وقعت ذات مساء من شهر تشرين الثاني حادثة مروعة في العاصمة النرويجية أوسلو, إذ قتلت صبية صغيرة في بيت مهجور على الشاطئ. فنشرت الجرائد تفاصيل طويلة عن جريمة القتل, وأخذ الناس يقفون أمام المنـزل في نهارات تشرين القصيرة الشديدة البرودة, ويتطلعون إليه بنظرات ساهمة متجمدة. كانت الضحية ابنة عامل, لذلك ثارت ثائرة الناس بفعل ذلك الإهمال المعروف سلفا .
ولم تحصل الشرطة إلا على معلومة صغيرة: قيل إن أحد البق الين في الشارع ذاته قد أبلغ الشرطة بأنه حالما شرع بإغلاق محله لمح الضحية تمرق من أمامه واضعة يدها في يد رجل بدين. وعلى الفور اعتقلت الشرطة عددا من المتشردين والمقطوعين وبعض المشبوهين, بيد أن هذا الصنف من البشر لا يتسم عادة بالبدانة.
وفي الحال أصبح الرجال البد ن عرضة لنظرات المارة في الشوارع, إلا أن أحدا لم يعثر على القاتل.
وصادف أن طالبا يدعى كرستوفر لوفوندن كان يقيم أثناء وقوع الجريمة في مدينة أوسلو, ويحضر للامتحانات النهائية. كان قادما من شمال النرويج, حيث يكون نصف السنة نهارا ونصفها الآخر ليلا, وحيث يكون الناس مختلفين عن عموم النرويجيين العاديين. كان كرستوفر هذا قد تعر ض إلى أزمة صحية عندما دخل إلى عالم المدينة الحديثة المشي د بالحجر والإسمنت, وكذلك بسبب حنينه الجارف إلى الجبال ومياه البحر المالحة. ولأن أفراد عائلته القاطنين في شمال البلاد كانوا من الفقراء الذين لم يكن لهم أدنى تصو ر عن تكاليف المعيشة في أوسلو; فإنه أراد ألا يثقل عليهم فيما يتعلق باحتياجاته المالية. فاشتغل نادلا في »جراند هوتيل« من الساعة الثامنة مساء حتى منتصف الليل من كل يوم. كان كرستوفر شابا مهذبا ويتحل ى بقدر من الوسامة, وكان يؤدي بأمانة وحرص عمله الذي أتقنه تماما والقائم على خلط المشروبات, بينما كان شخصيا لا يتناول المشروبات الروحية, لكنه كان يظهر اهتماما علميا في خلطها لزبائن الفندق.
وعلى هذا النحو تمكن من تدبير شؤون حياته ومتابعة دراسته الجامعية, على الرغم من أنه لم يستطع النوم بما يكفي. وبسبب ضيق الوقت فإنه لم يختلط بالناس الآخرين. وباستثناء الدروس المقررة فإنه لم يطالع أي كتاب خارجي, ولم يقرأ حتى جريدة, لذلك فهو لم يكن يعلم شيئا عما كان يدور حوله في هذا العالم, إنما يعرف بأن تلك الحياة لم تكن صحيحة البتة, بيد أنه كل ما ضاق ذرعا بها ازداد انغمارا في عمله, لعل ه يخلفه وراءه. وكثيرا ما كان يبدو متعبا حين يقف خلف البار, فيحدث أحيانا أن يغفو وهو واقف, فضلا عن أن ضوء المصابيح الساطع ولغط الزبائن كانا يثيران قلقه واضطرابه على الدوام.
