سمعت كيكو صوت حفر بالأعلى. كما سمعت أيضا طرقا في الصباح المبكر. كانت الخادمة تنفض السجاد. حين سألت البواب عن خادمة الجيران أخبرها أنها لا تأتي يوميا. إضافة إلى صوت الحفر، تنفيض السجاد، وقرقرة المياه في مواسير البناية، كانت تسمع أيضا صوت الرجل القاطن بين البنايتين إذ يتنحتح، وعويل زوجته حين يضربها. كان ثمة أناس كذلك بالأعلى ينتعلون أحذية بكعوب صلبة تصدر أصوات طرقعة جيئة وذهابا. أصر البواب على أنه لا أحد يسكن بالأعلى.
كانت واثقة من سماع صوت حفر وطرقعة أحذية كيف يتسنى لها التركيز في قواعد النحو العربي وسط كل هذا الضجيج؟ تعذر عليها تخيل نفسها وهي تدرس العربية لرجال أعمال يابانيين في طوكيو. يبدو أنه قد فات الأوان على ترك البرنامج التعليمي. لم تعنها سدادات الأذن التي ابتاعتها من الصيدلية على كتم الضجيج. بعد منتصف الليل كانت تسمع كذلك قططا تموء وضحكات فجة بالأعلى. هل كانت لديهم قطط بالأعلى.
اتصلت بصاحب البناية؛ طبيب كان يعلم بجامعة ميزوري بمدينة كولومبيا. قال: لا، لا أحد يسكن بالأعلى، إلا أن أخته تملك الشقة. كانت تلك الشقة هي الوحيدة غير المؤجرة في البناية.
– «أي نعم، لكن هل تترك أختك المفتاح لأحد؟»
ومثله كمثل البواب، أصر على عدم وجود أحد بالشقة. شكت كيكو مرات عديدة من أصوات الحفر حتى ظن جيرانها الأمريكيون أنها مختلة. لما لا تعود إلى اليابان؟ ربما طال المقام بها في مصر. ربما يجدر بها استشارة طبيب نفسي، حتى أن جارتها الأمريكية المواجهة لها أعطتها رقم قسم الرعاية النفسية بالجامعة. وبسبب طيبتها أعطت كيكو جارتها عروسة باربي تدعى فلة، ذات عباءة سعودية سوداء.
لم تذهب إلى قسم الرعاية النفسية. كانت على يقين من سماع أصوات الحفر. ثم إن الطبيب، على كل، سوف يخبرها أنها لم تسمع حفرا، تماما كالبواب، ومالك البناية وجيرانها الأمريكيين.
كانت كيكو مضطربة، لكن الحقيقة أن أخت صاحب البناية أعطت نسخة من المفتاح لراقصة بريطانية من أصل إيراني تدعى لي لي وتقطن بالبناية.
وقدت اتفقت لي لي مع البواب على جعل هذا الأمر سرا. (ورغم أنه كان أكثر أمانة من معظم الباقين ولم يحدث أن غش صاحب البناية من قبل لم يستطع مقاومة عرض لي لي السخي إذ كان يعول ثلاثة أبناء عاطلين في القرية.)
رسميا، لم يكن ثمة أحد بالشقة العلوية.
تدمر سمع كيكو تدريجيا بعد خمس سنوات في القاهرة إلى جوار عشرة مساجد. وبعدما انتقلت إلى جاردن سيتي ذات الهدوء النسبي، فقد تضخم بعض الأصوات وتحول بعضها إلى شيء آخر.
عندما تكلمت مع البواب ضربت بيدها على الطاولة وصرخت لأنها كانت تعلم كذبه بخصوص الشقة العلوية. هل يظن أنها غبية لمجرد كونها يابانية؟ أو أن تأكيداته الساذجة سوف تنطلي عليها؟ بالنسبة إليها، لم يكن أحد يقول الحقيقة في القاهرة.
(لو أنها أجرأ قليلا لكانت قد صعدت إلى الأعلى وصفعت الباب بكفها عندما سمعت صوت الحفر وتبينت لها حقيقة هذا المشروع الإنشائي الذي لا ينتهي)
تعهدت لي لي لأخت المالك، وهي كاتبة ذات شهرة معقولة تعيش الآن في أيداهو، ألا تعطي المفتاح لأحد. وقد كانت عازمة على الوفاء بعهدها.
