هنا مقتطفات من سيرة الرسام الفرنسي الشهير بول سيزان (1839-1906) . كتب السيرة وقدّمها ووثقها الروائي والباحث الفرنسي برنارد فوكونييه.هذه السيرة أتت في كتاب من سلسلة «بيوغرافيا» عن دار غاليمار.
لماذا هو ؟ لماذا هذا الدب المصفّح ضد الهوى والهيام والغرام، هذا البورجوازي المرتاح ماديا والرجعي الأفكار سياسيا ، أضحى بطل الفن الحديث ، بل اصبح اكبر رسّامي زمنه ؟ لقد قلب الرسم رأسا على عقب وأعاد ابتكاره، مهيئا بذلك، وعلى امتداد قرن من الزمن، أعمال من لحقه من فنانين.
بدأ سرّ سيزان يبين او يتضح للناس خلال السنوات القليلة التي تلت موته. ومنذ ذلك الوقت لم يكن يتربع سرّه الأوساط الفنية ، بينما اخذت لوحاته تنتشر في كل متاحف العالم. سرّ سيزان هو مسألة أشكال ، او هي قصة التنافس مع العالم. سيزان اعاد اختراع فن اللوحة لأن الأشكال القديمة التي كان يحترمها اكثر من اي كان، كانت بعيدة المنال بالنسبة له.
ليس سيزان رساما جيدا ولا ملوّنا جيدا. انه سيزان فحسب. لا يتمتع ببراعة رافائيل او بيكاسو. كان عليه ان ينتشل كل شيء من المادة ، من الطبيعة، لكي يكون هو في المطلق ، بل لكي يكون كما يقول ريمبو «حديثا في المطلق». وهذا تحديدا ما انقذه.
انه يفرغ على اللوحة كل غضبه، يضع ألوانا ويزيدها على طبقات ألوان اخرى، يعرق ويشتم، يمزّق عمله عندما لا يعجبه، يرميه ارضا فوق كومة لوحات رماها قبلا، ويعيد العمل: هذا هو الثمن الذي ندفعه للعثور على الطريق، لابتكار ما ليس موجودا بعد. عندها بدأ بول سيزان يعي المأساة التي ستكون في ما بعد خلاصه الفني الوحيد.
النسخ لم يكن يثيره، هذا لو افترضنا انه قادر على النسخ. إذن لكي يكون، كان عليه ان يصنع ما لم يره أحد، ما اخذ للتوّ يحدس به: المادة. الطبقات الجوفية، سماكة الأشياء التي هي مقياس الوقت، تلك الهمسات الجبارة للطبيعة التي تدوي في داخله كلما وجد نفسه ازاء كتلة جبل سانت فيكتوار الرائعة.
(…) طريق جديدة. التخلّي عن الأوهام الرومنتيكية، عن التضاد الهوغولي ( نسبة الى فكتور هوغو) التي كانت تعطي , على لوحاته الأولى «الرثة» كما كان يحلو له تسميتها، كانت تعطي اذن ذلك التضاد القوي، ذلك العنف المجنون. وقبله بعشرة اعوام، كان غوستاف فلوبير قد سلك الطريق ذاتها ، معاكسا طبيعته من اجل هضم الواقع او الواقعية. وهذا اعطى حينها رواية «مدام بوفاري», بمثابة التصفية الجليلة لأوهام الحياة المثالية. لهو حقا تمرين في التواضع لكنه ادّى الى نتيجة فذّة. وكأن الواقع كان حقا فضائحيا، كأنه كان الفضيحة الوحيدة: ان تضع البشر ازاء نفسهم ، ان تريهم الحدود وأيضا لانهائية حالتهم.(…) لا يتكلم سوى عن الرسم. فكره يزداد وضوحا ونضجا. فهم انه لا يمكننا الرسم فقط انطلاقا من او استنادا الى الحدس. وفهم ان طبع الرسام ليس سوى احد ابعاد الابتكار الكثيرة، وأن كل فنان كبير يطوّر هو ايضا، وذلك لأنه افضل من يمكنه فعل ذلك، نظرية خاصة بفنّه. الاّ انه، وخلافا للنقاد العاجزين وللمنظّرين المهنيين، برهن عن حركته وهو يمشي ، فاتحا هكذا الطريق.