حالما يغادر كرستوفر »جراند هوتيل« بعد منتصف الليل ويتنس م أولى النسائم الرطبة الباردة يشعر بالانتعاش, لدرجة أنه حين يدخل إلى غرفته الصغيرة يكون قد صحا تماما . لكنه كان يعلم في الوقت ذاته بأن ساعة الصحو هذه تنطوي على خطر. وإذا ما أثارت مسألة ما انتباهه فإنها تبدو له حينئذ حيوي ة بشكل غير طبيعي , مما يجعله عاجزا عن النوم, وفي اليوم التالي يكون عاجزا حتى عن متابعة دروسه. لقد أقسم بألا يقرأ سطرا واحدا في ذلك الوقت تحديدا , وحين ينضو ثيابه فإنه يغمض عينيه على الفور.
وبالرغم من ذلك سقط بصره ذات مساء على جريدة كان قد لف بها سجقا للعشاء, فقرأ حينئذ وللمرة الأولى خبرا عن حادثة القتل. كانت الجريدة صادرة قبل يومين, فلابد إذن أن يكون الناس قد تحدثوا طوال الوقت عن الجريمة, غير أنه لم يسمع شيئا من حديثهم. كانت الجريدة ممزقة, فاختفت بعض الأسطر المتعلقة بالخبر, لذلك استعان بخياله لتعويض المقاطع المفقودة.
ومنذ تلك الليلة لم يعد بوسعه إلا أن يشغل فكره في ذلك الأمر. لقد جعلت عبارة ؛رجل بدين« أفكاره تتسلل بنعومة من رجل بدين إلى آخر من أولئك الرجال الممتلئين سمنة الذين عرفهم, إلى أن استقرت في آخر الأمر على واحد منهم.
كان هذا الرجل الذي استقرت عليه أفكار كرستوفر كاتبا وشاعرا من زبائن الفندق المعروفين والذي اتسمت كتاباته بطابع شديد التهذيب, يشوبه الغموض. وقد اطلع كرستوفر على بعض أشعاره التي خل فت تأثرا كبيرا في نفسه بفعل رموزها ومفرداتها المنتقاة بعناية, حتى أنها بدت له وكأنها ممتلئة بأطياف من ألوان الزجاج القديمة الجميلة. كانت قصائده تتحدث عن أساطير القرون الوسطى وأسرارها. وعرضت له في فصل الشتاء ذلك مسرحية تراجيدية بعنوان »الإنسان الذئبي«, كانت منسجمة انسجاما قاتلا في دقته وتهكمه مع موضوعها الرئيسي الذي عالجته. كما أنها كشفت من ناحية ثانية عن جمالية مرهفة وعذوبة غير مألوفة. إضافة إلى أن مظهر الكاتب نفسه حمل قدرا من الغرابة: كان بدينا حقا , وشعره متموج, ضارب للسمار, ووجه أبيض عريض, وكان له فم صغير وعينان شاحبتان بصورة لافتة. لقد سمع كرستوفر بأن هذا الرجل الذي يدعى أوسفالد سينين أقام في الخارج زمنا طويلا ; وكان من عادته أيضا أن يجلس ويدير ظهره إلى البار, ثم يشرع في استعراض نظرياته الغريبة أمام حلقة من المعجبين الشباب.
والآن بدأت صورة هذا الشاعر تستحوذ على مشاعر الطالب بطريقة لا يمكن الفكاك منها, وبات يعتقد طوال الليل بأنه كان يرى وجهه الأبيض العريض ملاصقا لوجهه نفسه, لكن ملامح الرجل كانت تتغير على الدوام. ولأنه كان يعب كمي ات كبيرة من الماء فإن جسده بدا ساخنا باستمرار.
إن هذا الرجل البدين الجالس في »جراند هوتيل« هو الرجل ذاته الذي ورد وصفه في الجريدة.
في صباح اليوم التالي لم يخطر في ذهنه أن يلعب دور المخبر السر ي; لأنه إذا ما ذهب إلى الشرطة فإنها ستعيده إلى غرفته من جديد, إذ أنه لا يملك معلومات أو إثباتات قي مة, بل أنه لم يستطع تقديم أي حج ة مقنعة أو دافع يبرر القتل. بلا شك أن هذا الرجل البدين لم يكن حاضرا في مكان وقوع الجريمة, وأنه وأصحابه سيسخرون منه وسيظنون أنه مختل عقليا, وربما سيغضبون منه فيرفعون ضد ه شكوى لدى مدير الفندق, سيفقد على أثرها وظيفته.
