يشكل فيلم «إرما فِب» Irma Vep نقطة تحول في مسيرة المخرج السينمائي الفرنسي أوليفر أساياس Olivier Assayas، ففي هذا الفيلم ظهرت موهبة أساياس كمخرج سينمائي له رؤية خاصة، كما استطاع العثور على صوته الخاص وأسلوبه الذي يميزه عن غيره، بعد أن كانت أفلامه السابقة تحمل إرهاصات ميلاد فنان أصيل، إلا أن هذا المولد قد قُدِّر له أن يتحقق مع فيلم «إرما فِب» الذي ظهر للوجود عام 1996م.
«إرما فِب» فيلم ملون تتخلله مشاهد بالأبيض والأسود، مدته 99 دقيقة. هو عبارة عن فيلم داخل فيلم، فضلا عن كونه فيلما عن صناعة الأفلام. الفيلم يتضمن تحية للرائد السينمائي الفرنسي لويس فيلاد، وهي بالأخص تحية خاصة لسلسلة أفلام صنعها هذا المخرج عام 1915 وحملت عنوان «مصاصي الدماء». فضلا عن ذلك، فإن فيلم «إرما فِب» عبارة عن لفتة تقدير لأعمال المخرجين الطليعيين والمستقلين الذين يحاكي هذا الفيلم نتاجاتهم الفنية عبر صيغ فنية اشتهروا بها مثل «الأفلام المصنوعة يدويا» والشرائط المخدَّشة وغيرها، إذ يحاول «إرما فِب» أن يجد لنفسه مكانا بين نتاجات المخرجين الطليعيين مثلما يحاول أن يجد لمبدِعِهِ موطئ قدم بينهم، ولسوف تسعى بقية هذه المادة إلى توضيح الكيفية الفنية التي تم بها هذا السعي.
في أفلام من قبيل «إرما فِب» حيث الشكل والمضمون يكادان أن يكونا نفس الشيء، فإن تلخيصا تفصيليا لقصة الفيلم يصبح ضروريا. الشخصية الرئيسية في «إرما فِب» هي شخصية ماجي تشينج، وهي ممثلة شهيرة من هونج كونج تشتهر بأفلام فنون القتال والكونج فو. في «إرما فِب» تلعب ماجي تشينج شخصيتها الحقيقية، وهي بالطبع، تتسمى باسمها الحقيقي. تصل ماجي تشينج إلى فرنسا لتقوم ببطولة فيلم اسمه «إرما فِب» وهو اسم الشخصية الرئيسية في الفيلم والتي من المقرر أن تلعب دورها ماجي. فيلم «إرما فِب» التي تأتي ماجي لتكون بطلته هو عبارة عن إعادة صناعة لسلسلة أفلام «مصاصي الدماء» التي أخرجها في أوائل القرن الماضي المخرج الفرنسي الرائد لويس فيلاد، وهي مجموعة أفلام عن عصابة لصوص يسمون أنفسهم مصاصي الدماء ومن ضمن العصابة سارقةٌ تسمى إرما فِب. من يقوم بإخراج النسخة الجديدة من «مصاصي الدماء» (تحت مسمى جديد هو «إرما فِب») مخرج اسمه رينيه فيدال (يلعب دوره الممثل الفرنسي الشهير جان-بيير ليود، وهو الفتى المدلل لأفلام الموجة الفرنسية الجديدة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي). وهكذا فإن ماجي تشينج قد وصلت إلى باريس بدعوة من المخرج رينيه فيدال لتكون بطلة فيلمه الجديد «إرما فِب».
