(التحليل السردي للقرآن الكريم).. سيكون حصيلة
خبرتي الحياتية والسردية والمعرفية اتخذ الناقد والباحث الأكاديمي الدكتور سعيد يقطين موقعه ومكانته الأثيرة في المشهد الثقافي العربي بناء على مكابداته في المجالات التي اقتحمها، وتأسيسا على رؤيته الشمولية للعالم النصي الذي يتناوله بالدراسة والبحث والتحليل، وتشييدا على أخلاقيات المثقف الذي لا يلين أمام المثبطات التي تعترض سبيله، (وما أكثرها!) فتحس أن الرجل يُلازمه السؤال الثقافي حيثما حل وارتحل. لذلك كانت كل الأعمال التي يصدرها تشي بهذا العمق في التأمل والتفكير، وتصدر عن استبصار نافذ لحيثيات العمل، وعن رؤية تستحضر عناصر النسق في تشاكلها وتعالقها وتفاعلها.
وتتسم أعمال سعيد يقطين بالتنوع والتعدد، غير أن الذي يجمع لحمتها هو السؤال الثقافي الذي يرتهن إلى اليومي الملح، والمستلهم من روح العصر في آفاقه المتشعبة. ولئن كان السؤال الثقافي يقتضي هذا التنويع، فإن بصمة الرجل الكبرى كانت في مجال السرديات؛ حيث إنه من بين الأسماء الرائدة التي أسست آفاق البحث السردي العربي ودافعت عنه حتى استقام عوده وقوي؛ سواء عبر المؤلفات والبحوث الذائعة الصيت التي نذكر منها: تحليل الخطاب الروائي، انفتاح النص الروائي، الكلام والخبر، الرواية والتراث السردي، قال الراوي، الأدب والمؤسسة: نحو ممارسة أدبية جديدة، من النص إلى النص المترابط (جزآن)، السرد العربي… أو عبر المشاركة في الندوات واللقاءات وطنيا عربيا ودوليا، أو عبر إسهاماتها المشهود لها في التأطير والتكوين الأكاديميين، حيث تخرج على يديه العديد من الباحثين والنقاد الذين لهم حضورهم في الساحة العربية.
وقد حاز الدكتور سعيد يقطين على عدة جوائز من بينها: جائزة المغرب الكبرى للكتاب مرتين: برسم سنتي 1989 وسنة 1997م، كما حاز على جائزة عبد الحميد شومان (الأردن) للعلماء العرب الشبان سنة 1992م…
u يُعرف الدكتور سعيد يقطين بكونه باحثا أكاديميا وناقدا متمرسا ومثقفا له اهتمامات واسعة تتعدد بين السرد العربي القديم والحديث والأدب الشعبي والآداب الغربية والنص التفاعلي؛ في انفتاح تام على العلائق السوسيوثقافية والتحولات العالمية. فكيف تُعَرفُ نفسَك ضمن هذه الاهتمامات المتشعبة، وأين تجدُ ذاتك أكثر؟؟
جواب: أجد نفسي في كل عمل أرى أن بإمكاني أن أفتح فيه نافذة جديدة للتفكير والتطوير في فكرنا العربي. يمكن لهذه الاهتمامات أن تتشعب أكثر لتلامس الديني والاجتماعي والسياسي في واقعنا وثقافتنا. غير أن كل هذا التشعب يرتد إلى ركيزة أساسية حددتها منذ بداية مساري الأدبي والثقافي وهي السرديات. إنها توجهني إلى الانشغال بكل هذه القضايا لأن السرد موجود في كل شيء، وهو فعلا، تماما كالحياة.