هكذا دارت هذه المسرحية المأسوية العجيبة ثلاثة أسابيع كاملة بين هذين الممثلين: بين هذا الشاب الجدي الذي كان يخلط المشروبات خلف البار وذلك الشاعر المبتسم دوما . كان أحدهما يحاول جهد الإمكان التخل ص من هذه الحالة, بينما كان الآخر لا يعلم شيئا عن الأمر, ما عدا مرة واحدة عندما حد ق أحدهما في عيني الآخر.
وبعد مضي بضع ليال على قراءة كرستوفر لخبر الجريمة دخل أوسفالد سينين البار برفقة أحد أصحابه, ومع أن كرستوفر لم يكن راغبا في التجسس عليهما, لكنه وقف بالضد من إرادته في زاوية البار القريبة منهما.
أخذ الرجلان يتناقشان حول موضوعة الشعر والحقيقة, فحدث أن أدلى صاحب الشاعر بوجهة نظر تقول إن الشعر والحقيقة لابد أن يتداخلا في ذهن الشاعر باعتبارهما أمرا واحدا , ولهذا السبب بالذات يجب أن يكون وجود الشاعر وجودا سعيدا بناء على هذه الحالة المتداخلة الشديدة الغموض. غير أن سينين اعترض على هذا الرأي بالقول: إن مهم ة الشاعر في الحياة تتلخص في كونه يجعل الآخرين يستبدلون الشعر بالحقيقة, فيمنحهم فرصة من الوقت يشعرون فيها بالسعادة على نحو سر ي مبهم. لكنه شخصيا يفر ق, على خلاف الآخرين, تفريقا دقيقا بين الحالتين, ثم أضاف: »ليس فيما يتعل ق بالفرح نفسه; لأنني أجد فرحي في الشعر وفي الحقيقة معا , لكنني أشعر بالسعادة القصوى لأنني أحمل في أعماقي غريزة لا تخطئ أبدا في الفصل بين الشعر والحقيقة وإدراك ما هو شعري حالما ألتقي به, وإدراك الحقيقة حالما أواجهها أيضا«.
ظل هذا الطرف من الحديث عالقا في وعي كرستوفر, فكان يراجعه في ذهنه مر ات عديدة. كان كثيرا ما فكر في مفردة »السعادة« لعل ه يتوصل ذات يوم إلى أن السعادة موجودة في الواقع. فسأل نفسه مرارا فيما إذا كان هناك إنسان يتمتع بالسعادة حقا ; وإذا كان هذا الإنسان موجودا فعلا فأين يعيش ومن هو? لقد كرر الرجلان في البار كلمة السعادة مرتين, فربما كانا سعيدين; لأن الرجل البدين الذي كان يعرف الحقيقة حالما يواجهها قال بالحرف الواحد إنه سعيد.
فتذكر كرستوفر أقوال البق ال, الشاهد الوحيد على الجريمة, الذي أبلغ الشرطة بأن وجه الصغيرة »ماتيا« كان ينم عن فرح وسعادة عندما مرقت من أمامه في الشارع تحت المطر, كما لو أن أحدا ما وعدها بتحقيق شيء سار, أو أنها كانت فرحة بحصولها على شيء جميل. فبدت تتمايل في مشيتها وتقفز بين الحين والآخر لكي تصل بعجلة إلى هدفها. ثم فكر كرستوفر في الرجل الذي سار إلى جانبها. من هو يا ترى? لقد ذكر البق ال أنه لم يمعن النظر في وجهه بسبب ضيق الوقت, فلم ير سوى ظهره.
