم هذا الغضب المعمّم من الذات والوعي. لا أفهمه لكني أرى حصيلته: تخليص التفلسف من الذاتية (العزيزة على نيتشه) ليصير صالحاً للخدمة في بلاط ما.
ولا يروقني اليوم كذلك هذا الرذْل المعمّم للميتافيزيقا وكأن ليس يمكن قيام ميتافيزيقا إلاّ كميتافيزيقا جواهر. والحقيقة أن ليس ثمة من جواهر عند كنط (يبيّن ألان رينو أن كنط ينزع عن الذات صفة التجوهر). أقول ليس ثمة من جواهر عند كنط. والميتافيزيقا عنده ليست علماً بالمعنى المتعارف عليه. وبلغة كنط: ليست علماً نظرياً، فهي لا تخبر شيئاً عن موضوعها. ولا تضيف معلومات وإن كانت في جانب منها تشير إلى وجهة تنظيم هذه المعلومات. وهي لا تقول في الأحوال جميعاً: إن هذا هكذا، بل «كما لو إنّ». وهي في جانبها الأساسي اقتراح حلول ممكنة لمعضلات مطروحة على العقل في مختلف ملكاته.
بتعبير أوضح: لم يكن كنط النقدي فيلسوف أخلاق من جهة وفيلسوف معرفة من جهة أخرى وفيلسوف غائية من جهة ثالثة، بل كان صاحب ميتافيزيقا وحسب. قوام هذه جملة مِن المزاعم المقترحة لإخراج العقل البشري من مأزقه، لتخفيف وطأة إرهاق الأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل نفسه، لمعالجة انهمامه (die Sorge) إن جاز القول.
وأتدبّر، بالمناسبة، فهما آخر للميتافيزيقا، فأحسبها لا علماً للكائن بما هو كائن، ولا سؤالاً عن الكون، ولا مبحثاً في الغيبيات، ولا تلك الشجرة الوارفة الظل، بل أقول هي بالأحرى جذع تلك الشجرة، وجذورها المخفيّة في الأرض، إن صحّ لنا استثمار الاستعارة الديكارتية مرة أخرى.
أقول: الميتافيزيقا هي سِسْتم المزاعم اللازمة للعقل البشري في مواجهة انهمامه بالأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل.
وجملة هذه المزاعم قد تكون أما مضمرة وسريّة وإمّا معلنة ومصاغة. وما فعله كنط هو إعلان معظم هذه المزاعم، مثال: الشيء في ذاته، والمكان والزمان، ولوحة الأحكام ولوحة المقولات إلخ.. وطرحها في كتب النقد مع امتداداتها المباشرة.
3- المثنى والتفكير
لكن ثمة جذور لم تعلن أو لم تُصغ باعتبارها تحصيل حاصل. وثمة جذر أساس لم يكشف عنه بعد ولم يجد مكاناً في الصياغة هو مزعم المثنى.
وكنت تنبهتُ إلى ذلك المزعم بفضل نص / درس ألقاه جيل دولوز ربيع 1973 بعنوان: «الثنائية والواحدية والكثرات». وللمرّة الأولى أرى دولوز خارجاً عن طوره، غاضباً على الأثنين، مبجّلاً للواحد والكثير، حاسباً أن الوحدة والكثرة شيء واحد في النهاية. وحين يكون المرء بمهارة جيل دولوز يسهل عليه أن يبيّن أن الوحدة تؤدي إلى الكثرة ولا بدّ، وأن الكثرة هي نفسها الوحدة أو الواحد. طبعاً، طبعاً أليس اسبينوزا ملك الفلاسفة! يتابع جيل دولوز.: الفكر إما أن يكون مع الواحد أو مع الكثرة وفي هذا إمكان له. أما مع الاثنين فلا فكر البتّة.