u يرتبط اسمك كثيرا بالسرديات العربية، وتعد كتبك مرجعا أساسيا للباحثين والطلاب في العالم العربي، وتسعى بكل ما تملك من قوى لتأسيس علم سردي يدرس النصوص العربية قديمها وحديثها، بشكل يحفز على اكتشافها من الداخل وتوجيه النظر إلى زوايا معتمة فيها. تُرى أين وصلت الجهود العلمية لتأصيل هذا العلم عربيا؟
جواب: ما أسجله في البداية، كمظهر إيجابي، هو أن السرديات صارت اختصاصا معروفا ومعترفا به في الساحة الثقافية العربية الحديثة. فهناك جمعيات ومختبرات، وصارت المادة تدرس في العديد من الكليات العربية، وهناك من صاروا يتعاطفون معها دراسة وتحليلا. هذا لم أكن أحلم به في أي وقت رغم الطموح الكبير الذي كان يراودني بصددها. كان معارضو السرديات أكثر من المؤيدين. بل إن هناك من اشتغل بها في وقت ما مستلهما بعض إجراءاتها، وصار، الآن، يرى أن أفقها مسدود، كما أن هناك من يقول بـ«موتها». غير أني أرى أنها الآن تشق طريقها بشكل أفضل. لقد بدأت تتوضح ملامح صورتها لدى المهتمين والمشتغلين بها من العرب. ويسرني أن أجد سرديين في ليبيا واليمن وموريتانيا وبعض دول الخليج، فضلا عن مصر والمغرب العربي وسوريا والعراق…
إني أؤمن بأنها تتقدم أكثر في الكشف عن خصوصيات السرد العربي، إذا ما عمل السرديون العرب المحدثون (الجيل الثاني) على تطويرها بشكل ملائم. وأرى فيما ينشر بين الفينة والأخرى من دراسات سردية تستلهم كتاباتي وكل ما أنجز منذ الثمانينيات ما يثلج الصدر، ويبرز أن للسرديات، مع الزمان، موقعا هاما في فكرنا الأدبي.
u هل هناك استمرار للهوية السردية العربية؛ كما تشكلت في النصوص القديمة؛ ضمن المنجز السردي العربي الحديث أم أن هناك قطيعة مع هذه الأنماط وتوجه نحو أساليب التعبير الوافدة من الغرب عن طريق الترجمة؟ وإلام يعزى ذلك؟
جواب: إذا كنت تقصد بـ«الهوية السردية العربية» خصوصية عربية ما في إنتاج السرد، فإني أرى أن هذه السردية العربية ليست سوى ذات طابع شفوي. ولا شك أن الأنواع السردية العربية الحديثة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالكتابة التي لها شروطها وقواعدها الخاصة التي تفرضها على أي سرد. لذلك لا أعتبر السرد العربي الحديث ينقل أساليب التعبير الوافدة من الغرب كما يدعي الكثيرون. إن السرد العربي بانتقاله من البعد الشفوي إلى الكتابي يخضع لإكراهاتها ومرغماتها، تماما كما يفعل السينمائي العربي. إنه وهو يوظف الكاميرا يتأثر بشروطها وهي تفرض ملامحها. أما مسألة الاستفادة من التجارب الأجنبية فلا يمكن لأي كان أن ينكرها. ويمكنني ادعاء أن العرب لم يستفيدوا كثيرا من تقنيات الكتابة السردية كما تتحقق في الغرب، وخير دليل على ذلك هو أن أغلب الروائيين العرب لا يطلعون إلا على بعض النصوص الغربية، وغالبا لا يتم ذلك إلا بعد ترجمتها إلى العربية، أي وهي تفقد أهم مقوماتها اللغوية والفنية. لو أن الروائي العربي يستلهم الرواية العالمية لكان إنتاجه الروائي متطورا أكثر مما هو عليه الآن. وتفصيل هذه النقطة التي تتكرر يمكن أن ينتهي بنا إلى ضآلة تفاعل الروائي العربي مع الرواية العالمية.
يمكن قول الشيء نفسه عن السرد العربي عندما ينتقل إلى استثمار الرقمية في الإبداع. وفي السياق السابق، أؤكد أن محمد سناجلة عندما أنتج أعماله السردية الرقمية لم تكن عنده أي فكرة عن وجود روايات رقمية مكتوبة في لغات أخرى. ويمكن قول الشيء نفسه عن الذين يهتمون الآن بالكتابة الرقمية إبداعا ونقدا: فلا واحد منهم اطلع على كتاب كامل في الرقميات؛ ولا على إبداع رقمي في الشعر أو السرد. ومع الزمن سيأتي من يقول إن العرب كتبوا رقميا لأنهم تأثروا بالغرب؟ كثيرة هي الأفكار الذائعة ولكن ليس لها أي سند واقعي لو عرضناها للتمحيص والتحليل.