بيد أنها، في لحظة ضعف، أعطت المفتاح إلى صديقتها الأمريكية كويني من لوس أنجلوس والتي تقتات على تصميم بدلات للرقص الشرقي. وكانت كويني قد تزوجت من طبيب مصري ابتز أموالها ثم لفظها عندما حصل على الجنسية الأمريكية.
وقد شكا جيرانها في شارع الهرم من أنها تدير عملا في مسكنها. نصحها أحدهم سرا أن البوليس سيداهم شقتها قريبا وأنها قد تضطر إلى دفع ضريبة بسبب إدارتها لأعمال في محل سكني. لو تسنى لها تصميم بذلاتها بمكان آخر فسيمكنها وقتئذ أن تنفي وجود أي أعمال.
بدت كويني، ذات الخصلات البيض بشعرها الأحمر والعين الحولاء، كقرصان. كانت تقسم أنها تكره القاهرة وتحكي نبذات عن المرات التي تعرضت فيها للنصب، لكنها استعذبت الفصال على سعر خرزها الثمين، الذي ستلصقه ببذلات الرقص، مع أصحاب المحال بخان الخليلي.
كان من الطبيعي أن ترغب لي لي في مساعدة كويني التي تصمم لها بذلات الرقص. كانت كويني أيضا تصمم بذلات لراقصات شهيرات بالقاهرة، ونادرا ما كن يسددن فواتيرهن وكانت المواد الخام باهظة الثمن، لكنها لم يطرأ ببالها فكرة العودة مجددا إلى لوس أنجلوس.
عندما لم تكن كويني تخيط الملابس، استعملت لي لي شقة أخت مالك البناية.
بجانب الحفر، سمعت كيكو أيضا أصوات أخرى. على سبيل المثال، كانت لي تلتقي رجال الأعمال في مسكنها الخاص، كذا تقيم دروسا للرقص وجلسات مشاهدة لأفلام فيديو تخص حفلاتها الراقصة.
إلا أنه ثمة حفرة الآن في شقتها، تحديدا في سقف غرفة النوم سببها تسرب في المواسير وزاد من حالها سوءا الارتجاج المتواصل للسرير مما أدى إلى انهيار تام للصقف فوق السرير الذي سقط بدوره إلى الأسفل إلى غرفة جارها متوسط العمر، كلايد كنتالوبة، أستاذ إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية.
لم يكن لدى لي لي في أن يسمع كلايد ما يدور بشقتها، إلا أنه بدأ يغرقها، مؤخرا، بوابل من السباب والبرانويا: -»إنهم يكرهوننا!»،
– «انكحي نفسك حتى الموت!»، «استعدي لنهاية العالم.»
عزمت لي لي على استعمال شقة أخت المالك كملتقى مع رجال الأعمال أو حتى مع «بيج بوي»، الحارس الشخصي الأسود ذي الأصول الكاريبية للأميرة السعودية التي تقيم بأحد الفنادق الشهيرة بماسبيرو. لم يكن ذلك من نسج خيال كيكو عندما طرقعت الكعوب العالية. فقد كانت لي لي بالفعل تلبس كعبا عاليا، وعادة ما كان رجال الأعمال المحليون بدناء وينتعلون أحذية إيطالية ثمينة ذات جلد طبيعي وكعوب رنانة.
اشكت كيكو مجددا للبواب من طرقعة الأحذية بالأعلى. قال لها: «يعني الحفر خلص، دلوقت بقى فيه عفاريت؟»
فسألته كيكو: «يعني هل الأشباح تلبس جزمة؟»
برم شاربه ذي الهيئة التركية حين خال أنه قد يفقد إكراميته الشهرية من لي لي. ماذا لو اكتشفت تلك المرأة اليابانية العنيدة الملحة حقيقة الأمر؟
قالها مشيحا بكتفيه: «ما يمكن الدوشة جاية م الشارع أو من أيتها حتة تانية.»
– «لا حبيبي…ألدوشة ألجاية من الشارع كالآتي: آدان في الساعة خمسة ونصف؛ الله أكبر. كل يوم الصبح هناك رجل يدير سيارته الفولكس فاجن. السيدة المصرية في العمارة ألقصادنا عندها طائر بيعمل صوت عال. الرجل اللي يغسل السيارات بيقول أيضا بصوت عال صباح الخير للبواب في العمارة دي وأحيانا بيعملوا خناقة».
– «يا ست هانم كلامك على راسك…قصدي على راسي من فوق…بس هو يعني اليابان دي بلد مافيهاش صريخ ابن يومين؟»
– «اليابانيون مش يحبوا الدوشة زي هنا، الهدوء قيمة في الثقافة اليابانية»
– «ما تاخدي أجازة. شكلك تعبان.»