كنوع من التحية للمخرج لويس فيلاد، يقرر رينيه فيدال تصوير فيلمه بالأبيض والأسود وأن يكون صامتا. وعلى الرغم من أن قصة سلسلة أفلام «مصاصي الدماء»، وبالتبعية قصة فيلم «إرما فِب» الذي يزمع رينيه فيدال إخراجه، هي عن عصابة لصوص فرنسيين ينتمون لقاع المدينة، إلا أن رينيه فيدال يؤمن أنه لا توجد ممثلة فرنسية تصلح للقيام بدور إرما فِب. لذا يستدعي ممثلة هونج كونج ذائعة الصيت ماجي تشينج لتلعب الدور بعد أن انبهر بملامحها حين رآها في أحد أفلام فن الكونج فو. أول مهمة بانتظار ماجي تشينج هي ارتداء زي إرما فِب، وهو زي من المطاط الأسود Latex يشبه ما يرتديه الرجل الوطواط أو ما ارتدته لاحقا الممثلة الأمريكية هالي بيري في فيلم «المرأة القطة» (وهو فيلم تم إنتاجه بعد «إرما فِب» بـ 8 سنوات). في كواليس تصوير فيلم «إرما فِب» تتعرف ماجي تشينج على زَوَا، وهي المرأة المسؤولة عن تلبيس الأزياء للممثلين. بمرور الوقت تُطوِّر زَوَا إعجابا خاصا جدا بماجي، كما تقوم –بسبب كونها دائمة الحديث- بإخبار ماجي أن المخرج رينيه فيدال يعيش انتكاسة فنية، وأنه بعد عهد من التميز فإن أفلامه الأخيرة تذهب أكثر فأكثر نحو التدهور. بالنسبة لماجي فإن رينيه فيدال يبدو واثقا من نفسه ولديه رؤية محددة واضحة عما يريده من إعادة صناعة «مصاصي الدماء»، وهكذا يبدأ العمل في الفيلم. بعد تصوير عدة مشاهد، يقام عرض خاص لما تم تصويره. يستاء المخرج رينيه فيدال مما شاهده ويبدو له أن ثمة شيئا ناقصا، ويقترح على ماجي تشينج أن تحاول أن تتقمص شخصية إرما فِب أكثر وأن تتعمق في فهمها. متأثرة بكلام رينيه فيدال، ترتدي ماجي تشينج ملابس المرأة/القطة الخاصة بالشخصية التي تمثلها في الفيلم وتخرج من غرفتها في الفندق الذي تسكنه، وتقوم بعملية سطو حقيقية على مجوهرات إحدى النساء المقيمات في الفندق. وتماما كما حدث لشخصية إرما فِب في «مصاصي الدماء» (1915م)، تصعد ماجي تشينج إلى سطح الفندق تحت المطر المنهمر وتلقي بالجواهر التي سرقتها من أعلى سطح البناية، ثم تعود لغرفتها منهكة من التجربة التي خاضتها.
ما يحدث تاليا هو أن رينيه فيدال يختفي ولا أحد يعرف أين ذهب، فيتعطل العمل في الفيلم. يتضح لاحقا أن رينيه مصاب بانهيار عصبي، وأنه قد تم إيداعه دار رعاية خاصة حتى يتعافى، وبالتالي يتحتم على منتجي الفيلم إيجاد مخرج آخر لمواصلة العمل. يتم إسناد العمل في فيلم «إرما فِب» لمخرج ثانٍ هو صديق لرينيه فيدال لكنه يختلف عنه في الرؤى السينمائية. لا يتورع المخرج الجديد عن القول أنه قَبِل إخراج هذا الفيلم فقط لإخراج نفسه من ضائقة مالية يمر بها، كما أن الشيء الذي لا يستطيع أن يستوعبه مطلقا هو لماذا اختار رينيه فيدال ممثلة من هونج كونج لتلعب دور سارقة فرنسية تنتمي لقاع مدينة باريس! يرهن هذا المخرج موافقته على إتمام العمل في «إرما فِب» باستبدال ماجي تشينج بممثلة فرنسية، فيكون له ما أراد. في ظل تلك اللخبطة، تختفي ماجي تشينج هي الأخرى، ليتضح لاحقا أنها سافرت على حين غرة إلى نيويورك للقاء المخرج ردلي سكوت في موعد مرتب بينهما. في المشهد الأخير للفيلم، يجتمع طاقم العمل في فيلم «إرما فِب» لمشاهدة النسخة التي أخرجها رينيه فيدال للفيلم. فوفقا لما يرويه أحد أفراد طاقم الفيلم، فإن رينيه فيدال قد ظهر فجأة البارحة وأنجز عملية مونتاج اللقطات التي قام بتصويرها، وتكون الدقائق الأخيرة للفيلم هي مشاهدتنا نحن –كجماهير- للفيلم الذي أنجزه رينيه فيدال، ويا له من فيلم! إن ما قام به رينيه هو تخديش شريط الفيلم الأصلي يدويا بالطريقة التي يعمل بها صنّاع السينما الطليعية، حيث خدّش الفيلم وأحدث فيه خطوطا ودوائر ونقاطا وحُبيبات كالتي نرى بعضها في الأفلام القديمة، وقام بالعبث بوجه ماجي تشينج وعيونها بطريقة من المفروض أنها تعكس رؤيته عما أراد فعلا أن يقوله في الفيلم لكن الكاميرا لم تستطع قوله.