إن كل وسيط للتواصل والإبداع والتلقي يفرض شروطه وقيوده، وتقنياته وآلياته، ولا يمكنها إلا أن تلتقي مع من يوظف الوسيط نفسه بشكل أو بآخر.
u هناك من يقول إن الرواية المغربية تميل في غالبيتها إلى السرد الذاتي أو اليوميات أو السير-ذاتي، وبالتالي هي لا تزال تبحث لنفسها عن ملامح هوية متفردة، مقارنة مع الرواية المشرقية التي حققت تراكما وتشكلا يسمح بتحديد سماتها. ما رأيك؟
جواب: بحث الرواية العربية عن ملامحها الخاصة مشروع. وأفسره بحداثة التجربة التي لا تتعدى في أحسن الأحوال نصف قرن من الزمان. ويبدو لي أن هيمنة السرد الذاتي لا يعني غياب نصوص سردية غير ذاتية. وهذا النوع الأخير هو الأهم في التجربة الروائية المغربية، وذلك بسبب التشابه في السرد الذاتي، وأفسر ذلك بما يمكن تسميته بـ«لعنة محمد شكري».
u لا شك أنك توافقني في الرأي القائل بأن النقد العربي يسير في وتيرة بطيئة مقارنة مع تراكم المنجزات الإبداعية في أسواق النشر بكل تنويعاتها. أضف إلى ذلك نقد المجاملة والاستناد للقيم والمعايير اللا ثقافية ونقد المناسبات والكتابة تحت الطلب… الخ. ترى ما السياقات التي زحلقت النقد العربي تجاه هذا المنعطف الخطير، وهل من آفاق لترسيخ قيم نقد أصيل ذي ثوابت جمالية وثقافية؟
جواب: تتطور المنجزات الروائية فعلا بوتيرة سريعة بالقياس إلى المواكبة النقدية التي أوافقك الرأي تماما بأنها متعثرة. وهناك أسباب عديدة تقصر باع النقد العربي عن المواكبة. لا أريد الدخول في تفاصيل ما أسميتَه بنقد المجاملات والمناسبات وما شاكل ذلك، لأنه في رأيي لا يدخل في باب النقد. ما سأتحدث عنه هو تلك الممارسة الثقافية التي تنهض على أسس محددة في الوصف والتقويم.
لقد تحول مسار النقد العربي منذ الثمانينيات بسبب تجاوزه الانطباعية التي كانت تحكمه في الفترات السابقة. كان النقد العربي ممارسة مثقفين لهم هموم اجتماعية وسياسية، وكانوا يستندون إلى الأدب دارسين وناقدين لتعميم الأفكار التي يتشيعون لها مدافعين عنها من خلال الأدب المتخذ ذريعة لذلك. ولهذا السبب كانت أغلب وأهم الإنجازات في هذا المضمار تتصل بالصحافة والإعلام الثقافي.
مع النقد الذي بدأ يتبلور منذ الثمانينيات صارت العملية النقدية تتكئ على معرفة محددة بمفاهيمها وإجراءاتها. ويتطلب هذا ثقافة خاصة لا يمكن أن ينفع معها الانطباع أو التكوين الثقافي العام. ولهذا الاعتبار سنجد أهم الإنجازات النقدية منذ هذه الحقبة تتصل اتصالا وثيقا بالبحث الأكاديمي والجامعي.