فالاثنين عدو التفكير le deux est l>ennemi de la pensée. ويستخدم جيل دولوز ذلك لدكّ ثنائية ديكارت وجرّ ذلك على التحليل النفسي الفرويدي واللاكاني. فالثنائية في النهاية ليست سوى انشطار الذات إلى ذي المقول وذي القول sujet. de l>énoncé et sujet de l’énonciation…_وأترجم بتصرّف: إلى موضوع النصّ وفاعل النصّ (أو الناص) ، وببساطة: إلى ذات وموضوع _. ولذلك حكاية واحدة يقول دولوز خلاصتها: أنت من يأمر، أي أنت تبلغ سدة القيادة (الأمر) بقدر ما تخضع للأمر الذي لست صاحبه (sujet) إلا بقدر ما تكون مشرّعاً: إنه أمر الديمقراطية الشهير. ويتابع: ليس من المصادفة أن الذي رفع هذا المذهب إلى أقصاه، إلى شكلانيته، هو وريث ديكارت من وجهة نظر الكوجيتو أعني من حيث يكون الخضوع للعقل يُعرض علينا بوصفه الطريقة التي بها نصير مشرّعين… إن هذا الخضوع للعقل من أجل أن نصير مشرّعين يحيلنا أبداً إلى قسمة الذات إلى ذي القول وذي المقو ل (موضوع النصّ والناص).
قلت: ينبّهني دولوز إلى محاولة هذا التجريب، إلى المجازفة التي جازفها كنط ذات مرة فأقول: ربما كان الاثنين ربما كان المثنى غير مناقض للتفكير. أكثر: ربما كان التفكير بالمثنى وتفكير المثنى المجال ما زال مفتوحاً للخوض فيه. ربما كان ما يزال ثمة معنى، اليوم، لقراءةٍ أخرى بالعربية هذه المرة، لاستلهام آخر لكنط بوصفه فاتح عهد التفكير بالمثنى، وعهد تفكير المثنى في ما يتعدّى الركون إلى الوحدة الأصلية، والتوحيد الصائر، والتناقض الثنائي والثالث الناسخ، وزغاريد الاختلاف والفرق والتعددية والكثرة. ربما كان لا يزال ثمة معنى لقراءة عربية لكنط بوصفه معبّداً لدرب الحداثة التي لا رجوع عنها ومبدعاً لميتافيزيقا أخرى.
وأبدأ بتمييز المثنى الكنطي من الثنائية الديكارتية، وأحسب أنه لا يمكن جرّ النقد الممارس ضد ديكارت على كنط نفسه من دون إغفال «الثورة الكوبرنيقية» نفسها وتضييع الانعطاف المنفرد الذي أحدثه كنط والذي ربما لا يزال قابلاً للاستلهام في البحث عن شبه شيمٍ للعالم الحاضر (بوصفه ماضي الأيام الآتية).
فمن المعلوم أن ثنائية ديكارت هي على ما شخّص ج. دولوز انشطار لجوهر واحد، أو كما تقول المدرسة هي ثنائية نوعية لجنس واحد، أو ثنائية تحليلية خاصة بالذهن البشري، الذي ليس يسعه أن يدرك سوى صفتين من صفات الجوهر الواحد (اسبينوزا).