– «أنا لسة رجعت من أجازة من شهر فات.»
في أحيان أخرى، سمعت كيكو مواء حادا صادرا من الشقة العلوية، وكأن المئات من القطط تقيم حفلا صاخبا. علمت في قرارة نفسها أن ذلك من ضرب المحال، لكن المواء استمر في أذنيها. «كيف يمكن لمائة قطة أن تتواجد في شقة خالية!؟».
حتى لي لي المحنكة لم يدر ببالها أن قططها كانت تستخدم الشقة الخالية كملجأ في الليالي التي كانت ترقص فيها بالفندق. قطها الرئيس، سوينك، اكتشف أين تخبء المفتاح. القط الآخر، زربون العكنون، ورفيقته جوليا تشايلدز كانا ممتنين لتلقي الدعوة. من باب الدعابة، أطلق سوينك اسم ماخور القطة لوسي على البناية، تيمنا بأكثر القطط وداعة في البناية، قطة ممتلئة سوداء بعيون خضراء لا تبرح أريكتها. قضوا هناك أمتع الأوقات. ضرب لوي على البيانو، وساشا على الطبلة، بينما شاهد قيصر العصابي صورته في المرآة. كذا اشتكى الملك فاروق ذو الأنا العليا والمصاب بداء السكري من الارهاق الناتج عن تناول صدور الدجاج التي لا طعم لها، ثم أصاب الحضور بالملل حين بدأ في سرد غرامياته على سلم البناية بالتفصيل. لعب «ساكو» وفانزيتي»(1)
قال البواب: «يعني هم العفاريت دول مش بس لابسين جزم، لا دول كماني بينونووا».
أيضا ومن دون علم لي لي أو صاحب البناية أو أخته، فقد صنع ابن أخت صاحب البناية نسخة من مفتاح أمه. كان طالبا فاشلا بكلية الحقوق وكان يستخدم الشقة وقتما يريد الاختلاء بصديقته. وظل يباهي أقرانه بهذه الشقة حتى بدأوا في «الزن» عليه من أجل الحصول على المفتاح حتى يمكنهم الاختلاء بصديقاتهم. عادة ما كانت كيكو تدير جهاز طهي الأرز ثم تدون ملاحظات عن أنواع الأصوات التي تسمعها آتية من الشقة العلوية: أصوات الحفر، طرق أعمدة السرير، المواء، البيانو والطبول، طرقعة الأحذية، الجعير، التلفزيون والموسيقى الشرقية.
أرادت أن تتبع مسار الأصوات حتى تستوثق مما إذا كان بعضها يتكرر في أوقات معينة من اليوم ثم تقدم دليلها الدامغ إلى المالك.
«أي نعم…فيه أشياء مخلة بالآداب تحصل فوق…دوشة كتير…أشياء كتير تحصل إزاي والشقة فاضية…مش معقول»
اتصل المالك بالبواب: «الكلام ده صحيح؟»
– «يا سعادة الباشا الولية دي مجنونة، ما قلت لك، متهيألها إنها بتسمع حاجات، وبتألف حواديت، فاكرة كل الدنيا عايزة تهجم عليها. دي حتى بتفكر إن فيه حد بيخرم لها الصقف عشان يبص عليها!»
– «يكون أحسن لو سابت الشقة»، قالها صاحب البناية بدون نية حقيقية في التخلي عن نقود الإيجار. ثم بادره بالسؤال: -»هي بتضايق السكان؟»
– البواب: «ما أظنش»
صاحب البناية: «يعني ما هي ح يجيلها يوم وتسيب البلد.»
استمر الصخب الآتي من الشقة العلوية في مضايقة كيكو. لزمها بعض الهدوء حتى تستطيع الاستذكار من أجل امتحان اللغة العربية. إضافة إلى ذلك، لم تكن المكتبة بالبديل المريح نتيجة الضجيج أيضا. الرنين المتواصل للموبايلات والضحك المتواصل. كانت أحاديث زبائن المكتبة تشبه فرقعات ضحك جمهور السيرك.
هذه المرة، تجرأت وصعدت للأعلى لتواجه مصدر الضجيج. ولدهشتها فتحت لي لي الباب. كانت ترتدي روبا حريريا غير محكم الربط. كان باستطاعة كيكو أن ترى نهديها الهائلين. هل هما طبيعيان؟ تبدو لها وكأنها عاهرة فاخرة من اليابان.