إن النقد الأدبي الذي يتشكل من خلال عمل الباحث لا يهمه أن يواكب الإبداعات التي تصدر باستمرار، لأنه معني بقضايا وإشكالات خاصة. وأغلب الذين ينهون أطروحاتهم الجامعية قلما يواكبون جديد الأعمال الأدبية لأن قلة منهم هي التي تواصل الاهتمام بالإبداع. أما الذين لهم قدرة وإمكانية للانشغال بالمواكبة، فلا عدة نظرية لديهم. ولعل هذا من الأسباب التي تجعل المسافة بين النقد والإبداع فسيحة جدا.
u كيف حال البحث الأكاديمي العربي مع بداية الألفية الثالثة وتحديات العولمة وسطوة الصورة وتحرير السوق والمد التكنولوجي الذي جعل الحياة برمتها شيئا افتراضيا؟ وهل هناك توجه لتأسيس مختبرات تؤطر مشاريع كبرى لها علاقة بالحاجات السوسيوثقافية التي تفرزها دينامية المجتمع؟
جواب: يبدو لي أن هذه القضية جزء من واقع النقد الأدبي العربي. لقد ظل النقد مجهود أفراد معينين مسكونين بحب الأدب من جهة، وبهاجس البحث العلمي من جهة أخرى. ولم يكن البحث الأكاديمي العربي مؤسسا على العمل الجماعي. كانت العلاقة انتهازية بين الشيخ والمريد. وما أن ينجز المريدون أطروحاتهم حتى ينفضوا من حوله، ويعاود كل منهم التجربة نفسها. كانت بنية البحث الجامعي غير مؤسسة على فرُق البحث والمختبرات والمراكز وفق متطلبات وشروط البحث العلمي. ولذلك لم تنجز داخل الجامعة العربية أبحاث علمية مؤسسية. كانت الأعمال فردية تنسب إلى عصامية الباحث واجتهاداته فقط. فهل أنجز الجابري -مثلا- مشروعه حول بنية العقل العربي بدعم من أي جامعة مغربية أو عربية؟ وهل وفرت له ميزانية وفرق للبحث تساعده على العمل؟ كان كل عمله من مبتدئه إلى منتهاه عملا «إضافيا» ينجزه إلى جانب عمله في التأطير والتدريس. وقس على ذلك بالنسبة للعروي وطيب تيزيني…
الآن مع إصلاح التعليم العالي، مثلا، في المغرب، صرنا أمام ضرورة تشكيل فرق للبحث ومختبرات ومراكز. لكن تشكيل هذه البنيات رهين بتوفير المنسق لشراكات مع مؤسسات عليه أن يبحث عنها لدعم مشروعه. فهل أنا كباحث، مثلا، مطلوب مني القيام بالبحث العلمي أم المطلوب مني، لأكون باحثا، أن أكون وكيلا تجاريا أبحث عن المؤسسات التي يمكن أن تدعم المشروع الذي أود القيام به؟
أرى أن عدم تخويل ميزانيات حقيقية للتعليم العالي، وإن شكلنا بنيات تنظيمية جديدة، فإننا سنشتغل بالذهنية القديمة، وهي معيقة للبحث العلمي الجماعي. ولهذا السبب يمكننا في العالم العربي أن نتحدث عن باحثين جيدين، وليس عن علماء. إننا لا نتوفر على بنيات علمية، وينسحب هذا الكلام على النقد الأدبي انسحابه على العلوم الإنسانية، ونسبيا عن العلوم الحقة.
u في ظل عولمة كاسحة، هُمش دور المثقف العربي، وغاب حقه في خلق دينامكية سوسيوثقافية، في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الملاذ عندما يخطئ السياسي ويزل. فمن المسؤول عن تراجع سلطة الثقافة في الساحة العربية، وهل من أمل في عودة صوت المثقف القوي الذي يوقف عمى السياسي ويخلق توازنات بديلة؟
جواب: المثقف العربي مهمش ومهشم دائما. إذ المطلوب منه أبدا أن يمثل دور الشاعر المداح، وأن يكون كالبحتري الذي كان يمشي في موكب من العبيد. أما إذا كان غير هذا الشاعر، وانخرط في السياسة، فلينتظر مصير الشعراء الذين نكل بهم، أو تعرضوا للحرق أو الإعدام لأنهم أعداء الحاكم أو زنادقة، والتهم المسوغة للحكم جاهزة.