كنت في ردٍ توهمته لكنط ضد هيغل قد أشرت إلى ذلك جزئياً في مثنى الحدس الحسي عند كنط، حيث أثبت كنط، ضد هيغل وربما أيضاً ضد هيدغر ومن نهل منهلما، أن قوله: إن أجزاء المكان تقوم معاً لا قربى له البتة بمعية الزمان simultanéité. فمعية الزمان أوان مكوِّن من آونة الزمان في حين أن كون أجزاء المكان تقوم معاً هو مجرد وصف تحليلي لحدس المكان وليس أواناً مكوِّناً فيه. مما يعني وجوب فهم الحساسية كقدرة تلقٍ يكوّنها عنصران مستقلان بنيوياً ومتميزان بحيث لا يمكن ردّ الواحد منهما إلى الآخر، ولا إعلان أولية الزمان على المكان كما فعل هيغل ومن بعده هيدغر وبخاصة هيدغر استناداً إلى نصوص فاضحة «في نقد العقل بالذات بدءاً من تصريح كنط أن الزمان هو الحدس الأكثر يونيفيرسالية وصولاً إلى دوره الأساسي في مزعم الشيْمية. مما يستدعي بعض التأويل، من مثل الانتباه إلى أن «الأكثر» في الأكثر يونيفرسالية قد لا يعني المقارنة البتة بالمكان، ومن مثل إن عدم تساوي صورتي الحدس ماثل في الوظيفة التي يلعبانها في عملية الحدس الحسي وحسب. وإن هذا الاختلاف لا يشير إلى أيّ علاقة اتحاد أو تداخل بين الزمان والمكان ولا يدل على أيّ تبعية بل يؤكد شيئاً واحداً هو افتراقُ الواحدِ عن الآخر بنيوياً وعدم استعدادِهما لتأليفٍ ناسخ على الطريقة الهيغلية.
4- كنط بالمثنّنى
ما أجربه هنا في قراءتي العربية لكنط هو أن المثنّى هو البنية الأساسية لرؤية كنط لكل كائنات النظرية النقدية بدءاً من نقد العقل المحض وصولاً إلى نقد الحاكمة.
وأتوقف قليلاً الآن مع بنية نقد العقل المحض وحسب بالنظر إلى تقدم البحث نفسه. فالكتاب حسب طبعته الثانية والنهائية مفصلان وحسب، مرقمان بالرومانية I وII:
تعليم العناصر المجاوز وتعليم المناهج المجاوز
والأول جزآن: الجزء الأول الاستطيقا المجاوزة، والجزء الثاني: المنطق المجاوز.
والجزء الأول فصلان: فصل في المكان، وآخر في الزمان.
والجزء الثاني قسمان: قسم أول: التحليلات الترسندالية. والقسم الثاني: الجدليات المجاوزة.
والقسم الأول كتابان: الكتاب الأول: تحليلات الأفاهيم. والكتاب الثاني: تحليلات المبادئ.
والكتاب الأول بابان: الخيط الهادي لاكتشاف الأفاهيم– وتسويغ الأفاهيم.
والكتاب الثاني بابان أيضاً: شيمية الأفاهيم – وسيستم المبادئ كلها.
القسم الثاني، الجدليات: كتابان
كتاب أول: في أفاهيم العقل المحض
كتاب ثان: في استدلالات العقل الجدلية
إلى آخره. حتى إذا ما دخلنا في التفاصيل رأينا لوحة الأحكام شأنها شأن لوحة المقولات صنفان: الرياضية والديناميكية.
والعرض شأنه شأن التسويغ اثنان: ميتافيزيقي ومجاوز
اللافت في هذا المثنى المعمّم هو أن المكونين لا يتشابهان ولا يتوازيان ولا من ثم ينتسخان في ثالث أعلى – بالأذن من هيغل….. بل يثبتان كمكونين فارقين في مظهر الواحد. الواحد (الكائن) هو المظهر وحسب وليس الظهور. المظهر الذي على التحليل أن يبدّده ليتبين اثنينيته.
لكن اثبات هذا التكوين الثنائي لكائنات نقد العقل المحض يواجه صعوبات متفاوتة: فإذا كانا من الممكن بسهولة ردّ التقسيم الرباعي إلى ثنائي كما فعلتُ بالأحكام أو والمقولات ورد كل رباعية لاحقة إلى ذلك، فإن ما هو أصعب هو التقسيم الثلاثي البارز مثلاً في عدد المقولات في كل خانة وفي عدد أماثيل العقل.