(…) وماذا يفكّر سيزان حول ذلك الصخب في باريس بينما هو قابع في مخبئه الريفي في جا دو بوفان في شتاء 1865-1866؟ لا شيء إطلاقا. لكن هل تبلغه اقلّه أصداء ما يحصل في العاصمة؟ وهل في الواقع هو حقا يتمنى لنفسه ذلك النجاح الذي يركض وراءه صديقه اميل زولا؟ في الحقيقة لا يفكر سيزان سوى في الرسم. اما الباقي فقد يأتي ربما كأمر زائد، او قد لا يأتي. سيزان لا يهتم لتلك المفاتيح الاجتماعية. فالمال والنجاح هما ايضا السلطة والطمع: وهل الرسم يقتصر على هذا الزهو السخيف؟!
(…) الكلام على رجل ما عادة ما يكون كلاما على تمرّده. وتمرّد سيزان هو غضب جوهري ودائم. ضد العائلة؟ ضد الرسم الرائج؟ ضد الحماقة البورجوازية و ضيق افق القيم ؟ او ضد الحياة التي تمضي؟ في المجال الفني، لا يسعه طبعا سوى الوقوف الى جانب المقهورين. ويجب ان نتذكر تلك الحقبة الغريبة حيث اوفنباخ يحصد النجاح في كل الصالات بينما فاغنر يواجهونه بالسخرية والذل.(..) قد يكون هذا نتيجة العصر الديموقراطي الذي يمنح اكبر عدد ممكن من الحمقى إمكانية الأذى واصدار الأحكام وشراء الرداءة والعرض بوقاحة، الطريقة المبتذلة للوجود. والحال هذه كان على سيزان، كما قبله فلوبير وبودلير وكثر سواهم، ان يتبنى ذلك الموقف النخبوي والارستوقراطي لمواجهة الابتذالات: الابتعاد عن الزهو الاجتماعي.
(…) ومرّة اخرى ترفض لوحات سيزان في معرض باريس. وكأن سيزان يلهث وراء الفشل كما اميل زولا صديقه الروائي يلهث وراء النجاح. الاّ ان فورتونيه ماريون يكتب في احدى رسائله: «المستقبل هو نحن. وفي اي حال يقال ان التاريخ هو الذي يحكم».
(…) قال مرة لصديقه زولا: كل اللوحات المرسومة في الداخل ، في غرفة الورشة، لن تساوي اطلاقا تلك التي يمكننا القيام بها في الهواء الطلق. فعندما نرسم المشاهد الخارجية، يبدو تناقض الأشكال على الأرض مذهلا والمنظر رائعا. اني أرى اشياء مدهشة، لذا عليّ ان اقرّر بأن لا أرسم سوى في الهواء الطلق. أعاني من ركود ما لكن من دون سبب حقيقي. وكما تعلم، لست اعرف الى ما يعود هذا، لكنه يعاودني كل مساء عند غروب الشمس. والأمر يضعني في الظلمة التامة».
هذه الحالة من الخيبة واليأس تنال حتى من اهم ركائز حياته الا وهي الرسم، وذلك على خلفية اللماذا نقوم بكل هذا، التساؤل الذي يعرفه كل الذين يحتكون بالعمل الجهنمي، عمل الخلق، اذ نراه يقول هنا ايضا لإميل زولا : «لست ادري ان كنت من رأيي ومهما يكن فلن اغيّر ما اعتقد به ، لكني بدأت ألاحظ ان الفن للفن مزحة قاسية ، وليبق الكلام بيننا».