المثقف العربي الذي نتحدث عنه ليس معلقا في فراغ. إنه مواطن كباقي المواطنين. وإذا كان رأسماله الرمزي زاده المعرفي، فإن دوره لا يمكن أن يضطلع به على الوجه الأكمل إلا في إطار المؤسسة. ما هي المؤسسات التي يمكن أن تحتضن المثقفين وتجعل لدورهم وظيفة اجتماعية؟ الاتحادات والروابط؟ أم ردهات وزارات الثقافة؟ أم لجان الأحزاب المتعلقة بالعمل الثقافي إن وجدت؟ أم يكتفون بكتابة المقالات والزوايا في الجرائد والمجلات وإصدار الكتب وانتظار المكافآت؟
لقد ناقشت جزءا من هذه القضايا في كتابي «الأدب والمؤسسة والسلطة» (2001) واعتبرت غياب المؤسسة المدنية عنصرا قويا في غياب دور المثقف. وفسرت ذلك باستبعاد أو بغياب أي «مشروع» مؤسسي عربي ينطلق من مستلزمات العمل العلمي والجماعي. ولذلك تغيب الإطارات الحقيقية التي يمكن أن تجمع المثقفين. والروابط والاتحادات خير دليل على ذلك. فهي فضاءات إدارية ليس غير، وذلك لسبب بسيط هو أنها لسد الفراغ وليس لأي منها مشروع ثقافي ملموس.
كانت الإيديولوجيا في الستينيات والسبعينيات عامل «تجميع» للمثقفين، حتى وإن كانوا يشتغلون شذر مذر. كان على الأقل أفق للتفكير يجمع الهواجس ويوحد التصورات. لكن تغير المواقف الإيديولوجية ووجهات النظر يجعل هذا العامل «موحدا عابرا». لذلك عندما تم تجاوز المنظومة الإيديولوجية التي كانت «تجمع» المثقفين (القوميةـ الاشتراكية) انفرط دور المثقف وصار متفرجا على المشهد السياسي، وحتى فعاليته الأدبية أو الثقافية صارت ممارسة بلا حماس ولا أفق. فهل علينا انتظار إيديولوجيا جديدة تجمع المثقفين؟ أم علينا الإيمان بأن ما يمكن أن يجمع المثقفين هو البحث العلمي وليس الإيديولوجيا التي لا يمكنها إلا أن تفرق المثقفين بددا. هذا هو التصور الذي أعتقده فيما يتعلق بالعمل الثقافي والأدبي، وذلك بناء على كل تاريخنا الحديث، وبناء على أن عمل المثقف هو أن يبني التصورات ويدافع عن القيم الإيجابية للأمة، وليس عن التوجهات السياسية الظرفية التي هي في خدمة مسار سياسي محدد. وللانتقال إلى هذا الاعتقاد أرى أن قراءة واقعنا الثقافي بموضوعية هو الكفيل بممارسة نقد ذاتي جماعي بهدف الإمساك بالثوابت والمتغيرات والعمل بمقتضاها.
u فتح الانترنت آفاقا كبرى لتداول الأفكار وانتشار النص وشيوع المنجزات دون رقيب أو حسيب أو موجه، لكنه في نفس الآن يحمل سيفا ذا حد سام، يتعلق الأمر بمسألة الاستسهال في النشر والتداول. مما أدى إلى عزوف كثير من الكتاب والنقاد والمثقفين عن ولوج عالم الشبكة العنكبوتية الافتراضية متحججين بانتشار الرداءة وتشجيعها. ما رأيك؟؟
جواب: إن الاحتجاج على الرداءة هام وضروري. لكن الاحتجاج بدل أن يثنينا عن الاهتمام بالفضاء الشبكي، عليه أن يدفعنا إلى اقتحام هذا الفضاء وليس العكس. أما العزوف وترك المجال فسيحا لهؤلاء فإنه يخلق جيلا منفصلا عن الواقع الفعلي، ويجعل «الهؤلاء» يشعرون أنهم البديل الثقافي الذي يحقق ما عجز عنه الآخرون الذين لم يتمكنوا من تجاوز القلم وظلوا يختفون وراء جهلهم بالمعلوميات مبررين ذلك بالإسفاف والتردي. لذلك كانت دعوتي، أبدا، هي أن على المثقفين والباحثين الجادين أن يقتحموا غمار هذه التجربة الجديدة، وبذلك يمكنهم قطع دابر المتحذلقين وأشباه الأدباء.