فصار كرستوفر يراقب الرجل البدين كل مساء, شاعرا في البدء بأن سخرية القدر السيئة الطوية هي التي جعلته يحمل صورة هذا الرجل معه أينما حل , بينما كان الرجل المعني نفسه لا يعلم شيئا عن وجود كرستوفر الذي بات مقتنعا شيئا فشيئا بأن مراقباته المتواصلة قد تركت أثرها على الشخص المراقب; لأن تصرفاته بدأت تتغير إلى حد ما, وبدا جسمه أكثر سمنة ووجهه أنصع بياضا , لكن الشحوب ازداد في عينيه. فبدا أحيانا ساهم النظرات, غائبا عن الوعي مثلما كرستوفر, فيتوقف فجأة كلامه المنساب, دون مبرر واضح, كما لو أن هذا المتحدث البارع لم يعد يجد المفردات المناسبة.
كل ما تأخر سينين في الفندق, متجاوزا الوقت المسموح به في البقاء; فإن كرستوفر كان ينسل خلسة , فينتظره في البهو, حيث يلقي الرجل على كتفه معطف الفراء. وغالبا ما تكون سيارة سينين الفارهة واقفة أمام المدخل, لتنطلق به على الفور, لكنه كان يؤثر أحيانا السير على الأقدام. وقد فعل ذلك مرتين, فتعقبه كرستوفر, شاعرا في الوقت نفسه بأنه إنسان رث , عديم الإحساس, لا يعول عليه قط ; لأنه تسلل في ليل المدينة وراء رجل لم يفعل له شيئا ولم يكن له علم حتى بوجوده. غير أنه, من جانب آخر, بات يضمر كرها مبيتا لمظهر هذا الرجل البدين الذي مارس عليه كل هذا القدر من الجاذبية. ففي المرة الأولى بدا له الرجل وكأنه التفت قليلا إلى هذه الناحية أو تلك, ليتأكد من أن أحدا لا يتعقبه مباشرة. وفي المر ة الثانية أخذ يسير باستقامة تامة, فتساءل كرستوفر فيما إذا كانت الحركة الخفيفة المضطربة التي قام بها الرجل في المر ة الأولى من صنع خياله, أم حقيقة. وذات مساء التفت الشاعر عندما كان جالسا في مقعده الكبير العميق, فقذف النادل بنظرة خاطفة.
في نهاية تشرين تذكر كرستوفر فجأة بأن امتحاناته النهائية ستبدأ بعد أسبوع, فتطي ر من شدة الرعب, وشعر بتأنيب الضمير حين فكر في مستقبله ومستقبل عائلته القاطنة في شمال البلاد, وسرعان ما تصاعدت حد ة الخوف حتى ملأت كيانه كله: لا بد أن ينفض عن نفسه هذا الجنون, وإلا فسيفسد على نفسه كل شيء. وفي هذا الوقت بالذات حدث شيء لم يكن متوقعا ; إذ نهض سينين مبكرا , راغبا في الانصراف, وعندما حاول أصحابه إقناعه بالبقاء رفض بشدة, وهتف بهم: »كلا! إنني بحاجة إلى الهدوء. يجب أن استريح قليلا«.
وحالما غادر الفندق قال أحد أصحابه معلقا : »إن مزاجه اليوم كان سيئا للغاية. لقد تغير الرجل تماما . لا بد أن شيئا ما قد حدث له«. فأجابه آخر من الجهة المقابلة: »إنها القصة نفسها المعروفة منذ زمن, أي عندما كان مقيما في الصين. لكن يجب عليه أن ينتبه جيدا إلى نفسه. بالتأكيد يمكن التوصل الآن, وبكل بساطة, إلى قناعة تقول إن صاحبنا لن يجتاز هذا العام سليما معافى«.