أجرى المخرج أوليفر أساياس تجاربه في جماليات فيلم»إرما فِب» على أكثر من صعيد. فقد قام بالتجريب في مجال السرد السينمائي (مبدئيا من خلال إخراج قصة عبارة عن «فيلم داخل فيلم») وكذلك كان مجربا في الإيقاع—أي إيقاع سير الأحداث في الفيلم من حيث الطول الزمني للقطات وسرعة أو بطء الانتقال من مشهد لآخر. كما كان أساياس مجربا في اختيار الممثلين، وفي «النوع السينمائي» Film Genre من حيث كون فيلمه لا يمكن تصنيفه بسهولة في أية خانة سينمائية شائعة كالكوميديا أو الرعب أو الخيال العلمي أو غيرها. فضلا عن ذلك فإن في الفيلم تجريبا في الأسلوب، فهو يمزج التمثيل البشري بالتحريك (الأنيميشن)، كما يمزج التصوير الملون بالتصوير بالأبيض والأسود على الطريقة القديمة ذات الحُبيبات. كذلك فإن فيلم أساياس، من ناحية تحليل المضمون، هو بيان عن وجهة نظره حول حاضر السينما الفرنسية، مع بعض تعليقات عن السينما الأمريكية. وسوف تختص السطور اللاحقة بتوصيف نواحي التجريب هذه بصورة أكثر تفصيلية.
التجريب في اختيار الممثلين يتجلى أولا وقبل كل شيء في اختيار ممثلة ذائعة الصيت من هونج معروفة بأدوارها في أفلام فن الكونج فو القتالي لتكون بطلة فيلم تجريبي فرنسي. تأتي ماجي تشينج لتلعب دورا سبق وأن لعبته قبلها موسيدورا معبودة الفرنسيين. كيف ستكون ردة فعل الجماهير على ذلك، حين يروا دورا قدمته إحدى أبرز نجماتهم يتم إعادة تقديمه بممثلة آسيوية؟ إن الممثلة الهونج كونجيّة لا تلعب فقط دورا قدمته قبلها رائدة فرنسية، لكنها تلعب هذا الدور في فيلم فرنسي تجريبي. فمن المعروف أنه في الأفلام التجريبية فإن المخرجين يتحاشون مشاركة الممثلين ذائعي الصيت، لأن الممثل المشهور له صورة معينة موجودة في أذهان الجمهور قد تتسبب في إفساد مفهوم التجريب. المخرج أوليفر أساياس، في شريط فيديو مصور تم إعداده عام 2008م، أفاد أن هدفه من اختيار ماجي تشينج لتلعب دور إرما فِب في فيلمه قد وُلِدَ من رغبته في أن يرى كيف سيتقبل الجمهور الفيلم وكيف سيتعاملون مع وجود ماجي تشينج. لقد كان أساياس، ببساطة، يجري تجربة. كما تطرق أساياس بإيجاز، في نفس شريط الفيديو المذكور، إلى أسباب اختياره للممثل جان-بيير ليود ليلعب دور المخرج رينيه فيدال قائلا أنه يحب مشاهدة ليود «في مواقف مختلفة». لم يحدد أساياس بالضبط ما هي المواقف المختلفة التي يعنيها، لكن من المحتمل أنه كان يشير إلى مشاركة ليود السابقة في بطولة فيلم آخر أخرجه أساياس عام 1991 وحمل عنوان «باريس تستيقظ». لعب ليود في ذلك الفيلم دور أب خمسينيّ يعيش مع صديقة حميمة له هي في عمر ابنه الوحيد. لعل أساياس كان يلمّح إلى أنه مثلما أراد أن يرى كيف سيؤدي ليود دور العاشق العجوز لفتاة صغيرة، فهو أيضا أراد أن يرى كيف سيبدو ليود في دور مخرج فرنسي يعيش فترة تدهور تجربته الفنية التي استندت يوما على موروث تيار الموجة الفرنسية الجديدة. إذا