u لكل إنسان في هذه الحياة أسطورته الشخصية. فما أسطورة سعيد يقطين الشخصية من خلال مشروعة الأدبي والنقدي والثقافي؟
جواب: هذا صحيح إلى حد بعيد. أما أسطورتي الشخصية الكبرى، ومعنى ذلك أن هناك أساطير شخصية صغرى، فهي إنجاز تحليل سردي للقرآن الكريم. لقد فكرت في هذا العمل منذ مدة، وأنا أستكمل له العدة الملائمة باستمرار وعلى مهل. إن الحضور السردي في القرآن الكريم قوي جدا ومختلف عن كل الأشكال السردية التي تعرفنا عليها في الملاحم والأساطير والحكايات والروايات… ومشروع قراءتي السردية هذه سيكون، إن شاء الله تعالى، مختلفا عن كل ما كُتب عن القصص القرآني سواء من لدن العرب أو المستشرقين، وأطمح أن تكون فيه حصيلة كل خبراتي الحياتية والسردية والمعرفية.
u أصبح هاجس المبدعين المغاربة في مجال السرد وغيره –كما تلاحظون ذلك من خلال متابعتكم للمنجزات الجديدة- هو المغايرة والتجريب حتى ولو كان ذلك على حساب رسالة النص ومضمونه الثقافي وانتمائه الأجناسي. فهل هذه الظاهرة صحية؟ وما الآثار التي يُفترض أن تخلقها على مستوى حركية الأجناس الأدبية وعلائقها المتشابكة بالعناصر المتعددة التي تحيط بها؟
جواب: أنا أفهم التجريب على أنه محاولة لخلق قواعد جديدة على قاعدة ممارسة سردية جديدة. وما نراه الآن ليس سوى تنويعات على تجريب قائم. وبالتالي لا نجد فيه إلا إضافات بسيطة، لكنها ليست جوهرية. من حق المبدع أن يعمل على التميز والمغايرة. لكن ذلك لا يمكن أن يتأتى له بدون توفر الشروط الملائمة لذلك. ومن بينها، كما أشرتَ، رسالة النص ومضمونه. فالنص الإبداعي الذي لا يقول شيئا، أنى له أن يتغاير عما عداه. ومهما كانت تنويعاته التجريبية فإنها تظل لا دلالة لها.
u تفشت بالمغرب ظاهرة تعدد الإطارات التنظيمية والجمعيات الثقافية التي ينخرط فيها الكتاب والمبدعون أملا في إعادة مجد ضائع وسلطة مهدورة. فهل يشكل هذا العمل رد فعل ضد المؤسسة الحزبية العاجزة أم تمردا على نخبوية اتحاد الكتاب ومحدودية أنشطته أم هو سعي سليم لخلق مجالات أوسع لاحتضان فورة الشباب وحماسته أم ماذا؟
جواب: تعدد الإطارات الثقافية في المغرب مثل تعدد الإطارات السياسية، بقدر ما هو دال على ظاهرة إيجابية يحمل في ذاته مقومات سلبية. إن التعدد والتنوع مطلوبان، لأنهما مطلبان حيويان لاستيعاب كل الحساسيات والأطياف والمنظومات الفكرية والثقافية. لكن ما نلمسه، للأسف، هو أن هذا التعدد أفقي وليس عموديا، لأننا نلمس تشابها كبيرا بين الإطارات، ولا يتميز بعضها عن بعض إلا في أشياء بسيطة. إن الذهنيات التي تطبعها طرائق وأنماط واحدة في التفكير، فإنها وإن تعددت تجلياتها، تؤول إلى الأصل الأساس الذي صدرت عنه. إنك ترى حزبا يخرج من رحم حزب آخر، ويقدم نفسه باعتباره جاء لتجاوز «فساد» و«بيروقراطية» الحزب الأم. وبعد زمان قصير نجده يمارس ما رضعه من أمه التي انفصل عنها، حتى دب التشكيك ساريا على الجميع، ولم يبق التعدد سمة إيجابية لأنه يترجم الاختلاف ويسجل التباين. ولقد أدى هذا إلى تأكيد الاعتقاد بأن ليس في القنافذ أملس. إنه في غياب مشروع ثقافي وفكري حقيقي يكون التعدد والتنوع ذا طابع شخصي وذاتي. وللأسف، نجد هذا يمتد ليشمل قضايا ثقافية كُبْرى صارت موضوعات للمزايدة والضغط السياسي. لذلك لا يعكس هذا التعدد المطالب به الواقع الحقيقي للناس، مادام يرتهن إلى نزعات نرجسية وانتهازية.