وعندما سمع كرستوفر هذه الملاحظات تصدر عن العالم الحقيقي المستقل عن ذاته شعر دفعة واحدة بارتياح عميق; لأن هذا الرجل كان موجودا في الواقع الملموس, على الأقل بالنسبة إلى العالم القائم أمامه, فضلا عن أن الناس الآخرين كانوا يتحدثون عنه. فربما من الأفضل, أو سيكون مخرجا جيدا لو تحدث كرستوفر إلى شخص آخر حول الموضوع برمته. لكنه لم يختر لهذه المهم ة طالبا من زملائه ليضع فيه ثقته; إذ أنه بات يتصور مسبقا طبيعة النقاش التي سيتمخض عنها الموضوع; النقاش الذي بدأ يقلق أفكاره منذ الآن. لذلك بحث عن معونة لدى شاب أصغر منه بعامين أو ثلاثة يتمتع بروح خالية من التعقيد, اسمه هيلمار, يعمل في غسل الأقداح في الفندق.
ولد هيلمار هذا وترعرع في أوسلو نفسها, فكان عارفا بكل ما هو جدير بالمعرفة في تلك المدينة, ولم تكن له أدنى معرفة بما يدور خارجها. كانت علاقته بكرستوفر علاقة طيبة دائما , لا سيما أنه غالبا ما تجاذب أطراف الحديث معه في حجرة الغسيل بعد انتهاء العمل, لأنه كان واثق ا من أن كرستوفر لن يقاطعه أبدا إذا ما أسهب في الثرثرة. كان هيلمار يتمتع بروح ثورية, لذلك فإنه كان يكثر من ترويج الأقاويل حول الأثرياء الفاسدين عديمي الفائدة الذين يصطحبون بسياراتهم الفخمة نساء متغنجات بشفاه وأظافر مصبوغة ليسهرن في منازلهم, في الوقت الذي يجمع فيه جنود البحري ة المغبونون ذوو الأجور المتدنية الحبال الغليظة الملوثة بالقطران, ويجر فيه المزارعون الأجراء المتعبون أحصنة الحراثة إلى الزرائب والإسطبلات.
لكنه عندما كان يأتي ذكر تلك الأشياء فإن كرستوفر كان يتوسل به لكي يتوقف عن الاستطراد; لأن اشتياقه إلى القوارب والقطران ورائحة الخيول التي تنضح عرقا يصل آنذاك إلى مداه الأقصى, فيسبب له ألما عضويا. وبات متأكدا من أن الرعب القاتل الذي اجتاحه حين تخيل نفسه يصطحب إلى بيته امرأة من أولئك النساء اللواتي وصفهم هيلمار هو الدليل القاطع على أن جهازه العصبي لم يعد سليما أبدا .
وكل ما ذكر حادثة القتل في حضور هيلمار اتضح له على وجه السرعة بأن عامل المطبخ كان مطلعا إطلاعا جيدا على التفاصيل كل ها. لقد كانت جيوبه مليئة بقصاصات الجرائد التي قرأ فيها تقارير عن الجريمة والاعتقالات التي أعقبتها وعن رسائل القر اء الغاضبين بسبب بطء التحريات الجنائية التي قامت بها الشرطة.
لم يكن كرستوفر يعرف بأي طريقة سيشرح لصاحبه نظريته حول الجريمة, لكنه قال في الأخير: ؛يا هيلمار; هل تعلم بأن الرجل البدين الجالس الآن في البار هو القاتل, حسب اعتقادي?!«
فرمقه هيلمار بنظرة متفحصة, فاغرا فاه, وفي اللحظة التي تلت المقولة تلك أدرك ما صر ح به صاحبه, فبرقت عيناه بريقا خاطفا. وبعد فترة قصيرة اقترح هيلمار أن يذهبا إلى الشرطة أو مخبر خاص على الأقل, فكان على كرستوفر أن يبذل جهدا مضنيا ليقنع صاحبه, مثلما أقنع نفسه من قبل, بأن قضيتهما مازالت تقف على أقدام واهية, ومن المحتمل أن يحسبهما الناس معتوهين; وهكذا قرر هيلمار أن يقوما معا بدور المخبر.