كان «العاشق العجوز المغرم بصبية صغيرة» يُعَدُّ دورا جديدا على جان-بيير ليود، فإن اختيار ليود ليلعب دور المخرج رينيه فيدال يعني بالنسبة لأوليفر أساياس أكثر من مجرد منح دور جديد لفنان مخضرم. إن جان-بيير ليود هو أيقونة الموجة الفرنسية الجديدة وفتاها المحبوب الذي ظهر في أبرز أفلامها (في الستينيات والسبعينيات)، وهو في «إرما فِب» يقوم بدور مخرج عجوز كان متميزا في فترة سينما الموجة الجديدة، واليوم يعيش حالة احتضارِهِ الشخصي كما يعيش مرحلة احتضار الموجة الفرنسية الجديدة كتيار فني. إن اختيار هذا الممثل بالذات ليلعب هذا الدور بالذات لم يكن عشوائيا، فالمرء حين يشاهد أيقونة الموجة الفرنسية الجديدة (كممثل) يلعب دور مخرج تعلن أفلامه احتضار هذه الموجة فإنه قطعا لابد أن يتساءل ويتفكر: ترى ما الذي يحدث للسينما الفرنسية؟ أيا ما كانت الإجابة، فإن إثارة هذا التساؤل هو هدف في حد ذاته، وهو هدف قد تحقق بمجرد اختيار جان-بيير ليود ليلعب هذا الدور. بهذا المعنى فإن أوليفر أساياس كان تجريبيا في اختيار أبطال فيلمه، وعلينا أن نتذكر أن فيلم «إرما فِب» معنيّ كثيرا بمناقشة حال السينما الفرنسية (ومقارنتها بسينما هوليوود). إن الفكرة الشائعة عن السينما الفرنسية أنها سينما للنخبة فقط، وأنها مليئة بالثرثرة وأن حبكات أفلامها ضعيفة. يدرك أساياس هذا التصور الشائع ولذا نراه في «إرما فِب» مستمتعا باللهو بهذا التصور واختباره والعمل تارة على ما يبدو ظاهريا أنه تأكيد له، وتارة أخرى على ما يبدو ظاهريا أنه نفي له. يضع أساياس بطلة فيلمه الأجنبية ماجي تشينج في مواقف عديدة داخل الفيلم تضطر فيها لسماع تعليقات متباينة عن حال السينما الفرنسية. من ضمن هذه المشاهد أن مذيعا تليفزيونيا يستضيف النجمة ماجي تشينج أثناء تصويرها لفيلم «إرما فِب» ويسألها عن رأيها في السينما الفرنسية، وقبل أن تعلق ماجي بشيء يذكر يقاطعها المذيع وينطلق في ثرثرة معربا عن موقفه من السينما الفرنسية من أنها للنخبة فقط وأنها مملة وأن سينما هوليوود وأفلام هونج كونج القتالية أفضل بمراحل. ويمضي هذا المذيع في حماس منقطع النظير مثرثرا عن أن مشاهد شلالات الدم وتفجير السيارات في الأفلام التجارية هي الفن الحقيقي، وذلك وسط ذهول ماجي تشينج وصدمتها. المفارقة الذكية هنا هي أن هذا المذيع الذي كان ينتقد السينما الفرنسية لكونها سينما مليئة بالثرثرة وتفتقر للتشويق، كان هو بنفسه ثرثارا حقيقيا. ذلك المشهد بلا شك جزء من لعب أوليفر أساياس بالصورة النمطية عن السينما الفرنسية. لَعِبٌ يعمل على إثارة التأمل والتساؤل، إذ أن جزءا مما يسعى إليه أساياس في هكذا مشهد هو التخلي عن الجماليات المعلبة للسينما التجارية المهيمِنة وارتياد آفاق جماليات جديدة تعمل على مخاطبة ذهن المتلقي وخلق تساؤلات نقدية لديه إزاء ما يشاهده على الشاشة من صراع للأحداث والأفكار ووجهات النظر.