وفي حين كان زولا منهمكا في كتابة رواياته المتسلسلة ومقالاته لكي ينال الاعجاب ولكي يجني الأرباح من اجل حياة افضل بعيدا عن الفقر الذي نشأ فيه، ولو ان هذا كله كان يقزز زولا ذاته اذ كان يرى في ما يقوم به عملا غذائيا
صرفا ، كان سيزان يسخر منه ومن قلقه المضني هذا. فما حاجتنا الى كل اولئك الحمقى؟ الفن، المستقبل، هما الشيئان الوحيدان المهمان فحسب. قال هذا وأصبح اكثر فأكثر متواريا عن الأنظار ولم يعد اصدقاؤه والمقربون منه قادرين على معرفة مكـــــــان اقـــامته: فيوم هو في شارع بوتريي ويوم آخر في شارع شوفروز ويوم ثالث في شارع فوجيرار او في شارع نوترو دام دي شان. انه يتسكع هائما على وجهه ، يتآكله قلق شديد، ألا وهو قلق العجز وكأن الطريق الـتي اختـــــارها، طريق المجهـــــول، على وشك ان تصل به الى التيه التام. الا ان صديقه الأكثر وفاء له ، في تلك الأشهر الصعبة من الريبة ، هو فيليب سولاري. كان يتميز سولاري بقدرته الفائقة على تحمّل مزاج بول المتقلب وعلى مشاركته كرهه للطوارىء المادية في الحياة. فيصرفان خلال فقط بضعة ايام كل راتبهما الشهري وينهيان شهرهما على الخبز المبلول بزيت الزيتون.
كانت وكالعادة، لوحات الجميع تقبل في معرض باريس السنوي الكبير ما عدا لوحات سيزان. كانوا يعرضون لكل من مانيه ، مونيه ، بيسارو، سيسلي ، رونوار، بازيل ، كلهم. نعم كلهم ما عدا سيزان. فنسخته الثانية «افتتاحية تانهويزر» رفضت. كالعادة، قالوا. ومن ناحية اخرى، اصبح تشبثه بالنسبة لهم مقلقا. بل اصبح هذا الرفض المتكرر لسيزان يشبه المؤامرة.، وكأنهم يهاجمون رمزا، اذ اسم سيزان لم يعد مجهولا تماما في عالم الرسم كما في عالم الفن والثقافة إجمالا في العاصمة الفرنسية. وماذا لو اصرّوا على وضع سيزان ، سنة بعد سنة، في دور الفاشل الرسمي ذلك؟
اما صديقه ماريون فيعبّر من جهته عن مخاوفه: «الرسم الواقعي راهنا ، هو اكثر من اي وقت مضى، ابعد من ان يلقى نجاحا وترحيبا لدى الجهات الرسمية، ومن هنا ، فلم يعد جائزا لسيزان ان يشارك في المعارض التي تقوم تحت الرعاية الرسمية. فاسمه اصبح جدا معروفا وأفكارا كثيرة وثائرة التصقت به ما جعل اعضاء اللجنة الحاكمة غير مستعدين ولا لحظة، للضعف او لليونة. فقال ماريون حينها في احدى رسائله انه يندهش ازاء هذا الإصرار وبرودة الدم تلك التي يكتب لي بها بول سيزان: «حسنا! سوف نزعجهم هكذا في الأبدية لكن بإصرار اكبر!».
(…) الا ان سيزان يجهل تماما ما ستأتي له به الحياة. انه يعمل فحسب. طبيعة الأشياء الجامدة تشغله. اشياء ثابتة، جامدة، تلك التي تسمح له بكبح انفعالاته وعنفه ، فلا يهتم سوى بالتقنية الصورية. الطبيعة الجامدة بالنسبة له ، هي الرسم المطلق. وهي تتمتع لديه بالمبدأ ذاته الذي لدى بيتوفن في الكواتور: الجوهر، لب الأشياء، البحث عن الشكل، وكل هذا من دون زينة ولا زيادات. وها هو يقدّم الساعة السوداء لزولا، مرتجفا وخافق القلب. بالكاد ينظر زولا اليها. لم يعد نقد الرسم من اهتماماته ، وسيزان اصبح من عداد الفاشلين.