بدت هذه المهمة بالنسبة لكرستوفر مثل تجربة بالغة الغرابة, تحمل في طي اتها قدرا كبيرا من الاطمئنان والقلق في آن واحد; لأنه رأى من خلالها كابوسه المرعب مجس دا أمامه تحت الضوء الأبيض الساطع في حجرة غسل الأواني, ولأنه سمع إنسانا آخر حي ا , ناقشه حول موضوع الجريمة. وشعر بنفسه كما لو أنه بدأ يتشبث بعامل المطبخ تشب ث الغريق بشخص يعوم إلى جانبه, ثم اعتراه خوف من أن يجذبه هذا الشخص إلى الأسفل, حيث قعر الجنون القاتم السواد.
وفي مساء اليوم التالي أسر هيلمار لكرستوفر بأنهما لابد أن يفكرا في لحظة مناسبة الآن أو فيما بعد لمباغتة القاتل والإيقاع به ليكشف عن جنايته بكل علانية. فأصغى كرستوفر برهة وجيزة لاقتراحات صاحبه المتنوعة, ثم ابتسم ابتسامة خفيفة وخاطبه: »يا هيلمار; إنك رجل شجاع وصاحب مروءة… «, غير أنه قاطع نفسه فجأة, كلا; أعتقد أنك لا تعرف القطعة المسرحية التي تدور الآن في خلدي, ومع ذلك فإنني سألقي عليك بعضا من مقاطعها: »سمعت أن فن المسرح سرعان ما يخترق وجدان المخلوقات البريئة عميقا في الروح, وهي جالسة في صالة العرض, فتقر بآثامها: إن القتل لا لسان له, بيد أنه يتكلم بأصوات عذبة… «
فأجاب هيلمار بأنه فهم ما قاله صاحبه بشكل ممتاز.
حينئذ سأله هيلمار: »أحقا يا هيلمار?! إذن سأقرأ عليك المزيد: المسرح هو الأنشوطة التي تلتف حول ضمير الملك! إنني اقتبست هذا الكلام من مسرحية اسمها هاملت«.
قال هيلمار: ؛وكيف ستبدأ? «
فبقي كرستوفر صامتا فترة طويلة, ثم قال أخيرا : »اصغ لي جي دا يا هيلمار; لقد ذكرت لي ذات مرة بأن لك شقيقة? «
»نعم; ليس شقيقة واحدة, بل خمس شقيقات«.
فقال كرستوفر: »لكن لك شقيقة ذات سبعة أعوام, أي أنها في سن الضحي ة ماتيا«.
أجابه هيلمار بنعم, فتابع كرستوفر كلامه: »بالتأكيد إنها ترتدي عادة معطفا خفيفا ذا واقية رأس كالمعطف الذي ارتدته ماتيا في ذلك المساء? «
فكرر هيلمار قوله بالإيجاب; حينئذ أخذ كرستوفر يرتعد من فرط الانفعال: »اسمع جيدا يا هيلمار; دعنا نختار مساء محددا يكون فيه الرجل البدين موجودا هنا. وعليك في تلك الحالة أن تقنع شقيقتك الصغرى بأن ترتدي معطفها المطري وتأتي برفقة شقيقتك الكبرى إلى الفندق. قل لها يجب أن تدخل من الباب الجانبي فتمر بالحانة ثم بالبار, حيث تجدني واقفا , فتناولني حاجة ما, رسالة أو شيئا آخر, فأعطيها قطعة نقدية مكافأة بعد أن تلقي بالرسالة على الدكة, ثم تعود من الطريق نفسه. يجب أن تبلغها بهذه الخط ة«.
فقال هيلمار: »نعم! «
فتابع كرستوفر بعد لحظة توقف: »وإذا ما اعترض المدير على هذا التصرف, قل له إن ذلك كان مجرد سوء فهم«.