u وسط الفوضى العارمة التي تثيرها نعرة العولمة المتحذلقة، بدأت الهويات الثقافية الكبرى تبتلع الهويات الصغرى في نهم محموم، ما الذي يمكن أن يقوم به المثقفون العرب لحماية الهوية الثقافية العربية المستهدفة بشكل كبير؟
جواب: صحيح الثقافة العربية مستهدفة كما أن اللغة العربية والوجود العربي مستهدفان في الآونة الأخيرة. هناك إحساس لدى الجميع، مشتغلين ومتتبعين، للشأن الثقافي العربي. لكن غياب المشروع الثقافي العربي الذي يشخص الواقع ويقترح البدائل الملائمة لا يمكن إلا أن يفسح المجال لـ»الخطاب الاحتجاجي». وهذا غير كاف لأنه يظل عبارة عن ردود أفعال، ولا يمكنه أبدا أن يرقى إلى الفعل الحقيقي.
إن الجواب الملائم لا يمكن أن يكون سوى بالعمل الجاد والمسؤول الذي يرتب الأولويات وينخرط في نقل الخطاب إلى العمل أو الفعل. ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا بانتهاج الأسلوب العلمي في التأمل والتفكير. ونعود مرة أخرى إلى ما سبق أن قلناه عن العمل العلمي. إن مشاركة المثقفين في المشروع العلمي العملي هو المدخل. أما كثرة الندوات والكتابات عن خطر العولمة وصراع الحضارات أو حوارها،،، فإنها رغم أهميتها لا تقدم شيئا ذا بال، ولا سيما إذا كانت ترتهن إلى جاهز القول ومسبق الأفكار، وهذا هو السائد. لابد والحالة هذه، في تقديري، من تشكيل خلايا للبحث والتفكير، يكون دورها تشخيص واقع التحولات التي يشهدها العصر وآثارها على واقعنا، بموضوعية ودقة متناهية، بناء على الانطلاق من معطيات ملموسة، وليس بناء على تصورات مسبقة وخلفيات جاهزة وذاتية.
u منذ أول مقال ظهر لكم على مستوى النشر إلى آخر كتاب في المطبعة، ما الذي تحقق من المشروع اليقطيني وما الذي لم يتح له التحقق بعد؟
جواب: هذا السؤال يمكن أن يجيب عنه المتتبعون والقراء. وأنا لا أحب الحديث عن ذاتي أو الترويج لأعمالي. أتصور أني قدمت شيئا بسيطا والطريق صعب ومعقد وطويل. ولذلك فأنا ما أزال أمشي، وأهيئ نفسي لسباق المسافات الطويلة والعمر قصير. وقبل أن أخطو أي خطوة أجدني أفكر أكثر مما أكتب، وإلا فإنه بحسب الطريقة التي أشتغل بها، قارئا وباحثا ومتأملا، كان من الممكن أن يكون عندي رصيد من الكتب والمقالات ضعف ما أنجزت أضعافا مضاعفة. هناك مشاريع عديدة ابتدأت بها في أزمنة فائتة، وهي ما تزال موضع تأمل واستقصاء، وهناك مشاريع جديدة أنحت فيها بصبر وهدوء، وفي ثنايا كتاباتي المختلفة موضوعات عدة. هناك عمل دائب ومتواصل بالنسبة إلي، ولست نادما على حرف كتبته أو كتاب أصدرته أو مؤتمر شاركت فيه بمداخلة. إن كل هذه الأعمال وليدة معانيات ومكابدات، وحلم بلعب دور، مهما كان بسيطا، في الثقافة العربية، وما يزال الليل طويلا للرؤيا الصادقة.