جزء كبير من خصوصية فيلم «إرما فِب» يأتي من أسلوب الفيلم، الذي يمكن وصفه بالأسلوب الحر. بدايةً، قد يبدو مصطلح «الأسلوب الحر» فضفاضا وغامضا، ومع ذلك فإن الحرية هي أفضل كلمة لوصف شخصية فيلم «إرما فِب». ما يمنح الإحساس بالحرية في «إرما فِب» هو حركة الكاميرا وطبيعة السرد السينمائي للفيلم. على الصعيد النظري، فإن فيلم «إرما فِب» يَنْهَلُ من ميراث «سينما الحقيقة» وأساليبها التعبيرية، وسينما الحقيقة هي أحد الأُطر النظرية التي استخدمتها الموجة الفرنسية الجديدة للوصول إلى غاياتها. تُعرّف «موسوعة بريتانيكا المختصرة» –في نسختها على الإنترنت- سينما الحقيقة بأنها: «حركة سينمائية فرنسية ظهرت في الستينيات من القرن العشرين تسعى إلى الوصول إلى الواقعية التامة من خلال تصوير الناس في مختلف أوضاعهم مع الارتكاز على حوارات جديرة بالثقة». لا يحتاج المرء للمضي أكثر في بقية ذلك التعريف ليدرك أن فيلم «إرما فِب» هو حفيد للموجة الفرنسية الجديدة، أو على الأقل فإنه قد ورث عنها بعضا من ركائزها. يقول مستعرِض الأفلام جيمس بيراردينيللي: «إن ما يجعل «إرما فِب» فيلما متماسكا هو تلك المجموعة من الشخصيات التي احتواها والتي تبدو صادقة تماما. أوليفر أساياس يستخدم تقنيات سينما الحقيقة من كاميرا محمولة ولقطات طويلة زمنيا بشكل متميز، بحيث يجعلنا ندخل بسرعة في حياة تلك الشخصيات ونتماهى معها». إن الإندماج في حيوات مجموعة من الشخصيات بحواراتها الطازجة التي تشبه الحوار الحقيقي يبدأ في «إرما فِب» من المشهد الأول. في هذا المشهد يقدمنا الفيلم مباشرة لمجموعة كبيرة من الشخصيات دفعة واحدة. نحن داخل شركة إنتاج فني في يوم عمل مزدحم جدا وكل فرد ملتهٍ بما يشغله، والكاميرا المحمولة تتجول بحرية هنا وهناك محاوِلة التقاط ما يحدث للجميع، وفي ذلك الجو الضاج بالحركة تدخل ماجي تشينج مقر الشركة بعد أن وصلت للتو من هونج كونج ولم تجد من يستقبلها بالمطار. يؤسس هذا المشهد لروح «الأسلوب الحر» الذي ساد فيلم «إرما فِب». الكاميرا تتحرك بخفة، والبشر كثيرون جدا في اللقطة الواحدة والمشهد الواحد وكل واحد منهم مشغول بشيء ويتحدث في شأن –غالبا على الهاتف- لا يعني بقية الشخصيات من حوله. على الرغم من أن ماجي تشينج هي بطلة الفيلم، إلا أنها نادرا ما ظهرت لوحدها في أية مشهد. هي دائما –تقريبا- محاطة بعدد كبير من البشر. لو قارنا ذلك بسينما هوليوود لوجدنا البطل دائما في مركز الكادر، وهو عادة إما في حوار مع زميله الممثل السِنيّد Supporting Actor أو في موقف تحدٍ مع الشرير. حتى حين يظهر البطل في سينما هوليوود في لقطة جماعية، فهو دائما في وسط الكادر أو محاط بإضاءة خاصة تميزه عن الآخرين. أما ماجي تشينج في «إرما فِب» فهي دائما وسط الناس ولا تتميز عنهم بشيء، ومع ذلك فنحن نعلم أنها هي بطلة الفيلم ولم يؤثر وجودها وسط الآخرين على شيء في دورها المركزي في الفيلم (مع أنهم دائما يتحدثون أكثر بكثير مما تتفوه به هي!). إن ما نكتسبه هنا هو أننا نتعرف على كثير من الأشخاص الآخرين حول البطلة وليس على شخص واحد فحسب، وفي ذلك بالطبع إثراء لتجربة الفُرجة السينمائية.