هنا أجاب هيلمار بنعم أيضا . فأضاف كرستوفر: »أما أنا فعلي أن أبقى في مكان عملي, حيث لا يمكن أن أرى وجهه; لأنه يجلس عادة وظهره إلى البار, حتى لو تحدث مع الآخرين. فيجب أن تترك حجرة شطف الأقداح وتتخذ على الفور موقعا قريبا من الرجل. ومن هناك يمكنك أن تراقب ملامحه وحركات وجهه«.
فقال هيلمار: »أعتقد أن ليس من الضروري مراقبة وجهه; إذ أنه سيطلق حينئذ صرخة أو يسقط مغشيا عليه أو يقفز من مكانه, بل من المحتمل أنه سيحاول الهرب«.
فحذره كرستوفر: »عليك ألا تبلغ شقيقتك أبدا عن السبب الذي جعلنا نطلب منها الحضور إلى هنا«.
فأكد هيلمار: »كلا; بالطبع! «
عندما حل المساء الذي كان مقررا أن تنفذ فيه الخطة بدا هيلمار غارقا في صمت عميق, واضعا هدفه نصب عينيه مباشرة, إلا أن كرستوفر لم يزل مشبعا بالشكوك, لدرجة أنه أوشك ذات مرة على التخلي عن التجربة كل ها. لكنه, من ناحية أخرى, إن فعل ذلك واستطاع إقناع هيلمار بتفهم تراجعه ومسامحته على الانسحاب من الخطة فما الذي سيؤول إليه وضعه الشخصي في تلك الحالة?
كان أوسفالد سينين يجلس كعادته, معرضا ظهره للبار, في حين انتصب كرستوفر وراء الدكة, ووقف هيلمار عند المدخل الدو ار للصالة, منتظرا قدوم شقيقته.
لمح كرستوفر عبر الباب الزجاجي الصبية الصغيرة وهي تدخل الصالة برفقة شقيقتها الكبرى التي وضعت ريشة حمراء في قبعتها علامة على أن الناس لا يتركون أطفالهم يسيرون وحدهم في الطرقات أثناء فصل الشتاء. وفي تلك اللحظة خطر في ذهنه شيء ما لم ينتبه إليه من قبل, فخاطب نفسه: (يبدو أنني لم أشهد حالة صحو تامة منذ بداية عملي هنا, وإلا كنت قد لاحظت هذا الشيء!) كانت ثمة مرآتان مرتفعتان تماما , معلقتان على جانبي الباب, بحيث أنه أصبح يرى وجوه الزبائن المعرضين عنه, فرأى أيضا وجه أوسفالد واضحا في المرآتين معا .
لقد وجدت الصبية ذات المعطف المطري وغطاء الرأس صعوبة في فتح الباب, فساعدتها شقيقتها, فتقدمت الطفلة باستقامة نحو البار, دون أن تسرع أو تبطئ في مشيتها, ثم وضعت الرسالة على الدك ة وتناولت قطعتها النقدية. أثناء ذلك رفعت وجهها الصغير الشاحب إلى الأعلى ورشقت صديق شقيقها بابتسامة ماكرة – والآن فإن الصفقة قد تم ت. بعد ذلك استدارت الطفلة إلى الخلف وخرجت من الباب الزجاجي دون أن تبطئ في السير أو تتعجل, ثم سألت هيلمار الذي وقف ينتظرها عند الباب فيما إذا كان ما فعلته صحيحا , فهز شقيقها رأسه بالإيجاب. إلا أنها لم تفقه التعبير الذي طرأ على وجهه, فالتفتت إلى شقيقتها الكبرى لكي تفس ر لها الموقف. فظل هيلمار واقفا في الباب الخارجي للصالة إلى أن اختفت الشقيقتان في الشارع الذي بللته المطر. حينئذ سأله البو اب عم ا كان يفعله في الخارج, لكنه هرع فورا نحو المدخل الجانبي ليقف أمام المغسلة والأقداح.