u علمت أنكم بصدد نشر كتاب حول الرواية الغربية، ما سر هذا التوجه الجديد في كتاباتكم، هل هو الرغبة في تذكير الروائيين العرب بالعودة إلى منابع الأصول والروائع أم هو تذمر من مستوى الرواية العربية الجديدة، علما أن الروايات العربية تصب بالأطنان في أسواق النشر دون أن يلتفت إليها النقاد؟
جواب: جاء تفكيري في هذا الكتاب الذي أنجزت نصفه تقريبا من خلال قراءاتي للروايات الفرنسية أو المترجمة إليها. وعَن لي، من خلال مدونة معينة، أنها تلتقي في مجموعة من السمات، ولم يتم الانتباه إليها في الكتابات النقدية الأجنبية، ففكرت خلال إقامتي في ليون بفرنسا تسجيل أطروحة للدكتوراه لتكون فرصة للاشتغال بهذه المدونة، وحالت عوامل عديدة دون ذلك. غير أن مشروع الكتاب ما يزال قائما. هذا من جهة.
من جهة أخرى، أرى أن الاهتمام بالنصوص الأجنبية تطوير لمشروعي السردي، وذلك باختبار إجراءاته كما أتمثلها وأبلورها في أعمالي المختلفة، ومحاولة لمعاينة مدى انسجامه بعد أن اشتغلت به على نصوص روائية عربية حديثة وعلى نصوص سردية عربية قديمة، ولإبراز أن الأدوات والمفاهيم التي أوظفها في تحليل السرد العربي لها كفايتها، وأقدم بذلك جوابا ضمنيا على الذين يقولون بـ«خصوصية» النص العربي، أو خصوصية السرديات التي تشكلت في تربة غير عربية، وذلك عن طريق توضيح أن طريقة عملنا منسجمة ومتكاملة، ويمكن توظيفها في تحليل السرد العربي أو الأجنبي سواء بسواء.
وثالثا، فيما يتعلق بالنصوص العربية الحديثة، فأنا أواكبها، وبين الفينة والأخرى أقدم كتابات عنها. إنها المراوحة بين القديم والحديث والعربي والغربي لإغناء المشروع وتطويره.
u ما الذي يعني أن تكون كاتبا أو ناقدا أو مثقفا في الألفية الثالثة، زمن السباق الضاري نحو امتلاك الرأسمال المادي، زمن انطفاء الثروات المعنوية وخفوت وميض القيم الإنسانية؟
جواب:أخالفك الرأي في هذه المسألة، لأني أرى أن الكاتب والمثقف والناقد في أي زمان رأسماله الحقيقي هو البعد الإنساني. وفي هذه الألفية كما في أي زمان آخر، كان التنافس، أبدا، قائما بين الرأسمال المادي والرمزي أو المعنوي. وأرى أن الصراع حاليا بين الأمم لا يتمثل فقط في الصراع المادي الذي لا يمكن نكرانه أو التغاضي عنه. ولكن الصراع الحقيقي هو في امتلاك المعرفة والعلم. وعن طريق امتلاك المعرفة يدار الصراع في مختلف صوره ويخاض. إن الصراع يتخذ، الآن، بعدا معرفيا أكثر مما كان عليه الأمر في أي زمان سابق. ألسنا في عصر المعلومات والمعرفة؟ وعلى المثقفين العرب أن يلعبوا الدور المنوط بهم من أجل تحصيل المعرفة وتجديدها وتطويرها، وبذلك يمكنهم المساهمة في إشاعة روح التفاؤل لا اليأس، والقيم السامية ذات البعد الإنساني بدل الانكباب على الذات واجترار روح الكآبة والانغلاق والانعزال. ولا يتأتى ذلك، حسب تصوري، إلا بالانخراط في فهم العصر وتحولاته والعمل على الارتقاء إلى مستوى أعلى من الفهم ليكون ذلك مدخلا للإسهام في العصر من منظور إيجابي يخدم تطلعاتنا كأمة ويستجيب لطموحاتنا في أن يكون لنا موقع فاعل في الواقع الذي نعيش فيه
حاوره: إبراهيم الحجري
كاتب من المغرب
.