ذروة الشعور بالروح الحرة التي تشيع في فيلم «إرما فِب» تتأصل بشكل جذري في مشهد العشاء في بيت أصدقاء زَوَا مسؤولة تلبيس الملابس. فبعد العرض الأول لفيلم «إرما فِب» والذي بدا فيه المخرج رينيه فيدال منزعجا مما تم تصويره، يغادر الجميع المكان ويتركون ماجي تشينج وحيدة، هناك تلاحظها الحكّاءة زَوَا فتأخذها على ظهر دراجتها النارية وتذهبان للعشاء. تدخلان البيت حيث ينفتح المشهد فجأة على مجموعة كبيرة من الأشخاص على مائدة طعام يتناولون عشاءهم، وبطبيعة الحال فإن ماجي و زَوا تنضمان إليهم. بلا مقدمات يقدمنا الفيلم فجأة إلى ما يقرب من نحو عشر شخصيات جديدة لم نصادفها قبلا. كل واحد فيهم مندمج في حوار ساخن مع شخص من الحاضرين مختلف عن الحوار الذي يديره جاره مع الشخص الجالس بجواره أو قبالته. الجميع يتكلم في ذات الوقت، وهو ليس حوارا هادئا، ولكنها حوارات ساخنة كانت قد ابتدأت قبل دخول ماجي و زَوَا للمشهد. ماجي التي لا تتحدث الفرنسية تقف حائرة أمام هذا الحضور المفاجئ للبشر والمواضيع المطروحة للنقاش، كما نشاطرها نحن الحيرة أيضا لأنه لم يسبق لنا على الأرجح أن رأينا شيئا كهذا في السينما (أو لعلنا رأيناه مرة أو مرتين لا أكثر من قبل). الكاميرا المحمولة تلهث محاولة عدم تفويت شيء وساعية للإلمام بكل ما يدور، وهي تتحرك بسرعة من شخص لآخر لالتقاط خيط الحوار الدائر. هذا المشهد، باختصار، هو صنيعة عبقري. فخلافا للتعامل المُحْكَم والحاذق مع الكاميرا ومع الميزانسين، فإن المشهد في مجمله بدا حقيقيا جدا وارتجاليا جدا للدرجة التي يصعب على المرء أن يصدق فيها أن هذا تمثيل. يعطي هذا المشهد بالذات مصطلحَ «الأسلوب الحر» معناه الكامل، ومن هذه النقطة بالذات في «إرما فِب» فإن إحساس المشاهدين بالفيلم قد تغير. عند مشهد العشاء يتيقن المرء أن هذا فيلم مختلف، أي أنه مختلف في جمالياته وحساسيته الفنية. ففي أفلام التيار المهيمن يشعر المرء أن كل شيء في الفيلم مصمم ليقود لنهاية محددة عبر خط أحادي مستقيم، بحيث أن (أ) تقود إلى (ب) وهي بدورها ستقود حتما إلى (ت)، وهكذا. أما في «إرما فِب» فإنه ومن هذه النقطة بالذات يصبح حدوث أي شيء في الفيلم واردا جدا. لقد تهاوى منطق اللقطات المحسوبة بلغة الرياضيات الذي اعتاد عليه المشاهد، وحل محله الإحساس بأن كل شيء يمكن أن يحدث، وأن الفيلم يمكن آن ينفتح فجأة على قصص جديدة وشخوص جدد لا علاقة لها بكل ما مر قبلا. هنا تزداد وتيرة التشويق حين ينجح المرء في إدراك أنه يقف أمام لغة سينمائية مختلفة عن اللغة التي اعتاد عليها. ينبني السرد التقليدي في الأفلام المهيمنة حول بطل يجد نفسه في مأزق، وما يحاول فعله طوال الفيلم هو إنقاذ نفسه من المأزق الذي