عندما تلقي السماء بعباءتها السوداء اللامعة علي جسد المدينة العارية المغروسة كأحجية في الطرف الشمالي من الصحراء, وبالتحديد عندما تبدأ نوبة عمل الرجل العسكري في الحراسة في الطرف الجنوبي من البلاد, تتحول فضة الفتاة البريئة الخرساء إلي مخلوقة لامرئية, تمارس تحولاتها السرية ببراعة جنية طيبة تملك الكثير من الأسرار والأجوبة.
عند منتصف كل ليلة تخرج فضة أجنحتها البيضاء وأدواتها المخفية لرحلة المساء المعتادة,تغادر غرفتها الصغيرة ذات السقف المنخفض والأثاث البسيط, تفتح الأبواب الموصدة دون أن يفضحها صريرها المزعج, تدخل البيوت المتواطئة معها وتتجول بخفة كائن مسالم دون أن يلحظها احد, وقبل شروق الشمس تعود لقدرها البشري المرتبك بواقعية متماهية في إخلاصها لتفاصيل النهار.
النجوم الطيبة البعيدة والنوافذ الصغيرة المتباعدة وأعمدة الإنارة الصبورة وأحجار الأرصفة الباهتة في الشوارع الفرعية تشهد كل مساء على أفعال فضة المتمرسة, كانت تفتح نوافذ الغرف التي تسكنها رائحة العفونة, تنظف المطابخ التي بدت قبل ساعات مسرحا لتجهيز وليمة دسمة, تخمد ألسنة الحرائق في بداياتها قبل أن تستفحل الخسائر, تسقي النباتات المهملة, تغطي الأطعمة المكشوفة, تقدم التمر للبلابل في أقفاصها, تسند نخلة مال جذعها في فناء بيت مهجور, تحرك القطع المعدنية الحادة من وسط الطريق, توصد بابا مفتوحا علي الشارع.
ترتب الأقلام والدفاتر في حقيبة طفل ذكي تكره زوجة أبيه تفوقه الدراسي, تمشط شعر الفتاة التي نامت باكية بعد اشتباكها مع أخيها العنيف, تنظف عباءة الأرملة التي أنهكتها المشاوير اليومية للجهات الرسمية , تقرب علبة الدواء من سرير العجوز التي تنام خادمتها بعمق وتلعن ألف مرة موعد الدواء الليلي لسيدتها, ترسم خيالات ضاحكة على زجاج النافذة التي يطل منها الرجل المهموم مترقبا عودة ابنه الضال مترنحا آخر الليل, تطفئ التلفاز في غرفة الأربعينية العقيم, تشد غطاء السرير على جسد الخادمة الآسيوية التي أنهكها العمل المتواصل وغلبها الحنين لطفلتها البعيدة, تناغي الرضيع الباكي الذي نامت أمه من فرط إرهاقها أثناء إرضاعها له من ثديها. تصلح دراجة يشوبها الصدأ لمراهق يحلم أن يجوب العالم هربا من قسوة أبيه, تمسح اللعاب عن فم الرجل المقعد الذي ينام وحيدا منذ سنوات, تضع الكمام لطفلة باغتتها أزمة الربو وأمها تحتفل في الخارج كعادتها كل مساء, تخرج أكياس القمامة من منزل عجوز طيبة تفقد ذاكرتها تدريجيا, تطفئ السيجارة الأخيرة لشاعر نام قبل أن يكمل قصيدته الجديدة, ترتب منزل الزوج الذي هجرته زوجته.
كانت تقوم بعشرات الأعمال السريعة الطيبة في حيها ذي اللون الرمادي, حيث قدر جميع المنازل الحكومية أن تكون بتصميم واحد من الداخل والخارج, وهي سمة للمناطق الخارجية كما يحلو للجميع تسمية منطقتها كدلالة على المستوى المادي المحدود لقاطنيها ونظرة لا تحمل الكثير من التقدير أو الفخر!
عندما يصحو سكان حيها في السادسة صباحا لممارسة حياتهم اليومية يقسم كل منهم انه شاهد جنية طيبة في حلم ليلة البارحة تحول المنغصات بعصاها الذهبية إلى شحنات فرح. في الوقت نفسه تكون فضة مشغولة بإعداد إفطار والدها العائد للتو من نوبة عملة الليلي, يشاهد التلفاز متجنبا النظر إليها, ينهي طعامه بسرعة ويخلد للنوم.
فضة تجوب منازل الحي وتنثر الحلول المؤقتة كحبات المطر على الأرض القاحلة, المساعدات الصغيرة, اللمسات الحنونة والكثير من الدفء هذا ما يميز ليل تلك المنطقة النائية عن بقية المناطق والأحياء القريبة.
فضة التي يشفق عليها كل من في الحي,منذ فقدت أمها وشقيقها وصوتها بعد الحريق الذي شب في المنزل وهي طفلة ذات الثماني سنوات.
وحده الأرمل الحزين الذي لم تبق له الحياة سوى ابنة خرساء وعمل ليلي مرهق وبيت صغير تسرب جدرانه البرد شتاءا والحر صيفا,كان يتوق لحياة أخرى, يحتاج بشدة للمسات الجنية الطيبة التي يتحدث عنها جميع من في الحي, تلك المنذورة لفعل الخير التي لم تزره يوما لتمسح الدموع المنحدرة على ذقنه وهو يفكر في مصير ابنته الشابة التي بلا أم ولا أخوة وتسكن في احدى المناطق النائية المنسية ولم تذكر له يوما أن جنية ما داعبت أمنياتها أو مرت ولو بالصدفة في مساءاتها الطويلة!!
باسمة العنزي كاتبة من الكويت