في النضال الأبدي بين السلطة المؤسساتية والقدرة الحقيقية، انما القدرة، قدرته هو ، هي التي اخذت تربح وتتفوّق. الآن بدأ سيزان يعرف، ولو بشكل مبهم، انه يتبع الطريق الصحيحة، وانه بلغ مرحلة التحكم بفنه الفريد، انه متجه نحو خلاصه كفنان ، في ذلك الوقت حيث كان ينبغي على المرء ان يجد في الفن بديلا لموت الالهة وان يعيد صناعة العالم من خلال إعطائه اشكالا لم يعهدها احد بعد.
(…) وهل كانت اوفير فردوسا آخر ؟ المكان مليء بالوديان والحدائق والمزارع ، ونهر الواز يجري فيها بهدوء تفيّئه اشجار الحور. فكيف يمكن لسيزان ان ينقل الى لوحته تلك الفروقات في الألوان ، الفروقات اللانهائية في اللون الأخضر واللون البني للخريف (…)؟ انه اللون الذي يجب علينا تخفيضه بتؤدة ، وتخفيف الأنفعالات فيه. انها القاعدة الوحيدة ، قال له بيسارّو (…). وثمة حقيقة اخرى، وهي اننا لا نصل الى الهدف من خلال الشكل ، اي الرسم، انما من خلال اللون.
(…) من قال ان الفن نشاط بريء؟ انه بالأحرى نبض المجتمع، انه مرآتها وبعدها التخييلي، انه توقها الى ما هو روحي.
(…) لويس لوروا، وهو احد الصحافيين في جريدة ال«شاريفاري»، سوف يبلغ المستقبل والتاريخ انما دون ان يعلم، ولو من باب الحماقة : حدث ذلك اذ اراد ان يكون احمق وعقوقا من خلال اختراعه كلمة «انطباعية» عندما انتقد مجموعة الرسامين الانطباعيين ولوحاتهم المعروضة التي احدثت ضجة بسبب اشمئزاز الزوار المتفرّجين ازاءها.
(…) غريب امر تلك المستحمات. لسن نساء او بالكاد. بل هذه الأشكال تبدو وكأنها آلهات بدائيات. فليس فيها تلك البدانة او الرحابة التي في لوحات رونوار، ولا تلك الرقة التي في راقصات دوغا. ولا حتى اي شيء من الشهوانية ولو الخجولة على الرغم من صراحتها، التي لدى غوغين. هي كتل ، اشكال هرمية تتماهى بالطبيعة، في معظم الأحيان تكون مرئية من الخلف، مخنثة الى حد ما، وفي اي حال خالية كليا مما قد يشير الى الجنس في تلك الأجساد الى درجة ان معاصريه لم يتوانوا عن الشعور بمثلية لاواعية لدى سيزان. في اي حال هذه المستحمّات مزعجات. لسن «نساء جميلات». و لسن هنا ليقلن لنا الحياة والرغبة والأنوثة، انما هن هنا ليملأن المكان. لسن مدوّنات في الوقت، انما في المادة. (…) هذه النساء لا يخبرننا شيئا: انهن موجودات فحسب. لسن عاريات بفعل نزعهن الثياب عن اجسادهن، انما هن عاريات اذ لم يلبسن ابدا بعد وهذا يجعل الفرق كله. هذه المستحمّات ، مع جبل سانت فيكتوار ، هي العمل الأهم خلال العشرين سنة الأخيرة من حياة سيزان. عشرون سنة من النضال للخروج من التقاليد، من بوسين، من غريكو، حتى وجد الطريق النهائية لهندسة ذات ايقاع ضخم وتجريدية الى حد بعيد ، والتي سيتذكرها بيكاسو عندما رسم «آنسات افينيون».