وقع فيه. في «إرما فِب» يتخلق السرد السينمائي من الإنسياب الطبيعي لحركة ماجي تشينج ومن الأماكن والأشخاص التي تجد نفسها محاطة بهم. كل ما يفعله الفيلم أنه يسير حيث تسير ماجي، ثم يتوقف مؤقتا في كل مكان تتوقف هي فيه ليعرفنا بكل ما حولها من شخوص ومواقف وحكايات وديكورات وغيرها، وما إن تغادر ماجي المكان حتى يغادر معها السرد إلى أفق جديد ومكان جديد ووجوه جديدة. في «إرما فِب» ليس المهم ما تقوم به البطلة من مغامرات. إن المهم هو: أين هي الآن؟ من معها؟ ما الذي يتحدثون عنه؟ أين سيكون مشوارها القادم؟ بمن ستلتقي تاليا؟ ما هي الأشياء التي سيكون الأشخاص الذين ستلتقي بهم يتحدثون عنها؟ حين يصل فيلم «إرما فِب» هذه النقطة، بدءا من مشهد العشاء، يشعر المشاهدون بارتباطهم بالفيلم أكثر، ولعل ذلك هو ما عبر عنه الكثير من المشاهدين عبر مواقع مختلفة على الإنترنت حين ذكروا أن النصف الثاني للفيلم أكثر تشويقا.
إن الروح الحرة ومسحة الإحساس بالارتجال المبثوثة في «إرما فِب» تكمن جزئيا في أسلوب أوليفر أساياس الذي لا يحب عمل البروفات المتكررة rehearsals قبل بدء التصوير. في مقابلة أجريت مع أساياس أثناء ترويجه لفيلم «بوابة الإقلاع» (2007م)، سأل صحفيٌّ أساياس: «إذن أنت لم يكن لديك وقت كافٍ لعمل البروفات؟»
أجاب أساياس: «كلا، أنا على أية حال لا أعمل البروفات أبدا، لكني أصوّر كثيرا. نعم أعيد التصوير مرارا لكن ذلك مختلف عن عمل البروفات. لم يكن لدينا وقت لذلك، فقد صورنا الفيلم (فيلم «بوابة الإقلاع») في ستة أسابيع».
هنا سأل الصحفي أساياس: «ولماذا لا تؤمن بالبروفات؟» فرد أساياس: «لأنها تُفسِد عفوية التمثيل. أعتقد أن هناك نوعا من الفطرية، هناك شيء خاص في مسألة أن يقول الممثل الجملة في المرة الأولى بحضور الكاميرا في موقع التصوير. أعتقد أن هناك شيئا مميزا يحدث. حتى لو قام الممثل بالتدرب على الجملة أمام مرآة في الحمام، فإنها لا تعود هي ذات الجملة. مع اللابروفات تكون هناك اللحظة الغُفل التي يعيش فيها الممثل الدور. إعادة التصوير الثانية تكون شيئا مختلفا. ففي الإعادة الثانية يكون الممثل مشغولا بتذكر صدى قوله للجملة في المرة الأولى. يكون في مرحلة تساؤل: ما الذي كان جيدا في المرة الأولى، ما الذي عليّ فعله الآن لتحسين الأمر. وفجأة يستيقظ الوعي الذي قد يقود إلى النتيجة المطلوبة. الأمر يستغرق وقتا ولكن مع الإعادة العاشرة يكون الممثل قد عاد مجددا لعفوية المرة الأولى. إن كل ما أسعى إليه هو الحفاظ على طزاجة لحظة التصوير الأولى». إن محاولة أوليفر أساياس لـ «الاحتفاظ بطزاجة لحظة التصوير الأولى»، هو ما وصفناه هنا بالروح الحرة التي يشعر بها المشاهد عند مشاهدة «إرما فِب».
