من أين للقهوة كل هذه الهالة التي تحولها من مجرد مشروب منبه ،كما يصفه اولئك الذين ينظرون للأمور بحياد تقليدي بارد، إلى طقس احتفالي حافل بالمعاني كلها لدى عشاقها الكثيرين ؟.
من أين لها كل هذه القدرة على استجلاب تلك الخفة التي لا تؤدي بصاحبها إلى مهاوي الردى المهلك بقدر ما تستدرجه نحو آفاق غير مكتشفة في الاشياء والأزمان والامكنة العادية ؟
من أين لها كل هذه الدهشة التي تطفو على سطح الفنجان لتفيض من على حافة القلب رغبة في كل شيء وشهوة لكل الحياة وتضاريسها ؟
كيف لهذا الفنجان الصباحي الصغير ان يصير خريطة لنهار كامل ، فيحدد المنطلقات والمنعطفات ويلغي المسافات قبل ان يمارس غيه الاخير فيصير دواء لكل داء في محاولة لدفع تلك الاتهامات الظالمة التي يعلنها الطبيب في وجوه مرضاه كنصائح لا ترد، ولكنها لا تنفذ ، بالابتعاد عن المنبهات ، قبل ان يضيف هذا الطبيب متشفيا: أعني القهوة طبعا ؟
من أين للسحر سحره ؟
وللدهشة دهشتها ؟
وللذة استفزازها الوحشي للفرح الكظيم؟
وللنكهة نكهتها؟
للقهوة كل هذا…وأكثر بقليل ، وهي تعرف ذلك دون أن تعرف كيف تقوله او تصنع منه قصيدة أو أغنية…لكنها تعرف على الاقل كيف تصنع فنجانها المتفرد ، لا لتشربه وحسب ، ولكن لتجعله ايقونة فرح حقيقي كل صباح يحدث ان يولد دون مقترحات مسبقة لبوصلة الشعور المبيت.
بالصمت والمحبة واليقين تصنع فنجان قهوتها الاول بمجرد أن تحين لنهارها الجديد بدايته المفترضة. تشرع نافذتها على جلبة الشارع الخلفي ، وتدوزن لحنها الاول على صوت القهوة وهي تغلي في آنيتها النحاسية الصغيرة والانيقة ، ولأنها لا تعرف كيف تدلل شهوتها بنسغ الاشياء الاولى ، فلا تترك موقفها امام موقد الغاز الا بعد ان تهدئ من روع الآنية الانيقة وتضعها جانبا لتهدأ قليلا بينما تختار واحدا من فناجينها المختارة بعناية لذلك الصباح فتضعه في صينية تليق به مصحوبا بقطعة من الشوكولاته المفضلة لديها ، قبل ان تصب قهوتها بحركة مدروسة مخافة ان تضيع تلك الرغوة المنطفئة.
لا يهم كثيرا نوعية القهوة ، ولا مصدرها الجغرافي ولا بأي الامطار ارتوت شجيراتها ذات النزق الملكي ، لكن ما يهم حقا كيفية تحميص حباتها بدقة تشبه دقة من يجري عملية جراحية للمرة الاولى في حياته ، وهي كلما همت بعملية تحميص حبات البن استشعرت رهبتها الاولى وانتشت برائحة النزق الملكي البهيج قبل ان تسكرها تلك الرائحة تماما وهي تتحول إلى نكهة خاصة ، فتكتشف وهي في خضم ذلك الانتشاء المتحول الفرق الدقيق ما بين الرائحة حيث تكتسب الاشياء والحواس تعريفاتها الاولية ، والنكهة حيث ذلك السحر المغلف للمعنى بغموض ودهشة ثم الفة لا تناقضهما كثيرا.
بالصمت والمحبة واليقين تشرب فنجان قهوتها الصباحي على مهل، فتحاول ان تستحلب تلك النكهة الباهرة بمنتهى البطء الذي يمكنها ممارسته قبل ان تنسحب تلك السخونة المغرية من كثافة الفنجان !!
خطوة أخيرة:
مثل فنجان قهوة صباحي
أفضل شربه على مهل
بقيت نكهة الرسالة الأولى
وتلاشى خدري اللذيذ بحضورها.
سعدية مفرح
شاعرة من الكويت