سيزان يعود الى باريس بدءا من ايلول (سبتمبر) 1874. هذه المرة اصرّ على مواجهة سادية والده. فالواجب ناداه. عاد الى زوجته وابنه (والدا سيزان لا يعلمان بزواجه ولا بوجود ابن له). اذن وكأن الواجب ناداه ويا لها من غرابة، اذ كان سيزان واثقا من ذاته. فاليقين من انه اختار الطريق الصحيحة الوحيدة، منحه قوة جامحة. ولا تزال بالنسبة له فكرة البحث عن الشهرة مهما كان الثمن، فكرة مبتذلة ، وقد اصبح اليوم متأكدا من ذلك ، اذ بات يرى ان الفرح الذي يأتينا فقط لمجرّد قبول اولئك الرديئين بنا، هو افضل مثال لانحطاطنا. وفي رسالة الى والدته يقول بول سيزان : «بدأت اشعربأني اقوى من كل اولئك الذين يحوطونني وأنت تعلمين ان رأيي الشخصي بذاتي لم يأت اليّ سوى بدراية كبيرة. عليّ ان اعمل دائما وبدأب، لكن ليس للوصول الى الإنجاز، اذ هذا الأمر يفتن فقط الحمقى. وبالتالي فإن هذا الشيء الذي الى هذه الدرجة يقدّرونه وبابتذال، ليس سوى صنعة عامل مهني صغير ينتج ولا شك عملا عاديا وغير فنّي. واذا كان عليّ ولا بد من ذلك ان اتابع العمل ، فلهدف واحد فحسب ، الا وهو لذة ان اصنع لوحاتي اكثر حقيقية واكثر علمية».
اكثر حقيقية وأكثر علمية. هما الوصفان الوحيدان اللذان يستطيعان تحديد البحث الفني الذي قام به سيزان منذ البداية. حقيقة وعلم ، اي انه يعي ان الفن ليس عملا يتعلق بالعفوية ، كما انه ليس ببساطة صنعة المهارة. الفن هو ان نخلق عالما آخر ، وأن نبلغ الحقيقة ليس من خلال التقليد ، انما من خلال استقلالية الشكل. فالإنطباعية مرحلة، تجديد، نفس جديد من الهواء النقي. لكن هذا لم يعد يكفي. لم يعد يكفي ان نرسم جمال الطبيعة والنور والهواء الطلق وأن ندع حواسنا تقودنا فحسب: فكل فنان يملك رؤية الى العالم اذن يملك هندسة له. ولكن يجب ايضا من ناحية اخرى ان نأخذ بعين الاعتبار الأعماق الجبارة في المواد الموروثة، ان ندمج في اعمالنا كل ما تركه لنا المعلمون قبلنا من رامبرانت وتينتوريه وشاردين : لقد اصبح سيزان الآن ، والريشة في يده، قادرا على محاورة العظماء.
(…) بالنسبة الى علاقته بزوجته اورتانس ، فهو يتحمّلها ويحترمها لكن ثمة واقع لامفر منه : لا يحبها كما يفترض بالحب ان يكون. لم تعد تثير فيه تلك الانفعالات التي طالما قرأ عنها ايام مراهقته لدى شعرائه المفضّلين. سيزان ليس لهذه الحياة. لكن لأي منها؟ فالحياة الحقيقية غائبة.