وفي تلك اللحظة وقف أحد الزبائن أمام البار وطلب مشروبا , ثم حد ق في وجه كرستوفر وقال: »اسمع يا هذا; هل أنت مريض?! « لكن خلا ط المشروبات لم يرد عليه, ولم ينطق بحرف إلى أن قفل البار بعد ساعة والتحق بصاحبه في حجرة الغسل.
»هل رأيت يا كرستوفر? إن الرجل لم يغم عليه ولم يصرخ, وإلا? «
وبعدما أي د كرستوفر كلامه أضاف: ؛سيكون رجلا صلبا لو أنه فعل ذلك…«
غير أن كرستوفر وقف صامتا فترة طويلة يتطلع إلى الأقداح, ثم قال: »هل تعلم لماذا لم يغم عليه ولم يصرخ? «
فأقر هيلمار بأنه لا يعرف ذلك: »ولكن كيف تمكن من التصرف على هذا النحو? «
فأجاب كرستوفر: ؛لأنه رأى بالضبط ذلك الشيء الذي كان يتوقع رؤيته, وهو الشيء الوحيد الذي كان في استطاعته أن يراه. فجميع الرجال في الصالة أظهروا دهشتهم بهذا القدر أو ذاك; لأنهم أبصروا طفلة صغيرة تدخل هنا فجأة بمعطف مطري. كنت راقبت وجه الرجل البدين في المرآة, فرأيت أن بصره كله كان مركزا عليها, وظل يتعقبها ببصره إلى أن خرجت من الصالة, دون أن يطرأ على وجهه أي تغير«.
فأعرب هيلمار عن استغرابه من هذا التصر ف, ثم أعاد سؤاله بعد ثوان: »لكن كيف حدث ذلك? «
فأجابه كرستوفر: »نعم, هذا ما حدث بالضبط! فهو لم ير طوال الوقت سوى الطفلة المتلفعة بالمعطف المطري, بغض النظر عن اتجاه بصره. لقد كانت الطفلة ترافقه سابقا وتجلس معه في البار وتسير إلى جانبه في الشارع, بل كانت تذهب معه إلى بيته طوال ثلاثة أسابيع«.
وبعد أن سادت فترة صمت سأل هيلمار: »يا ترى هل علينا أن نبلغ الشرطة? «
لكن كرستوفر أبدى اعتراضه: »لسنا بحاجة إلى الشرطة, وعلينا ألا نتخذ أي خطوة في هذا الاتجاه; لأننا مصابان معا بداء الخمول أو العجز. إن ماتي ا فعلت ما كان عليها أن تفعله, فخطوتها هي التي تعقبت خطوته, كما أن نظرتها إليه كانت تشبه نظرة شقيقتك إلي قبل ساعة. إن أوسفالد رجل مرهق, يحتاج إلى راحة, مثلما اعترف, فمنحته ماتيا الراحة التي أرادها قبل أن ينتهي هذا العام… «
* تانيا بلكسن (1885-1962) هي واحدة من أبرز الوجوه الإبداعية في الأدب الدانماركي المعاصر, وقد ل ق بت بشهرزاد العصر الحديث, نظرا لروعة أسلوبها وطريقتها الممتعة في السرد. وكتبت بلكسن معظم قصصها ورواياتها باللغة الإنجليزية وبدأت بنشرها في لندن ونيويورك في منتصف الثلاثينات. كانت الكاتبة قد درست الأدب الإنجليزي في جامعة أكسفورد ودرست الفنون الجميلة في كوبنهاجن وباريس, لكنها تفرغت للعمل الأدبي بعد إفلاس إقطاعيتها في كينيا وفشلها في الزواج ووفاة صديقها. من أشهر أعمالها: »قصص من العصر القوطي, 1934« و»بعيدا عن أفريقيا, 1937« و»حكايات الشتاء« التي كتبتها بلكسن إب ان الاحتلال النازي للدانمارك و»القصص الأخيرة, 1957«.
تانيا بلكسن, ترجمة: حسين الموزاني كاتب ومترجم عراقي يقيم في ألمانيا