لكن يمكن تأويل هذا التقسيم الأخير إلى أنه في الحقيقة ليس 1 + 1 + 1 بل 2 + 1 بحيث يوزع الـ 2 إلى 1 + 1 ويبحث في الواحد الثالث عن عنصريه. مثال: مقولات الكم: الواحدة والكثرة = 2 + الجملة التي هي في جزء الفرد كفرد وفي آخر الفرد في مجموعة في جملة). هذا الثالث الذي قد يلتبس أمره في عده تأليفاً للاثنين السابقين يشدد كنط تشديداً كثيراً على فرادته ويرفض عده بمثابة تأليف.
ويمكن إجراء هذا التمرين في مواضع كثيرة لتبين اثنينيتها.
إن توكيد هذا المثنى بوصفه امتياز كنط يبدو لي تجريباً ممكناً لمنظورية مختلفة تخرج العقل أخيراً من تعوّده (بمعنى هيوم) الثلاثي الذي يتعايش بسهولة مع الواحدية والتعددية أو الكثرة التي بدأت هي الأخرى تصير تعوّداً والتي بين بصددها دولوز أن الوحدة تؤول إلى الكثرة والكثرة إلى الوحدة.
بل ربما يحلّ تجريب المثنى كل تلك الجدالات المعاصرة حول إمكان الخروج من الأنا وحديّة إلى البيذوية.
5 – المثنّى والعربيّة
ولعل هذا التجريب ممكن اليوم بالعربية بوصفها اللغة التي ما تزال حية، والحاملة لصيغة المثنى بل تلك التي تعنى بالمثنى عناية فريدة منذ قفا نبكِ. وتعطيه علامة الألف والنون التي يمكن إدخالها على أي أسم بحيث يعلو على الصرف ويصير علماً أو يعامل معاملة المفرد فيحتفظ بألفه ونونه إلا في حالات استثنائية (بداعي السترة ربما) مثال إيّان مثنى أي في إياك أعني وإياه أستعين إلخ.. ويصاغ على فِعلان وفُعلان والصفة منه فَعلان: مثال الميزان بكفتين والعرضان أو الطولان (الطول والعرض) والثعبان (الذكر والأنثى) والإنسان (أيضاً للمرأة وللرجل) ومثال (عَطشان ، عطش مرتين) وتعبان (تعب مرتين) وَمْلآن (مليء جداً).
وربما أمكن حلّ صعوبات ما تزال مستعصية في قراءة كنط بالعربية باستثمار هذه الميزة مثال , Apperzeption , Wissen Selbstbewu tsein, Subjekt فيقال: استناداً إلى عبقرية المفرد المثنى بالعربية عِلمان (لشمول العلم والمعرفة) وبِصْران (للادراك وإدراك الادراك) وذويان (للذات المجاوزة والذات الأنا) ووِعيان (لوعي الوعي) إلخ وربما صحّ قياساً القول حِدسان بدلاً من حدس الذي يوافق L،intuitionner بوصفه المصدر النوعي بالأحرى.
وبناءً على ما تقدم، ربما يكون قول كنط بالعربية ليس مجرد خدمة تقدّم لأهل العربية وانشغالاتهم الحياتية الجديرة بالنظر بكل تأكيد، بل أساساً خدمة تقدم للتفلسف نفسه في هذه القرن المنفتح على الغموض.
لم يكن السؤال ماذا عسانا نصنع بكنط اليوم وبالعربية سؤالاً تقنياً إذن لم يكن ليلبي حاجة وجودية ما، ولم يكن بالأحرى سؤالاً إقليمياً، بل كان يطمح، في ذهني، إلى أن يكون سؤالاً اعتبارياً spéculatif. وأحسب أن على الإجابة عنه أن ترى كيف يمكن مراوغة الأمبيري النثري كي لا يقلبها ويحولها عن التفلسف، أن ترى كيف يمكن تحويل الانهماك الكبير وإن أخلاقياً إلى انهمامٍ يونيفرسال.
موسـى وهبـه
مفكر من لبنان