(…) في شهر نيسان (ابريل) 1876 ، ولدى افتتاح المعرض الانطباعي الثاني، كان سيزان قد عاد الى بلدته. فأرسل بلوحة الى المعرض ولكنها رفضت كسابقاتها. وهو اذن في بلدته في البروفانس، بلغته اخبار المعرض الذي لم يدعوه يشارك فيه. كانت الصحافة في اي حال تشن هجوما عنيفا على مجموعة اولئك الرسامين الذين عرضوا لوحاتهم من اصدقاء ومعاصري سيزان. جريدة لوفيغارو تتهجم عليهم جميعا:» شارع بيلتييه يعاني من البؤس. فبعد حريق الأوبيرا، ها هي كارثة اخرى تنقضّ على هذا الحيّ. خمسة او ستة معاقون بينهم امرأة، اتفقوا على عرض لوحاتهم. ثمة من انفجروا ضحكا وهم ينظرون الى اللوحات من الزوار. لهو مشهد مخيف للتفاهة البشرية التي تخسر نفسها الى درجة الجنون» (…) «وكي يضع سيزان كل هذا الأخضر في لوحته، فمن المفترض انه يتخيّل ان كيلوغراما من الأخضر يكون اكثر اخضرارا من الغرام الواحد». ماذا بوسع سيزان ان يفعل داخل هذه الأجواء الخانقة والمليئة كراهية ونفيا؟ وكم كان بالتالي محقّا عندما رفض ان يحضر الى هذا المعرض. وما نفع ان يناضل ازاء كل هذا اللؤم؟ المخرج الوحيد: مواصلة العمل. قد يستغرق هذا ما يستغرقه من وقت. لكن ما الهمّ ؟! فماذا تعني بضع سنوات عندما نعرف اننا الأقوى ، اننا على يقين، حسب حدسنا، من اننا سنخلد.
(…) في الحقيقة ، كان سيزان في وضع خطر. لم يتخلّ كليا عن المعارض التي لا تزال ترفضه، لكنه ايضا لا يريد ان يشترك في معرض جديد للانطباعيين سنة 1879، بعد عودته بقليل الى باريس ، وذلك خوفا من ان تغلق مرة اخرى الأبواب، ونهائيا، في وجهه. اما السبب الآخر والأهم، فهو انه لا يرى نفسه في جماعة الانطباعيين التي كانت بدأت تشق طريقها بنجاح: لم يكن يرى نفسه سوى من خلال ذاته. فالفنان الحقيقي هو قبل كل شيء شخص فردي بامتياز.
(…) سيزان لا يرتاح كثيرا في أوساط اولئك «الأدبيين» الثرثارين. فماذا يفعل الكتّاب عندما يجتمعون معا؟ هل يتبادلون الأفكار السامية في الأدب والفن والعالم ؟ لا. انهم بالأحرى يتحدثون عن عدد النسخ المطبوعة وعن العقود المبرمة وعن الإعلام وعن نفاق الناشرين. فقط سيدات المجتمع يتكلمن ، ولو بغير كفاءة، عن الأدب.
(…) في صيف 1880 يقيم سيزان مرة اخرى في ميدان هروبا من الجو العائلي الثقيل. لكن في ميدان ايضا (حيث يسكن اميل زولا) الأجواء خانقة. لم يبد زولا حماسة كبيرة لاستقباله. لكنه في النهاية اتى للرسم. هل زولا منزعج منه؟ لا ننسى ان سيزان صديق متطلّب. يطلب فلوسا ويطلب اقامات طويلة… لكن بالنسبة له كل هذا طبيعي. ألم يكن دائما يستقبل هو زولا بترحيب كبيرفي بيته؟ ألم تربط بينهما اخوّة قديمة تتعالى على الحسابات الضيقة وصدف الحياة والمصير؟ اميل زولا كان السبّاق في النجاح، هذا كل شيء. نجح، الاّ ان سيزان يراه منكمشا ومتوترا وقلقا وكأن امامه انفتحت هوة عميقة. هل جرى كل شيء معه سريعا ؟ النجاح، المال، موقعه كضمير زمانه وصوته….انه يتخبط بين عجرفة النجاح (هو الذي كان قبل وقت قليل في القاع) وبين الشك في الذات، وهو امر لا يشفى منه المرء اطلاقا. هل هذا هو النجاح اذن؟ هل هو سوء تفاهم ، هل هو غشّ ودجل؟ صحيح اننا نملك بيتا كبيرا ومالا وأننا نفشل نجاحنا في كل مكان، لكن عندما نكون اذكياء نعلم ان كل هذا لا يساوي شيئا، او شيئا قليلا ليس الاّ.