– «عذرا» قالت وهي تنحني: «الضجة. أنا أحاول أن أذاكر.»
قالت لي لي محاولة ألا تبدو قاسية:
– «إيه الموضوع يا حبيبتي؟ عايزة إيه؟ تحبي تاخدي دروس رقص. يمكن تهدي أعصابك شوية.»
ردت كيكو وهي تنحني مبتعدة عن الباب:
– «لا، لا، لا أستطيع. هايي. آسفة على إزعاج».
– «احنا بنتفرج على حفلة الرقص بتاعتي من السنة اللي فاتت اتفضلي اتفرجي معانا.»
ردت كيكو وهي تزداد ابتعادا:
– «آسفة»
– «ما تبقيش عبيطة. إنت ح تشرفينا. مش كده يا بيج بوي؟»
شعرت كيكو بالحرج الشديد. لم يكن الرجل الأسود المفتول العضلات يرتدي قميصا كان يرتدي شورتا قصيرا لدرجة أنها لم تميز ما إذا كان هذا سروالا داخليا أم مجرد شورت.
كان أسود للغاية. لم تتصور إمكانية النوم مع رجل أسود. تساءلت عما سوف يكون الوضع وقتها. إذن لم تكن الشقة خالية. لم ترد كيكو أن تحرق كل كروتها مع البواب.
قالت للبواب: «أنا أعلم أن هناك أشياء خليعة ورقيعة تحدث فوق في ألشقة». (كانت هذه فرصة حتى تستخدم المفردات الفصيحة التي تعلمتها في درس اللغة العربية).
البواب: «يعني العفاريت دلوقت بيقلعوا بلابيص؟»
أحرجت كيكو وتراجعت للخلف ويدها على فمها.
هذا مشين! هل كان يلمح أنها ….؟
استدارت وتوجهت للمصعد. أي نوع من النساء خالها؟ إذا استمر البواب في معاملتها بهذه السخرية وقلة الاحترام، فقد تخبر صاحب البناية أنه اقتحم عليها شقتها.
ذات أسبوع أدركت كيكو أنها لم تدون بمذكرتها أي صوت للحفر. (عادت كويني إلى لوس أنجلوس لتبيع بذلاتها ل»بيانجا جاجر»(2)، لم تعد تحتاج إلى مكان للحياكة).
بعد ثلاثة أيام انقطعت أصوات طرقعة الأحذية (تم إصلاح الثقب بصقف لي لي).
بعدها بقليل، تلاشى صوت المواء. (لم تعد القطط تستخدم المكان، وبدلا من ذلك قصدت شرفة نيكوس اليوناني كملتقى لها. كان وصول القطط أسهل هناك. ميزة أخرى: رمى أحد سكان البناية بمئات من علب الماكريل في شرفته. بإمكان القطط الآن أن تقيم حفل كوكتيل سرديني بدلا من احتساء النبيذ الأبيض الرخيص).
توقف صوت دبدبة السرير أيضا (انفصل ابن أخت صاحب البناية عن صديقته. لقد تحجبت ورفضت النوم مع إلا إذا تزوجها).
قالت كيكو للبواب: «هذه البناية ليست هادئة كما تزعم. قصص. أكاذيب. توجد أشياء خفية. أنا متأكدة مما أسمع».
بالرغم من ذلك، عندما شرعت كيكو في تدوين الأصوات بمذكرتها اليومية، لم يكن ثمة شيء للتدوين. كانت واثقة من سماعها أصوات الحفر، المواء، طرقعة الأحذية، دبدبة أعمدة السرير وصوت البيانو. أين ذهب كل هؤلاء؟ أشاح بكتفيه إذ أن السكوت معها كان من ذهب. لم يكن ثمة ما يستدعي قلقه. لم يصدق أحد كيكو. عهده الأمريكيون بالبناية رجلا صادقا وأمينا.
عندما اتصلت كيكو بالبوليس في المنطقة لتشكو من وجود شبكة دعارة بالبناية، لم يأخذوها مأخذ الجد.
كانوا يعرفون البواب جيدا، ولم يكن بمقدورهم القبض على لي لي الراقصة المعروفة.
كانوا على ثقة بأن هذه اليابانية مجنونة. تعبانة في مخها.
الهوامش
1 – مناضلان فوضويان تم إعدامهما في الولايات المتحدة في العشرينيات.
2 – زوجة الموسيقي الأمريكي، ميك جاجر السابقة.
جريتشن ماكوله
ترجمة: محمد متولي
شاعر ومترجم من مصر