ما يتبقى قوله بالنسبة لفيلم «إرما فِب» على صعيد المضمون المضمَر بين السطور (أو بين اللقطات، بالأحرى)، هو أن الفيلم عبارة عن محاولة من مخرجِهِ ليلحق بنهر التجريب السينمائي الذي يصب في بحر العطاء الطليعي الخلاق. هذه المحاولة لا تتضح فقط من خلال مجافاة «إرما فِب» لمعايير السرد السينمائي في السينما التجارية الرائجة ووقوفه متفردا باختلافه عنها، وإنما تتضح أيضا من خلال انحناءته التقديرية لعطاءات المخرجين الطليعيين. تتجسد تحية الولاء والعرفان هذه من خلال ممارستين تضمنهما الفيلم: الأولى هي تحية الإجلال الخاصة Homage بالرائد السينمائي الفرنسي في مرحلة السينما الصامتة، لويس فيلاد، من حيث صناعة فيلم يرتكز على سلسلة أفلام «مصاصي الدماء» التي أنجزها فيلاد عام 1915م، وكذلك من حيث تضمين «إرما فِب» لقطات لا بأس بمقدارها من «مصاصي الدماء» تعيد هذا المخرج للأذهان وقد تساعد على إعادة اكتشافه (وهو ما تحقق بالفعل، فشعبية «إرما فِب» دفعت آلاف المشاهدين حول العالم للتعرف على أفلام «مصاصي الدماء» لـ لويس فيلاد بعد أن كان النسيان قد أوشك أن يطويها). الممارسة الثانية التي سعى «إرما فِب» من خلالها إلى إلحاق نفسه بتيار السينما الطليعية/التجريبية هي من خلال كونه هو ذاته فيلما تجريبيا في بعض نواحيه، بل وأكثر من ذلك، فقد قام الفيلم بمحاكاة أساليب المخرجين التجريبيين وإعادة إنتاج التقنيات الخاصة بهم. لقد استخدم أساياس عدة تقنيات ليجعل فيلمه يرقى لمستوى الأفلام التجريبية، أو على الأقل إلى مستوى فيلم «نصف تجريبي، أو شبه تجريبي» كما وصفه هو بنفسه ذات مرة. استخدم أساياس خليطا من الأنيميشن والتمثيل البشري والتصوير الملون والتصوير بالأبيض والأسود (دون نسيان الحُبيبات التي تظهر على شرائط الأفلام القديمة). كما استخدم وسائل التجريبيين فيما يعرف بالأفلام المصنوعة يدويا (أي التي يتم إنتاجها دون استخدام كاميرا) والتي تعتمد على التخديش على الشريط السينمائي ذاته والرسم عليه وتلوينه وأحيانه حرقه أو إلصاق مواد عضوية عليه وما شابه ذلك. في نهاية «إرما فِب» نرى طاقم الفيلم وقد اجتمعوا ليشاهدوا الفيلم الذي صوره رينيه فيدال. لقد قام رينيه بعمل كل تلك «الحركات» المذكورة سابقا من ممارسات راسخة للتجريبيين ونفذها على اللقطات التي صورها. خلع عيون ماجي تشينج واستبدلها بدوائر تتقافز وتكبر وتصغر، وعمل تخديشات وأضاف خرخشات وأصواتا غير مفهومة، وخدّش الفيلم وملأه بالحبيبات، وجرب كل ما يجوس بخاطره من أفكار على اللقطات التي تظهر فيها ماجي تشينج. بعض المشاهدين ومستعرضي الأفلام يعتبر ذلك رسالة حب من رينيه فيدال لماجي يعبر فيها عما لم يستطع أن يقوله بالكاميرا، والبعض الآخر يعتبره مجرد دلالة على التشوش النفسي الذي وصل إليه فيدال كمخرج آيل للسقوط. لكن المؤكد أن هذه اللقطات الختامية التي تركَنَا معها فيلم «إرما فِب» في دقائقه الثلاث الأخيرة يمكن قراءتها هي الأخرى باعتبارها رسالةَ حب من أوليفر أساياس إلى أسلافه من صناع السينما التجريبيين وغمزةً منه تقول بأنه سائر في نفس الدرب.
عبداللـــه خميـــس
كاتب من عُمان