(…) اصبح والده في المقبرة. وبول يركض نحو الموضوع. فمنذ وقت طويل وجبل سانت فيكتوار في صلب نظره.
انه يرسمه (اي الجبل) من مختلف جوانبه، اذ هو في بحث مستمر عن ابعاد جديدة له. في المجموعة الأولى لسانت فيكتوار التي يعود تاريخها الى سنوات 1880 ، لم يكن الجبل بعد في الشكل النموذجي، لم يكن بعد الموضوع المركزي الذي سيصبح لاحقا رمز الحداثة في الرسم، بل الخطوات الأولى نحو التكعيبية والتجريدية.
(…) لهي حقبة غريبة في حياته. وكأن موت والده اعتقه. لم يعد ينتظر شيئا، لكنه لم يعمل في حياته كما اخذ يعمل الآن. فهو محاط بثلاث نساء، اي امّه وأخته وزوجته ( التي عادت وقبلت بها عائلته بعد زواجهما بسنوات كثيرة) ، بل هو مدلّل كديك مرفه الى درجة لم يعد قادرا على تحمل كل هذا الغنج ، الأمر الذي دفعه الى الهروب من خلال العمل الكثيف. انما الحياة تفلت من بين يديه. أشجار الكستناء عارية في حديقة بيته. مناظر الطبيعة الشتوية شاحبة. يشعر ان شيئا يتبدل في جسمه. ذلك التعب. كأن الدم يجري بصعوبة في شرايينه. تلك الدوخات المقلقة. العالم المحيط به غير حنون. داء السكري بدأ يتآكله بسرعة. ففي تلك الحقبة انما بدأت عودته المدهشة الى الدين. فكما الفن، ومع تقدم السنين، راح الدين يحتل حيّزا متزايدا في هذا الرأس، في هذا الجسم الباحث عن يقين وعن سلام.
(…) في اواخر الثمانينات ينتقل مرة اخرى الى باريس ويقيم في كي دانجو.هذا المكان هو اجمل الأحياء الباريسية ، واشتهر منذ زمن طويل اذ سكن فيه بالتعاقب كل الرسامين والفنانين. وما لا شك فيه ان فترة الصيام والكرنفال تلك في برودة الشتاء هي التي ألهمته ذلك الموضوع المفاجىء في اعماله : شخصية آرلوكان. ومن اجل انجاز لوحاته، كان عليه ان يتخذ ابنه مثلا لهذه اللوحة. ابنه بول الصغير الذي ألبسه زي آرلوكان وأخذ ايضا ابن احد الكندرجيين وألبسه زي بييرو. كانت ساعات الرسم مرهقة للطفلين، الاّ ان اللوحتين كانتا هنا ، الآرلوكان وثلاثاء المرفع، عملان كبيران ، من اهم ما صنع سيزان. وبعدها بسنوات، كانت هاتان اللوحتان مصدر إلهام المدرسة التكعيبية والفوفيسم. وكان لبيكاسو ان ادى لهما تحيته من خلال «بول وبييرو» الشهيرة.
(…) في سنواته الأخيرة يقول سيزان في رسالة لأحد اصدقائه : «كل يوم اتقدّم خطوة في الرسم. وهنا يكمن جوهر العمل. الرسم يأتي شيئا فشيئا بينما نلوّن. فكلما تناغمت الألوان ، كلما تحددت ملامح الرسم. تناقضات الألوان وعلاقتها في ما بينها، انما هي سرّ الرسم».
وكأنه اراد ان يقول: انه يجب علينا تجنب الدغمائية، لكن مهما يكن فلا بد من النظريات.
ترجمة: صباح زوين شاعرة وكاتبة من لبنان